منير شحود
الحوار المتمدن-العدد: 905 - 2004 / 7 / 25 - 11:53
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
كم هو أمل كبير ورائع أن تعود سوريا إلى أهلها كلهم بلا استثناء, وأن تحدث الهجرة المعاكسة من بلدان الاغتراب لتبني الوطن يدا بيد مع ما تبقى من طاقات مغرَّبة في الداخل... تمنيات راودتني عند قراءة مقال الدكتور سامي الخيمي: "أربعة محاور لاستراتيجية سورية جديدة...قبل فوات الأوان" المنشور في صحيفة "الحياة" بتاريخ 23/7/2004. يطرح الدكتور الخيمي, وهو من كوادر الإصلاح السورية, ومن خارج المؤسسة البعثية, السؤال التالي: "كيف سنتصدى لخصم جارف القوة؟" ويجيب على ذلك من خلال أربعة محاور, أولها "تحقيق سلم أهلي حقيقي في مجتمعنا من خلال تعميق مفهوم الحوار الوطني وإشراك كل القوميات والثقافات والأديان في بناء استراتيجية الوطن وكذلك دعم فعاليات المجتمع المدني...", ثم "بناء اقتصاد وطني منفتح يسهل الانتقال إلى اقتصاد السوق مع تحقيق حد أدنى من العدالة الاجتماعية", و" دراسة المجتمع السوري لتبيان نقاط القوة والضعف", و"اعتماد سياسة واقعية في التعامل مع الخصم وإمكانياته".
أول ما يلفت الانتباه استخدام الكاتب لمصطلح الخصم بدل العدو, الذي ساد في السياسة السورية, وكان الخروج عليه من التابوات المحرمة, ولم يوضح الدكتور الخيمي ما يقصده بالخصم, هل هو أميركا أم إسرائيل. وبعامة, ليست هذه اللغولوجيا الشعاراتية هي ما يهمنا هنا, فقد سادت ردحا طويلا من الزمن, ولكنها لم تفعل شيئا في المحصلة, سوى إخفاء تعاظم قوة العدو - الخصم, على الأقل, بالمقارنة مع حالة الضعف التي بلغناها.
لا نختلف مع السيد الخيمي في أهمية المحاور الاستراتيجية الأربعة المذكورة أعلاه للنهوض بسوريا, ولعل الكثير من السوريين يشاطرونه ذلك, بيد أنني سأتطرق للعوائق التي تحول دون تحقيق المحور الأول – الأساس, برأينا, لباقي المحاور, والمتعلق بالوضع السوري الداخلي.
فمنذ مجيء الرئيس بشار الأسد إلى سدة الحكم وخطوات الإصلاح التي دعا إليها تتعثر بالألغام التي زُرعت على امتداد أعوام طويلة, ما يتطلب منطقيا العمل على إزالة الألغام أولا, وهي ألغام سياسية, لتتقدم خطوات الإصلاح بصورة واثقة في الأرض النظيفة. أول هذه الألغام هي الحالة الدستورية الغير سوية. فعودة الوضع الدستوري إلى حالته الطبيعية, أي تخليصه من المواد التي كرَّست الامتيازات الممنوحة للحزب الحاكم, وما نتج عنها من سيطرة هذا الحزب على مؤسسات المجتمع والنقابات المهنية. ويُعدّ ذلك نقلة مهمة على طريق استعادة ثقة الشعب السوري كله بالدستور كمحور حقوقي مركزي يلتف المواطنون حوله. ويلي ذلك إلغاء العمل بقانون الطوارئ, مع إمكانية تطبيق حالات الطوارئ على بعض الحالات الخاصة؛ مثل العمالة لإسرائيل والاتجار بالأسلحة والمخدرات, أو سن القوانين البديلة للتعامل مع هذه الحالات كمقدمة لإلغاء حالة الطوارئ.
كما أن الإصلاح الشامل, السياسي والاقتصادي والاجتماعي, هو المدخل المفضل, مع ضرورة تقديم الإصلاح السياسي خطوة على باقي الإصلاحات, بسبب تركز الاستبداد في الحالة السورية في الحقل السياسي بصورة رئيسة, وهذا يبرر بحد ذاته البدء بتنفيس الحالة السياسية, بجرعات ليست كبيرة, إنما مؤثرة وفاعلة. ويؤمن الانفتاح السياسي استعادة الكتلة الاجتماعية المستبعدة عن السياسة لبعض من دورها وحيويتها, علاوة على طاقة الأمل التي تُخرج هذه الكتلة من سباتها, فتكون سندا للإصلاحات المرجوة, على اعتبار أن هذه الأخيرة يجب أن تمس مصالحها بصورة واضحة معيشيا أولا, وعلى صعيد الحريات ثانيا. إن إرجاء الإصلاح السياسي سيجعل من عمليات الإصلاح الأخرى, الإدارية أو الاقتصادية, محاولات نخبوية غير مدعومة بالرأي العام, والذي يمكن أن يؤدي دور مشعرٍ لشعبية الإصلاحات ومنحاها الاجتماعي.
ويحرر إلغاء حالة الطوارئ الشعب السوري من الخوف المزمن والضعف الهائل في الثقافة الحقوقية والديمقراطية, بسبب انقضاء أكثر من أربعة عقود على حالة الاستبداد. وقد تربى هذا الشعب خلال هذه الفترة على الخوف وتغيير الولاءات والنفاق السياسي, وأكمل الفساد عملية تخريب المنظومة القيمية للناس, كما حطم الخوف آليات التطور النفسية والإبداعية, وجعلها تتمحور حول الحفاظ على الذات, كمحاولة للبقاء والسلامة بمعناها البيولوجي. وإذا كان المستوى الأول من الخوف هو رُهاب المخابرات والأجهزة الأمنية, فإن حالة الخوف هذه انزلقت إلى مستويات أخرى, وبخاصة علاقة "المواطنين" بأجهزة الدولة كلها, ما ترك الأفراد مشلولي الإرادة أمام أي عسف, ووفر ذلك التربة الخصبة لانتشار الفساد بصورة غير مسبوقة أو مضبوطة في المستويات كافة.
وفي حديثه عن الفساد, يميز الدكتور الخيمي نوعين: "فساد يراعي فيه صاحب القرار مصلحة مؤسسته ولكنه يستخدم مهاراته وخبثه وخبرته في الإجراءات لتحقيق الإثراء غير المشروع." و "فساد هدام يختلق فيه صاحب القرار أعمالاً ومشاريع لا طائل منها ولا جدوى لها لتحقيق الإثراء غير المشروع". وإذ يعتبر النوع الأول أقل خطورة, وينتشر بكثرة في دول العالم الفقيرة (لا ينطبق هذا الوصف على النخب الحاكمة في هذه الدول), فإن النوع الثاني شديد الخطورة. هذا صحيح, لكننا نود الإشارة إلى أن الفساد في سوريا لا يمكن اختصاره بهذين النوعين وبهذه البساطة, فهو يشكل منظومة متكاملة لا تسير الأمور إلا بالخضوع لها, وثالوثا لا فكاك منه يتشارك فيه الفاسدون والمفسدون وحراس الفساد, ما يجعل من مكافحته, كحالات فردية, أمرا في منتهى الصعوبة, إن لم يكن مستحيلا, ويتطلب القضاء عليه كشف الآليات التي تحرس فعالياته, والشرائح التي تعيش على هذا الوباء.
ولا بد من فرز جبهة الإصلاح وحزبه, كتيار واضح المعالم, يعمل على تعديل وموازنة قوى النخب المسيطرة التي اعتادت تلقين الشعب شعارات التنمية, عوضا عن التنمية نفسها, وعبارات التقدم مرفقة بتكريس الثبات في الاقتصاد والسياسة, إلا ما انسجم مع مصالحها الضيقة. وقد أخطأت النخبة الحاكمة أيما خطأ في الطريقة التي واجهت بها الأعداء, بأن جيَّشت المجتمع دون أن تركز في الوقت نفسه على تنميته الاجتماعية والاقتصادية واحترام كفاءاته, الأمر التي نجح عدونا الإسرائيلي في تحقيقه بجدارة. وإن قصر النظر المديد المدعوم بمصالح فردية وفئوية ترتدي الجلابيب الوطنية, خلط الأوراق داخل الوطن, وعكر مفهوم الوطنية, أو أضعفه بصورة خطيرة؛ فسوريا بدل الطاقات البشرية الهائلة, صارت تبحث وتستنجد بالخبرات الأجنبية والمستبعدة. ونظرة واحدة على أي موقع من مواقع العمل تكشف بالملموس العداء الذي كانت, ومازالت بدرجة أقل, تواجه به أية موهبة أو كفاءة, والتهميش والتخويف الذي مورس ضد أصحاب الكفاءات الحقيقية من قبل هيكلية متحكمة سياسيا, وتدار من قبل أصحاب المصالح الضيقة والمواهب الرديئة والعقليات الأمنوية, والذين عينوا ونشروا مرؤوسيهم الأقل موهبة, ولكن الأكثر ولاء لهم, في جميع المفاصل الإدارية. وعملت النخبة الحاكمة على كبح التطور المجتمعي, ليبقى الوضع تحت السيطرة التي تؤمن مصالحها. وكانت تكيل الاتهامات الجاهزة لكل من يحاول الإصلاح أو ينتقد السلبيات, جهارا أو مواربة, وتحذره من مغبة الخروج على توجيهات القيادة, واللعب بالسياسة, مع ما يعنيه ذلك بالمفهوم السوري للسياسة, أي القمع وفقدان أية ضمانات شخصية أو مهنية, وبالتالي تحفيز الرعب الغريزي في النفوس, وما يستتبع ذلك من نكوص أو هروب.
ولعل من أهم الأسباب التي عرقلت الإصلاحات التي أطلقها الرئيس الجديد هو اعتمادها على مجموعة من الإصلاحيين, عوضا عن تحريك الركود الاجتماعي بإطلاق حريات سياسية يتوق لها المجتمع السوري, وتفجر طاقاته العملية, وكان لها أن تشكل دعما قويا لحركة الإصلاح. وإن عدم تبلور بنى سياسية وشعبية منظمة تدعم الإصلاحات سمح للقوى المحافظة والمؤثرة والخبيرة بإفراغ محاولات الإصلاح من مضمونها وتشويهها, ثم تعليقها على الجدران كأحجية, كما كانت تفعل في السابق, وهذا ما قاد إلى خيبة ومرارة كبيرتين. ولعل من الأسباب التي دعت الرئيس لإيضاح مقاصده الإصلاحية في خطاب القسم, واتهام البعض بإساءة فهمها, هو شعوره بحجم القوى المعيقة للإصلاح (حراس المصالح), وعدم تبلور قوى موازنة وداعمة لعملية الإصلاح هذه.
تأتي العقبات التي تعترض عملية الإصلاح من تضرر مصالح بعض أهل السلطة ذاتها, والذين يريدون إيقاف خطوات الإصلاح على أعتاب مصالحهم وامتيازاتهم, كما أن عدم وجود معارضة فاعلة تقوم بفعل تحريكي للشارع يصب في دعم الإصلاحات. وعوضا عن ذلك فإن معظم أطراف المعارضة السورية مازالت, مثل بعض أطراف النظام, مهتمة بتهييج الجماهير ودعوتها للنضال ضد المؤامرات الخارجية, كما كانت الحال في سنوات المد القومي في الخمسينات والستينات.
نثمِّن عاليا الروح الوطنية التي فاح عبيرها من مقالة الدكتور الخيمي, ودعوته الجميع للمشاركة في بناء الوطن, ويبقى التمني بتجسيد هذه الفكرة الاستراتيجية في خطوات تكتيكية غير وصائية تسمح بمشاركة الجميع دون استثناء, وفي إطار قوانين ناظمة تشارك في وضعها القوى الاجتماعية كلها, من خلال حوار وطني بناء, فهل نتفاءل...قبل فوات الأوان؟!.
#منير_شحود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟