عبد السلام أديب
الحوار المتمدن-العدد: 2952 - 2010 / 3 / 22 - 08:11
المحور:
الادارة و الاقتصاد
منذ تعمق الأزمة المالية والاقتصادية الرأسمالية العالمية في قلب المتربول الرأسمالي سنة 2007، بدءا بأزمة مديونية العائلات وعدم قدرتها على تسديد أقساط قروض العقارات التي اقتنوها ومرورا عبر أزمة مديونية الأبناك العملاقة التي أفلس المئات منها وأيضا أزمة كبريات الشركات متعددة الاستيطان والتي شاهدنا إفلاس عدد منها كجنرال موتور، ها نحن نعيش اليوم أزمة الدولة البرجوازية بمديونية عمومية ضخمة تبتلع أكثر من نصف الناتج الداخلي الإجمالي إن لم تكن تتجاوز هذا الناتج.
تطور مديونية عدد من الدول الرأسمالية الرئيسية مقارنة بناتجها الداخلي الإجمالي:
الدول : 2007 – 2008 – 2009 – 2010
النمسا : 59,4 % - 62,5 % - 70,4 % - 75 %
بلجيكا : 84,0 % - 89,6 % - 95,7 % - 100,9 %
فينلندا : - - 33,4 % - 39,7 % - 45,7 %
فرنسا : 63,8 % - 68,0 % - 75,2 % - 81,5 %
ألمانيا : 65,1 % - 65,9 % - 73,4 % - 78,7 %
اليونان : 94,8 % - 97,6 % - 103,4 % - 108,0 %
ارلندا : 25,0 % - 43,2 % - 61,2 % - 79,7 %
ايطاليا : 103,5 % - 105,8 % - 113,0 % - 116,1 %
هولندا : 45,6 % - 58,2 % - 57,0 % - 63,1 %
البرتغال : 63,5 % - 66,4 % - 75,4 % - 91,1 %
اسبانيا : 36,2 % - 39,5 % - 50,8 % - 66,3 %
منطقة الأورو : 66,0 % - 69,3 % - 77,7 % - 83,6 %
بريطانيا : 39,0 % - 44,5 % - 54,0 % - 63,0 %
الولايات المتحدة الأمريكية : 65,5 % - 69,8 % - 83,0 % - 91,0 %
وبلغت المديونية العمومية في المغرب سنة 2009 حوالي 67 % من الناتج الداخلي الخام وبالنسبة لتونس 55,7 % وتركيا 59,8 % بينما بلغت بالنسبة للأردن 69,8 % ومصر 113,4 %.
نشهد إذن في كل مكان انتشار نفس أزمة الدولة البرجوازية، وبطبيعة الحال نشهد في كل مكان هجوم قوي على القوت اليومي للطبقة العاملة، من أجل معالجة الأزمة. ويذكرنا هذا الهجوم بهجمة الرأسمالية على الدول المستقلة حديثا عقب تعمق الأزمة الهيكلية للنظام الرأسمالي بعد سنة 1973 وما استتبع ذلك من مخططات امبريالية أغرقت هذه البلدان بالمديونية وبالتالي فرضت عليها من خلال مؤسساتها: صندوق النقد الدولي والبنك العالمي، ما يسمى بسياسات التقويم الهيكلي حيث تم "تكييف" اقتصاديات الدول البرجوازية المستقلة حديثا مع شروط التراكم الرأسمالي ومع شروط تدبير الأزمة الهيكلية والذي تم على حساب الطبقة العاملة في مختلف هذه الدول ولا زالت الطبقة العاملة المغربية تعاني من هذه السياسات. فقد عودتنا الدولة البرجوازية دائما عندما تتعمق تناقضات نمط الإنتاج الرأسمالي على اللجوء الى المزيد من استغلال الطبقة العاملة لحل تناقضاتها، حيث تبقى هي الملجأ الأخير لمحاولة انقاد النظام من الانهيار التام.
فأمام إفلاس الدولة البرجوازية في عدد من الدول الأوروبية ودولة اليونان أحد أمثلتها بدأنا نسمع خطابا باردا مجردا من كل حس إنساني يستهدف الطبقة الكادحة كما لو أنها كانت تعيش قبل الأزمة في نعيم: "إذا أردتم تفادي الكارثة الاقتصادية والإفلاس التام الذي حل بنا (بالبرجوازية طبعا) وبالتالي فقدان عملكم وأجوركم فعليكم بالتقشف وشد الحزام أكثر مما فعلتم سابقا"
بطبيعة الحال، وكما نلاحظ ذلك من خلال الجدول أعلاه ليست جميع الدول الرأسمالية في نفس وضعية العجز المطلق أو حالة التوقف التام عن الأداء كما يحدث بالنسبة لليونان، لكن هذه الدول تعلم أنها مدفوعة نحو حافة الإفلاس، لذلك فإن جميع هذه الدول البرجوازية تستعمل هذه الحقيقة لبلورة خطابها من أجل الدفاع عن مصالحها القدرة. فكيف يمكن توفير الأموال الضرورية من أجل محاولة التخفيف من تراكم هذه العجوزات الهائلة؟ لا يجب البحث طويلا فتجربة سياسات التقويم الهيكلي التي فرضت على دول العالم الثالث المدينة يمكن إعادة صياغتها على أسس جديدة متلائمة مع الدول البرجوازية الكبرى التي تقف على حافة الانهيار. وإذا كان بعض هذه الدول قد مرت فعليا نحو الهجوم على القوت اليومي للطبقة العاملة، فإن باقي الدول تمهد إيديولوجيا رأيها العام، لتخدير هذه الطبقة لكونها هي المستهدفة أساسا.
مثال عن مخططات التقشف التي ستتحملها الطبقة العاملة في كل مكان
إذا ما درسنا مخطط التقشف الذي اعتمدته اليونان في مجلسها الوزاري يوم الأربعاء 3 مارس 2010 فسنجده يستهدف تقليص العجز العمومي من خلال تدابير وحشية غير مسبوقة واحتقار لا يصدق للطبقة العاملة. فوزير مالية هذه البلاد جورج باباكونستانتينو صرح بدون خجل بأن "الموظفين يجب أن يعبروا عن وطنيتهم ... وإعطاء المثال للآخرين". فيجب أن يقبلوا بدون مناقشة، وبدون مقاومة، بتخفيض أجورهم، وإلغاء علاواتهم، وعدم تعويض المحالين على التقاعد إلا بالتقطير، وزيادة سن الإحالة على التقاعد إلى ما فوق 65 سنة، وإمكانية تسريحهم ورميهم كمناديل الكلينيكس المستعمل. كل ذلك من أجل الدفاع عن الاقتصاد الوطني، اقتصاد دولتهم المستغلة، اقتصاد باطروناتهم وباقي مصاصي دماء العمال. فلقد عدت حكومة الاشتراكي" باباندريو لمدة خمسة أشهر للتحضير النفسي للرأي العام وراهنت على طيبة المواطن اليوناني، بهدف امتصاص ردة الفعل الاجتماعية، وردت النقابات اليونانية برفع شعار "نرفض أن يدفع العمال ثمن الأزمة". ولكن كل الدلائل تؤكد أن ثمن الأزمة تدفعه دوما الطبقة العاملة والطبقة الوسطى وأصحاب المهن الحرة. ولهذا طالت الإجراءات التقشفية الموظفين والعمال والمتقاعدين وأصحاب المهن الحرة والعاطلين عن العمل والمهاجرين. وكل ذلك باسم خدمة الدين العام (300 مليار أورو)، وتخفيض نسبة العجز العام من 12,2 % من اجمالي الناتج الداخلي الاجمالي (250 مليار أورو) بمعدل 4,5 % في عام 2010 إلى أقل من 3 % حتى عام 2012 .
ولم تطل التدابير الاقتصادية التقشفية في اليونان المصارف والشركات الكبرى وأصحاب السفن والأوقاف الكنسية ... لا بل عمد النظام الرأسمالي منذ 2008، وبعيد الأزمة المالية العالمية إلى ضخ مئات المليارات العامة بحجة دعم النظام المصرفي والسيولة المالية المصرفية وحماية الربح المصرفي ضد صالح الاقتصاد الأساسي والإنتاج والتوظيف. وهذا ما دفع المصارف إلى استعادة أرباحها، وفي نفس الوقت خنقت المصارف الحركة الاقتصادية بنسبة 60 %. وتجدر الإشارة إلى أن الحكومة اليونانية السابقة (يمينية) منحت 28 مليار أورو لدعم القطاع المصرفي اليوناني، بينما الحكومة الحالية فرضت تدابير اقتصادية تقشفية بقيمة 10,5 مليار أورو. والمؤكد هو أن أزمة اليونان هي أزمة نمط الانتاج الرأسمالي وما يفرزه من عدم القدرة على تصريف فائض الإنتاج من رؤوس أموال ومنتجات والسقوط في فخ نظام مضاربة مالية، وعاجلا أو آجلا ستنتقل العدوى الى البرتغال واسبانيا وإيطاليا.
إن مختلف البرجوازيات الأوروبية الوطنية تشترك بنشاط في بلورة المخطط التقشفي اليوناني الجذري. فألمانيا وفرنسا وحتى اسبانيا تولي اهتماما خاصا الى السياسة التي تبلورها الحكومة اليونانية وللهجوم الذي تقوم به على الطبقة العاملة. إنهم يريدون تبليغ البروليتاريا العالمية هذا الخطاب: "أنظروا إلى اليونان، فعماله مجبرون على القبول بتضحيات من أجل إنقاذ الاقتصاد الرأسمالي القائم. فيجب على الجميع القيام بنفس الشيء".
وبعد أزمة مديونية العائلات الأمريكية والأبناك وبعد انهيار الشركات الكبرى، حان الوقت لكي تتعرض الدول نفسها بكل قوة لانعكاسات الأزمة الاقتصادية ومن تم الوقوف على حافة الإفلاس بعد أن تكون قد ضخت ملايير الدولارات في صناديق المصارف والشركات الرأسمالية انطلاقا من ميزانياتها التي تمولها الطبقة الكادحة أساسا. وحيث اتخذ قرار تدخل ميزانيات الدول البرجوازية لانقاد الشركات الرأسمالية من الإنهيار في مؤتمرات مجموعة العشرين في نيويورك في 15 نونبر 2008 ولندن في 20 أبريل 2009 وبترسبورغ في 24 شتنبر 2009. فقرارات مجموعة العشرين هي التي تتسبب اليوم في إفلاس دول مثل اليونان.
إذن كيف يمكن معالجة أزمة افلاس الدولة البرجوازية؟ الجواب هو أن تعمل الدول البرجوازية مجتمعة على تنسيق الهجوم الذي لا رحمة فيه للطبقة العاملة. فستقوم الدول البرجوازية خلال الشهور المقبلة بتقليص هائل لعدد الموظفين والأجراء، أي لكلفة العمل على العموم، وإذن، لمستوى معيشة الجميع. فالبرجوازية تتعامل مع البروليتاريا كما يتم التعامل مع الحيوانات الداجنة التي تجر نحو المجازر عندما تدفعها إلى ذلك مصالحها الحقيرة لذلك.
نفس وضعية اليونان قد نشاهدها في البرتغال، وفي ايرلندا وفي اسبانيا، نفس المخططات الوحشية، نفس قائمة الإجراءات المناهضة للعمال. في فرنسا، تحضر البرجوازية الرأي العام للسير في هذه الطريق. لكن ذلك لا يقتصر على أوروبا، بل نلاحظ ذلك أيضا في الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة الأكثر قوة في العالم، وبعد سنتين من الأزمة، تم تعداد أكثر من 17 % من العاطلين و20 مليون من الفقراء الجدد و35 مليون من الأشخاص الذين يعيشون بفضل أذونات التغذية، وكل يوم يمر إلا ينحدر بشرائح واسعة من العمال نحو البؤس.
كيف ستواجه الدولة البرجوازية إفلاسها
كيف تم الوصول إلى هذه الوضعية؟ بالنسبة لكافة شرائح البرجوازية، ومن بينها أيضا ما يسمى بأقصى اليسار، فإن الجواب بسيط جدا، فالمسؤول الوحيد عن الأزمة بالنسبة لهم هو سوء تدبير مدراء الأبناك العملاقة ككولدمان ساش ومورغان. وحتى وإن كان النظام المالي قد أصبح أحمقا فلاشيء آخر يهم سوى المصالح البرجوازية المباشرة، حيث يردد لسان حالهم "أنا ومن بعدي الطوفان". فالجميع يعتقد الآن بأن الأبناك الكبرى، ومن أجل أن تربح دائما أكثر، سرعت عدم قدرة اليونان على الدفع مراهنين على إفلاسها. نفس الشيء غدا مع البرتغال أو اسبانيا. الأبناك العالمية الكبرى والمؤسسات المالية ليست سوى وحوشا كاسرة. لكن هذه السياسة المالية العالمية، التي أصبحت انتحارية، ليست هي سبب أزمة الرأسمالية. بل هي على العكس من ذلك نتيجة، وحيث أصبحت في مستوى معين من نموها، تشكل هي أيضا عاملا مكرسا للأزمة.
وكما جرت العادة، فإن البرجوازية بجميع شرائحها اليمينية واليسارية تكذب علينا. فهي ترمي أعين الطبقة العاملة بستار من الدخان، فالرهان كبير جدا بالنسبة لها ويتمثل في القيام أي شيء حتى لا تربط الطبقة العاملة علاقة بين عدم قدرة الدولة على الدفع المتزايدة والإفلاس المتزايد للرأسمالية بكاملها. لأن الحقيقة الصارخة هي أن الرأسمالية تحتضر وأن جنون نظامها المالي العالمي يشكل أحد عواقبها البارزة.
عندما تعمقت الأزمة بقوة في كل مكان، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أواسط سنة 2007، برز إفلاس النظام البنكي. هذه الوضعية لم تكن سوى نتيجة لعشرات السنوات من المديونية المعممة والتي شجعتها الدولة البرجوازية بهدف خلق السوق الضروري لبيع سلعها. لكن، عندما اختنق الخواص والمقاولات بهذه القروض، أصبحوا غير قادرين على السداد، ووجدت الأبناك نفسها على حافة الانهيار مع كامل الاقتصاد الرأسمالي. ففي هذه اللحظة تحملت الدول بواسطة ميزانياتها العمومية جزء كبير من المديونية القطاع الخاص واعتمدت مخططات فرعونية ومكلفة من أجل محاولة الحد من التراجع الاقتصادي.
فهذه الدول هي نفسها التي أصبحت اليوم غارقة في المديونية وغير قادرة على مواجهة (بدون أن تكون قد أنقدت القطاع الخاص طبعا) فهذه الدول في حالة إفلاس بقوة الأشياء. بطبيعة الحال أن الدولة ليست مثل المقاولة، وعندما تصل إلى حالة عدم القدرة على الدفع لا تضع المفتاح تحت الباب. فيمكنها أيضا أن تتطلع للاستدانة عن طريق الالتزام بأداء فوائد أكبر، واستنزاف الاقتصاد بكامله والعمل على طبع الأوراق النقدية بدون قاعدة انتاجية. لكن سيحين الوقت الذي يجب أن تسدد فيه الدولة الديون (أو على الأقل الفوائد). فيكفي أن نتتبع ما يحدث حاليا في دول مثل اليونان والبرتغال وحتى اسبانيا. ففي اليونان، حاولت الدولة أن تمول نفسها بواسطة القروض من الأسواق الدولية، لكن النتيجة لم يتم انتظارها طويلا، حيث أصبحت هذه الأخيرة غير قادرة على الدفع، فقدمت لها قروضا ذات آماد قصيرة وبمعدلات تتجاوز 8 %. ومعلوم أن مثل هذه الوضعية المالية يستحيل تحملها.
يمكن أن تحصل اليونان أيضا على قروض ذات آجال قصيرة جدا من دول أخرى، كألمانيا أو فرنسا. لكن إذا استطاعت هذه الدول أن تنجح في تمول الصناديق اليونانية بانتظام، إلا أنها ستكون عاجزة عن مساعدة البرتغال، وإسبانيا وبريطانيا ... فلن يكون لديها أبدا ما يكفي من سيولة. وفي جميع الأحوال، لن تؤدي هذه السياسة الا إلى ضعفها المالي. وحتى بالنسبة لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية، التي يمكنها الاستناد على هيمنة الدولار دوليا، سيضل عجزها العمومي يتعمق بدون توقف. نصف الولايات الأمريكية في حالات إفلاس. ففي ولاية كاليفورنيا، أخدت الحكومة تسدد أجور موظفيها ليس بالدولار وإنما بنوع من "العملة المحلية"، أذونات صالحة فقط على التراب الكاليفورني !.
إذن ليس هناك من سياسة اقتصادية يمكنها أن تخرج الدول البرجوازية من وضعية عدم القدرة على السداد، ومن أجل تأخير الآجال وإعادة جدولة الديون، ليس لديهم من اختيار آخر سوى تقليص قوي "للإنفاق العمومي". ذلك هو مدلول المخططات المعتمدة في اليونان والبرتغال واسبانيا وغدا بشكل حتمي من طرف جميع الدول بما فيها بلادنا. ولا يتعلق الأمر هنا بمخططات تقشفية محدودة مثل تلك التي تعرفت عليها الطبقة العاملة بشكل منتظم منذ عقد الستينات. فما هو مطروح اليوم هو أن يتم فرض كلفة غالية على الطبقة العاملة من أجل المحافظة على استمرار الرأسمالية حية. إن الصورة التي يجب أن نسترجعها، هي تلك الصفوف الطويلة من الانتظار لعائلات العمال أمام المخابز خلال عقد الثلاثينات من أجل الحصول على قطعة خبز. هذا هو المستقبل الوحيد التي تعدنا به الأزمة الرأسمالية التي لا مخرج منها ومن البؤس المتزايد الذي تحدثه، سوى النضالات الجماهيرية للطبقة العاملة العالمية والتي من شأنها أن تفتح آفاقا لمجتمع جديد يلغي النظام الرأسمالي.
#عبد_السلام_أديب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟