|
رواية الحديث بين الواقع والأسطورة
سامح محمد إسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 2959 - 2010 / 3 / 29 - 22:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
كان الطرح الأيديولوجي لرواية الحديث النبوي يعكس نزوعًا حقيقيًا لدى المرجعيات السياسية للسعي إلى إيجاد نص مقدس آخر - غير الذكر الحكيم - يمكن العبث بمحتواه وأدلجته بما يتوافق مع أطروحاتها السياسية والمذهبية، لتصبح حينها رواية الحديث النبوي روايات شفهية تعكس ما كان يدور من أحداث وصراعات سياسية محتدمة في المقام الأول، لتنطلق راوية الحديث المؤدلجة من مرجعية سلطوية (أموية - شيعية - عباسية...) هدفها الأول والمعلن هو إثبات صحتها ومشروعيتها آنذاك، وهو ما يتوافق مع سعي السلطة الدؤوب لإكساب أهدافها السياسية سمة دينية، ومن ثم إكساب الأيديولوجيا صفة الإطلاق لتصبح وحدها هي الهوية الحقيقية للدين والدولة والمجتمع، مع السعي إلى وضع الحديث النبوي في خانة القداسة المطلقة مع النص (الذكر الحكيم)، وكذلك السعي إلى جعل تفسير فقهاء العصور الوسطى بمثابة قول منزل ونهائي ومن ثم إغلاق باب الاجتهاد، بكل ما يعنيه ذلك من إغفال للبعدين التاريخي والاجتماعي الذين تم فيهما الجمع والتفسير. ما أن رحل النبي r إلى جوار ربه حتى انقسم بين أقلية مؤيدة لتدوين الحديث، وتزعم هذا الفريق علي بن أبي طالب وأغلبية ترفض تماما مثل هذا الأمر وعلى رأسها أبو بكر وعمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وغيرهم من كبار الصحابة(1)، وبالفعل فرض أبو بكر الصديق المنع التام على رواية الحديث، ولم يكن قرار الصديق اعتباطيا أو وليد اللحظة، وإنما جاء بعد تفكير طويل وهو ما يفهم من حديث عائشة أم المؤمنين حيث تقول: "جمع أبي الحديث عن رسول الله r، فكانت خمسمائة حديث، فبات يتقلب، قالت: فغمني كثيرا. فقلت يتقلب لشكوى أو لشيء بلغه، فلما أصبح قال: أي بينة. هلمي الأحاديث التي عندك. فجئته بها، فأحرقها وقال: خشيت أن أموت وهي عندك، فيكون فيها أحاديث عن رجل ائتمنته ووثقت به، ولم يكن كما حّدثني فأكون قد تقلّدت ذلك". لقد كان الصديق مدفوعا في ذلك الأمر بنهي الرسول الأعظم نفسه عن جمع الحديث، وهو الأمر الذي يعترف به كبار الرواة والأئمة أنفسهم حيث روى أحمد ومسلم والدارمي والترمذي والنسائي عن أبي سعيد الخدري قول رسول الله r" لا تكتبوا عني شيئا سوي القرآن، فمن كتب عني غير القرآن فليمحه"، كما أخرج الدارمي عن أبي سعيد الخدري أنهم استأذنوا النبي في أن يكتبوا عنه شيئا فرفض ولم يأذن لهم في ذلك، وبناء على ذلك خرج الخليفة الأول ليعمم هذا النهي حيث يذكر الذهبي في تذكرة الحافظ أن أبا بكر خاطب جموع المسلمين بلهجة قاطعة قائلا لهم: "إنكم تحدثون عن رسول الله r أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله r شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه"(2). وهكذا جعل الصديق من الذكر الحكيم مرجعية نهائية. وواصل عمر بن الخطاب مسيرة أبي بكر في النهي عن رواية الحديث وبشكل أشد صرامة بعد أن استخار الله في ذلك، فيقول الزهري عن عروة: "أن عمر أراد أن يكتب السنن، فاستفتى أصحاب رسول الله r في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له. فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قد كتبوا قبلكم كتبا، فأكبوا عليها، وتركوا كتاب الله. وإني لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا". وعن أبي وهب قال: سمعت مالكا يحدث أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب هذه الأحاديث أو كتبها، ثم قال: لا كتاب مع كتاب الله. ويقول ابن سعد في الطبقات الكبرى : خطب عمر في الناس يومًا قائلاً: أيّها الناس انّه قد بلغني انّه قد ظهرت في أيديكم كتب فأحبّها إلى الله أعدلها وأقومها، فلا يبقينَّ أحد عنده كتابًا إلاّ أتاني به فأرى رأيي، فظنّوا انّه يريد النظر فيها ليقوّمها على أمر لا يكون فيه اختلاف، فأتوه بكتبهم فأحرقها بالنار!!! ويكفي هنا موقف عمر بن الخطاب مع أبي موسى الأشعري حين روى الأخير حديثًا عن رسول الله r كدلالة على صرامة المنع والنهي، حيث قال له عمر: "والله لتقيمن عليه بينة وإلا أوجعتك"، ثم سأل الحضور: "أمنكم أحد سمعه من النبي؟ "فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك، إلا أصغر القوم فشهد معه"، وقد برر عمر تشدده بعد أن هدأت نفسه قائلا لأبي موسى حيث يروي ابن ماجه في السنن (باب التوقي في الحديث عن رسول الله r): "أما إني لم أتهمك ولكني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله r"( صحيح البخاري ج6 باب الاستئذان. ). وفي سياق المنع العمري يذكر الذهبي في تذكرة الحافظ عن قرظة بن كعب قوله: "بعثنا عمر بن الخطاب إلى الكوفة وشيّعنا. فمشى معنا إلى موضع صرار. فقال: أتدرون لم مشيت معكم؟ قال: قلنا لحق صحبة رسول الله، ولحق الأنصار. قال: لكني مشيت معكم لحديث أردت أن أحدثكم به، فأردت أن تحفظوه لممشاي معكم، إنكم تقدمون على قوم للقرآن في صدورهم هزيز كهزيز المرجل. فإذا رأوكم مدّوا إليكم أعناقهم، وقالوا: أصحاب محمد! فأقلوا الرواية عن رسول الله r ثم أنا شريككم". فلما قدم قرظة، قالوا: حدثنا! قال: نهانا عمر، كما نجد عمر وقد نهى أبوهريرة، والذي أصبح فيما بعد راوي الحديث الأول، عن التحدث بلسان النبي r وتشدد معه في ذلك، ويعترف أبو هريرة صراحة بأنه ما كان ليجرؤ على ذلك في عهد عمر بن الخطاب فيقول: "لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم، لضربني بمخفقته". وبلغ الأمر مع عمر، أن وضع ثلاثة من المحدّثين وهم: ابن مسعود، وأبو الدرداء، وأبو مسعود الأنصاري في الحبس، وفرض رقابة عليهم بسبب ما قاموا به من رواية الحديث عن رسول الله r حتى قال له أبو المنذر محاولا تخفيف وطأة المنع: "لا تكن يا ابن الخطاب عذابًا على أصحاب رسول الله".(3) وهكذا ولعشر سنوات كاملة هي فترة خلافة عمر (13 - 23 هـ/ 634- 643م) كان النهي قاطعا ونهائيا، ولم يكن أحد ليجرؤ على التحدث بلسان النبي r حيث نتج عن كل هذا النهي والتشديد أن امتنع كبار الصحابة ومن أصبحوا من كبار الرواة فيما بعد عن رواية الحديث وعلى رأسهم سور بن مالك وفيه يقول السائب بن يزيد: "صحبت سور بن مالك من المدينة، إلى مكة، فما سمعته يحدث عن النبي r بحديث واحد"، حيث كان الأمر يؤرق الفاروق عمر بشكل كبير وظل متمسكا بسياسة النهي عن رواية الحديث حتى وفاته، وفي ذلك يروي ابن عساكر "ما مات عمر بن الخطاب حتي بعث إلي أصحاب رسول الله فجمعهم فقال: "ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله r في الآفاق؟ أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت. فما فارقوه حتي مات". مما يعكس مدى خشيته من أن يتقول أحدهم بحديث حتى وهو في لحظاته الأخيرة، ويكأن هاجسا خيل له وهو في سكرات الموت أنهم ينتظرون لحظة رحيله للتحرر من الأغلال التي فرضت عليهم في عهده. وواصل عثمان بن عفان مسيرة أبي بكر وعمر في النهي القاطع عن رواية الحديث حيث يروي أحمد في مسنده أن عثمان فور توليه صعد المنبر وخاطب المسلمين قائلا: "لا يحل لأحد أن يروي حديثا عن رسول الله r لم أسمع به في عهد أبي بكر وعمر" (مسند الإمام أحمد ج1 ).. إلا أن وطأة المنع في عهد عثمان لم تكن بالصرامة نفسها التي كانت عليها على عهد الشيخين حتى أنه أطلق سراح الرواة الثلاثة الذين حبسهم عمر بن الخطاب. ومع تولى علي بن أبي طالب الخلافة عام 36 هـ حدثت انفراجة حيث كان الخليفة الرابع من مؤيدي رواية الحديث فيقول العسقلاني في "شرح الباري"(4) أن عليًا وقف على المنبر ومعه صحيفة الأحاديث التي جمعها فقال: "والله ما عندنا من كتاب يقرأ إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة" وبالتالي لم تكن الإباحة مطلقة، وإنما حددها عليّ بما في صحيفته من نصوص وأسانيد وأحكام. وهكذا كانت رواية الحديث في عهد الخلفاء الراشدين في أضيق الحدود، وتدرجت من النهي في عهد أبي بكر إلى التجريم الكامل في عهد عمر بن الخطاب وصولا للإباحة المشروطة في عهد علي بن أبي طالب، وهى فترة زمنية طويلة استغرقت أكثر من ربع قرن من الزمان كان كفيلا باندثار الكثير من الروايات قبل أن تحدث عملية الأدلجة الكبرى لرواية الحديث في العهدين الأموي والعباسي على يد الفريقين المتناحرين السني والشيعي. - أدلجة رواية الحديث : تعرف الشرعية السياسية على أنها "قبول الشعب بالنظام الحاكم وبالقانون الذي يطبقه داخل حدود الدولة كشأن أي سلطة حاكمة تفرض النظام والقانون". والشرعية هنا ترتكز على ثنائيتي شرعية السلطة Legitimacy والقبول Consent في الوعي واللاوعي الشعبي على حد سواء على حد تعبير جون لوك. ويطرح روبرت دال(5) Robert A. Dahl تصورا أكثر بساطة لمسألة الشرعية عندما يشبه حجم التكثيف الوظيفي بين السلطة والشرعية بحوض الأسماك؛ فالحوض في أطروحته يمثل القبول، أما الماء فيمثل الشرعية، والأسماك هي الطبقة الحاكمة، فزيادة القبول والالتفاف الشعبي حول النظام الحاكم يعمق من شرعية وجوده كحوض الأسماك المحكم الذي يحافظ على الأسماك الحية بداخله. ويبدو البعد الديني لمسألة الشرعية واضحا في النظم الثيوقراطية، بل إنه أكثر تأثيرا من البعد الأخلاقي، وأقصر الطرق إلى تبرير توجهات السلطة الحاكمة واستبدادها، حيث تصبح الشرعية المرتدية عباءة الدين ما هى إلا تحقيق لمشيئة عليا فوضت الحاكم في شئون الرعية. ومن هنا كان الاستسلام لإرادة السماء بتفويض الخليفة لإدارة شئون الرعية أمرًا يستلزم تأكيد الاعتقاد بأن ذلك يجنبها الغضب الإلهي، لأنّ من يرفض الخضوع لأوامر الخليفة يكون قد عاند وعصى مشيئة الله، ومن يعاند مشيئة الله في لحظة توحدها بمشيئة الخليفة يكون قد كسر إرادة الله. فكان الحرص على توحيد المشيئتين وسيلة داعمة لمبدأ التفويض الإلهي، ومن ثم كان ضروريًا وفي ظل عدم القدرة على العبث أو تأويل النص القرآني المنزه، البحث عن مرجعية أخرى لصبغ مصالح الحكام وأهدافهم بصبغة دينية شرعية فكان البحث عن أحاديث الرسول r عملا سياسيا في المقام الأول في ظل حالة من الصراع السياسي والعسكري المحتدم بين الفرقاء ليرتكز ذوو السلطان على نظرية الحق الإلهى، فيغدو الحكام كيانات مقدسة بوصفهم نوابا عن الله وممثلين له في الأرض، آراؤهم مقدسة وأقوالهم وأعمالهم معصومة، فيما يمكن أن نطلق عليه الوثنية السياسية التي اعتمدت على أدلجة رواية الحديث في المقام الأول. والروايات المقصودة هنا هي الروايات ذات المغزى السياسي والتي وضعت لتدعيم السلطة القائمة، أو المعارضة لها وتقديم مسوغات دينية مقدسة لإثبات شرعية سلطة مغتصبة عنوة. وبدأت المأساة على عهد معاوية، حين كانت الدواعي إلى وضع الحديث واختراع الروايات الكاذبة سياسية بحته، حيث أرسل معاوية إلى عماله يأمرهم بلعن علي بن أبي طالب على المنابر - حيث نعته بلقب أبي تراب- واضطهاد كل من يتحدث في فضله، وفي المقابل أمرهم بتقريب شيعة عثمان الذين يتحدثون بفضله ومناقبه والحث على رواية الأحاديث في فضل عثمان، فتسابق ذوو النفوس الضعيفة إلى ذلك تقربا للولاة وطمعا فيما أغدقوه عليهم من أموال، من أمثلة ذلك ما روي عن أنس أن رسول الله r قال: "... ليلة أسري بي دخلت الجنة فإذا أنا بتفاحة تفلقت عن حوراء مرضية كأن أهداب أشفار عينيها مقادم أجنحة النسور فقلت لمن أنت يا جارية فقالت أنا للخليفة المقتول ظلما عثمان بن عفان "!! (الراوي: أنس بن مالك المحدث: ابن حبان). فلما كثر الحديث في فضل عثمان كتب معاوية إلى عماله يأمرهم بدعوة الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، فقيل ضمن ما قيل وفق رواية الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال: "إن اللّه ليتجلى للناس عامة ويتجلى لأبي بكر خاصة"، وفي حديث عن لهيعة عن مشرح عن عقبة "إن اللّه يباهي الملائكة عشية عرفة بعمر، وحدثنا حجاج بن منهال عن عبد العزيز بن الماجشون عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال:قال النبي r: (رأيتني دخلت الجنة، فإذا أنا بالرميصاء، امرأة أبي طلحة، وسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ فقال: هذا بلال، ورأيت قصرا بفنائه جارية، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لعمر، فأردت أن أدخله فأنظر إليه، فذكرت غيرتك" . وفي المقابل طلب معاوية من عماله ألا يتركوا خبرا يرويه أحد في فضل علي بن أبي طالب إلا ويأتوا بمناقض له في الصحابة، وكان من جراء ذلك أن رويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة بلغت بهم منزلة الأنبياء المعصومين، كحديث ابن عباس الذي قال: قال رسول الله r: "ما في الجنة شجرة إلا مكتوب على كل ورقة منها لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه أبو بكر الصديق عمر الفاروق عثمان ذو النورين".وعن أبي موسى الأشعري قال: (أن النبي rدخل حائطاً، فأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو أبو بكر ، ثم جاء آخر يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو عمر ، ثم جاء آخر يستأذن فسكت هنيهة ثم قال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه، فإذا عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه" (رواه البخاري ومسلم) وسرعان ما ظهرت أحاديث كثيرة موضوعة، حيث وضع الولاة حسب قول الإسكافي قوما من الصحابة وقوما من التابعين يحدثون بروايات تطعن في علي، وقد حصلوا في المقابل على الكثير من الأموال والهبات كالمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص، فعن عمرو بن العاص قال إن رسول اللّه r قال: إن آل أبي طالب ليسوا لي بأولياء. كما تبوأ أبو هريرة منزلة عظيمة في عهد معاوية وقد تخلص أخيرا من القيود التي فرضها عليه عمر بن الخطاب ومن جاء من بعده. كان الهدف السياسي واضحا منذ عهد معاوية الذي تناثرت في عهده الأحاديث التي تدعم ملكه وتتحدث عن فضله الذي وضعت فيه روايات كثيرة، وقام المأجورون بكتابة وتأليف كتب عن أحوال وفضائل معاوية، نذكر هنا قسما منها: "عن ابن عباس أنه قال: جاء جبريل إلى النبي r فقال: "يا محمد استوص بمعاوية، فإنه أمين على كتاب اللّه ونعم الأمين هو..."، وعن أبي مسهر حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن (الصحابي عبد الرحمن) بن أبي عميرة قال: قال النبي r لمعاوية: «اللهم اجعلهُ هادِياً مَهديّاً واهده واهدِ به». (أخرجه البخاري بسند في التاريخ الكبير (5|240)) ، وكذلك ما روي عن معاوية بن صالح عن يونس بن سيف عن الحارث بن زياد عن أبي رهم السمعي عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال سمعت رسول الله r وهو يدعونا إلى السحور في شهر رمضان: «هلموا إلى الغذاء المبارك». ثم سمعته يقول «اللهم علم معاوية الكتاب والحساب وقه العذاب». وقد أخرج الجزء الأول منه أبو داود (2|303) والنسائي (2|79). وأخرج أحمد بن حنبل في مسنده (4|101): "حدثنا روح قال ثنا أبو أمية عمرو بن يحيى بن سعيد قال سمعت جدي يحدث أن معاوية أخذ الإداوة بعد أبي هريرة يتبع رسول الله r بها، واشتكى أبو هريرة. فبينا هو يوضئ رسول الله r، رفع رأسه إليه مرة أو مرتين فقال: «يا معاوية، إن وليت أمراً فاتق الله عز وجل واعدل». وروى أحمد كذلك في مسنده أن النبي r قال: "الأمناء ثلاثة جبريل وأنا ومعاوية"، وعن خارجة بن زيد عن أبيه مرفوعا قال رسول اللّه r: "يا أم حبيبة، للّه أشد حبا لمعاوية منك كأني أراه على رفارف الجنة"! ولا مانع من بعض الميثولوجيا والقصص الأسطوري لتدعيم الهالة المقدسة للخليفة الأموي، حيث يروي ابن حجر العسقلاني في الصواعق المحرقة عن الطبراني، أن عون بن مالك كان نائما بمسجد بأريحاء، فانتبه فإذا أسد يمشي إليه، فأخذ سلاحه فقال له الأسد: صه إنما أنا أرسلت إليك برسالة لتبلغها، قلت: من أرسلك؟ قال: اللّه أرسلني إليك لتعلم معاوية أنه من أهل الجنة! قلت: من معاوية؟ قال: ابن أبي سفيان"!! ولا ندري لماذا أسد بالذات تبعثه السماء ليبشر معاوية بالجنة؟ وليس هناك مانع من تفضيل دمشق أيضا كحاضرة للخلافة الأموية عن غيرها من المدن، فيروي الحافظ في ميزان الاعتدال عن أبي هريرة أنه قال أن رسول الله r قال: "أربع مدائن من مدائن الجنة، مكة والمدينة وبيت المقدس ودمشق، وأما مدائن النار فالقسطنطينية وطبرية وإنطاكية وصنعاء"!! ويضع القائد الأموي روح بن زنباع معطيات نظرية التفويض الإلهي في الحكم يوم أخذ البيعة ليزيد بن معاوية حيث يقول: "إننا ندعوكم إلى من جعل الله له هذا الأمر واختصه به، وهو يزيد بن معاوية ونحن أبناء الطعن والطاعون وفضلات الموت، وعندنا إن أجبتم وأطعتم، من المعونة ما شئتم"، هذا الخطاب المؤدلج يتعاطى مع حق إلهي والرعية بين خيارين: قبولٍ جزاؤه الحياة، أو رفضٍ جزاؤه السيف، ولا مانع من الترغيب بالمال لفرض الطاعة والتبعية من خلال خطاب مضلل يقوم على السيف والمال. وراح الأمويون يروجون لفكرة التبعية والطاعة مهما كان حكمهم ظالمًا، وممارساتهم السياسية شاذة وظالمة، ليغدو الحكم باسم السماء أمرًا إلهيا وقدرا مرسوما لا يمكن الإفلات منه أو التمرد عليه، وقد استعمل الأمويون وضع الحديث في سبيل نشر نظريتهم وإقناع الناس بها، وكانوا مهرة في ذلك يساعدهم ما وفرته لهم بيوت مال المسلمين من أموال، لإقناع المعارضين بالاستسلام التام لمشيئة السماء المتوحدة في تلك اللحظة التاريخية مع مشيئة الأمويين، ومن أمثلة ذلك ما يرويه ابن قتيبة عن العجاج عن أبي هريرة فيقول: قال العجاج: "قال لي أبو هريرة: ممن أنت؟ فقلت من أهل العراق، قال: يوشك أن يأتيك أهل الشام فيأخذوا صدقتك فإذا أتوك فتلقهم بها وإذا دخلوها فكن في أقاصيها وخل عنهم وعنها، وإياك أن تسبهم فإنك إن سببتهم ذهب أجرك وأخذوا صدقتك، أما إن صبرت جاءتك في ميزانك يوم القيامة". وبذلك تكون الدعوة إلى التخلي عن الحق والصبر على الظلم والاستبداد أمرا إلهيًا، بل ويريد منهم، أيضا أن يقتنعوا بأن لهم على ذلك الاستسلام أجر، وهذه فكرة إرجاء الحساب إلى يوم القيامة التي قال بها المرجئة، وبالطبع أيد الأمويون ما ذهب إليه المرجئة، واستمروا في توظيف رواية الحديث في خدمة المشروع السياسي/ الديني، بحجة أن من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية، ومن ثم تسويغ القعود والصبر على الظلم والرضى به لأن ذلك على حد زعمهم طاعة لله يؤجر المرء عليها!! لقد منحت الطبقة الحاكمة نفسها الحق، واستمدت السلطة من الدين لتفرض سطوتها على المجتمع مانحة لنفسها سيف الحق المطلق في كل شيء فهي تحكم وتقتل وتجلد وتراقب باسم السماء، متشدقة بكلمة "قال رسول الله" لتستخدم رواية الحديث استخداما مصلحيًا نفعيًا، وتعيد سيرة القياصرة والأكاسرة، فتصبح الدولة قائمة على سياف وجلاد ويحكمها خليفة بالتفويض الإلهي فتسلب الحريات والحقوق الطبيعية الفطرية التي جاءت الرسالة الخاتمة لتأكيدها والسمو بها فوق كل الاعتبارات. ويمكن القول أنه مع بداية العصر الأموي بدأت حركة وضع منظمة للحديث النبوي وانتحاله، وكان معاوية بن أبي سفيان هو أول الحكام الذين فتحوا الطريق أمام حركة الوضع الواسعة هذه، إذ بادر إلى إغداق الأموال بلا حساب على الرواة والمحدثين الذين كانوا يضعون ما يشاء من الأحاديث والروايات التي يعتقد أنها تؤدي إلى تعزيز السلطة الأموية في السلطان من جهة، وتسويغ وجودها دينيًا من جهة أخرى، في ظل صراع سياسي وعسكري محتدم نتج عنه احتقان كان كفيلا بتجدد الصراع في أية لحظة، وهنا ظهر فقهاء السلطان الذين كانوا على استعداد لاختلاق الحديث وبيعه ضمن ما باعوه من قيم وأخلاقيات، مستفيدين من المعطيات التاريخية التي خلفتها الفتنة الكبرى بمنتهى النفعية، ليقعوا تحت طائلة الإغراء بالمال والنفوذ، وقد استعملت السلطة سلاح المال كعامل مؤثر في شراء وتوجيه الرواة لينكبوا على كتابة الحديث الموضوع وفق ما ترتضيه السلطة الراغبة في البقاء مهما كانت الممارسات والمستعدة للعطاء بلا حدود في سبيل ذلك، وكان فقهاء السلطان على استعداد في المقابل للوضع والتزييف والكذب على رسول الله من أجل فتات موائد الخلفاء، متخلين عن كل القيم والمبادئ، ومزيفين الحقائق والوقائع من أجل الاحتفاظ بما يلقي إليهم من دراهم ودنانير. أضف إلى ذلك التفاوت الكبير بين الرواة في قدرتهم على الاحتفاظ بتفاصيل الواقعة ودقائق الرواية، ومن ثم نقلها إلى الآخرين بدقة ووضوح، حيث يضطر الراوي في كثير من الأحيان إلى معالجة عجزه عن نقل الرواية بشتى جوانبها وأحداثها مما يحدث بها فجوات يضطر معها إلى ملئها في الرواية بما يفترض أنه الصحيح أو المناسب لسياقها، وقد لا يتخذ هذا التبديل في الأحداث شكلا واعيا أو مقصودا بشكل مباشر، بل إن الراوي قد يعتقد أن ما ينقله عن الواقعة ويذكره عنها هو الحاصل حقا، وأنها وقعت كما يرويها هو وينقل تفاصيلها. لقد كان دور بني أمية جوهريا في وضع الأحاديث واختلاقها، وذلك لحاجتهم إليها في دعم حكمهم وإضفاء صفة الشرعية عليه، ويمكننا القول أن وضع الأحاديث والروايات المختلفة في فضائل بعض الشخصيات والرموز يمكن تفسيره في ضوء الحاجة السياسية، وهو الأمر الذي لم يقتصر فعله على بني أمية وحدهم، بل سار على نفس طريقتهم بنو العباس الذين خلفوهم في الحكم، وكانوا بحاجة إلى ما يؤمن الشرعية لسلطانهم من الأحاديث والروايات المختلقة. أضف إلى ذلك العامل العقائدي حيث إن كثيرا من أتباع المذاهب والفرق العقائدية لجأوا إلى وضع الحديث وافترائه دعمًا لمذاهبهم وتعزيزًا لأفكارهم وعقائدهم، فكثيرا ما يعاني هذا المذهب أو ذاك نقصا في جانب معين من جوانب العقيدة أو غيرها فيلجأ أتباع هذه المذاهب إلى وضع الحديث سدًا لهذا الخلل وقطعا للطريق على الخصوم والمتربصين، ولهذا السبب اتخذ وضع الحديث صورًا مختلفة ومتباينة باختلاف الأغراض لدى هؤلاء وتباينها، فقد يكون الغرض دفاعيا يقتصر على الدفاع عن المذهب بعقائده ورموزه، فيتكفل الحديث الموضوع ببيان هذه الناحية وإيضاحها للآخرين، وقد يكون الغرض هجوميا يسفه عقائد الآخرين ويسخف أفكارهم ورموزهم، فيؤدي الحديث المفترى هذه الغاية المطلوبة(6). ومن النماذج الفجة للأحاديث الموضوعة في مجال الصراع المذهبي ما روي عن أبي هريرة لمأمون بن أحمد الهراوي: "ألا ترى الشافعي ومن تبعه بخراسان؟ قال: حدثنا أحمد بن عبد الله، ... عن أنس أن الرسول قال: يكون في أمتي رجل يقال له محمد بن إدريس الشافعي، أضر على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له النعمان أبو حنيفة، هو سراج أمتي! " (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 13 ص 335) . ومع ظهور الخلافات المذهبية، اتجه أصحاب المذاهب المتباينة إلى اعتماد "صيغة وضع الأحاديث" من أجل الانتصار لهذا المذهب أو ذاك وكثرت الروايات المكذوبة على رسول الله r، الأمر الذي أنتج كما كبيرا من التراث الروائي المزور، فها هو ابن أبي العوجاء حين جاءوا به ليضرب عنقه قال: "وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرم فيها الحلال وأحل الحرام" وبلغ بالبعض أنه لم يقتصر على اختراع الحديث، بل كان هناك من يضع للمتن المزور إسنادا صحيحا مشهورا. وظهر نوع من الرواة قصد التقرب من المملوك والسلاطين والأمراء فكذبوا واختلقوا لأجلهم، ومن جراء علم الإسناد وطبقات الرجال أصبح الحق يدور حول الرجال والاهتمام بمن قال وليس بما قيل. كما تواترت الكثير من الروايات تتحدث عن فضل الأئمة الأربعة، وتنسب الروايات زورا وبهتانا إلى النبي r وكأنه ينطق عن الغيب الذي اختص به الله وحده، ومن أمثلة ذلك ما رواه الحافظ في ميزان الاعتدال عن أنس أنه قال: قال رسول اللّهr: "سيكون رجل في أمتي يقال له النعمان بن ثابت ويكنى أبو حنيفة، يحيي دين اللّه تعالى وسنتي(7)"، وفي المقابل يخرج أنصار الشافعي برواية تزكي صاحبهم، فيروى عن رسول اللّه r أنه قال: "أكرموا قريشا فإن عالمها يملأ طباق الأرض علما". وفي الإمام مالك ينسب للرسول r أنه قال: "يخرج الناس من المشرق إلى المغرب فلا يجدون أعلم من عالم أهل المدينة". وفي حديث آخر: "يكاد الناس يضربون أكباد الإبل فلا يجدون أعلم من عالم المدينة" ، وكان لابد للإمام أحمد أن يخرج بنصيبه من الروايات فيقول الحافظ الذهبي في ميزان الاعتدال عن عبد العزيز بن أحمد النهاوندي: سمعت عبد اللّه بن أحمد بن حنبل قال: سمعت أبي يقول: رأيت رب العزة عز وجل في المنام، فقلت: يارب ما أفضل ماتقرب به المتقربون إليك؟ فقال: كلامي يا أحمد، قال: قلت: يارب بفهم أو بغير فهم؟ قال: بفهم وغير فهم، كما روى أحمد من محمد بن عبد الحميد الكوفي قال: سمعت إبراهيم بن خرزاد قال: رأى جار لنا كأن ملكا نزل من السماء ومعه سبعة تيجان، فأول من توج من الدنيا أحمد بن حنبل، لتختلط الرواية بالميثولوجيا والرؤى والماورائيات الخرافية التي نسبت للنبي r زورا وبهتانا لاستيلاد نص مقدس يسبغ الشرعية على أنصار الأيديولوجيات المتباينة والمذاهب المتناحرة، فاصطبغت رواية الحديث في كثير من الأحيان بالأهداف السياسية وتواترات الأخبار التي نسبت للنبي r الكثير من الروايات والقصص بل وبعض الخرافات التي تتعارض مع قيمه ومبادئه في العصر النبوي، وبالطبع كان الغرض من هذه الأحاديث إعطاء الشرعية لأنظمة الحكم السياسية الأموية والعباسية التي حاولت هي الأخرى توظيف العامل الديني للحفاظ على بقائها وخدمة أهدافها فيما يمكن أن نطلق عليه التزوير الديني لاكتساب الشرعية وتأكيد مبدأ التفويض الإلهي. وجدير بالذكر أن أول من أمر بجمع الحديث بشكل رسمي هو الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز، فقد أرسل إلى عامله على المدينة أبي بكر بن حزم قائلا: "انظر ما كان من حديث رسول الله r فاكتبه، فإني خفت دوس العلم وذهاب العلماء." ولكنه لم يدون كل ما في المدينة من سنة وأثر، وإنما فعل هذا الزهري وكان معاصرًا لعمر بن عبد العزيز، فدون ما سمعه من أحاديث وأقوال للصحابة غير مبوَّب على أبواب العلم، وبذلك كان الزهري أول من وضع حجر الأساس في تدوين الحديث ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزهري فجمعه بمكة ابن جريج وابن إسحاق وبالمدينة سعيد ابن أبي عروبة والربيع والإمام مالك وبالبصرة حماد وبالكوفة الثوري وبالشام الأوزاعي وهكذا، ثم جاء القرن الثالث فصنفت المسانيد كمسند الإمام أحمد ومسند أبي إسحاق بن راهويه ثم الصحاح: البخاري ومسلم ثم ألفت بعدها السنن لأبي داود والنسائي وابن ماجه والترمذي (السيوطي ، تدريب الراوي). ويشوب عملية الجمع في عهد عمر بن عبد العزيز الكثير من الغموض والالتباس، فبرغم أن الأمر قد صدر بالفعل من الخليفة الذي استمرت خلافته لفترة وجيزة في أوائل القرن الثاني الهجري، حيث يشكك البعض في هذا الخبر، إذ لو جمع شيء من هذا القبيل لكان من أهمّ المراجع لجامعي الحديث، فالخبر يروي لنا أنّ عمر أمر، ولم يؤكد لنا أن الجمع تمّ، فلعل موت عمر سريعا عدل بأبي بكر بن حزم عن أن ينفذ ما أمر به خاصة بعد حركة تبديل العمال والولاة التي قام بها خليفته(8). وتورد المصادر القديمة روايات متعددة ومتناقضة عن جمع الحديث حتى أن ابن حجر في هدى الساري ، يذكر أقوالا متناقضة حول أوّل من دوّن الحديث؛ فتارة يدّعي أن أوّل من ألّف في الحديث هو الربيع بن صبيح، وتارة أخرى يقول أن أول من كتب في الحديث هو ابن شهاب الزهري الذي دوّنه بأمر من عمر بن عبد العزيز، وفي موضع آخر يؤكد أنّ أوّل من دوّن الحديث هو أبو بكر بن حزم، فيما يجعل الحافظ الذهبي عام (143هـ) العام الذي بدأ فيه تدوين الحديث على يد علماء مكة والمدينة. ويفهم من ذلك أن عملية جمع الحديث في عهد عمر بن عبد العزيز لم تكن عملية منظمة، حيث لم يمهل القدر الخليفة الأموي من متابعة تنفيذ أمره ولا يوجد دليل على أن الطلب قد تحقق في حياة الخليفة، بل إن الشواهد، والقرائن التاريخية، تشير إلى عكس ذلك، ولم يهتم أحد ممن جاؤوا بعد عمر بن عبد العزيز بهذا الأمر. وهكذا، وبعد أن قضى علم الحديث فترة طويلة من الزمن، لا تمتد إليه يد (اللهم إلا محاولات فردية غير منظمة) أخذت مرحلة الجمع في الصعود في العصر العباسي، ومع حاجة الدولة الجديدة لأحاديث تكسبها المشروعية بدأت حركة الجمع على قدم وساق، بعضها بإيعاز من السلطة وبعضها بدافع الرغبة في العلم مما أدى إلى ظهور العشرات من كتب الحديث من صحاح، ومسانيد، ومستخرجات في فترة لا تزيد على قرن من الزمان، وكان شغلهم الشاغل جمع الحديث بمختلف أقسامه وتدوينه دون تصنيف أو تمييز بين الصحيح والحسن والضعيف. لقد سارت عملية الجمع والأدلجة في العهد العباسي على قدم وساق تمنح الفضل للدعوة العباسية القادمة من خراسان لتنقض على ملك الأمويين البائد وتخرج الأحاديث المبشرة بقدوم أصحاب الرايات السود، كالحديث الذي رواه عدد من علماء السنة كالترمذي (3/362) وأحمد في مسنده، وابن كثير في نهايته، والبيهقي في دلائله... وغيرهم، وصححه ابن الصديق المغربي في رسالته في الرد على ابن خلدون، ونصه: "تخرج من خراسان رايات سود فلا يردها شيء حتى تنصب بإيلياء" وفي رواية أخرى: "إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان، فأتوها ولو حبوًا، فإن فيها خليفة الله المهدي". وصحّحه على شرطي البخاري ومسلم. وبذلك حاول بنو العباس توظيف أحاديث الرايات السود في ثورتهم على الأمويين، وعملوا على إقناع الناس بأن حركتهم ودولتهم وراياتهم مبشر بها من النبي r وأن المهدي الموعود منهم، حتى لقد سمى المنصور ولده بالمهدي، وأشهد القضاة والرواة على أن أوصاف المهدي المنتظر الواردة في الروايات المنقولة عن النبي r تنطبق علي ولده! لقد سار العباسيون على سيرة أسلافهم الأمويين في وضع الأحاديث واختلاقها بعد أن لاحظوا الحاجة إلى مثل هذه الأحاديث لدعم حكمهم وتوطيد أركان سلطانهم وتوفير الغطاء الديني للسلطة الحاكمة، للحصول على الشرعية فأغدقوا الأموال على الوضاع ليزيفوا مواقف الأمة ومقدساتها، وتواترت الأحاديث الزائفة لتؤكد أحقية عرقية مزعومة لبني العباس فيوضع على لسان أبي هريرة أن رسول اللّه r قال للعباس: "فيكم النبوة والمملكة"، أخرجه أبو نعيم في الدلائل وابن عدي في الكامل وابن عساكر وروايته: "فيكم النبوة وفيكم المملكة". وروى الطبراني: قال رسول اللّه r: "الخلافة في ولد عمي وصنو أبي حتى يسلموها إلى المسيح".. وروى الترمذي عن ابن عباس: أن رسول اللّهr دعا للعباس بدعاء قال فيه: "واجعل الخلافة باقية في عقبه"، وروى أحمد عن أبي سعيد الخدري، أن رسول اللّه r قال: "يخرج رجل من أهل بيتي عند انقطاع الزمان وظهور الفتن يقال له السفاح"، وفي حديث أم الفضل: "... يا عباس إذا كانت سنة خمس وثلاثين ومائة فهي لك ولولدك منهم السفاح ومنهم المنصور ومنهم المهدي"..! وهناك حديث ابن عباس عن النبي r أنه قال لعمه العباس: "إن اللّه ابتدأ بي الإسلام وسيختمه بغلام من ولدك وهو الذي يتقدم لعيسى ابن مريم". رواه الخطيب البغدادي في تاريخه وفي إسناده محمد بن مخلد. وبالطبع فقد أثبتت حوادث التاريخ ومجريات الأحداث كذب تلك الروايات الموضوعة، اللهم إذا كان هولاكو هو المسيح الذي تسلم الخلافة بعدما سقطت بغداد تحت سنابك خيله وإعدام آخر خلفاء بني العباس 1258م!! بالطبع لا ينطبق هذا على كل الأحاديث، وعلى الجهد الرائع والجدير بالتقدير الذي قام به الأئمة الأربعة من التابعين وتلاميذهم وأتباعهم وأعمالهم العظيمة التي جاءت متسقة ومتوائمة مع عصرهم، ولسنا هنا في مجال مناقشة فقهية، وإنما نرصد هنا الجانب السياسي المتعلق برواية تلك الأحاديث التي كانت ترمي إلى تأييد فئة على أخرى، وتحقيق مصالح فئة سياسية ونصرتها على أخرى. ونطرح هنا إشكالية جديدة ألا وهى: لماذا تم التأكيد الكبير على حرفية الحديث "حيث أن الفقهاء الأربعة ظهروا في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة (الشافعي ولد عام 150هـ). والفقهاء الأربعة ظهروا في أوائل العصر العباسي، وكذلك المحدثون (البخاري ولد عام 196هـ)، مؤكدًا أن هذا الفهم الذي كان بعيدا عن العرب في حياتهم البدوية ضمن ظروفهم في شبه جزيرة العرب حيث كانوا أبعد الناس عن الفلسفة والفهم الفلسفي، وكان الصحابة جزءا من هؤلاء العرب، وبالتالي فإن المشكلة الكبرى التي مازلنا نعيشها إلى اليوم بسبب تكريس مفهوم الحديث – أي حديث(9). ونحن بصدد مناقشة تلك الإشكالية لا بد أن نرصد هنا تلك العلاقات المتشابكة بين نشأة رواية الحديث ونشأة علوم الدين، والأخبار والمغازي والسير، وعلم التاريخ وقصص الأنبياء والإسرائيليات، تزامن كل هذا مع الصراعات السياسية والفكرية والمذهبية، حيث أصبح تخليص رواية الحديث من كل ذلك دربا من المستحيل، حيث صيغت وتشكلت في وسط هذه العناصر والمعطيات الروايات المتواترة عن النبي r، ولم يكن من المنطقي أو المعقول أن تستطيع تلك الروايات الشفهية الإفلات من الأطر الثقافية والسياسية والاجتماعية التي عاصرتها وسيطرت عليها بشكل كلي، وهكذا ظهرت الكثير من الروايات المنسوبة إلى الرسول r، وهي روايات سيطر عليها الطابع الشفهي قبل تدوينها، ووفقًا للطابع الشفوي لرواية الحديث ظهر أسلوب الإسناد والعنعنة لمنح الرواية المتواترة المصداقية وتحديد المرسل والمتلقي في ظل أوساط شفهية خصصت القدر الأكبر من اهتمامها وعنايتها بعلم الرجال والجرح والتعديل لتشخيص رواة الحديث والوقوف على مصداقيتهم لإثبات وتأكيد الصلة بين الراوي والمروي، بينما جاء الاهتمام بمضمون الحديث في المرتبة الثانية، وهكذا تم أدلجة الخصائص الشفوية لرواية الحديث، والرواية بشكل عام في شتى مجالات وفروع العلوم الأخرى التي ظهرت بالتزامن مع علم الحديث، لتسود ثقافة الشفهية والتي كان من السهل إثبات مصداقيتها بسرد قائمة من الرواة فاكتسب هذا النوع من الرواية الشرعية والمصداقية مما عمم نمط الإسناد وأكسبه الشرعية الدينية لما أصبح يتعلق به من نصوص مقدسة تحدث عن رسول الله r، وكانت هناك ضرورة ملحة لتوثيق الصلات بين السند والمتن حتى وإن اقتضى ذلك وضع سند صحيح لحديث زائف. وجدير بالذكر أن الأحاديث كانت تتزايد مع الزمن فأحاديث العهد الأموي كانت أكثر من أحاديث عهد الخلفاء الراشدين، وأحاديث العصر العباسي كانت أكثر من أحاديث العهد الأموي. وبذلك تحول تراث الماضي إلى ما يشبه الوثن، وخرج من تشبثوا به وحده فنسيهم الحاضر وغاب عنهم المستقبل. المصادر : (1) للمزيد انظر : ابن حجر العسقلاني : فتح الباري بشرح صحيح البخاري : ج1 ،دار المعرفة ، بيروت ، باب كتابة العلم. (2) للمزيد انظر : الحافظ الذهبي: تذكرة الحفاظ، دار الفكر العربي، القاهرة، د.ت . (3) للمزيد انظر : سنن ابن ماجة ج1 ص 12 باب التوقي في الحديث عن رسول الله r. (4) ابن حجر العسقلاني: فتح الباري بشرح صحيح البخاري: ج1،دار المعرفة، بيروت.
(5) Robert Alan Dahl : Political Oppositions in Western Democracies , Yale University Press , 1966.
(6) للمزيد انظر : رامي يوزبكي: الوضاعون وأحاديثهم الموضوعة، مركز الأبحاث العقائدية، بغداد.د.ت. (7 ) أحمد فراج حسين: تاريخ الفقه الإسلامي، الدار الجامعية، القاهرة.د.ت.ص119 (8) أحمد أمين : ضحى الإسلام ج3 ، دار الكتاب العربي، بيروت، 1965.ص606. (9) محمد شحرور : الكتاب والقرآن ، ص 565.
#سامح_محمد_إسماعيل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مقتل 42 شخصا في أحد أعنف الاعتداءات الطائفية في باكستان
-
ماما جابت بيبي..استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي وتابعو
...
-
المقاومة الإسلامية في العراق تعلن مهاجتمها جنوب الأراضي المح
...
-
أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202
...
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|