مازن كم الماز
الحوار المتمدن-العدد: 2967 - 2010 / 4 / 6 - 09:43
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
القصة الأخرى لكتاب لينين : مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية
لا شك أن ثورة أكتوبر عكست تحولا كبيرا في التاريخ , و تتويجا لنضال بدأ في ثلاثينيات القرن التاسع عشر لكنه أخذ منحا مختلفا اعتبارا من كومونة باريس 1871 أول حكومة عمالية في التاريخ , كانت ثورة أكتوبر حلقة في موجة ثورية صاعدة دقت باب أوروبا البرجوازية مع دخول مجزرة الحرب العالمية الأولى مراحلها الختامية , كان هذا المد الثوري تعبيرا عن القطيعة بين العمال و سائر المهمشين اجتماعيا و بين الاشتراكيين الإصلاحيين الذين انضووا خلف حكومات بلادهم البرجوازية مرة عندما دعوا البروليتاريا و سائر المهمشين اجتماعيا للموت في سبيل برجوازيتها المحلية في صراعها مع البرجوازيات الأخرى المتنافسة على المستعمرات , و من ثم في دعوتها ذات الجماهير للتخلي عن الحلول الثورية لواقعها و لأزمة النظام البرجوازي و في مساهمتها المباشرة في قمع تلك الموجة الثورية . لكن معسكر الاشتراكيين الثوريين نفسه لم يكن منسجما في أطروحاته السياسية و الفكرية , بل عانى من انقسامات هامة بدأت بالمؤتمر الثاني للأممية الثالثة 1919 و الذي انبثق عنه كتاب لينين موضوع البحث و الذي انتهى بطرد أحزاب شيوعية عمالية شكلت بقاياها فيما بعد التيار الشيوعي اليساري , تلاه الانشقاق التروتسكي الأكبر فيما بعد , الخ....لقد عكس كتاب لينين في الحقيقة أول انقسام هام داخل الحركة العمالية الثورية أو داخل الأممية الثالثة لنكون أكثر تحديدا , و قد شكلت النقطة الأساسية هنا في هذا الانقسام بين شيوعيين "يساريين" وفق التوصيف اللينيني و "معتدلين" وفق التصنيف السياسي المقابل لوصف اليساري أو الراديكالي أو "علميين" وفق التعريف المحبذ عند الماركسيين الأوروثوذوكسيين , هو البحث عن النقطة المركزية في ثورة أكتوبر و بالتالي في النضال الثوري للعمال ( أو الإضافة المركزية للثورة إلى خبرة النضال السابقة ) . كان الخلاف يتركز إذن على دراسة تجربة ثورة أكتوبر و انعكاس انتصارها على نضال العمال خارج روسيا , من جهة اعتبر الشيوعيون الذين أصبحوا في وقت لاحق يساريين وفق التصنيف اللينيني أن مجالس العمال أو ما سمي في روسيا بالسوفيتيات قد شكلت النقطة المركزية في تلك الثورة و الأسلوب الأساسي لممارسة النضال ضد استغلال البرجوازية , كانت الثورة بالنسبة إليهم ابنة النضال الجماهيري العفوي , و كانت هذه المجالس العمالية ( التي دعا البلاشفة ذات يوم العمال و الفلاحين الروس للثورة في سبيل منح كل السلطة لها ) هي الشكل الذي أبدعته الجماهير لتأسيس ديمقراطيتها , شكلا حرا بالفعل لممارسة ديمقراطية الجماهير . كانت هذه المجالس ( التي يصفها لينين في كتابه عن حق بأنها مؤسسة ديمقراطية لم تشهدها بعد أفضل الجمهوريات الديمقراطية في العالم البرجوازي قبل أن تتحول إلى مناسبات للتصفيق و مديح القيادة و خلق انتهازيين جدد ) قد تشكلت بشكل عفوي تماما في سياق الثورة الروسية الأولى لعام 1905 و ظهرت ثانية في سياق ثورة أكتوبر 1917 , ككيان يخضع مباشرة للعمال في المصنع أو للسكان في الأحياء , يستطيع العمال محاسبة مندوبيهم إليه و تغييرهم في أي وقت , و الذي يعمل بطوعية كاملة و دون أية أجهزة بيروقراطية دائمة أو أية امتيازات مهما تكن , قد مثلت بالفعل التجسيد العملي لديمقراطية الجماهير في مواجهة سلطة الطبقة السائدة . لكن رأي لينين كان يختلف تماما عن رأي هؤلاء الشيوعيين اليساريين , سيشدد لينين ليس فقط على دور الحزب المركزي في اندلاع الثورة , بل سيرجع الفضل في انتصار الثورة إلى "نظام الطاعة الصارم و الحديدي" داخل الحزب , أما طريقة بناء مثل هذا الانضباط في صفوف الحزب فقد أعادها لينين إلى "الطليعة البروليتارية" أي قيادة الحزب : وعيها و وفائها للثورة و ثباتها , و "الترابط و التقارب و إذا شئتم الإندماج لحد ما مع أوسع جماهير الكادحين" ( مقتبس من نص كتاب لينين , الفصل الثاني ) , بصواب القيادة السياسية و صحة إستراتيجيتها و تكتيكها السياسيين , و قد تحولت هذه الكلمات منذ تلك اللحظة إلى كليشهات ستستخدمها قيادات الأحزاب الشيوعية الرسمية لتصف نفسها بها كدلالة على "صوابية" سياساتها و لتشكل واق يحول دون أي نقد جدي لها أو لسياساتها , ليس هذا فقط بل نادى لينين بأحقية هذه القيادات بالقيام بمساومات "ضرورية" , "هناك مساومات و مساومات" كما قال لينين , داعيا للاستفادة من أي "صدع" بين الأعداء مهما كان ضئيلا , يجب الإشارة هنا إلى أن لينين لم يدع الشيوعيين و الشغيلة الأوروبيين فقط في كتابه , و في سياساته التي تبنتها الأممية الثالثة , إلى المشاركة في البرلمانات البرجوازية و النقابات الرجعية في الوقت الذي كانت فيه مجالس العمال تتشكل بالفعل في المجر و ألمانيا و إيطاليا أي عندما كانت الموجة الثورية قد تجاوزت هذه المؤسسات البرجوازية و طرحت قضية إعادة تشكيل علاقات الإنتاج و السلطة على أساس ديمقراطية الجماهير , بل إنه انتهى أخيرا إلى اعتبار النضال لتشكيل مجالس العمال هذه مجرد شكل ( أو وسيلة ) من أشكال أو وسائل "النضال" الأخرى المتعددة : أي إلى جانب المشاركة في البرلمانات البرجوازية و النقابات الرجعية , و "الاستفادة من أية إمكانية مهما كانت ضئيلة لكسب حليف جماهيري و إن كان حليفا مؤقتا و متذبذبا و مزعزعا" ( كلمات لينين الحرفية ) , إن أي شيوعي ( أو أي عامل أو فقير ) مصري أو سوري أو عراقي أو فلسطيني قادر على أن يجيب إلى ماذا يمكن أن تؤدي إليه هذه المساومات مع العدو الطبقي . لذلك لم يكن غريبا أن يتحدث الشيوعي اليساري الهولندي هيرمان غورتر في رده على كتاب لينين "رسالة مفتوحة إلى الرفيق لينين" عن خطر الانتهازية في الأممية الثالثة , مؤكدا أن الأمر سيكون أسوأ ألف مرة لو عادت الانتهازية مما لو كان الشيوعيون أكثر راديكالية بعض الشيء مما ينبغي , فما أن يكتشف التيار اليساري خطأ تكتيكاته حتى يبادر إلى تعديلها لكن الانتهازيين سيزدادون انتهازية مع مرور الوقت و سيسببون المزيد من الأضرار للطبقة العاملة من أية تكتيكات خاطئة مؤقتة , يذكر غورتر هنا عن حق أن الانتهازية هي من أدت إلى كل مصائب الجماهير : الحرب العالمية المدمرة و القضاء على الثورة . يدور جدال آخر بين لينين و الشيوعيين اليساريين حول الزعماء , و يكتسب هذا الجدال أهمية خاصة يومها مع الدور الخطير لزعماء الأممية الثانية في اندلاع الحرب العالمية الأولى , يعرض لينين المسألة على الشكل التالي : تتحقق الديكتاتورية على يد البروليتاريا "المنظمة في السوفيتيات" , و البروليتاريا يقودها الحزب الشيوعي , و الحزب الذي يعقد مؤتمره سنويا تقوده لجنة مركزية منتخبة في المؤتمر و مؤلفة من 19 عضوا , هذا مع العلم أن مهمة تصريف الأمور اليومية في موسكو ملقاة على هيئتين أضيق من تلك و هما المكتب التنظيمي و المكتب السياسي و كل منهما يتألف من 5 أعضاء , "و النتيجة هي إذن وجود حكم "القلة" بكل معنى الكلمة , فما من مسألة هامة سياسية أو تنظيمية تحلها دائرة الدولة في جمهوريتنا بدون إرشادات توجيهية من لجنة الحزب المركزية ( مقتبس من كراس لينين ) . يختلف الموضوع تماما بالنسبة للشيوعيين اليساريين , سأنقل هنا من كراس لينين نفسه عندما يقتبس موقف الشيوعيين اليساريين الألمان من قضية الزعماء و الجماهير و الطبقة من أحد كراساتهم الصادرة في ألمانيا "إن هذا المحل لحشد العناصر الثورية جميعا هو اتحاد العمال المبني على أساس من منظمات المصانع . و فيه يجب أن يتحد جميع العمال الذين يقتفون شعار : اخرجوا من النقابات ! .... إذن فإن هناك اليوم حزبين شيوعيين يواجه أحدهما الآخر : أحدهما هو حزب الزعماء الذي ينزع لتنظيم النضال الثوري , و قيادته من أعلى و يقدم على المساومات و على البرلمانية , و كذلك قصد إيجاد حالات تتيح لهؤلاء الزعماء الاشتراك في حكومة ائتلافية تكون الديكتاتورية في يدها . و الآخر هو حزب الجماهير الذي يتوقع نهوض النضال الثوري من أسفل....هناك ديكتاتورية الزعماء و هنا ديكتاتورية الجماهير , هذا هو شعارنا !" ( الفصل الخامس ) , أثار نقد الشيوعيين اليساريين لديكتاتورية الزعماء و دعوتهم للنضال و للتغيير من الأسفل شهية لينين للسخرية , فوصفها بالهراء القديم و الصبيانية , بلادة و سخافة تدعو للضحك . في مقابل شعار ديكتاتورية الجماهير من أسفل يعود لينين للتشديد من جديد على المركزية و الانضباط الشديدين داخل حزب البروليتاريا . في رده على لينين ينقل غورتر عن بانيكيوك قوله أن البرلمانات هي ذلك الشكل النموذجي من الصراع ( أو النضال ) الذي يخوضه القادة بأنفسهم نيابة عن الجماهير , و يضيف بانيكيوك , إن هذا قد يبدو حتميا ما دامت الجماهير لم تخلق بعد مؤسساتها للنشاط الذاتي , لإدارة شؤونها بنفسها . و يستنتج غورتر أنه في هذه الحالة بدلا من أن تؤسس الأحزاب في سبيل الشيوعية فإن الشيوعية ستستخدم لتأسيس الأحزاب و لإدخال قادتها إلى البرلمانات و من ثم الحكومات البرجوازية . يعلق غورتر على دعوة لينين لتماهي الزعيم بالجماهير بأن هذا بالضبط ما يقصده الجناح اليساري من ضرورة شن النضال من أسفل . و سيلاحظ غورتر أيضا أن الزعماء في الأحزاب الشيوعية سيستخدمون سخرية لينين من أي تناول لقضية الزعماء و اعتبارها "صبيانية و هراء" ليتجنبوا أي نقد , و باستخدامهم للمركزية و الانضباط الحديديين الذي تحدث عنهما لينين لقمع أية معارضة , و بالنتيجة ستنتعش الانتهازية....بقية القصة معروفة جيدا , طرد اليساريون من الأممية الثالثة و من أحزابها , و شكلوا لفترة قصيرة أحزابا شيوعية عمالية , ثم منظمات عمالية ثورية حيث أصبحوا يسمون أنفسهم بالشيوعيين المجلسيين منذ ذلك اليوم نسبة لمجالس العمال ( في الحقيقة يمكن اعتبار المجلسيين أحد تيارات الأناركية البارزة التي تشدد جميعها على استبدال مؤسسات السلطة الطبقية و النخبوية و الفوقية بمؤسسات قاعدية أفقية حرة ) , قبل أن يتراجع نفوذهم رغم استمرارهم في لعب دور هام على الصعيد النظري , "طور" ستالين فكرة لينين عن المركزية الديمقراطية إلى إعلان الانضباط الحديدي الصارم "لجيش الرفيق لينين" , في عامي 1989 و 1991 اتخذ "الزعماء" قراراتهم الأخيرة , كان القرار كالعادة من صلاحية المكتب السياسي ( مع فارق أنه كان القرار الأخير ) , كان ذلك قرار حل اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية , و الذي نسي الجميع أن اسمه كان قد اشتق ذات يوم من تلك المجالس العمالية التي شكلها ذات يوم العمال الروس ليقرروا جميعا , لا 5 من أعضاء المكتب السياسي , شؤون حياتهم , لكن تلك المجالس كانت تعود مرة تلو الأخرى , بمجرد أن تنتفض الجماهير ضد استعبادها و استلابها , دون أوامر من أحد , لتعبر عن ديمقراطية الجماهير من أسفل تلك التي أثارت ذات يوم سخرية لينين و لتتجاوز أشكال و مؤسسات سلطة ( أو تسلط ) أقلية برجوازية أو بيروقراطية على الجماهير , حدث هذا في إيطاليا و ألمانيا و المجر في العشرينيات , في إسبانيا عام 1936 , في هنغاريا أثناء انتفاضة 1958 , و في فرنسا عام 1968 , و في إيران أثناء ثورة 1978 – 1979 و في شمال و جنوب العراق أثناء انتفاضة 1991 , و بعد فترة غير قصيرة من الركود نكست خلالها أعلام الحرية و العدالة و المساواة نتيجة وطأة انهيار "ديكتاتورية الزعماء" القائمة على الانضباط و المركزية الصارمتين و بينما كانت الاحتكارات و بيروقراطيات دول مركز النظام الرأسمالي العالمي و أطرافه ( و من بينهم الكثير من "الزعماء" السابقين ) تحتفل بهذا الانهيار بزج ملايين الشغيلة في أتون فقر مدقع و تهميش سياسي و اجتماعي غير مسبوق بينما انتفخت جيوب الرأسماليين و البيروقراطيين و الجنرالات في كل الدول الرأسمالية في مركز و أطراف النظام الرأسمالي العالمي , و في أثناء انعقاد اجتماع وزراء منظمة التجارة العالمية في سياتل عام 1999 عادت إرادة الجماهير لخوض النضال من الأسفل لتعبر عن نفسها من جديد و وسط ضباب الغاز المسيل للدموع و صرخات رجال الشرطة و المتظاهرين عادت متاريس النضال للظهور من جديد , قبل ذلك كان ثوار الزاباتيستا في المكسيك قد وجدوا في تلك المجالس الشعبية الشكل الوحيد الممكن لبناء ديمقراطية الجماهير ضد سطوة رأس المال , من جديد عادت الجماهير إلى ساحة الصراع في سبيل حريتها و بناء عالم أفضل......
مازن كم الماز
المصادر
كتاب لينين مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية , النسخة الالكترونية , باللغة العربية من موقع الأرشيف الماركسي على الانترنيت
www.marxists.org/arabic/archive/lenin/1920-lwc/index.htm
رد غورتر على كراس لينين : رسالة مفتوحة إلى الرفيق لينين , باللغة الانكليزية , من موقع الأرشيف الماركسي على الانترنيت , و بقية أرشيف الشيوعية اليسارية أو الشيوعية المجلسية على نفس الموقع .
#مازن_كم_الماز (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟