أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فارس محمود - اعلان شيعة العراق.. سيناريو جديد مناهض للجماهير















المزيد.....



اعلان شيعة العراق.. سيناريو جديد مناهض للجماهير


فارس محمود

الحوار المتمدن-العدد: 215 - 2002 / 8 / 10 - 01:23
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


فارس محمود

 

نشرت جريدة الزمان في عددها المرقم (1239) والصادر في 20-6-2002 بيان "اعلان شيعة العراق" الصادر في 17 كانون الثاني (يناير) 2002 وقد فتحت الجريدة، مشكورة، الباب للرد والملاحظات وغيرها. وفي الوقت الذي احيي هذه المبادرة من قبل الجريدة، اغتنم هذه الفرصة لابداء رايي بالوثيقة المذكورة.

ان هذه الوثيقة تستوجب وقفة جدية من كل انسان يهمه مصير جماهير العراق، مستقبل رفاهها وامنها وسعادتها، ويهمه نيل الجماهير لمبتغاها في الحرية والمساواة.  انه يستوجب وقفة جدية من كل امرء راى بام عينه مابمقدور افكار في غاية الهامشية ولكن في اوضاع ما تحولت الى وقود صراعات دموية قد يعرف احد بدايتها ولكن لايعرف متى ستكون خاتمتها. لقد راينا اية كوابيس حلت على البشرية بالاخص في العقد المنصرم من مثل هذه الافكار. يوغسلافيا، راوندا، افغانستان، الصومال، وقبلها لبنان كلها شواهد حية على هذه المخاوف والمخاطر. لقد راينا كيف ان شخص ما باستطاعته اطعام (100) نفر وتزويدهم بسلاح هذه الدولة او تلك ان تنبش اكثر الافكار هامشية في مجتمعها لتحيله الى حطام على رؤوس الجماهير. ان الوقوف امام السيناريوهات السوداء في المجتمع يبدأ من ايلاء اهمية خاصة لمثل هذه الاعلانات (اعلان شيعة العراق) والكشف عن مضامينها واهدافها السياسية والاجتماعية والتصدي لها.   

 

يسعى البيان في البداية إعطاء القاريء تصوير وايحاءات مضخمة حول بيانهم (اعلان شيعة العراق) وحول حجم المسعى الذي تم القيام به والوقت الطويل الذي استغرقوه للوصول الى نتائج متأنية ودقيقة وحكيمة طالما ان الموضوع حساس، وحول تنوع المساهمين وانحداراتهم المختلفة التي تعكس "اطياف" واسعة وعريضة من جماهير العراق (وبالاحرى شخصياته!!)، اختصاصاتهم المختلفة لتغطية الجوانب المختلفة للمسالة العراقية (وفي الواقع، قصدهم هو مايسموه بـ"الحالة الشيعية")، عبر التاكيد على ان الاعلان  قد جاء كثمرة "لنقاشات ومداولات دامت اكثر من عامين باشتراك ابرز الشخصيات الشيعية العراقية في المهجر من علماء دين واكاديميين وباحثين ومفكرين وسياسيين وعسكريين ورجال قبائل"، ويؤكد، نظراً لحساسية الموضوع فانه يستدعي "تعاملاً دقيقاً و"نظرة موضوعية مجردة" و"رؤية علمية واقعية"، وان الاجتماعات لم تكن "مقيدة باطار ايديولوجي"، "بل كان رائد الجميع المصلحة الوطنية العراقية" وان "الاهتمام بمستقبل العراق ... وضرورة ترسيم مستقبله بشكل صحيح هو القاعدة المشتركة التي التقوا عليها". واذ طالما قد بذلت هذه الجهود الضخمة عليه، وكون هذه الجهود نزيهة، موضوعية، ومجردة من الاهواء والنوازع السياسية والذاتية للافراد، وطالما كانت مصلحة جماهير العراق هي الوحيدة التي نصب اعينهم، فمن المحتم ان اشخاصه قد خلصوا الى "ام العقد" و"سر المصائب" ليطالبوا، في ختام البيان، جميع الفئات والتيارات والاطراف الانضمام الى هذه الوثيقة!!

 

ان كل سطر من هذا البيان- الاعلان يشير الى خلاف هذه الحقيقة. ليس، في عالم السياسة، شيء اسمه "عدم الانحياز". ان التحزب، الانحياز هو امر جوهري في السياسة. ان الترفع، التعالي عن مصلحة خاصة هو شيء كاذب وغير واقعي. انه كذب هادف يسعى صاحبه الى تصوير حركته، وبصورة مرائية، على انها اكبر من الهموم الفئوية وتفتح صدرها لكل جماهير العراق وان شغلها الشاغل هو " بناء عراق جديد يعيش الجميع فيه بحرية ومساواة". ان بياناً طائفياً، ذا اهداف طائفية لهو متحزب الى ابعد الحدود، منحاز الى ابعد الحدود وغير "موضوعي مجرد" وغير "علمي و واقعي" بتاتاً، وان الاجتماعات "مقيدة باطار ايديولوجي" سواء شاء ام ابى.

 

 ان الدليل على ذلك هو نفس البيان من الفه لياءه. واعود لاحقاً الى هذا الاطار الايديولوجي. ان المجتمع العراقي، كسائر المجتمعات المعاصرة يتالف من طبقات ذات مصالح مختلفة واهداف مختلفة وتقاليد سياسية مختلفة تتشكل على اساسها الاحزاب السياسية المختلفة وترسم مجمل السيماء والملامح السياسية والفكرية للمجتمع. ان البيان لايشذ عن هذه القاعدة مع فارق، وبرايي، اساسي وجوهري وهو ان هذه التجمعات، الفقاعات، ليس لها اي دور ومكانة في الصراع الواقعي الفعلي الجاري حول حسم مصير السلطة السياسية في العراق.انها هامشية وليس لها ادنى ربط بالصراع الواقعي والفعلي الذي يجري في الساحة السياسية. رغم ان هذا لايعني عدم خطورتها في اوضاع التشتت والبلبلة السياسية. 

 

ان من حق جماهير العراق غداً ان تسالكم: ان كان خير العراق هو حافز فعاليتكم (وهذا الشيء لااتفق معه وذلك لسبب بسيط هو نفس محتوى البيان)، اين كنتم في كل هذه السنوات العصيبة التي غدت فيها كلمة عراقي مرادفة للابادة الجماعية، للاعدامات، للسجون، لمصادرة الحريات السياسية؟! لماذا لم نسمع منكم حرف واحد طيلة كل هذه السنوات المريرة؟! لماذا لم يسمع احد صوتكم حين قتل اكثر من مليون ونصف المليون انسان واسر عشرون مليون انسان في حصار مجرم؟! ولحد اليوم لااحد يعرف رايكم من اسوأ مجزرة ارتكبت بحق جماهير العراق طيلة تاريخ البشرية؟! ماذا قمتم للوقوف ضد الغطرسة واعمال القصف وقرع امريكا لطبول الحرب الذي تعد جماهير العراق اول ضحاياه؟! ماذا قمتم من اعمال تستهدف خلاص جماهير العراق من كل هذه المآسي التي جلبها النظام وامريكا؟! لماذا لم يسمع احد من كل هذا الشخصيات "البارزة" اي صوت او رد فعل على قطع رؤوس العشرات من النساء العراقيات؟!  ناهيك عن تنظيم الجماهير، تعبئتها وحشد قواها من اجل خلاصها من هذه الاوضاع السوداوية، ناهيك عن السعي لجر الراي العام العالمي نحو  لعب دوره لانهاء هذا الكابوس عن جماهير العراق!!

 

 

 "الشيعة".. تصوير مخادع ومغرض!   

 

لايمكن فصل التصوير الذي يحمله البيان ونظرته الى القضايا، المقولات، وحتى قراءته للتاريخ عن اهداف مدونيه. اذ يتحدث البيان عن الاعلان بوصفه "نظرة الشيعة لمستقبل العراق"!! (وبالطبع اصحاب البيان هم ابرز الشخصيات الشيعية العراقية، حسب ادعائه. ولايعرف المرء كيف تم "تنصيبهم" ووفق اي عملية سياسية او غير سياسية اصبحوا كذلك، ووفق اية معايير تم ذلك، واذا اراد احد ما ان يكون من هؤلاء الابرز، اي سبيل عليه ان يسلك، ومن منحهم "شيك تمثيل اغلبية جماهير العراق" و...غيرها من اسئلة لا اعرف كيف يجيب عليها دعاة حقوق الانسان وحرياته هؤلاء!!). انه، وبجرة قلم، يطلق كلمة "الشيعة" على اغلبية سكنة العراق وبالذات جنوبه!! ان هذا اقحام غير واقعي ومفتعل. انه قد وصياغة هوية كاذبة والسعي الى فرضها. في جنوب العراق، لاتحسب الجماهير نفسها كشيعة. لاتحسب نفسها ولية اومنتمية الى "مذهب اهل البيت". لاتُسيِّر هذه المقولات حياتها اليومية. ان حياة جماهير العراق وعاداتها وافكارها وكل مسائل حياتها اكثر مدنية من ام يصنفها اصحابنا بالشيعية.

 

ان الاسلام له ثقله على حياة الناس. ان هذا امر يدركه المرء. بيد انه ليس بكاف لتصنيف اغلبية جماهير العراق (واولهم سكنة الجنوب ومناطق الفرات الاوسط) على انها شيعية. ولانه يدرك ان واقع الحال في مناطق "الشيعية" ليسوا كتلة واحدة منسجمة دون تيارات فكرية وسياسية متنوعة، بل ومتضاربة ومتصارعة. فيها الشيوعيين، القوميين، الديمقراطيين، العلمانيين والمتمدنين، يلجأ الى مناورة انتهازية عبر الاقرار بـ"تعدد التيارات السياسية والفكرية عند الشيعة الا ان التيار الاسلامي هو التيار السياسي الفاعل لدى الشيعة.. الى الحد الذي اصبح فيه هذا التيار ممثلاً ضمنياً لشيعة العراق" او ان "الحالة الشيعية في العراق تضم مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية ولاتقتصر على التيار الاسلامي". كما لو ان قضية الشيعة خالدة وثابتة بحيث ان التيارات السياسية، وفي المراحل المختلفة، كان همها التعبير عن "الحالة الشيعية" وان اليوم يمثلها الاسلاميين!! ان هذا التفاف على مسالة مهمة الا وهي ان تاريخ العراق هو تاريخ احزاب سياسية وفكرية معاصرة ليس لها ادنى ربط بقضايا الشيعة، بل كانت بالاحرى بالضد من مثل هذه المفاهيم والمقولات. ولانه ليس بقادر على القفز على هذه الاحزاب والتيارات والتقاليد السياسية، فانه يصور القضية كما لو ان هناك مسالة اسمها "الحالة الشيعة" وهي قضية ازلية وخالدة بمعزل عن مجيء التيارات والاتجاهات الفكرية او ذهابها.

 

 ان النتيجة التي يخلص اليها معبرة جداً الا وهي ان التيار الاسلامي اليوم  هو الممثل الضمني لهذه الحالة الشيعية. اي، عملياً، احالة قضية اغلبية الجماهير، الشيعة، الى التيار الاسلامي طالما ان التيارات الاخرى التي كان بوسعها ان تكون ممثلة لـ"لحالة الشيعية" هي ضعيفة اليوم!! ان هذه هي اخر التنظيرات الاسلامية الطائفية. 

 

انه يسعى، وبصورة تعسفية، ان يصور الجماهير الساكنة في الجنوب "شيعية" عبر ربطها بالتاريخ القديم، بعدة قرون منصرمة، وباهل البيت وصراعات الحسين ومعاوية ويزيد وغيرها وكانها-اي الجماهير- موثقة ومشدودة، للابد، لهذا التاريخ وتلك الصراعات السياسية الغابرة اكثر مما ترتبط بالف اصرة واصرة بقضايا اليوم وصراعات اليوم وهموم واهداف اليوم. انه يرهن الجماهير في الماضي من اجل تحقيق اهدافه المعاصرة. ان اوضاع البشرية اليوم (وحتى في ابعد نقطة من نقاط العالم) هي نتاج اوضاع وصراعات اليوم التي، في اغلبها، ذات صبغة وطابع عالميين. لقد انقضت مراحل تاريخية سياسية_اجتماعية على ذلك التاريخ، تاريخ العراق تغير الى حد ليس له ادنى ربط بذلك التاريخ. ان مجمل امور وحياة المجتمع عصرية، مرتبطة بالاوضاع المعاصرة للبشرية اليوم. مرتبطة بسعر صرف الدولار وسعر برميل النفط وبازمة الاقتصاد العالمي والبورصة العالمية وصندوق النقد الدولي وسائر المسارات الفكرية والادبية والاجتماعية المعاصرة. وعلى قول منصور حكمت، "ان الملالي في ايران اليوم يرهنون بقاء عمائمهم في السلطة بسعر صرف التومان الايراني".  لقد قطعت البشرية اشواط كثيرة عن ذلك التاريخ، اجيال مرت، ومقولات كثيرة تغيرت، مسارات سياسية وتيارات فكرية عديدة جاءت وذهبت ولكن السؤال المطروح: لماذا "شيعية" اهل الجنوب لم تتغير ولم تولي!!  بقت كانها ختم على جبين جماهير العراق لايزول؟! لماذا بقت كتماثيل الفراعنة لاتزول!!

 

انه لامر مفهوم سر هذه الهويات المقحمة على جماهير العراق. ان ورائها اهداف سياسية. ليس لها ادنى ربط بالعلم والعلمية. ان مسالة الهوية هي مسالة سياسية صرف. ان التيارات السياسية المختلفة تصنف مجتمع العراق بشكل كي تبرر معه نفس وجودها السياسي واهدافها. القوميون يقولون ان مجتمع العراق هو مجتمع قومي، مجتمع معروف بعروبته وقوميته الاصيلة والمتجذرة. ويتحفوك بالقول: الا ترى نضالاته  ومواقفه العروبية والقومية الاصيلة؟! الاترى وقوفه بخندق قضايا الامة ودفاعه عنها؟ الا ترى مواقفه تجاه قضية فلسطين؟! الاترى لغته وتاريخه؟! الاسلاميون يكررون النغمة ذاتها بشكل وعبارات اخرى بكون المجتمع العراقي مجتمع اسلامي: "الاترى الجوامع والمساجد الكثيرة ومراقد الائمة والعتبات المقدسة؟! الا ترى دور رجال الدين؟! الا ترى الاسلام والتاريخ الاسلامي جزء حي من تاريخ هذا المجتمع؟! الا ترى دور العراق في خدمة قضايا الامة الاسلامية؟! العشائري يصنف مجتمع العراق بكونه مجتمع عشائري. اذ انه يشير ايضاً الى دور شيوخ العشائر في ثورة العشرين وفي الحركة من اجل الاستقلال ودورهم الوطني، وان للعشيرة والتقاليد والقيم العشائرية دور في حياة الجماهير، ياتي السادة اصحاب البيان ليسعوا الى اقناعنا ان اغلبية جماهير العراق هم "شيعة". ان هذه هويات مقحمة على جماهير العراق ومفروضة عليه. ان هدفها واضح، هدف سياسي. اورد لك مثلاً، ان العشائرية اليوم هي نتاج العشائرية التي احياها صدام في منتصف الثمانينات وهدفها سياسي وامني تحديداً  الا وهو كسب العشائر ولفها حول سلطته للدفاع عن نظام حكمه المتداعي. كلنا راينا بعد انتهاء حرب الخليج الثانية، كيف استفاد النظام من العشائر التي مول رؤوسائها وشيوخها باموال طائلة وبالسلاح مقابل توظيفها ضد "العاصين من ابنائها" وفي اعادة استتاب الامور وبقاء نظامه ناهيك عن "البرقيات المكتوبة بالدم" التي يرفعها هؤلاء لراس النظام . ان هذا جرى في نفس "عشائر الجنوب"، "الشيعة"!، في سوق الشيوخ والشطرة والبصرة والعمارة والمناطق القريبة من الهور. لو لم يبث نظام صدام الدماء والروح في هذه النزعة، لبقت ميتة في هامش المجتمع العراقي. من جهة اخرى، اي عيد لشيوخ العشائر ان يروا هذا اليوم. ان يساومهم النظام وان تعاد لهم هيبتهم ومراكز نفوذهم وسلطتهم.  يجب وضع حد لتقسيم جماهير العراق و وضعها امام بعضها البعض. يجب انهاء هذه الهويات المفروضة والمقحمة وفرض واقحام الهويات هذا.

 

 ان هذا الطيف من التصورات التي تسعى الى وضع اطار وقالب لجماهير العراق قد شاع بالاخص في العقد الاخير. ان كانت هذه التصورات هي نتاج للاوضاع السياسية الفكرية اليمينية التي سادت على صعيد العالم، نتاج نظريات مابعد الحداثة والنسبية الثقافية التي منبعها الغرب نفسه، فان نخب ومحافل سياسية كثيرة قد تلقفته في اوضاع استفحال ازمة السلطة السياسية في العراق وانفتاح الابواب امام مسالة بديل السلطة البعثية من اجل اهدافها السياسية وحتى الشخصية المباشرة. ان لم يصنف احد العراق بكونه مجتمع عشائري او اغلبيته شيعة او غيرها، باي صفة يدخل للساحة السياسية، وباي حق يطلب حصة في السلطة المقبلة؟! ان هذه التصاوير تشترك بكل شيء وتساوم بعضها البعض في كل شيء (فالقومية تعطي مكاناً للدين، والطائفة تضع مكاناً للعشيرة وقس على هذا) بيد انها لاتتحدث عن حقيقة اساسية الا وهي الهوية الانسانية لجماهير العراق. اي كونهم بشر من لحم ودم وحس انساني عام ومشترك، كونهم اناس يعملون، ويبحثون عن الامن وممارسة حرياتهم العادية. ولهذا فانهم ينحرون الهوية الانسانية على مذبح مصالحهم الفئوية والنخبوية الضيقة.

 

هل ان اغلبية جماهير العراق لهي فعلاً "شيعية"؟!!     

 

ان كل انسان عاش في العراق او راى المناطق "الشيعية" يعرف ان هذا التصوير غير واقعي. يدرك انه، ولحد الامس، كانت الشيوعية مد مليوني، القومية مد، الليبرالية والديمقراطية لها نفوذ. يعلم ان اغلب مناطق "الشيعة" كانت تتسابق على اطلاق لقب "موسكو الصغيرة" على نفسها تيمناً بالشيوعية السائدة في عصرها. الم تكن الناصرية والبصرة  حتى الامس معاقل للشيوعية، الم تسمي الشطرة، بل حتى "شارع عشرين" في الناصرية، انه موسكو الصغيرة. الحلة والديوانية كذلك. السماوة كذلك. الم يشيع اسم لينا (وهو الاسم الذي جاء تيمناً بلينين) بين الاطفال؟! حتى الامس القريب من الذاكرة، ايهما اكثر نوادي ومحلات المشروبات الروحية ام الجوامع والمساجد وايهما اكثر ازدحاماً؟! أ قليلة "النكت" التي تتحدث عن الرجل الذي ذهب لبيت الملا فوجده مخموراً أوعن المغامرات الجنسية للملالي. ان جماهير العراق تفضل قضاء اوقات فراغها وفرحها في ابو نؤاس وحديقة الزوراء والاثل والسندباد في البصرة ومتنزه الناصرية وليس في الجوامع. حتى ان الفتيان والفتيات يذهبون للخضر والكثير من الاماكن الدينية كي يغتنموها فرصة لتبادل النظرات والتعرف والالتقاء وتبادل ارقام الهواتف. ان الناس تسمع  للساهر ويوسف عمر، سعدون جابر، وياس ونعمة والغزالي اكثر مما تسمع لكاسيتات الوائلي او الحكيم. تقرأ للسياب و النواب وسعدي يوسف اكثر من كتابات الصدر والخوئي. الان، وفي حمية عزلة العراق عن العالم الخارجي جراء الحصار، فان الفريق الغنائي المفضل لدى الشباب هو BackStreet Boys . ونظراً لشغفهم بكل ماهو عصري ومتمدن، يكسرون اجواء العوز والفقر لشراء اشرطة تسجيل هذه الفرق بالشراكة او النقل من النسخ الاصلية. اليس هو عراق "ان كان الكتاب يكتب في مصر ويطبع في لبنان فانه يقرأ في العراق". اليس ثمة دليل اكثر من هذا على ان اهله اهل ثقافة وتمدن وكتاب. كم انجب (ولازال ينجب) من الشعراء والادباء هذا البلد؟!! ان مسرحه مشهود له. كتابه، مثقفيه، مبدعيه، نحاتيه، رساميه لهم اسهامات انسانية عظيمة من الرحال وسليم وحكمت وعشرات غيرهم. ان هذا التاريخ ماثل امامنا وامام جميع الناس الذي عاشوا العراق في سبعيناته وثمانيناته. ليس بوسع احد صياغته على راحته وكيفما تقتضي اهدافه ومشاريعه المادية والدنيوية.

 

 ولكن ان يسالني احد على ان الاجواء في العراق يسودها الدين  اوالعشائرية الان، فان جوابي عليه هو ان هذه نتاج اوضاع سياسية معينة ولاتمت بادنى صلة بعلمية بحث "الشيعة" و"شيعية او سنية" جماهير العراق. انه نتاج اوضاع مابعد الحرب الباردة وانفلات مد رجعي ديني، قومي، طائفي، عنصري على الصعيد العالمي . انه نتاج غلبة وازدهار اليمين على الصعيد العالمي، نتاج وأد الثورة الايرانية وصعود الجمهورية الاسلامية، نتاج اوضاع الحصار الاقتصادي والبؤس والقمع ودمار البنية التحتية للمجتمع مع كل ما يرافق هذا من انفلات الرجعية بشتى اشكالها، انه نتاج اسلمة المجتمع والحملة الايمانية للنظام البعثي واحياء النزعات الرجعية العشائرية والطائفية، انه نتاج ياس الانسان وشعوره بالاحباط والياس والعجز وانعدام الارادة، خواء الروح والانكسار والاغتراب جراء الحصار والاستبداد الاسود. حتى الان ورغم فرض كل اشكال التراجع على جماهير العراق جراء الظروف المذكورة اعلاه، ليس للتصوير الذي يضفيه البيان اي صلة بالواقع الفعلي للعراق وجماهيره.

 

نظرة محرفة للتاريخ

 

انه يقسر صورة عراق ماقبل قرن على عراق اليوم. (ولااعلم هل يمتلك هذا الحد من المهارة لذلك؟! وانى له ذلك والبشرية قطعت خلال هذا القرن فقط ما قطعته كل البشرية من قرون بفضل التقدم العلمي والفكري والسياسي والاجتماعي  الهائل وبالاخص على صعيدي التكنولوجيا والمعلومات!!!). انه يصور العراق كما لو انه فيلم سينمائي تم ايقاف صورته قرن كامل. انه حتى حين يسرد تاريخ نشوء الدولة العراقية، يصوره بشكل مخادع تماما. انه يصور تشكيل الحكومة العراقية عام 1920  بمثابة "الصدمة الكبرى" لشيعة العراق. وكأن هذا التشكيل كان يهدف الى "استبعاد الشيعة" عن الحياة السياسية وجعل السلطة بيد اقلية هي "السنة". بيد ان هذه ليست اصل المسالة.

 

ان استبعاد دور رجال الدين ومجمل العلاقات واشكال الولاءات القديمة الاقطاعية- الدينية- العشائرية كان من مبررات ومستلزمات تشكيل دولة حديثة. لبناء هذه الدولة، كان يتوجب توجيه ضربة للانتماءات والتجمعات المستندة الى العشيرة والمشيخة والطائفة وتحطيم هذه الاشكال القديمة ولمها وصهرها في بوتقة اوسع. كان يتوجب تدمير الولاءات المحلية تلك وصبها في ولاء اخر اكبر الا وهو الدولة. ان توجيه ضربة  لمراكز القوى تلك كانت جزء من صيرورة تاريخية معينة تقتضيها نفس التطور الراسمالي في العراق.

 

و لهذا، فالمسالة كانت سياسية وتقدمية بالنسبة لبناء وتطور المجتمع العراقي. دفع العراق من مراحل متاخرة الى مراحل اكثر تقدماً. ولهذا، فانه خطوة للامام في مسار تقدم الشعوب. (وارجو ان لايستنتج احد من كلامي دفاعاً عن الاستعمار والاساليب البربرية والعنيفة التي قام بها او دفاع عن الملكية غيره). لم تحدث هذه العملية في العراق فحسب، بل حدثت في معظم بقاع العالم باشكال مختلفة وباوضاع مختلفة وبمسارات مختلفة. انه جزء من مسعى اوسع قامت به الراسمالية بكنس العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية لما قبلها حتى تمهد السبيل نحو نموها وتطورها السريع والمتعاظم. ولهذا، فان تباكي اصحاب البيان على تلك المرحلة البعيدة ليس الا ردة للوراء، لا تبغي القيام به الا حركة رجعية تبغي جر المجتمع للوراء.

 

ان تشكيل الدولة العراقية كان ضربة جدية للتيارات ومراكز النفوذ الدينية. بيد ان هذه هي ابسط "ضريبة" يجب دفعها من اجل هذا التحول التاريخي. لهذا، تغيرت الملامح السياسية والاجتماعية كثيراً بعد تشكيل الدولة العراقية. غدا العراق اكثر عصرياً ومتناغما مع عصره. دفعت بالعراق اكثر واكثر صوب مسارات التطور الراسمالي بكل ما يعنيه من تغير البنى الفوقية السياسية والفكرية والاجتماعية. حلت القومية، الليبرالية، الشيوعية كجزء اساسي من البنية السياسية في المجتمع. ان هذا هو ايضاً نتاج المسارات السياسية والفكرية على الصعيد العالمي. ظهرت الاحزاب والتيارات السياسية بشكلها العصري لتصبح هي، وليس رجالات الدين والعشائر، المتنافسة الاساسية على رسم مصير ومستقبل السلطة السياسية في العراق. من الثلاثينات، غدت الساحة السياسية في العراق ساحة الاحزاب السياسية بمعناها المتعارف عليه. ظهرت احزاب الاستقلال والوطني الديمقراطي، الامة، الجبهة الشعبية والشيوعي وغيرها.

 

 ان كان لرجال الدين دور، فانه تمثل بتقديم الدعم والتاييد للحكومة مقابل ذلك تقوم الحكومة بـ"رد الجميل" بترك الباب مفتوح لهم بجمع واستحصال الزكاة والخمس وغيرها.

و الادهى من هذا ان الصراع السياسي العنيف الذي جرى في وقته، وقت تاسيس الدولة العراقية الحديثة، كان بين تيارين اساسيين  حمل احدهما راية الاسلام ( لاحظ الاسلام وليس الشيعة !) والاخر حمل لواء القومية والامة والعروبة حتى ان اتهامات الاخيرين لرجالات الدين كانت من قبيل انهم "عجم" و"غرباء" وليس "شيعة" وغيرها. ولم يكن الصراع، حتى في ذلك الوقت، حول "احتكار السنة" او "استبعاد الشيعة". ولم تكن المسالة  مطروحة اساساً باسم "الشيعة" او "ظلم الشيعة" او "مكانة الشيعة في الحكم". الاسلام ام العروبة والقومية والوطن.

 

لقد كان نتيجة هذا الصراع هو فرض تراجع جدي وكبير على رجالات الدين الذي تلقى ضربته القاضية في 1924 بعد استسلام رموزه (كبير مجتهدي النجف ابو الحسن الاصفهاني، حسن النائيني، عبد الحسين الطباطبائي، وحسن الطباطبائي) وتقديمهم لتعهدات خطية لـ"جلالة الملك" بعدم التدخل بالشؤون العامة واعتزالها وعلى انها من شؤون "جلالتكم". ومنذ ذلك التاريخ لم يبقى دور للاسلام على الصعيد السياسي وشهد تراجع جدي على الصعيد الاجتماعي كذلك. والا اين كان دور رجال الدين الشيعة في اهم احداث العقود الستة او السبعة الاخيرة؟!!!           

  

الى مَ يهدف هذا المشروع؟!

 

ان كنا من تعساء الحظ في ان نعيش اوضاع ما بعد الحرب الباردة و انتهاء الثنائية القطبية و نرى حجم الماسي التي ارتكبتها تيارات قومية، دينية، طائفية وعشائرية لفقت وافتعلت هويات واقامت المذابح من اجل مصالحها السياسية، تيارات لم تكن اطروحاتها اسوأ من مثل اطروحات جماعة البيان، فانه كان من "حسن!!" حظ البشرية ان ترى بام عينها ماذا بمقدور هذه الهويات المقحمة والمفروضة على البشر ان تجلب من مصائب ومآسي.

 

رغم كل "تنظيرات" البيان البائسة حول "الشيعة" و"ظلم الشيعة"، فان موضوع البيان لايتعلق بهذه المسالة بتاتاُ. انه النفخ بقضية من اجل مصالح فئوية معينة. ان هدف اصحاب البيان هو نيل مكانة معينة في السلطة السياسية المقبلة تحت لواء "الشيعة". ان مسالة الشيعة لاتتعدى عتلة نحو هذا الهدف.

 

ان نظرة عابرة على البيان تكفي لتعطيك تصور عن ماذا يعني "الظلم الواقع على الشيعة". انه يعني التالي: لماذا الشيعة مبعدين عن المناصب الحساسة للدولة، بينما هم يمثلون اكثرية الشعب العراقي؟!" لماذا لاينالون مكانة في السلطة استنادا الى كفائاتهم؟! اي باختصار لماذا سحبتم المائدة من امامنا؟ ان هذا هو بيت القصيد. لااكثر. ان مشكلة السادة هي لماذا ابعدهم قاسم، البعث وعبد السلام وصدام عن السلطة. اعتراضهم على هذه المسالة وليس على الماهية السياسية لسلطة البعث وصدام وعبد الرحمن النقيب!! ايشرفهم ان يكونوا في سلطة هذه الانظمة؟

 

من حق جماهير العراق ان تفهم المعادلة بالشكل التالي: لماذا ابعدتمونا عن المشاركة في قمع المجتمع والتمتع بثمار سلطته وثرواته؟! ان احتجاجهم ليس على ماهية السلطة والحكومة العراقية التي كانت ومنذ تاسيس الدولة العراقية في العشرينات من القرن المنصرم، وعلى طول الخط، ماعدا فترات قليلة، استبدادية وقمعية الى ابعد الحدود. مناهضة للحريات السياسية والحقوق المدنية الى ابعد الحدود. حكومات حكمت بالنار والدم. ان اعتراضهم ليس على غياب الحريات السياسية والحقوق المدنية، لا على وجود عقوبة الاعدام والسجن المؤبد في القوانين، لا على لجم حرية الراي والتعبير، ل اعلى سلب حقوق المرأة وعدم تمتعها بالمساواة التامة مع الرجل، لاعلى حقوق الاطفال وضرورة تمتعهم بطفولة انسانية لائقة، لا على حق كل انسان في المشاركة السياسية بمجرد انه من سكنة العراق. ان اصل اعتراضه حول: لماذا حرمتم "الشيعة" من المناصب الحكومية"؟! هو لماذا حرمتمونا  من المناصب الحكومية والحظي بامتيازات الحكم والسلطة!!

 

ان هذه هموم نخبة أبعدت عن السلطة وليس لها اي ربط بهموم الملايين الذين يسميهم البيان بـ"الشيعة"؟ ان مشكلات الجماهير ومعضلاتها مع النظام البعثي هي من قماش اخر يختلف كلياً. من اجل اهدافه هذه، يجب عليه ان يشيد "عمارات نظرية" وقوالب نظرية. يجب عليه ان يذهب للتاريخ، وينبش الظلم الواقع على الشيعة "على مدى قرون مديدة" وماقاله فيصل الاول وكاشف الغطاء والشبيبي حول ذلك، و ان " كل شيعي يشعر انه مستهدف نتيجة انتمائه للتشيع وليس لسبب اخر" و"يعامل كمواطن من الدرجة الثانية". ان التضخيم بهذه المسائل واعطاء ابعاد تاريخية عميقة للشيعة وظلم الشيعة يستهدف هدف واحد هو كسب الشرعية لحركته السياسية وبالتالي اهدافه السياسية التي لايقولها بصراحة.  انه ينوي افتعال حركة وبالتالي ادعاء انه وصي هذه الحركة وممثلها والدخول في الصراعات والمناورات السياسية المقبلة في الدهاليز المظلمة باسم هذه "الحركة" المفتعلة من اجل مكاسب نخبوية ضيقة، وبالتالي اجراء تغيير شكلي فوقي من وراء ظهر الجماهير وبمعزل عن ارادتها، بل وبالضد منها، والابقاء على اللامساواة وانعدام الحقوق وادامة نفس عالم الظلم والاستغلال، عالم الراسمال و تقسيم المجتمع الى طبقات، عبر الابقاء على نفس المنظومة السياسية بماكنتها القمعية والاستبدادية.

 

ان ستر الاهداف الفعلية هو فن. للاسف، ويمكن لحسن الحظ،  ان اصحاب هذا البيان ليسوا خبيرين في هذا الفن ايضاً. ان توقيت طرحهم ومسالة الابواب المفتوحة على مسالة التغيير السياسي في العراق هما دليل اخر يضاف الى تاكيد حقيقة ان مسعاهم يتعقب شيء اخر مختلف تماماً عن ما يتحدثوا عنه.

 

ان هذا الطرح وتوقيته مرتبط ليس بظلم الشيعة، كما يدعون، بل بموضوع اكثر اساسية الا وهو تازم الاوضاع السياسية في العراق وانفتاح الابواب امام مسالة التغيير السياسي في العراق وبالذات في ظل المساعي الامريكية الحميمة للاشهر القليلة المنصرمة. ان رفع راية هذه المسالة اليوم وتشكيل اطار سياسي له هدفه لملمة النفس سريعاً والسعي لكي لايفوتهم قطار تقاسم كعكة السلطة السياسية المقبلة. ان هدف هذه المحاولة هو تحديد مكانة اصحاب الطرح في السلطة. رأوا، بوصفهم نخبة سياسية تبتغي مصالحها الفئوية الضيقة، في هذه  الظروف فرصتهم التاريخية للمشاركة في السلطة. لماذا لم يظهر لهذه القضية "صاحب"، التي تعود لقرون حسبما يدعي البيان،  سوى اليوم؟! أتذكروا اليوم ان لهم قضية اسمها "ظلم الشيعة" و"حقوق الشيعة"؟! اين كانوا قبل خمس سنوات او حتى ثلاثة؟! لايمكن فصل هذا الطرح عن ما سبق طرحه على لسان مسؤولين امريكيين باقامة عراق فيدرالي من ثلاثة مناطق شيعية، كردية وسنية. انهم يرون الان قضية الشيعة مزكاة عند الحكومة الامريكية، فلم الانتظار اكثر؟! يجب لملمة النفس سريعاً. الى اي مدى ان امريكا جادة في فكرتها، فهذا لاتعرفه. وستدفع ثمن قصر النظر هذا مثلما دفعته المعارضة البرجوازية العراقية دوماً.  

 

اما حول اقامة نظام لامركزي، فانه لايعني سوى ان يكون حكم جنوب العراق "بيدنا نحن ممثلي الشيعة" وابرز شخصياتها من اساتذة، واكاديميين وشيوخ قبائل!! ان عدم التمركز يعني رفع راية تقسيم جماهير العراق على اساس القومية، الدين والطائفة والعشيرة. انه يعني تقسيم غنيمة الماكنة الحكومية. انه يعني " توزيع المديريات" بين "النخبة المحلية للفئات والجماعات"، يعني، سواء شاء ام ابى، تعبيد السبيل للادارة والحكم على اساس طائفي. انه يكرر مرارا ان عدم المركزة ليست على اساس طائفي. ان هذا تغليف الحقائق وسترها. ان برنامج طائفي حتى نخاع العظم، كل مشغلته وهمومه طائفية100% ، ليس بوسع اصحابه ان يدعون "النظام المركزي المقترح لايبنى على اساس طائفي وانما على اساس ديموغرافي اداري، جغرافي".

 

  لم تكن مسألة مركزية السلطة مشكلة لجماهير العراق في يوم من الايام. لايعني "عدم مركزة السلطة" توسيع صلاحيات الجماهير وحقوقها، لايعني بالضرورة اتساع مشاركتها السياسية وتدخلها في رسم مصير ومستقبل المجتمع. ان يبغون تدخل الجماهير اليومي في تحديد مصيرها ومستقبلها، لماذا لم يفكروا في بديل المجالس، بديل مندوبي الجماهير في الاحياء والمحلات والمدن وممثليهم على هيئة جمهورية اشتراكية؟! انه كذب بعينه ان يقولوا "ليس على اساس طائفي". والا لماذا أصدروا بيان "اعلان  شيعة العراق". لوكان هدفهم فعلاً عدم حرمان احد من الحقوق السياسية، لماذا لم يتوجهوا لجماهير العراق قاطبة في بيان حول المساواة والحقوق التامة لجميع سكنة العراق؟! ان كان اصحاب هذا الاعلان يبغون فعلاً مصلحة جماهير العراق ويبغون مساواة جماهير العراق قاطبة في الحقوق، اوصيهم بسبيل ابسط واوضح هو رفع شعار:"دولة علمانية غير قومية غير دينية" حتى لايبقى اساس لظلم الشيعة فحسب، بل لايبقى اي اساس يمكن ان يستفاد اي نظام مقبل للعراق لظلم الاكراد والتركمان والاشوريين والمسيحيين وغيرها. واذا كان الامر يخص "ظلم الشيعة"، لماذا لايرفعون مطلب "فصل الدين عن الدولة"؟! حتى لاتضرر اي انسان على اساس ديني او طائفي. بيد ان احتجاجهم ليس من اجل ابعاد الدين عن الدولة، بل لماذا الجعفرية ليست احد ركائز الدولة، دولة القمع والاستبداد والظلم والاستغلال ومصادرة ابسط اشكال الحقوق؟!! 

 

انه يصور المسالة كما لو ان عدم التمركز دلالة على الديمقراطية وان مصدر الاستبداد والديكتاتورية في التاريخ المعاصر للعراق هو تمركز السلطة. انه تصور ديمقراطي. ان سبب الديكتاتورية في العراق وفي سائر تجارب البلدان المماثلة للعراق او المسماة النامية تكمن في مكان اخر الا وهو سعي الطبقات الحاكمة، ومن اجل تحقيق التنمية واللحاق بركب البلدان المتطورة، الى تسريع تراكم الرساميل والارباح. ان هذا لايتم الا عبر تشديد استغلال العمال وحرمانهم المتزايد من حقوقهم في الاحتجاج والتنظيم وتشكيل نقاباتها ومنظماتها واحزابها السياسية . وبالتالي، فان لاندحة من دولة بوليسية استبدادية للجم العمال وسخطهم وابقائهم اسرى هدف تحقيق مصالح واهداف الطبقات الحاكمة. انها تكمن في جوهر ما يسمى ببلدان "اقتصاد العمل الرخيص"، اي بلدان ترى في رخص الايدي العاملة سبيلاً للمنافسة ولازدهارها الاقتصادي. (ان هذا موضوع اتناوله في مناسبة لاحقة). المسالة ليست لها ادنى ربط بمركزة او لا مركزة ادارة المجتمع. (وبالمناسبة، ليس له ربط بعقدة صدام لانه لايعرف اباه الواقعي كما يتحفنا بعض المتنورين الضليعين في السياسة وعلم النفس!!) والادهى من هذا يشير الى ان "النظام المركزي ينظر الى الخصوصية العراقية ويستفيد من تجارب الامم المتمدنة"؟! العراق بلد مثل سائر البلدان. ليس ثمة ادنى خصوصية عراقية. اهو البلد الوحيد الذي فيه قوميات او اديان مختلفة؟! ان "الفسيفساء العراقي" والتنوع والتعددية العراقية هي نتاج المحافل اليمينية واولها الغرب نفسه واطروحاته في "النسبية الثقافية" وما بعد الحداثة التي يعود ساستنا الموسميين لمضغها وتقديمها لجماهير العراق بوصفها اخر ابداعات الفكر البشري!! ان الاسم الرمزي لكلمة "الخصوصية" هو قد وصنع صيغة "خاصة" وباهداف خاصة من قبل طارحيها.

 

 ان هناك امر لايمكن للمرء فهمه. ان انسان تقطر كلماته بالافكار والقيم الطائفية والمتخلفة، يبغي الاستفادة من "تجارب الامم المتمدنة"؟!! ان قصده، بالطبع، من "تجارب الامم المتمدنة" هو فيدرالية امريكا والمانيا وسويسرا. هناك عدة اسئلة اود ان اوجهها هنا:

اولاً، ان كان هذا مقياسه، فهناك اعرق بلدين متمدنين هما فرنسا (البلد الذي انطلق منه منشور حقوق الانسان) وبريطانيا (الذي يفضل اغلب معارضي النظام ومركز السياسة العالمية العيش فيه) ليس بفدراليين. لماذا لايقتفي اثرهما؟! ان فيدرالية امريكا وسويسرا وغيرها هي نتاج عملية تاريخية معينة وليست نتاج صراعات قومية او طائفية كما انها ليست مستندة على اسس قومية او طائفية. ليس هناك ربط بين هذه التجارب وما يبغي البيان دفع جماهير العراق اليه، اي فيدرالية على اساس قومي وطائفي حتى لو انكر البيان ذلك لفظاً.

ثانياً، ان عدم مركزة الدولة العراقية يعني مركزتها بشكل اخر اي جمع الشيعة تحت اطار وجمع الاكراد تحت اطار، اي المركزة ذاتها ولكن الاطر قد اختلفت هنا. ان هذا يفند كل بحثه عن المركزة والديمقراطية والديكتاتورية وغيرها.

 ثالثاً، لِمَ لم يستفاد اصحابنا من كل تلك المنجزات الانسانية التي حققها العالم المتمدن حول المساواة، الحرية، حقوق الطفل، مساواة المراة بالرجل، حرية الراي والتعبير وغيرها لكنه يقتفيه في مسالة واحدة فقط. رابعاً، لو فكرنا ان اي جماعة يقع عليها ظلم، يجب علينا عدم مركزة السلطة في المجتمع، عندها، من حق النساء، نصف المجتمع ان تطالبنا بـ"حقها" ايضا من عدم مركزة العراق طالما هن يعانيين من مجتمع تحكمه قيم الذكورية والدين والعشيرة وقتل الشرف و"كصة بكصة"- زواج الولد من فتاة مقابل زواج اخوها من اخته وهي عملية تستبعد دور المراة في القرار على الزواج- وغيرها!! واخيراً، اي مشكلة يحل لجماهير " الشيعة" ان يكون احد ابناء عشيرة الظوالم قائمقام قضاء الرميثة مثلاً؟! ماذا يضيف الى لائحة منجزاتها ومكتسباتها؟! ان جواب هؤلاء السادة على انعدام حقوق الجماهير هو ان تكون ادارة المناطق بيد اناس من "لحمهم ودمهم!!" دون ان يتحدثوا عن كيفية تدخل الجماهير في صنع القرار السياسي وفي بناء المجتمع ورفاهه. انك تريد الماء، يعطوك الحجر. ان الجماهير تبغي الحريات السياسية دون قيد او شرط، زهقت من عالم فيه اعدامات وسجناء سياسيين، تبغي الرفاه، المساواة، التحرر والعدالة ونيل الحقوق. ان كانت حكومتك المأمولة هي ادارة المدن والاقضية والنواحي، فان هذا يدلل على بعدها التام عن مطاليب واماني الجماهير واهدافها، يدلل اغترابها عنها. وغريب عن الجماهير لايمكن ان يمثلها.

 

حول الحقوق السياسية والمدنية للشيعة        

 

يهول اصحاب البيان كثيراً من الظلم الواقع على الشيعة. ان تصويره للظلم هو حكومات "سنية" تحارب الشيعة الذي اصبحوا "مواطنين من الدرجة الثانية"! وان الحكومات قد قسمت هذا المجتمع الى "سنة" و"شيعة" وهي في صراع ضاري ضد "الشيعة" وراحت تقرأ في اذان "السنة" حول مخاطر "الشيعة" والاثار التي لايحمد عقباها على افساح المجال لهم وغيرها من تصاوير تصب في نفس السياق.

 

هذا الظلم الذي وصل حده بحيث ليس بوسع اي احد يتعامل مع القضية العراقية ان يقفز حول "الحق الشيعي" الذي يفرض نفسه بكل قوة على حاضر ومستقبل العراق وتدخل ضمن اي تخطيط للمشاريع والطروحات السياسية المختصة بالوضع السياسي العراقي" (!!). ليس هذا فحسب، بل لم تعد هذه القضية شأناً عراقياً او محلياً خاصاً، فدول العالم ومنظماته تعترف بوجود مشكلة طائفية حادة في العراق" وتعبر "الدول المعنية بالشان العراقي" عن اهتمامها بهذه المشكلة و"ادراكها لمعاناة الاكثرية الشيعية" وما يتعرضون له من اضطهاد طائفي واضح. انه يتحدث عن مسلمات!! ولكن ارجو ان لايغيب عن اصحاب البيان ان نفس هذه الدولة المعنية لم تنبس بحرف واحد عن جرائم استخدام الاسلحة الكيمياوية ضد ايران، قصف حلبجة بالاسلحة الكيمياوية والانفال الذي راح ضحيته اكثر من 180 الف انسان بايام دون ان يعلم احد ماذا جرى لهم؟ اين ارسلهم النظام؟ ماذا عمل بهم؟ سكتت حين كان نظام بغداد "عزيز الغرب".

 

 ان تاييد هذه البلدان الذي يتحدث عنه البيان ليس بدليل كاف على وجود "اضطهاد طائفي". لماذا لم يتحدث الغرب عن هذا من قبل؟! انه مقتضيات مصالحها والان تضخم  هذه المسالة ارتباطاً بمقتضيات مصالحها.  

 لكن لايزودنا اصحاب البيان بالملموس ما هي مظالم الشيعة ما عدا مسالة ابعادهم عن المناصب الحساسة والمناصب الحكومية وما يشيرون اليه بالحقوق السياسية والمدنية التي هي (اي السياسية): "ان ينص الدستور العراقي على ان اغلبية الشعب العراقي هم من الشيعة" (ولايعلم المرء ماذا تفيد ادراج هذه العبارة في الدستور وهل ان مشكلة الجماهير وماسيها تكمن هنا؟!  او "اعادة النظر بتركيبة الدولة العراقية" التي يعني واقعيا  "توزيع الكراسي بحيث يراعي وجودنا". "انشاء صندوق تعويض لكل المتضررين من السياسات الطائفية وتشكيل هيئة عليا تشرف على تحديد الاضرار واقرار مبالغ التعويض". الايعتقد اصحاب البيان ان كل سجين سياسي او جراء حرية الراي يجب ان يعوض؟! الايعتقد ان هذا يصح ايضا على جماهير حلبجة والاهوار والانفال ومئات الالاف من العراقيين لاسباب مختلفة؟! لماذا عينه على "الشيعة" وليس على سائر المتضررين، وما اكثرهم، من هذا النظام الدموي؟! انها ليست سوى الطائفية والاحاسيس الطائفية بعينها. اما يحدد الحقوق المدنية للشيعة بـ: "ضمان حرية النشاط الديني للشيعة وحقهم في ممارسة الشعائر الدينية"، "حرية انشاء المساجد والحسينيات والمكتبات وحقهم في ادارة العتبات المقدسة"، "حرية التعليم في الحوزة العلمية  والجامعات الدينية بعيداً عن تدخل السلطة"، "ضمان حرية واستقلال المؤسسة الدينية في تنظيم امورها"، "تسجيل المراقد المقدسة في العراق في مؤسسة اليونسكو"!!، "ضمان حرية النشر وتاسيس مراكز ومعاهد فكرية شيعية"، "ادخال مواد المذهب الجعفري في المقررات المدرسية الحكومية اسوة ببقية المذاهب الاسلامية"، "تنقية المواد المدرسية من النزعة الطائفية واعادة كتابة التاريخ في المدارس الرسمية بشكل علمي لايحمل روح العداء للشيعة"، "منع طمس مقابر الشيعة ومعالمها والالتزام بحرمتها" و"الاعتراف الرسمي بالمناسبات الخاصة بالشيعة" (عذراً للقاريء ان ادرجت الحقوق المدنية لـ"الشيعة" بالتفصيل). لا اوجه سؤالي الى شيوخ القبائل المشاركين في هذا البيان- الاعلان، بل الى اؤلئك الاكاديميين، اساتذة الجامعات، المفكرين، الباحثين وغيرهم: من اين استمديتم هذا التعريف وهذا التصور للحقوق المدنية؟! من اي مركز علمي واكاديمي نهلتوا هذا التحديد للحقوق المدنية؟!! انا لا اعلم ما السعادة في عودة تلك التقاليد البربرية لـ" ضرب القامة وفلق الرؤوس بالسكاكين و ادماء اكتاف الرجال بضرب الزنجيل"؟!!، ما هو الجميل والانساني ان يسير، وفي مركز المدينة، وفي استعراض للعنف والدموية، موكب طويل  من الشباب، بل وحتى الاطفال في اعتداء صارخ على طفولتهم، يضربون بالسواطير الحادة (القامة) عشرات المرات على رؤوسهم لدرجة تخر دماء غزيرة على ملابسهم البيضاء ويتفاخر اؤلئك الذين يتساقطون فاقدي الوعي جراء شدة النزيف!!

 

 او جلد النفس بسلاسل حديدية غليظة لساعات طويلة. ان قمت  بهذا في اي مجتمع مدني، ستحاكم بجريمة اخافة الناس وارعابهم. ان جماهير العراق تنشد مجتمع يكون للشباب فيه معنى، للطفولة معنى، للفرح والسعادة معنى، للحب والعلاقات الانسانية معنى. بيد ان اصحاب البيان يطالبون، بدل النوادي الثقافية والموسيقية والرياضية، بالحسينيات والنواح والبكاء والعزاء واللطميات. ان هذه اخر صرعات الحقوق المدنية!! هل ان مشكلة جماهير العراق هي ادخال مواد المذهب الجعفري في المقررات الدراسية؟! ان اصحابنا يريدون تاريخ علمي فيه مكان للجعفرية!!

 

ليكون اصحاب البيان على ثقة تامة من حقيقة لو اقيم مجتمع مرفه، متحرر ويرفل بالمساواة، للانسان وكرامته معنى، مجتمع واثق من نفسه، ستتقاطر الجماهير مساءاً على النوادي والمنتديات العائلية، الاجتماعية، الادبية، الثقافية وستقل الحاجة تدريجياً لارتياد الجوامع والحسينيات. ولن يعرف احد ان هناك شخص ما اسمه الخوئي. وسيكون على رجال الدين حالهم حال بقية ناس المجتمع ان ينزلوا للشارع ليبحثوا عن عمل، لارسال اطفالهم الى مدينة الالعاب ويفكروا حالهم حال بقية الناس اين يقضوا سهرتهم في عطلة نهاية الاسبوع. لن يبقى مكان لتمييز المكانة الاجتماعية بين الناس. لن يبقى تراتب و تميز و وجاهة اجتماعية لكونك "حجة الله" ام "روح الله" ام "شيخ عشيرة" ام بائع خضار.

 

ان تباكي اصحاب البيان على المؤسسات الدينية لاينبع من كونها مطلب الجماهير اطلاقاً. انه تباكي سياسي. ان الحوزات "العلمية"والجامعات الدينية والحسينيات والمكتبات هي مؤسسات سياسية ليس لها ادنى ربط بـ"شعائر" الجماهير. انها قنوات ابقاء "تنور" الشيعية والطائفية "حامياً" من اجل ديمومة هوية ما تعزل قسم من جماهير العراق عن اقسامه الاخرى تحت اسم "الشيعة". و ببقاء هذه الهويات، يستطيع اشخاص مثل اصحاب البيان ليقولوا ان هؤلاء هم اناسنا، حصتنا، ونحن "ابرز" ممثليهم. انه لايتباكى على الجامعات والمعاهد الدينية او ادخال مواد المذهب الجعفري في المناهج الدراسية بهدف تقوية وتطوير البحث العلمي لان وجود هذا النمط من البحث وقراءة التاريخ هو بالضد تماماً من البحث العلمي وهذا امر متوقع جداً. لاضرب مثلاً لو ان شخص الماني قومي متعصب، او فاشي اراد ان يكتب تاريخ المانيا، ماذا تكون نسخته للتاريخ؟! هل تجد فيها ادنى علمية؟! بالطبع، كلا. ونفس الشيء لوطلبته من يهودي متعصب او قومي عروبي او يمني عشائري. ان كتابة التاريخ منحازة. ان نفس هذا البيان منحاز، طائفي. وان كتابته للتاريخ ايضاً، وبالضرورة، ومهما ادعى العلمية والحيادية، منحاز.

 

ان مجمل فقرات الحقوق التي لاتشبه المدنية بشيء لاتمت للمدنية بصلة  ذات هدف سياسي بحت، انها عتلة واداة لحشد قوى مجموعة من الناس حول مصالح سياسية نخبوية ضيقة، بل ومعادية للجماهير، عبر ابقائهم باطر الحسينيات والمراكز "العلمية" الجعفرية.    

 

ان نظام البعث ومعظم الانظمة التي حكمت العراق، ماعدا مراحل معينة قليلة، كانت انظمة سياسية ـ عسكرية استبدادية قومية حصرت سلطتها بيدها وابعدت الاغلبية العظمى من جماهير العراق عن اي دور في الحياة السياسية.  الان هل يتمتع الشيوعيون، التحرريون، المفكرون، المثقفون، الانسان الاعتيادي بالحقوق السياسية او المدنية؟! من يتمتع في العراق بحقوق سياسية او مدنية حتى يتحدث اصحاب البيان عن سلب الحقوق السياسية والمدنية للشيعة. هل يتصور البيان ان حظوظ المسيحيين من الحريات اكبر مثلاً؟! التركمان؟! الاكراد؟! هل هو على استعداد للموافقة على دعوة احد ما لو قال انها دولة مناهضة للمسيحية او التركمانية. من بين نفس الذي يسميهم البيان بـ"السنة"، كم منهم يتمتع بحقوق سياسية ومدنية؟! من يتمتع بالحقوق سوى "عصابة" وعائلة حاكمة؟! ان نظام البعث ليس بنظام سني. ولايعرف نفسه كذلك. انه نظام فاشي قومي مناهض حتى العظم لكل شيء اسمه حقوق مدنية وسياسية. انه نظام ليس على استعداد لتحمل  اكبر رموزه المخلصة ان ابدى ادنى مخالفة سياسية، فكيف يتحمل حقوق سياسية ومدنية للجماهير علما ان اصحاب البيان، وللطرافة، لايقصدون هذه!!

 

ان "ظلم الشيعة" و"احتكار السنة" والصراع حول هذه المسائل هي وليدة وخلق تيارات سياسية واحزاب سياسية (الحاكمة منها عبر سلب حق الجماهير عموماً من ان يكون لها دور في الحياة السياسية، والمعارضة او الساخطة على مكانتها في السلطة عبر اختلاق هوية للضغط على الحاكمة ونيل حصة  منها). انه صراع اطراف من الطبقات الحاكمة حول حصتها من السلطة وعلى "قسمة افضل" (وخير دليل على ذلك هو تباكي "ابرز زعماء الشيعة"! على "استبعادهم من المناصب الحكومية والحساسة" ودعوتهم الى "عدم تمركز السلطة"). لاذكر نموذج اقرب على الساحة العراقية، الان هناك صراع بين احزاب تركمانية والحزب الديمقراطي الكردستاني وصل في مراحل معينة الى اعمال مسلحة. اذ ترفع الاحزاب التركمانية عقيرتها اليوم حول "ظلم الاتراك" و"سلب حقوقهم السياسية" و"استبعادهم عن السلطة" و..الخ. لم يسمع احد قبل ثمان سنوات دعوة من هذا القبيل. لماذا الان؟! لانها- ببساطة- احزاب سياسية ونخب سياسية معينة تبغي الحصول على امتياز ومكانة في السلطة ترفع اليوم راية "اضطهاد التركمان" وتطبل لهذه القضية وتعلم ان تركيا تدعمها كوسيلة للتدخل في كردستان من جهة وللضغط على الحزب الديمقراطي من اجل القبول باكبر مايمكن من تنازلات. والا المسالة ليست لها اي صلة بمواضيع مثل "ظلم واستبعاد للتركمان". هل علينا ان نقتفي خطى الاحزاب التركمانية ونلهج بـ"ضرورة ان يكون لهم حقوق سياسية ومدنية"؟!! انها الحالة نفسها.

 فيما يخص كرددستان، المسالة تختلف. الحكومة العراقية حكومة قومية عربية. الكردي مواطن من الدرجة الثانية، ومضطهد لكونه كردي. ولهذا، ان تعاملنا مع هذه المسالة يجب ان يختلف. ان هذه المسالة ليست بموضوعي اليوم ومن الممكن احالتها الى فرصة اخرى.  اما في حالة "الشيعة"، فلا بقانونه ولادستوره هناك اي ايحاء لهذا التقسيم الطائفي. ان وجد ظلم ما فهو لا يتعلق بشيعية الشخص بل بسبب التغييب التام للجماهير وحقوقها.

 

ألادهى من هذا انه صراع سياسي لن يتم ترسيمه مرة واحدة وينتهي الامر. انه يرسم ويعيد ترسيم نفسه في كل مرحلة طبقاً لتغيير توازن القوى. اليوم بشكل وبقضية، غداً بشكل اخر وقضية اخرى. اي يبقى باب هذه المسائل مفتوحة للابد. ومن المحتمل ان تدفع ثمنه جماهير العراق بابشع الاشكال. ان احد مخاطر هذا الطرح وهذه التصورات هو امكانية ان تدفع جماهير العراق ضريبة ليست اقل وحشية مما دفعته حتى الان. (ولااعلم لحسن الحظ ام سوءه، راينا بام اعيننا كيف ان اناس عاشوا ولعقود بسلام وصفاء دون ان يعرف هل ان جاره بوسني ام كرواتي ام صربي، تزوجوا من بعض وعاشوا كيوغسلاف، ومن جراء هويات قومية ودينية افتعلتها نخب سياسية تبغي مكانة في السلطة والحكم ومدعومة من هذه الدولة او تلك، دفع بها هؤلاء المتعطشون نحو السلطة نحو الحروب والدمار والماسي التي قُتِلَ فيها اكثر من ربع مليون انسان ناهيك عن من تهجر). من قال ان مجتمع العراق  محصن اكثر من يوغسلافيا السابقة  امام مثل هذه الافات.

 

ان افضل سبيل امام جماهير العراق للخلاص من اي مستقبل وسيناريو اسود هو "وأد" هذه الافكار والطروحات والمشاريع في مهدها. وفضح اصحابها بوصفهم يتعقبون شيء اخر ليس له ادنى صلة بمصلحة جماهير العراق. وبغض النظر عن مدى جدية هذا الطرح، وهذه التصورات واصحابها "موسمي الاهتمام"، اردت ان اجيب على افكار موجودة لدى تيارات وجماعات سياسية قد تدفع بجماهير العراق صوب يوغسلافيا اخرى رغم كل مساعي تبرئة النفس عن هذا المصير الاسود. ان لم يكن هم، فقد يكون غيرهم وبالاخص في اجواء البلبلة السياسية واستلاب الجماهير وتغييب ارادتها. في عالم السياسة، ليس ثمة "انما الاعمال بالنيات". انما الاعمال بالاهداف. وللاسف ان اهداف اصحاب الاعلان اوضح من يتستروا عليها. ان اقامة حكومة علمانية غير قومية غير دينية تقر بمجمل الحقوق السياسية والمدنية من حرية الراي والتعبير، حق التجمع والتنظيم والتظاهر، الغاء احكام الاعدام والمؤبد، حرية الانتماء السياسي والعقائدي، فصل الدين عن الدولة، حل الجيش،  المساواة التامة للمراة بالرجل، حقوق الاطفال، ممنوعية عمل الاطفال،  حق الجماهير في الامان الاقتصادي، ضمان بطالة مناسب و...الخ هي جزء مما تطمح اليه جماهير العراق. يرتبط مدى قرب اي  حزب او جماعة سياسية عن الجماهير بمدى تعبيره عن حقوقها وحرياتها هذه.                

 

 

 

* صدرت هذه المقالة في حلقتين من على صفحات جريدة الزمان في عدديها المرقمين  1256، 1257والصادرين في 9، 11 تموز 2002



#فارس_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قرع امريكا لطبول الحرب سياسة مناهضة لجماهير العراق
- الاوضاع الاخيرة في فلسطين!!
- الاحزاب الشيوعية العربية والاصطفاف في خندق الاسلام السياسي


المزيد.....




- أغاني للأطفال 24 ساعة .. عبر تردد قناة طيور الجنة الجديد 202 ...
- طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال ...
- آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
- دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه ...
- في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا ...
- المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
- مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال ...
- الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي ...
- ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فارس محمود - اعلان شيعة العراق.. سيناريو جديد مناهض للجماهير