|
لماذا نخشى النقد ؟!
سلمان ع الحبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2959 - 2010 / 3 / 29 - 18:36
المحور:
حقوق الانسان
لست في مقالي هذا أقصد النقد الأدبي بمناهجه المعروفة ، ولكنّني أقصد النقد الموجّه للمجتمع ولثقافته وأفكاره . ولا يخفى على أحد أنّ النقد البناّء للمجتمع يؤدّي إلى تقدّمه ورقيّه ، كما يؤدّي إلى إصلاحه على جميع الأصعدة السياسية والثقافية والاقتصادية والتربوية ، لأننا حينما نعرّي أخطاءنا سنبادر في حلها أما إذا لم نعترف بتلك الأخطاء فلن نساهم في الحل مطلقاً ، وسنحاول أن ندفن رؤوسنا كالنعام خوفاً من مواجهة عيوبنا ، وبالتالي فلن نتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام من أجل الإصلاح . ومن قيمة النقد الاجتماعي – أيضاً - أنه يؤدي إلى إلغاء الخوف والوصاية التي تمارسها سلطات المجتمع المختلفة ، كما أنه يؤدّي إلى تعلّم الشفافية والصدق وتعزيز حب المجتمع والانتماء إليه باعتبار النقد البنّاء ناتجاً عن الحب لا عن الكراهية . ويساهم النقد الاجتماعي أيضاً في بناء ثقافة التعدّدية وقبول الرأي والرأي الآخر ، بالإضافة إلى مساهمته في بناء شخصية واثقة باعتمادها على النقد المتبادل الذي يبني مجتمعاً حراً لا يعرف الزيف والخداع كما لا يخشى سلطة تضطره إلى التملّق والنفاق ، وأضيف إلى ذلك أنّ هذا النوع من النقد يؤدّي أيضاً إلى حفظ الحقوق وإلغاء الاستغلال . يجب أن نعلم أنه ليس هنالك مجتمع فوق النقد ، وليس هنالك ثقافة كاملة خالية من الأخطاء والعيوب ، ومن هنا وجب النقد الذي يقوم على الإصلاح والتطوير والتقدّم رغم ما قد يواجهه المصلحون الاجتماعيون والمفكّرون الذين يساهمون بالنقد والإصلاح من رفض وإقصاء وسوء نية وكيل الاتهامات التي تخوّنهم وتتهمهم بالهرطقة والجنون أو العمالة أو نحو ذلك ، بالإضافة إلى الحسد ومحاولة تهشيم الشخصية بدلاً من مناقشة الأفكار بموضوعية ، والتعصّب الأعمى ، والدخول في صراع مرير أشبه بصراع الديكة الذي لا ينتهي في المجالس ووسائل الإعلام الرخيصة وماهؤلاء الذين يحاربون التنوير إلا إعادة لشخصية الدون كيشوت الفارس الإسباني الذي امتطى ظهر جواده لمحاربة الفساد وهو لم يحارب غير الطواحين التي صورها له خياله المريض شراً لا بدّ من مواجهته وحين لم يفلح في إحراز انتصار اتهم السحرة بأنهم وراء هزائمه . ومن الأسباب التي تؤدي إلى رفض النقد وخشيته – حسبما أرى - ما يأتي : 1- عدم الثقة بالنفس ، فمن لا يثق بنفسه يخشى النقد الذي يزيده زعزعة ويدكّ حصنه الذي شيده في الهواء . 2- عدم ثقة أولئك المنتقَدين بأفكارهم التي قاموا على حراستها ، وشعورهم بأن يقينهم الذي آمنوا به يتعرض لزلزلة عنيفة ممن ينتقدهم ،وهم بذلك لم يحملوا غير يقين هش في قلوبهم كبيت العنكبوت . 3- زلزلة سلطة الوصيّ حيث إنّ من يقوم بالوصاية على الناس أمراً ونهياً ، سيخسر سلطته التي مجّدها الناس خوفاً وطمعاً وسيصبح أولئك الأتباع والحواريون والمريدون - الذين طالما رسموا لذلك الوصي صورة أسطورية كصورة الآلهة اليونانية في الإلياذة والأوديسة – سيصبحون أحراراً يقررون مصيرهم بأنفسهم ويعرفون ما يجب أن يفعلوا بعيداً عن الوصاية التي تسلبهم ذاتيتهم وكرامتهم . 4- الخوف من أثر النقد في التخريب والإفساد ، مع أنّ النقد البنّاء يقوم بدور تنويري إصلاحي وهذا هدف إنساني نبيل يجب التشجيع على ممارسته بموضوعية ، إلا أنّ المجتمعات التي لم تصل إلى درجة الوعي الكافي بدور الإصلاح ، سيحاربون كل دور يقوم به المصلحون ، ويرجمونهم بكلمات نابية تتهمهم بالتخريب والفساد والضلال المبين ، ويشيعون ذلك بين أقرانهم ، وتنتشر التهم جزافاً انتشار النار في الهشيم ، مع أن الكثير منهم يردد الآية القرآنية التي لم يفقه أكثرهم معناها والتي تقول : ( إنْ جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) . 5- الخوف من كل جديد وافد ، وهذه طبيعة بشرية عامّة ، إلا أنّ المجتمعات العربية والإسلامية أصبحتْ تعاني وسواساً قهرياً ثقافياً ، وترى أنّ الفكر الوافد خطر يهدّد حصونهم الثقافية التي اعتزوا بكل ما فيها من صحة وخطأ ، أو تمام ونقص ، وأصبحوا يردّدون نظرية ( المؤامرة ) وبأنّ ثقافتهم مستهدفة لأنها – حسب زعمهم – ثقافة ضخمة كالجبال الراسية أوكأهرامات الفراعنة ، وتمثل تهديداً للغرب الذين يريدون زلزلة تلك الرواسي والأهرامات . وإذا كانت ثقافتنا بهذه القوة ، وبهذا الثقل فلماذا نخشى كل فكرة وافدة ونشعر بالخوف تجاهها أو بالخوف من كل نقد يوجه إلى ثقافتنا ؟!! 6- وجود ثقافة تقوم على النفاق الاجتماعي والتملّق من خلال التنشئة الاجتماعية والأنظمة السياسية والنظام التربوي وكأنّ التاريخ يعيد نفسه ، فذلك الشاعر الذي مدح الخليفة بقوله : شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ /فاحكم فأنتَ الواحدُ القهّار ُ ذلك الشاعر نفسه كأنه يعيش بين ظهرانينا ، فنراه يحمل ثقافة التملّق أكثر مما يحمل الفكر . ولا أعتقد بأنّ ثقافةً بهذا المستوى يمكن لها أن تتقبل النقد أو تؤسس لثقافة النقد لأنها باختصار أسست لثقافة مضادة ، تقوم على قبول الخطأ وتمجيده خوفاً من السلطة أو رغبة في التكسب والجاه والمكانة الاجتماعية أو الحظوة بمنصب أو بسبب التقليد الأعمى أو نحو ذلك . 7- وجود ثقافة تقوم على الخوف والإذعان وهي أشبه بالعبودية المطلقة ، فالابن والطالب والمرؤوس والحواريّ تربّى ونشأ على أن يقول نعم أو يقول : ( سمعنا وأطعنا ) ، وليس له خيار آخر ، وإلا حسب عاقاً متمرّداً وقحاً ، وهذه التنشئة أو المعاملة التي تسحق الفرد وتصادر حريته وذاتيته وكرامته ، إنما تجعله خانعاً مستكيناً وبهذا سيتخذ موقفاً من المصلح أو التنويري لأنه لا يقبل بالسلطة الأبوية التي أراد تهشيمها في بداية نشأته والتي تتمثّل في سلطة الأب أو الرئيس أو المعلم أو نحو ذلك ، أو لأنه اقتنع بتلك السلطة الأبوية الأولى واقتنع بأنّ التنويريّ لا يصلح بديلاً لتلك السلطة التي صنعتها ثقافة المجتمع وتربّى عليها أفراده . 8- أحادية التفكير والتقوقع على الثقافة المتوارثة دون التعاطي مع ثقافات أخرى ، وهذا ناتج عن التعصّب والتنشئة الاجتماعية الصارمة ، وعدم الثقة بالنفس ، بالإضافة إلى الأفكار المغلوطة التي تعدّ كل فكرة مغايرة خطراً يجب مواجهته والفرار منه كما نفرّ من الأسد المتوحّش الذي يبحث عن فريسته الدسمة . 9- شيوع ثقافة المجتمع الملائكي عند مجتمعاتنا العربية والإسلامية ، فنحن في نظر أنفسنا الأفضل والأحسن والأكمل ، فإذا جاء من يعرّي أفعالنا الخاطئة وأفكارنا المغلوطة وتقاليدنا المتشحة بالظلام فهو كمن يهتك الستر الذي نغطّي به عورتنا . إنّنا أمة نستتر بأوراق التوت المهترئة ، وأحياناً نكشف عوراتنا ، وننكر أنها كشفت ، محاولين بذلك خداع ذاتنا ، بغرض الإحساس بالكمال الذي نصف به أنفسنا بالقول : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) . 10- ضياع مصالح الاستغلاليين والانتهازيين للفرص ، وهذه نقطة مهمة إذ لا يخفى علينا أن النقد البنّاء يهاجم كل الأخطاء الموجودة في المجتمع بغرض إصلاحه ، ومن ذلك النقد الذي يمارسه التنويري لمن يقوم بالاستغلال والنهب بما فيهم أولئك الانتهازيون الذين يستغلون سلطتهم في النهب والاستغلال والتعدّي على الحقوق ولا يرضى بمحاسبة من أحد ، فإذا جاءت سياط النقد هبّ هذا الاستغلالي أو ذلك الانتهازي الذي استعبد الضعفاء للهجوم على كل منتقد ، لأنه قام بإسقاطه وفضح مساوئه وتعرية واقعه الفاسد الذي يمارسه في حق من يستضعفهم . وأخيراً أقول : إن النقد البنّاء الذي يهدف إلى الإصلاح ليس خطراً يهدّد المجتمع ، بل على العكس من ذلك ، إنه مساهمة جادة ملؤها الحب ، وهو سيلة لبناء المجتمع بناءً حقيقياً يعتمد على الثقة بالنفس والثقة بكل فكرة وافدة تؤدّي إلى رقيه ، وهو ليس مسؤولية فرد أو بضعة أفراد يغامرون باقتحام الظلام ، بل إنه واجب كل فرد شريف يريد أن يساهم في بناء مجتمعه بما أوتي من قوة محققاً بذلك حكمة كونفوشيوس التي تقول : ( أن تنير شمعة خير من أن تلعن الظلام ) ، وبهذا يكون أفراد المجتمع صفاً واحداً في سبيل الإصلاح والتطوير ، محاولين بناء هذا المجتمع لبنةً لبنةً ليكون حصناً منيعاً يواجه الخرافة والجهل والأفكار الرجعية ، ومتجنبين حساسية النقد ليصلوا إلى أرقى المستويات وإلا صدقتْ علينا تلك الطرفة التي كنّا نضحك عليها والتي تقول بأن العرب سيسودون الكرة الأرضية يوماً ما ويحكمون العالم في مشارق الأرض وغربها وشمالها وجنوبها ولكن ليس ذلك بسبب تقدّمهم بل لأنّ الغرب والعالم المتقدّم انتقل كله إلى سطح القمر واستوطن فيه بينما بقي العرب في سباتهم يعمهون ، بقوا لوحدهم على سطح الأرض يمارسون الدور نفسه ويتناحرون فيما بينهم ، بينما يتسلى الغرب بسماع أخبار العرب على سطح القمر ، وما أرجوه أنا لمجتمعاتنا العربية ألا تتحقق لهم تلك الطرفة وأن نتقبل النقد وأن نحاول جادين بناء أنفسنا ومجتمعنا كيلا نكون أضحوكة في سيرك يتسلّى بنا أولئك الذين سبقونا فكراً وعلماً بينما نحن نعيش في القرون الأولى .
* سلمان عبد الله الحبيب ( أديب وناقد وباحث )
#سلمان_ع_الحبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
من وحي الغربة !
-
غربة التحديث في مجتمع جامد !
-
صوت يخترق العتمة !
-
يوم في السنة للذكرى فلا تحاربوه !
-
حكم المنفى !
-
أحمر بالخط العريض وإعلامنا العربي !
-
سجين الأشواق !
-
ملاحقة حلم !
-
يوتوبيا التعايش ( نظرة تحليلية في الموقف من الآخر ) !
-
لعلّ الحب يواسيني!!
-
الإبداع وصراع الذات
-
الإبداع وصراع الزمن
-
الإبداع وصراع الثقافة !
-
الإبداع وصراع الغربة !
-
الإبداع وصراع الوجود
-
أنشدنا شعراً !!
-
تذكير المؤنث (دراسة نقدية في الخطاب الشعري )
-
زفرات في حرم الهوى
-
رحلة نحو الشمس - دراسة نقدية تفكيكية
-
وللشوق ابتهال
المزيد.....
-
لاجئون من الروهينغا يروون تفاصيل مروعة عن الحرب الدائرة في ب
...
-
المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تعلن عودة 58 ألف شخص إلى سور
...
-
الأونروا: أطفال غزة يتجمدون حتى الموت بسبب البرد ونقص المأوى
...
-
التّقرير السّنوي للرّابطة التّونسيّة للدّفاع عن حقوق الإنسان
...
-
الأغذية العالمي يحذر: الجوع ينتشر بكل مكان في قطاع غزة
-
وزير الخارجية السوري: لن نتوانى عن تقديم من تورط بالتعذيب بـ
...
-
الخارجية الإيطالية: اعتقال المراسلة سيسيليا سالا في طهران
-
العراق.. اعتقال عصابتين تمارسان تجارة -بيع أطفال- في محافظتي
...
-
تركيا: اعتقال مطلوب دولي بشبهة الانتماء إلى -داعش-
-
تحت ضغط أميركي.. سحب -تقرير المجاعة- بشأن غزة
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|