|
لا شعب ولا شعبوية.. خطط نخبوية فقط
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 2959 - 2010 / 3 / 29 - 15:39
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
في الثقافة العربية المعاصرة تقليدان فكريان كبيران، تقليد "تقدمي" منشغل بكيفية تحقيق التقدم والترقي والحداثة، وتقليد "استقلالي" متركز على مقاومة الاستعمار وخطط السيطرة الامبريالية. ونوعية انشغال الأول تقتضي كشف عوائق التقدم الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، والعمل على إزالتها وتذليها، وتطوير سياسات تحديثية مناسبة للمشاركة في التقدم العالمي، الذي يسمى اليوم أكثر حداثة. بالمقابل يدفع الشاغل الاستقلالي نحو استنفار عناصر المقاومة الداخلية وتعبئة الجمهور ضد المخاطر الخارجية، الآتية من الغرب أيضا، أي من جهة التقدم نفسها. ولطالما تعارض التقليدان. فتطلب التقدم يقتضي تحييد جبهة المواجهة مع الغرب المتقدم، الأمر الذي يصعب تحقيقه، بينما يتطلب الاستقلال الاستنفار حيال هذا الغرب، الأمر الذي يحد من فرص التعلم منه. التقليد الأول عبر عن نفسه في تيارات إيديولوجية ليبرالية وفي الشيوعية الأرثوذكسية وفي العلمانية المعاصرة، أما التقليد الثاني ففي الإسلامية المضادة للغرب، وفي القومية العربية أساسا. حيال ما يتبدى له ممانعة اجتماعية وثقافية ودينية للتقدم، يسحب التقليد الليبرالي ثقته من المجتمع، ويودعها غالبا عند النخب العليا، الثقافية والسياسية. الليبرالية العربية نخبوية تكوينيا. كانت كذلك في طورها الأول، "النهضوي"، وهي ترفد النخبوية اليوم بمنزع تسلطي يتناسب طردا مع تعريف نفسها ضد "الأصولية". أما التقليد القومي فقد جعل من الدولة قاعدة ارتكازه الطبيعية. قد تختلف دولة الليبراليين عن دولة القوميين، لكن العقيدتين دولتيتان على حد سواء. الأولون يرون الدولة قاطرة ترقٍ أكثر تقدما من مجتمعها (عزيز العظمة)، والآخرون يرون الدولة حصن ممانعة وخندق مقاومة في معركة الأمة ضد العدوان. نلحظ أنه لم يتكون لدينا تقليد فكري حديث يدافع عن عموم الناس وينحاز إلى بيئاتهم وشكاواهم وتطلعاتهم ويفتح لسردياتهم باب الثقافة العليا. أظهر التقليد القومي الاستقلالي لبعض الوقت حساسية حيال هذه المطالب، لكنه تصرف دوما بصورة أبوية حيال "الشعب"، ولم يظهر وساوس ذات شأن حين اقتضى "الأمر" قمع "الشعب" أو حتى سحقه. الشيوعيون انحازوا لشعبٍ يطابق "مصالحه الحقيقية" مع علمهم المادي التاريخي. الليبراليون ضد شعبيين غالبا وليسوا ضد شعبويين فقط، عندنا وفي كل مكان. وإلى جانب التيارين الحديثين، التقدمي الليبرالي والقومي الاستقلالي، ثمة طبعا التقليد الإسلامي الذي يفيض على كونه ركيزة استناد التيار الاستقلالي الأساسية. في الإسلام تقاليد فرعية متنوعة، منها في سياقنا تقليد مساواتي وتقليد سلطوي. التقليد الفرعي المساواتي يسوي بين الناس في عبودية الله، ويجعل التقوى معيارا للتمييز بينهم، فيما يقرر التقليد التراتبي تفاوت الناس في الرزق كأمر طبيعي وكذلك تفاوتهم في الدرجات، بما في ذلك كون البعض عبيدا. وكلا التقليدين حي، وقد يتراكبان مع تقاليد إسلامية فرعية أخرى مثل التقليد الخوارجي التمردي أو الثوري، والتقليد السلطوي الانضباطي (الطاعة)، والتقليد الصوفي، والتقليد الفقهي، والتقليد المنفتح على الحياة الدنيا والإيجابي حيالها، وذاك المندار عنها والهاجس بالموت دوما. أيا يكن الأمر، فإن التقليد الإسلامي في تياره العريض متمحور حول مفهوم الأمة الإسلامية أو جماعة المسلمين، فلا يفكر في الشعب كأكثرية اجتماعية محرومة ومزدراة ومهمشة، العدل مصلحتها وإيديولوجيتها العضوية. الشعب هذا، جمهور الفئات الأكثر فقرا وحرمانا، غير ممثِّل في ثقافتنا الحديثة. الإسلاميون يهتمون بإيمانه لا بحرمانه، والقوميون بتجنيده في مواجهة الاستعمار ومؤامراته لا بشروط حياته، الليبراليون ينفرون من "تخلفه". لذلك فللكلام على تقليد أو تيار شعبوي عربي حظ فقير من الواقع. وسنقول إن هذا أمر مؤسف أكثر مما هو شأن يُبتهَج له. والواقع أن أقرب شيء للشعبوية في ثقافتنا هو توجهات سياسة وفكرية ظهرت في ثمانينات القرن العشرين، وكانت تعارض الطغيان الحكومي الفاجر فعلا حينها، إلا أنها تنزلق عموما إلى التفكير بالشعب كهوية، كأمة بالمعنى الديني للكلمة. لكن يصعب القول إنها شكلت تقليدا ثقافيا عربيا. كانت أقرب إلى موجة إيديولوجية متأثرة بالثورة الإيرانية وصعود الحركات الإسلامية، وعلى خلفية تجمد التقليدين التقدمي والاستقلالي الذين كانت الحركة القومية العربية ضربا من التركيب بينهما. وعلى يد الحركة الأخيرة كانت ظهرت نزعة شعبوية يسارية في عقد الستينات، فكرت في السكان كجماهير كادحة تناضل ضد مستغليها الداخليين والخارجيين، لكن هذه بدورها كانت موجة إيديولوجية بالكاد عاشت عقدا. وتلاشت بعد أن أوصلت أطقما إيديولوجية وسياسية إلى سلطات ستطور ملامح استبدادية ساحقة، وستشكل إطارا لظهور نخب أعيانية جديدة تفوق في أنانيتها وشراستها النخب الأعيانية القديمة. الموجتان كلتاهما نخبويتان، وهما معا نتاج تفكك التقدمية العربية في وقت ما من عقد السبعينات. كانت هذه وحدت مدركي الأكثرية والتغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي. بتفككها حصلنا على أكثرية ساكنة دون تغيير، مجرد اختلاف أو هوية، لا مضمون لهما غير "الإسلام"؛ وتغيير بلا أكثرية آل إلى اغتراب أو غيرية محض، لا تنصب أية حواجز دون سياسات هوية أخرى. أما قيمة العدل، الركن الثالث في التقدمية، فقد تبخر في الهواء. الشعب كفكرة مكونة من أكثرية اجتماعية تشغل المراتب الدنيا من الهرم الاجتماعي، وكتطلب لحياة أكثر سعة وعدالة ومساواة، وكأساس للأمة والدولة الوطنية، غير متشكل لدينا في تقليد ثقافي حديث، قد نسميه شعبويا. ليس ثمة سردية تصف الشعب وتتكلم عنه وتتحمس لمطالبه وتتحسس أوجه بؤسه، فتسهم في تكوّنه وتوحيده. لا يكفي، تفسيرا لذلك، القول إن الشعب مشروع أكثر مما هو واقع محقق لدينا. المشروع ذاته يحتاج إلى سياسات وسرديات شعبوية. نرجح أن للأمر صلة بنوازع نخبوية، متأصلة في ثقافتنا منذ القديم، وتربط حبالها اليوم بمواقع وأدوار وفرص في سوق للنخب تزداد تدويلا. ليس حضور الشعبوية تاليا هو ما يؤسف له، بل غيابها، وما يؤشر عليه الغياب من اهتمام متدن بقضايا الأكثريات المفقرة والمحتقرة فعلا، أو حتى مجرد ذكرها، ومن فقر في الفكر الجمهوري، إن لم يسهل الانقلاب إلى حكم سلالي متجدد فقد سهّل غفلة تامة عن هذا الانقلاب البالغ الخطورة. وهذا خلافا لما يفضل أن يبثه نقاد للشعبوية يظهرون كتامة تامة حيال الجمهور العام وأوضاعه، ولا يكفّون عن النواح من انتشار "الأصولية" والتحذير من خطر ديمقراطية سوف تؤدي إلى "طغيان أكثرية العدد". هذا نقد نخبوي معاد للعامة، يتوسل أصحابه مدرك الشعبوية لتصفية حساباتهم مع مثقفين أعداء، دون أن تعرض أعمال ممارسيه تحسسا بوجود سكان مهمشين مغيبين، أو حسا بالعدالة حيا، أو يحتفظ تنديدهم بالشعبوية بشيء ما من الشعب، واقعا أو مشروعا، أو دالا لغويا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أي حل لعقدتنا الغوردية؟
-
كل الطيبات للطيبين، وكل الأشياء الأخرى أيضا
-
الطائفي هو من يؤمن بوجود الطوائف
-
وراء ثلاثة جدران فولاذية أو أربعة
-
هل سورية معرضة للزوال ما لم يكن حكمها استبداديا؟ نقاش مع حاز
...
-
الظاهرة الإسلامية.. صحوة أم رِدَّة، أم ربما فرصة؟
-
الإصلاح الإسلامي وإيديولوجية الإصلاح الديني
-
العدل... ولو انهار العالم
-
لماذا نتخلف؟ ولم لا يكف تخلفنا وحده عن التقدم؟
-
في تفقد الواقع وأشياء أخرى
-
فكأنك في -مثل غابة للحيوانات-..بعد 41 عاما موصولة!
-
العلمانية كسردية صغرى..
-
وعي الحاضر وتأهيل الذات (كلماتٌ لمجلة -الحوار- في ذكرى انطلا
...
-
التطور بالتذكِّر: -جملكية- أم سلطانية محدثة؟
-
أسئلة وردود حول قوانين الأحوال الشخصية
-
في نقد النظرة التجزيئية ومنطق الاستبدال الإيديولوجي
-
وضع -الدين العام-.. مناقشة في الشأن الديني السياسي العربي
-
في الفتوى و-التفاتي- وصناعة التقليد
-
الشعبوية إذا تنتحل.. قناع الكونية
-
بصدد أزمة الفكرة الديموقراطية في التفكير السياسي العربي
المزيد.....
-
الأردن.. ماذا نعلم عن مطلق النار في منطقة الرابية بعمّان؟
-
من هو الإسرائيلي الذي عثر عليه ميتا بالإمارات بجريمة؟
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
إصابة إسرائيلي جراء سقوط صواريخ من جنوب لبنان باتجاه الجليل
...
-
التغير المناخي.. اتفاق كوب 29 بين الإشادة وتحفظ الدول النامي
...
-
هل تناول السمك يحد فعلاً من طنين الأذن؟
-
مقتل مُسلح في إطلاق نار قرب سفارة إسرائيل في الأردن
-
إسرائيل تحذر مواطنيها من السفر إلى الإمارات بعد مقتل الحاخام
...
-
الأمن الأردني يكشف تفاصيل جديدة عن حادث إطلاق النار بالرابية
...
-
الصفدي: حادث الاعتداء على رجال الأمن العام في الرابية عمل إر
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|