|
أحلام مظهر عارف تنتحر في انتظار غودو ..
رباح آل جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 2947 - 2010 / 3 / 17 - 20:35
المحور:
الادب والفن
سألني يوماً جمع من الزملاء ، عن الصديق القديم والكاتب الصحفي القدير مظهر عارف ، فأجبت وقلت : إنه أقرب ما يكون شبهاً ببطل قصة ( في انتظار غودو ) ، التي كتبها الأديب صمويل بيكيت ، البطل الذي ظلّ ينتظر من أول سطر في القصة إلى آخر سطر فيها ، شبحاً لم يظهر له قط ، لأنه لم يكن له وجود قط .. وهذا هو مظهر عارف منذ التقيته في جريدة العراق أول مرة ، واستهوتني شخصيته ، وهو يقف في انتظار أحلام مؤجلة ، أعتقد أنها تبخّرت كلها من حياته وتلاشت ، وأمنيات لا أظنها تتحقق ، ولو في الآتي البعيد من الزمان !. ولقد عرفت مظهراً واسع الخيال إلى حدّ يكاد يكون كاركتيرياً، وهو يقصّ عليّ بما ينسجه الخيال والتمني ، حكايات لا أول لها ولا آخر ، فيما تشبه الملاحم ، قد تصلح مشاهد في أفلام ( جيمس بوند ) ، لكنها ، مع الأسف ، لم تحدث في الحياة ، ولا يمكن لأيّ مؤلف مهما كان أن يتخيّل حدوث مثلها ، وفي بعض الأحيان ، كنت أستطيع أن أفهمه ، فأعذره !. انه يشبه البطل اليوناني ( تنتالوس ) الذي حكت الأسطورة : إن الآلهة حكمت عليه أن يتدلى من شجرة تفاح ، وكلما مدّ يده إلى تفاحة ، ابتعدت عنه ، فإذا عادت ذراعه اقتربت التفاحة ، وإذا حاول إمساكها تباعدت عنه ، وهكذا إلى الأبد . وكان مظهر ظريفاً ممتع الحديث ، سريع النكتة ، بارع القفشة ، يضحك في أحلك الساعات ، وكانت حكاياته تتخلّلها نكات كثيرة ، وأحياناً يمزج الهزل بالغناء ، ويطرب حين ينشد قصائد غزل مغنّاه في الحبيب الذي يتبغدد ، فإذا طار الكروان وغنّى غناءه الذي يشبه الشجن فإنه يسكت ، ولم يكن هناك شيء يقوى على كبح جماحنا ونحن نضحك لكلّ نكتة يرويها مظهر بضحكة مميزة ترنّ كأنها أجراس كنيسة في صباح يوم عيد ، وكأننا نريد أن نخدع أنفسنا ، ونزيّف المرّ الذي كنّا نعيشه وما نزال ، وكنت أراه يهدر ثلاثة أرباع وقته في الضحك ، معتقداً إن الحياة من دون الضحك تصبح مللاً لا يطاق ، ولقد تعجّبت من مسلكه هذا ومن طريقة حياته ، بينها طريقة تدخينه قبل أن يصاب بذبحة قلبية ، فيقلع عن التدخين ، وبينها طريقة نومه ، وكتابته ، وإمساكه بالقلم من قمة رأسه ، وطريقة شربه للشاي بارداً وخفيفاً ومراً من دون سكّر ، وكلّها ظواهر غريبة تأملتها كثيراً ، لكني لم أستطيع تفسيرها على الإطلاق ، وكان شأنه أعجب من العجب !. ومظهر ماكنة أحلام ، فهو يقفز من حلم إلى حلم ، حتى صارت الأحلام سلّماً يتسلقه كما يتسلّق سلالم منزله ، لكن سوء حظه يتدخل في كلّ مرة ليفسد عليه أحلامه ، وكانت أمنيته في الحياة ، وما تزال ، أن يعيش في بيت يملكه ، ولا يدفع إيجاره ، وأن يضع إصبعه في بعض العيون بمؤسسة صحفية يكون على رأسها ومعه صحفيون تتحول الأقلام في أيديهم إلى بنادق ومدافع تستطيع أن تهدم النظام من أساسه ، وتخلع الحاكم من فوق عرشه !. وعندما قرّر مظهر قبل بضع سنين إصدار صحيفته ( الأوقات ) ، دارت بيننا مناقشات طويلة ، وبرغم حوار شاق فإنني لم أستطع إقناعه بالعدول عن قراره ، مقدراً ضغط الظروف المالية وتكاليفها ، وكنت أشعر أنه في عجلة من أمره ، وأكاد أقول في لهفة ، ثمّ أن نوعاً من العناد يملكه ، وهو عناد لا يخلو من المكابرة ، وكان مظهر مندفعاً بعواطفه كلها إلى ما يراه ، ولم يقنع برأيي القاتل : أن الشحنة العاطفية أحياناً تستنفد نفسها ، وحين وجدني مظهر غير متحمّس للإصدار ، نظر إليّ نظرة طويلة ممزوجة بابتسامة ، يقول لي : أنت مثل النمل دائماً تحفر تحت التراب ، وتدعي أنك تفهم في الصحافة وأنا أقول لك العكس ، ثمّ استغرقنا في الضحك ، وقمنا يعانق بعضنا بعضاً ، وقلوبنا صفحة بيضاء . ولم تمض الشهور حتى جاءني مظهر فرحاً مثل عصفور على غصن بعد العاصفة ، وفي يده العدد الأول وأظنه الأخير من ( الأوقات ) ، ولا بدّ للمرء أن يسجّل حقيقة هنا يقتضيها الإنصاف ، بأن ( الأوقات ) كانت على مستوى مهني راق ، لكن المهنية وحدها غير كافية في مواصلة الصدور ، تحت مطرقة ظروف مالية عسيرة التكاليف ، وكان يمكن ذلك المستوى أن يضعها في مصاف الصحافة العربية . ثمّ مضت الأيام ومضت ، ومن بعدها شهور مضت وسنون ، وغاب القمر وطلع القمر ، وأنا أصحب مظهر عارف منذ ما يزيد عن عشرين سنة ، وأحبّه ، وعلاقتي تزداد به كلّ يوم ، اختلفنا واتفقنا لكننا لم نفترق ، وكان رماة السوء أعجز عن أن تقطع سهامهم الحبل السرّي بيننا ، ولي معه ذكريات جميلة وعزيزة كثيراً ما أسترجعها وأحنّ إليها ، ذكريات عن غدائنا المشترك وكان تقليداً سارياً يجمعنا مرة كل إسبوع ، وعندما أرادني مظهر أن أكون شاهداً على عقد زواجه الثاني ، وصور عن مشاعر إنسانية جمعتنا في لحظات من العاطفة الدفّاقة ، عندما كنّا نجلس نحن الاثنين حول فراش والدتي المريضة ، ويبدأ يحكي لنا نكاته ويسمع منها نوادرها وأمثالها ، فإذا الابتسامات والقهقهات تمسح ، ولو إلى حين ، آهات المرض وآلام الدموع . والحقّ أقول ، إن مظهر عارف صحفي وكاتب سياسي موهوب ، منذ أن بدأ في البصرة قاصّاً ، ونشر عدداً من القصص في الصحافة العراقية في أواخر الخمسينيات من القرن المنصرم ، ثمّ أصبح كاتباً سياسياً وكتب أول مقال سياسي سنة 1956 عن العدوان الثلاثي على مصر ، واعتقل بسبب هذا المقال في محكمة عسكرية أطلقت سراحه بالإفراج ، وهو من الأقلام اللامعة ، أثق بانطباعاته ، وأستمتع بأحكامه ، وله كتابان : ( لعبة الدومينو ) و ( الجوع والسياسة ) ، ولو أتيح له من الحظ ما ينبغي لمثله بدأوا معه طريق الصحافة ، وكانت له مثل غيره منابر شامخة ، كأنها القلاع ، لكان له شأن آخر ، ولم يبق مظهر في العراء وكأنه أحد أبطال ملحمة إغريقية صاغتها المآسي وكتبتها الأقدار ، تقول بالمثل المأثور : ( ما مكتوب على الجبين لابد أن تراه العين ) !!.
#رباح_آل_جعفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
خواطر مسافر
-
هارون محمد يبحث عن هارون الرشيد
-
حسين علي محفوظ ... مسافر في الغروب
-
شاكر علي التكريتي بين احتلالين ..
-
جلال الحنفي .. تسعون عاماً في قلب الأزمات والخصومات
-
سؤال كبير وخطير : إمارة الشعر العربي من امرئ القيس إلى امرئ
...
-
عبد المجيد الشاوي وهذه الأشياء الغريبة العجيبة !!
-
عبد الرزاق عبد الواحد .. صورة طبق الأصل !!.
-
طه عارف .. وسلام الأصدقاء طويل
-
شاكر حسن آل سعيد .. تشكيلياً على الطريقة الصوفية
-
ويسألونك عن نوري حمودي القيسي ؟!
-
لقاء مع خالد الشوّاف على مشارف الثمانين
-
مفكرات يوسف العاني في عصور مختلفة
-
قيس لفتة مراد .. عاش ميتا ومات حيا !!
-
تذكروا الزهر الشقي .. عزيز السيد جاسم
-
لا هو موت .. لا هو انتحار
-
أباطيل يوسف نمر ذياب في زنبيل !!
-
مصطفى محمود .. المفترى عليه
-
عبد الغني الملاح يستردّ للمتنبي أباه !..
-
مدني صالح يدفن زمان الوصل في هيت
المزيد.....
-
الجزيرة 360 تطلق برنامجها الساخر -الشبكة-
-
ثبتها الآن.. تردد قناة كراميش للأطفال 2024 على القمر الصناعي
...
-
جيمس كاميرون يشتري حقوق كتاب تشارلز بيليغريمو لتصوير فيلم عن
...
-
كأنها خرجت من أفلام الخيال العلمي.. ألق نظرة على مباني العصر
...
-
شاهد.. مشاركون دوليون يشيدون بالنسخة الثالثة من -أيام الجزير
...
-
وسط حفل موسيقي.. عضوان بفرقة غنائية يتشاجران فجأة على المسرح
...
-
مجددًا.. اعتقال مغني الراب شون كومز في مانهاتن والتهم الجديد
...
-
أفلام أجنبي طول اليوم .. ثبت جميع ترددات قنوات الأفلام وقضيه
...
-
وعود الساسة كوميديا سوداء.. احذر سرقة أسنانك في -جورجيا البا
...
-
عيون عربية تشاهد -الحسناء النائمة- في عرض مباشر من مسرح -الب
...
المزيد.....
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
-
البنية الدراميــة في مســرح الطفل مسرحية الأميرة حب الرمان
...
/ زوليخة بساعد - هاجر عبدي
-
التحليل السردي في رواية " شط الإسكندرية يا شط الهوى
/ نسرين بوشناقة - آمنة خناش
-
تعال معي نطور فن الكره رواية كاملة
/ كاظم حسن سعيد
-
خصوصية الكتابة الروائية لدى السيد حافظ مسافرون بلا هوي
...
/ أمينة بوسيف - سعاد بن حميدة
المزيد.....
|