فوجئت، بل ودهشت ،حين اطلعت على نص الفقرة الثامنة من اتفاقية جنيف الرابعة لحقوق الإنسان التي اقتبسها الباحث الفلسطيني د. عبد الستار قاسم في مقالة قيمة له نشرت في إحدى مجلات المقاومة الفلسطينية ( فتح الانتفاضة / العدد 507 /6/4/2002)حول موضوع حق العودة . و لدى عودتي الى النص الفرنسي لاتفاقيات جنيف وخصوصا الاتفاقية الرابعة والملحق الثاني الإضافي والى نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجدتني إزاء كنز هائل من المواد القانونية الدولية التي عالجت شؤون المدنيين أثناء الحرب والنزاعات و اللاجئين والمهجرين والترحيل الجماعي وحق العودة الى البلاد الأصلية ومنها تلك المادة – الثامنة - التي أشار إليها الأستاذ قاسم.
إن هذه المادة تمنع بعبارات واضحة وصريحة أولئك الذين تحميهم الاتفاقيات من الترحيل الجماعي وتمنحهم حق العودة الى بلادهم، إنها تمنعهم من أن يتنازلوا عن هذا الحق الممنوح لهم تنازلا جزئيا أو كليا وحتى إذا أرادوا وتنازلوا فعلا فإن تنازلهم يعتبر لاغيا وباطلا . والحقيقة فإن العجب يأخذ بتلابيب المرء حسن النية حقا من عدم إيلاء هذه المادة القانونية النافذة المفعول ما تستحقه من الاهتمام في الإعلام ودوائر اتخاذ القرار الفلسطينية والعربية . سنحاول في الأسطر التالية استعادة ومناقشة المعلومات الثمينة الواردة في مقالة الدكتور قاسم وإظهار وتطوير دلالاتها ومغازيها راجعين الى العديد من الوثائق والقرارات الأخرى ذات الصلة بقلب القضية الفلسطينية أي حق عودة الشعب الفلسطيني الى وطنه .
إن الصهاينة بدورهم يعتبرون قضية " حق العودة الفلسطينية " قلب ولب الصراع الضاري الدائر اليوم وقد صرح بذلك العديد من صناع القرار والمفكرين الصهاينة فتساءل أحدهم قبل انطلاق العدوان الشاروني المستمر منذ 28 آذار بأيام قليلة :هل ستتمكن الدولة الصهيونية من إجبار عرفات على طلب وقف إطلاق النار والتخلي عن حق العودة لتبدأ المفاوضات السياسية ؟ بمعنى، إن المعركة على أرض الضفة القطاع والسيادة على القدس الشرقية وتفكيك المستوطنات والحدود والمياه أمور قد حسمت فعلا لصالح الشعب الفلسطيني ولكن القضية التي لم تحسم والتي ترى فيها الحركة الصهيونية نهايتها هي قضية اللاجئين . ويوم الجمعة 12/4/ الذي كان ذروة المجزرة في جنين ونابلس يعود الكاتب الإسرائيلي " ألوف بن " ليؤكد على صفحات جريدة "هآرتس" واسعة الانتشار في الدولة الصهيونية هذه الحقيقة فيقول أن شارون أكد رفضه لعودة لاجئ فلسطيني واحد .ثم يستنتج " ألوف بن " أن شارون تراجع عن كل شيء إلا عودة اللاجئين (فلا القدس الموحدة الى الأبد ولا الانسحاب من المناطق بل إصرار على عدم استقبال أي لاجئ عائد / هآرتس 12/4) . أما الكاتب الروائي الصهيوني "عاموس عوز" فما زالت يواصل أداء أغنيته المملة والمنافقة ذات الكلمات الجذابة والمضمون السلبي والمخادع فقد كتب عوز ( يديعوت عدد 15/4/2002) مقالة جاء فيها : ( إن كارثة اللاجئين الفلسطينيين هي إحدى مصادر العنف والكراهية والإرهاب. يجب على إسرائيل أن لا تقبل أي حل لا يتضمن التأهيل الإنساني والاقتصادي والسياسي للاجئين الفلسطينيين ليس في داخل إسرائيل بل في فلسطين مع المساهمة الدولية والإسرائيلية في عملية التأهيل ) ويثير الصهاينة ضجة كبرى خادعة مفادها أن عودة اللاجئين الفلسطينيين الى مدنهم وقراهم نذير بدمار الدولة الصهيونية وتحول الأغلبية السكانية الى العرب والواقع فإن حق العودة ليس قابل للنقاش إذ أنه حل لمأساة قائمة ونتاج لجريمة ارتكبتها تلك الدولة ومع ذلك فقد صدرت تطمينات بعضها خطير بضمان الطابع اليهودي لدولة إسرائيل ثم إن الصهاينة يدركون أن مسألة الحفاظ على مؤسسات دولتهم مشوبة بجوهر عنصري رجعي وهي مع ذلك قضية تقنية وتنظيمية ورغم إنها ليست من مسؤولية الشعب الفلسطيني وقيادته ولكن يمكن الوصول الى حل معقول لها كأن يصوت اللاجئون العائدون في الانتخابات الرئاسية والاشتراعية " النيابية "مع الدولة الفلسطينية وهم يكونون في هذه النقطة فقط بمثابة مواطنين فلسطينيين مقيمين في دولة أخرى وتكون مجالسهم البلدية والمحلية ذات طابع محلي ومدارة ذاتيا . وهذه مجرد تصورات أولية ولكنها، كما نتوقع ، ستكون مرفوضة جملة وتفصيلا من قبل الصهاينة الذين يريدون مواصلة جريمتهم في تشريد ثلثي الشعب الفلسطيني أمام أمم العالم قاطبة وبدعم صريح من الولايات المتحدة الأمريكية.ومن الجدير بالإشارة أن هذا الموقف ليس حكرا على شارون واليمين الصهيوني المتطرف بل يشاركهم فيه اليسار الصهيوني المفلس والفاسد إجمالا وفي طليعة هذا اليسار الخرقة المبتلة وجزار "قانا" شمعون بيريز والذي يستعمله شارون لمسح يديه من دماء الفلسطينيين بين الفينة والأخرى ولكن ، وللحقيقة والتاريخ ، ثمة استثناءات قليلة جدا في يسار حركة " ميريتس " وشخصيات ذات توجهات إنسانية عامة كالسيدة شلوميت آلوني الرئيسة السابقة لميريتس والتي وصفت شارون بأنه مجرم حرب تجب محاكمته ويوري أفنيري صاحب تشبيه عرفات بموسى وشارون بفرعون مصر و لطيف دوري القيادي في حركة السلام الآن وحركة ميريتس وهو من يهود العراق وآخرون .
الخلفيات التاريخية :
يقصد بعبارة " اللاجئين الفلسطينيين " المواطنين الفلسطينيين الذين شردتهم الدولة الصهيونية بعد إعلانها مباشرة سنة 1948 قسرا وباستعمال العنف المسلح وقد فُضحت الأكذوبة الصهيونية القائلة بأن أولئك اللاجئين غادروا مدنهم وقراهم طوعا ودون إكراه والمثبتة في الكتب المدرسية والتاريخية الصهيونية كحقيقة ، فضحت تلك الأكذوبة على يد حفنة من المؤرخين الإسرائيليين المنصفين والذي عرفوا باسم " المؤرخين الجدد " والذين عكفوا على دراسة وتحليل وثائق الدولة الصهيونية السرية والعلنية ، القديمة والجديدة ، وخرجوا بحكم هزَّ المؤسسة الصهيونية الحاكمة ومفاده أن ترحيلا جماعيا قسريا قد ارتكبته " إسرائيل " بحق الشعب الفلسطيني سنة 1948 و لم يكن الأمر مغادرة طواعية كما صورته الدولة الصهيونية . أما اللاجئون الذين شردوا من ديارهم بعد حرب 1967 فقد اصطلح على تسميتهم بالنازحين . وقد حاولت الدولة الصهيونية وبعض أصدقائها في الإعلام العربي اللعب على الحبال خلال مسلسلات التفاوض طوال العقود الماضية بهدف الفصل بين لاجئي سنة 1948 وبين نازحي سنة 1967 كمقدمة لدفن وطمس حق النوع الأول واستمرار المساومة على حق النوع الثاني في العودة. و لم يتحقق ذلك الهدف، وتسود الآن صيغة فرضها الأمر الواقع ونضالات المقاومة الفلسطينية مفادها عدم الفصل بين القسمين أو النوعين واعتبارهم جميعا لاجئين شردوا قسرا .
أما في مشاريع الحلول السياسية والمبادرات الدبلوماسية لمعالجة القضية الفلسطينية فقد حضي موضوع اللاجئين باهتمامات وتحليلات مختلفة .ففي ما سمي بمشروع آبا إيبان وهو وزير خارجية صهيوني سابق يحسب على الجناح الصهيوني المعتدل وأول مسؤول صهيوني يكسر الحظر القانوني على الاتصال والالتقاء بمنظمة التحرير الفلسطينية ويعرف المشروع بمشروع النقاط التسع المقدم الى الجمعية العامة للأمم المتحدة وردت فقرة بعنوان : مشكلة اللاجئين ونصها ( يتم بحث هذه المشكلة في مؤتمر لدول الشرق الأوسط على أن يضع المؤتمر خطة تنفذ خلال خمس سنوات لحل مشكلة اللاجئين وإنشاء لجان لتوطين اللاجئين وإدماجهم . وكذلك فإن إسرائيل مدعوة لاتخاذ خطوات تهدف الى تخفيف ظروف الحياة بالنسبة للاجئين خلال الشتاء ) بعبارة أخرى فإن الصهاينة سلبوا وطن اللاجئين فلسطين و قرروا أن يعطوهم بطانيات عوضا عن ذلك الوطن ! أما المشروع الصهيوني الآخر والمعروف باسم مشروع "إيجال آلون " المقدم في السنة ذاتها 1968 فلا يعترف أصلا بوجود لاجئين فلسطينيين ! وبالمقابل فثمة قانون إسرائيلي اسمه " قانون العودة " صدر سنة 1950 والمقصود به عودة " الشعب اليهودي الى وطنه " فتقول المادة الأولى منه ( يحق لكل يهودي المجيء الى هذه البلاد – لم يذكر اسمها – بصفة مهاجر عائد ) وتقول المادة الرابعة ( يعتبر كل يهودي هاجر الى هذه البلاد – لم يذكر اسمها – قبل أن يصبح هذا القانون ساري المفعول وكل يهودي مولود في هذه البلاد سواء كان مولودا قبل أن يصبح هذا القانون سري المفعول أو بعده ، يعتبر شخصا جاء الى هذه البلاد بصفة مهاجر عائد ) وهكذا فقد قررت العدالة الصهيونية ومعها العدالة الغربية أن المهاجر الروسي كشارون والليتواني كإيهود باراك و البولندي كإسحاق شامير ..الخ هم مواطنون عائدون الى وطنهم أما ملايين الفلسطينيين المشردين في مخيمات البؤس فهم إرهابيون وغرباء على فلسطين !
أوراق عربية وواحدة سوفيتية :
عربيا ، هناك العديد من المشاريع والمبادرات التي ورد فيها موضوع اللاجئين وكان أولها مشروع الملك الأردني حسين بن طلال الصادر بعد عام من مشروع آبا إيبان وقد ورد في نص الفقرة الأخيرة من المشروع ما نصه ( قبول تسوية عادلة لمشكلة اللاجئين ). واضح أن هذا المشروع الهاشمي أفضل قليلا من المشاريع الصهيونية لأنه لا يدعوا علنا الى توطين اللاجئين حيث هم ولكنه لا يدعو أيضا الى عودتهم الى وطنهم بل يطالب بالبحث عن تسوية عادلة ، كيف ؟ لا أحد يعلم !
وقد قدمت الوثيقة المعروفة بورقة "الأمير فهد" الى الجزء الأول من مؤتمر القمة العربية في فاس الذي عقد بتاريخ 25/11/1981 ومن ثم علقت أشغاله وأصبحت مبادرة عربية في الجزء الثاني منه و المنعقد بتاريخ 6/9/1982 في المدينة المغربية نفسها . وفي هذا المؤتمر سجل رسميا ولأول مرة تنازل النظام الرسمي العربي بناء على المبادرة السعودية عن ثمانين بالمائة من أرض فلسطين لصالح الدولة الصهيونية والاكتفاء بالمطالبة بإقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة والقطاع ، في هذه الوثيقة وردت قضية للاجئين في صيغة ضبابية وخادعة نصها (تأكيد حق الشعب الفلسطيني وتعويض من لا يرغب في العودة .) .نعم ،( حق الشعب الفلسطيني ) هكذا " حاف " كما يقول المصريون في لهجتهم المحكية ! و دون أن تقول لنا الوثيقة : حقه في ماذا ؟ الى هذه الدرجة كان حق الفلسطينيين في العودة مر المذاق في فم الوثيقة. أما الحق في التعويض أي بيع فلسطين من قبل اللاجئين مقابل بضعة آلاف من الدولارات فتذكره الوثيقة حرفيا . وبعد أن عقد المؤتمر المذكور وأدخلت مبادرة الأمير السعودي الى مطبخ المؤامرات خرجت بحلة جديدة مع بقاء المضمون التصفوي ذاته إذ يقول نص الفقرة من بيان القمة ( تأكيد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وممارسة حقوقه الوطنية الثابتة غير القابلة للتصرف بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية ممثله الشرعي والوحيد وتعويض من لا يرغب في العودة ) وهكذا فقد تم إشباع غرور البيروقراطية الفلسطينية في منظمة التحرير الى درجة أدارت رأسها و أسكرتها بالحديث الممل عن الممثل الشرعي الوحيد والدولة المستقلة وتم تمرير هذه الصيغة المشبوهة التي تسكت سكوتا " مدويا " عن حق العودة وتذكر التعويض المالي للاجئين حرفيا !
وكشهادة أمام الناس والتاريخ نذكر أدناه الفقرة الخاصة بقضية اللاجئين في مشروع آخر اسمه مشروع " ليونيد برجينيف " رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك ، فليقارن من شاء المقارنة بين مشروع الأمير العربي المسلم الذي أصبح فيما بعد مشروعا عربيا وبين مشروع الزعيم السوفيتي الشيوعي ليونيد برجينيف . تقول الفقرة الثانية منه حرفيا ( وجوب تأمين الحق الثابت للشعب العربي الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولة مستقلة خاصة به عمليا في الأراضي الفلسطينية التي سوف يتم تحريرها من الاحتلال الإسرائيلي أي الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة كما يجب تمكين اللاجئين الفلسطينيين وفقا لقرارات الأمم المتحدة من العودة الى ديارهم والحصول على تعويض مناسب لممتلكاتهم المتروكة ) ليس فقط ضمان حق العودة الى ديارهم بل وحق التعويض أيضا وإضافة الى ذلك ،ولنلحظ بالمناسبة دلالة كلمة " ديارهم " التي تعني حصرا قراهم ومدنهم في حين قد تعني كلمة وطنهم أو دولتهم أراضي الدولة الفلسطينية فقط . وعرضا نقول بأن بريجينيف قد خص مدينة القدس الشرقية بفقرة خاصة من مشروعه وقال ما نصه ( يجب أن يعاد الى العرب الجزء الشرقي من مدينة القدس الذي احتلته إسرائيل سنة 1967 و ينبغي أن يكون جزءا لا يتجزأ من الدولة الفلسطينية . ) ملاحظة :هذا النص والنصوص الأخرى حول الموضوع مقتبسة عن كتاب " وثائق فلسطين " الصادر عن دائرة الثقافة التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية 1987 . وهكذا سيكون من الميسور علينا الآن معرفة السر والسبب الحقيقي الذي جعل الحركة الصهيونية ودولتها تساهم وبنشاط الى جانب " مجاهدين آخرين " في تدمير الاتحاد السوفيتي وتحويله الى " شيء من رماد التاريخ " كما قال وتعهد الرئيس الأمريكي رونالد ريغان ! غير إن من الإنصاف القول بأن مبادرة الأمير عبد الله بن عبد العزيز التي أقرها وتبناها مؤتمر القمة العربي الأخير ببيروت أفضل بكثير من " مشروع الأمير فهد " أو مشروع " الملك حسين " لأنها تحدثت "في صيغتها المعدلة تحديدا "عن قضية اللاجئين بشيء من التعيين والغموض إذ دعت الى ( وجوب إيجاد حل عادل لقضية اللاجئين متفق عليه وعلى أساس القرار الأممي 194 ) واضح أن هذه الصيغة أو التوليفة هي نتاج جمع ميكانيكي بين من أصروا على عبارة مشبوهة قد تفيد التوطين وتقول ( حل متفق عليه ) وبين عبارة تدعو صراحة الى وجوب عودة اللاجئين بموجب القرار الأممي 194 فكان أن ولدت تلك الصيغة العجيبة والتي ترضي " جميع الأذواق " وتفتح الباب على جميع الاحتمالات . ويذهب بعض المحللين أن هذه الإضافة و أيضا تلك الخاصة برفض توطين اللاجئين جاءت ،من باب أولى ، تحت ضغط لبناني ذي دوافع و استهدافات ذات علاقة بالتركيبة الطائفية المتخلفة للدولة اللبنانية وبدعم قوي من سورية .
اتفاقيات جنيف تمنع التنازل :
نعود الآن الى اتفاقيات جنيف وملاحقها الإضافية ونقرأ المادة السابعة عشرة من الملحق الثاني الإضافي . إنها تقول :( لا يجوز الأمر بترحيل السكان المدنيين لأسباب تتصل بالنزاع ) أما المادة السادسة والثلاثون فتؤكد حق الأشخاص المحميين والخاضعين لحماية دولة أو دول أثناء النزاعات في( العودة الى بلادهم ). ويلاحظ الأستاذ قاسم بصواب أن المادة الثالثة عشرة تتحدث عن حق العودة الى البلاد وليس الى الدولة ( إذ من المحتمل أن تتغير الدولة بأخرى ولكن البلاد أي الأرض باقية ..) ولدى عودتنا الى النص الفرنسي للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وجدنا أن تلك المادة تتألف من فقرتين مرقمتين . تقول الأولى حرفيا ( لكل شخص الحق في التنقل بحرية ويختار الإقامة في داخل دولة ) وتقول الفقرة الثانية ( لكل شخص الحق في مغادرة كل البلدان بما فيها خاصته " بلده " ويعود الى بلاده ) إن دقة الصياغة والتفريق الذي لا لبس فيه بين الفقرتين يعطي ثقلا إضافيا لفكرة الباحث الفلسطيني عبد الستار قاسم القائلة بالتفريق بين " الدولة " و"البلاد " .
كما ويمكن التأكيد على تهافت الموقف الصهيوني من زاوية أخرى فإذا كانت دولة إسرائيل قد أعلنت أن اللاجئين الفلسطينيين قد " غادروا البلاد طوعا " والدليل الصهيوني هو بقاء فلسطينيين عرب في داخل الدولة فإن من الميسور البناء على حقيقتين:
الأولى تتبني الحكم التاريخي الذي أصدرته مجموعة" المؤرخين الجدد " وهم إسرائيليون والذي سلفت الإشارة إلى فحواه القائلة أن تهجيرا باستعمال العسف والقسر المسلح قد حدث وهذا فعل يتناقض مع نص المادة السابعة عشرة من الملحق الثاني الإضافي لاتفاقيات جنيف والتي نصها ( لا يجوز إجبار الأفراد المدنيين على النزوح عن أراضيهم لأسباب تتصل بالنزاع " أما المادة التاسعة والأربعون فيقول حرفها ( إن عمليات النقل الإجبارية ، الجماعية أو الفردية ، وكذلك عمليات نفي الأشخاص المحميين الى خارج المناطق المحتلة أوفي مناطق سلطة الاحتلال وفي جميع المناطق ، محتلة أو غير محتلة تكون ممنوعة مهما كان السبب ) ولكن هذه المادة تسمح لسلطات الاحتلال ولأسباب عسكرية قاهرة تكون فيها حياة المدنيين معرضة لأخطار الحرب بالاحتفاظ بهؤلاء السكان في مناطق خاصة آمنة ولفترة محددة .
والحقيقة الثانية تقول إننا حتى إذا افترضنا جدلا صحة الحجة الصهيونية والقول بأن اللاجئين غادروا البلاد طوعا فقد حدث ذلك في ظروف الحرب وأن عودتهم الى بلادهم تؤيدها وتوجبها مجموعة من مواد اتفاقيات جنيف والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ،بل إن سلطة الاحتلال تكون ملزمة بموجب المادة الخامسة والثلاثين بالسماح للأشخاص المحميين الراغبين بالمغادرة بمجرد تقديم طلب تحريري ويمكنه التزود بالمال والمتاع اللازمين وفي حال رفضت سلطة الاحتلال الموافقة على الطلب فمن حق المواطن الطالب أن يشكو تلك السلطات الى المحاكم ومثلما تضمن الاتفاقيات للمغادرين الحق في المغادرة فإنها تضمن لهم الحق في العودة الى بلادهم متى شاءوا .
نصل الآن الى أخطر وأهم مادة في تلك الاتفاقيات الملزمة لجميع دول العالم التي صادقت عليها ومنها دولة " إسرائيل " ، ألا وهي المادة التي سلفت الإشارة لها في مبتدأ المقال و هي الثامنة فترجمتها الحرفية، وهي ليست بعيدة كثيرا عن ترجمة الأستاذ عبد الستار قاسم ، تقول : ( الأشخاص المحميون لا يستطيعون في أية حال من الأحوال أن يتخلوا " يتنازلوا " جزئيا أو كليا عن الحقوق التي تضمنها لهم الاتفاقية الحاضرة عند الاقتضاء الاتفاقيات الخاصة المشار إليها بالمادة الحاضرة ) لقد لجأنا الى ترجمة المادة حرفيا عن الفرنسية لتسليط أكبر قدر ممكن من النور على مضمونها الخطير والذي يحطم جميع أحلام الصهاينة وحلفائهم من عرب وعجم في حرمان ثلثي الشعب الفلسطيني من العودة الى دياره ومدنه وقراه فالقانون الدولي والاتفاقيات معه حتى لو وقع على التنازل عن حق العودة جميع من يمسك بالقلم . مع الإشارة الى أن عبارة ( الأشخاص المحميون ) التي تتكرر كثيرا في نص الاتفاقيات تعني ( الأشخاص الذين تحميهم هذه الاتفاقيات والعبارة عامة وشاملة وتشمل جميع الناس في ظروف الحروب والاحتلال ) .
وختاما يمكن لنا أن نكرر مع د. قاسم الخلاصات التي توصل إليها واعتبارها خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها أو التخلي عنها فحق العودة -كما أشار - حق منطقي تمليه العقلانية وهو مبدأ كوني يتفوق على كل المواثيق الدولية الأخرى وهو مكفول بميثاق الأمم المتحدة والمواثيق الدولية الأخرى وهو مؤكد في قرارات الأمم المتحدة وبالأخص قرارات الجمعية العامة وأن على اللاجئين ،كما على الشعب الفلسطيني ككل، الضغط من أجل تنفيذ حق العودة وتثقيف الأجيال حولها. وربما لن يتفق الكثيرون تماما ونحن منهم مع الخلاصة الرابعة التي يقول فيها د. قاسم ( أن المفاوض الفلسطيني قد أضاع ورقة تفاوضية هامة عندما تجاوز في اتفاق أوسلو القرارات الدولية التي تنص على عودة اللاجئين .) وذلك لسببين مهمين على الأقل ، ففي واقع الأمر لم يتجاوز المفاوض الفلسطيني تلك القرارات وعن موضوع حق العودة بل وافق على تأجيله الى مرحلة الحل النهائي شأنه شأن كل القضايا الكبرى كقضية القدس وغيرها. وقد يكون التأجيل نوعا من الخداع أو المحاولة غير المباشرة للتفاف على هذا الحق ، ولكن تجاوزا لم يحدث ، ولم يجرؤ مسؤول فلسطيني كبير واحد ربما باستثناء المنبوذ سري نسيبة والذي ابتلع لسانه فلم نسمع له صوتا خلال العدوان الأخير ، على التصريح علنا بالتفريط بهذا الحق .هذا أولا ، وثانيا : فقد فضح العدوان الصهيوني الراهن حقيقة اتفاق أوسلو وأظهره على طبيعته كورطة سياسية تصفوية ساهم نظام "كامب ديفد " في مصر ،عن وعي أو دون وعي ، في رسمها وتنفيذها ودفع القيادة الفلسطينية إليها. والحال فقد تجاوزت الأحداث الأخيرة اتفاق أوسلو ومشتقاته ودخل الصراع طورا جديدا قلبه وجوهره حق العودة للشعب الفلسطيني وليس أي شيء الآخر بما في ذلك الدولة المستقلة و عاصمتها على اعتبار أن هذه الأمور من نواتج ونوافل الصراع والحقائق البديهية التي رسختها المقاومة الفلسطينية والتي لن تمانع الدولة الصهيونية في الموافقة عليها بعد شلال الدماء الذي سال .
ومع ذلك ينبغي الحذر كل الحذر من الأوراق والمشاريع والمبادرات وخصوصا العربية التي تتهاطل على ميدان الصراع مهما كانت مغطاة بطبقات العسل .ولكن ينبغي الحذر أيضا وبدرجة أكبر والانتباه الى الاقتراحات والمبادرات الإسرائيلية التي تصف نفسها بالمستقلة . إن هذه المبادرات غنية جدا بالدلالات السياسية والاستراتيجية ومن خلال قراءتها قراءة نقدية عميقة يمكن لنا أن نهم الى أين وصل تفكير العدو بخصوص مشكلة اللاجئين وهل بدأ يفهم حقا عمق هذه المأساة أم أنه مازال مقيما عند جموده السياسي والأخلاقي حولها. إن فهم التطورات والتفاعلات التي تعتمل في ذهن العدو مفيد جدا لمن يريد وضع إستراتيجية صائبة وفاعلة تتطور باستمرار وتقبض على الجوهر . ومن هنا وعلى هذا يمكن النظر في آخر اقتراح مبادرة إسرائيلية طرحها داني ياتوم الرئيس السابق لجهاز الموساد وموشيه عميراف أستاذ السياسة العامة في جامعة حيفا مستندان الى عمل طاقم أوسع من المتخصصين و نشرت المبادرة المقترحة اليوم 18/4/ في جريدة يديعوت وهي تحتوى ولأول مرة على استعداد صهيوني للتعاطي العملي مع هذه المشكلة وتفتح الباب أمام أكثر من نمط أو طريقة للتعامل وتزحزح ولأول مرة صخرة الرفض الصهيوني لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين أو لمجرد مناقشة القرار 194 . غير إن ما قيل في هذه المبادرة ليس ناضجا كفاية ولا يعدو أن يكون سيرا بطيئا في الظلام الأدلوجي ولهذا ينبغي الحذر وقراءة المبادرة بعمق وعقل متحرك ومفتوح . لنقرأ الفقرة الخاصة باللاجئين في مبادرة الثنائي ياتوم وعميراف . إنها تقول ( في قضية اللاجئين يصر الفلسطينيون على "حق العودة" الذي لا تستطيع إسرائيل قبوله. ولكن قرار الأمم المتحدة 194 المذكور في قرارات بيروت، مناسب لنا ويوفر إمكانية واقعية لحل المشكلة. انه يتضمن ثلاثة بدائل: تعويض مالي، إعادة تأهيل اللاجئين في أماكن تواجدهم في الدول الأخرى، والعودة الى إسرائيل. لقد أكدت الأمم المتحدة على ذلك في كل قراراتها، وخاصة قرار مجلس الأمن 242 الذي يتحدث عن "حل عادل" و "بالموافقة". هذه الكلمات تمكن مثلا من عودة رمزية لعدة آلاف من اللاجئين بموافقة اسرائيل. ومرة أخرى لا يوجد محرمات إسرائيلية في هذه القضية. في مباحثات لويزان عام 1949، وافقت إسرائيل على عودة رمزية لمائة ألف لاجىء، وبعد ذلك لم تستبعد عودة اللاجئين على أساس إنساني في نقاش محدد حول كل حالة وحالة./ يديعوت 18/4/2002 ) .
ما الجديد جدا الذي ورد في هذه المبادرة ؟ إنه استعداد إسرائيلي لاعتبار القرار 194 كإحدى المرجعيات في البحث عن حل . صحيح أن صاحبي المبادرة لم يقولا ذلك حرفيا ولكن ذلك يفهم ضمنا وبوضوح من ذكر القرار بالاسم ومن مضمون الفقرة التي ورد فيها ذلك الذكر فقد قالا حرفيا ( ولكن قرار الأمم المتحدة 194 المذكور في قرارات بيروت يوفر إمكانية واقعية لحل المشكلة .) وصحيح أيضا أنهما سيتكلمان بعد قليل على عودة رمزية لمائة ألف لاجئ سبق للدولة الصهيونية أن وافقت عليها في مؤتمر لوزان 1949 و لكن هذا أمر مكرر وليس له أيما دلالة معاكسة للجديد الذي توقفنا عنده .إن الحذر والتناول النقدي لما يطرح من مبادرات غربية وغربية وإسرائيلية أمران لا يمكن بدونهما التقدم أو المحافظة على الإنجازات المتحققة وبصراحة قد تصدم البعض نقول دون حذر كهذا، فسوف نستفيق ذات صباح على كارثة جديدة أسوأ من كارثة الترحيل الجماعي سنة 1948 ومن هزيمة النظام العربي الرسمي في 1967 وعندها سيتلمس رؤساء وملوك وأمراء كثيرون رقابهم ومساند عروشهم بشيء من الذعر.
[email protected]