|
فن الكتابة وعار السرقة
رياض الحبيّب
الحوار المتمدن-العدد: 2947 - 2010 / 3 / 17 - 18:13
المحور:
اراء في عمل وتوجهات مؤسسة الحوار المتمدن
أتذكر يوم كتبت أولى قصائدي في سن ال 13 أنّي قرأتها على مسمع ابن الجيران، قال لي: ركيكة. فواصلت كتابتي القصائد مبتعداً عن الركاكة ما أمكن. وفي السنة التالية تلوت إحداها على ابن الجيران في منطقة أخرى، قال لي: غير موزونة، تساءلت: ما هو الوزن؟ فأعارني كتيّباً عنوانه "ميزان الذهب في صناعة شعر العرب" لمؤلفه السيد أحمد الهاشمي. فنظمت أولى القصائد الموزونة واستمرّ نظمي القصائد مستخدماً جميع حروف الرويّ (آخر حرف في القافية) وجميع الحركات الإعرابية، متأثراً بما نظم الشاعر صفي الدين الحلي- المصنّف من شعراء العصر المملوكي- في هذا المجال. وفي السنة التالية- وهي السنة النهائية من المرحلة المتوسطة- ألقيت بعضها في المدرسة فمرّت على الزملاء كسحابة صيف وأمّا حين ألقيتها على مسمع جدّي- لأمّي- فشجّعني، كان الجدّ حاضراً بعض جلسات الشاعر الرصافي في بغداد. ثمّ اشتركت في مهرجانات شعر- معدودة بالأصابع- فوُصِفت قصائدي بأنّ أسلوب كتابتها صعب ولو كُتبت بلغة عربيّة فصيحة وتكاد تكون مفهومة، حتى الأوزان والقوافي التي استخدمت آنذاك عُدّت غالبيّتها من النوادر ولو كانت مطروقة من قبل بشكل ما أو آخر. والواقع أني لم أكن أعرف شيئاً عن مفهوم السرقة الأدبية، لكنّ نفسي كانت تعفّ عن تقبّل استعارة شيء مع علمي المسبّق بأنّ ذاك الشيء عائد لشخص ثان، سواء أعاش في زمني أم في زمن ما قبلي. وأحياناً ما فوجئتُ بورود بعض ما لديّ من أفكار في كتاب ما أو في حوار يدور عبر الإذاعة والتلفاز.
ثمّ كتبت قصّة كانت مشروعاً لرواية فقصصتها على أحد أخوالي قبلما وضعت عليها اللمسات الأخيرة فأعطاني درساً في أسلوب الكتابة لا يُنسى؛ كيفيّة ترجمة الفكرة على الورق أوّلاً ونوع المفردات المستخدمة، النسج الموضوعي وتسلسل الأحداث وطريقة كتابة السطور، الحبكة الموضوعيّة التي يبتعد بها الكاتب عن الركاكة والتشتت أيّا كان- شكلاً ونوعاً، كيفية توظيف المعلومة فبما أنها معلومة فالمعنى أنّ لها قائلاً أو كاتباً، ينبغي ذكر اسمه وذكر اسم الكـِتاب فإن كان المصدر مجهولاً فيجب وضع المعلومة محصورة بين قوسَين لتوظيفها أو صياغتها بطريقة مناسبة تسمّى التضمين وهي صيغة مشروعة بل فن من فنون الكتابة، مسبوقة بـ "قيل" أو "يُقال" أو "قال شاعر أو عالم أو فيلسوف... إلخ" أو "قيل وعذراً إذ غاب عني المصدر" وغيرها، على أن تتعلق المعلومة بالموضوع بالمستوى الذي لا استغناء عن ذكرها إلّا للدلالة والإتيان بالحجّة، لأنّ تكرار ذكر معلومة- عن قصد- ليس في صالح القصّة (أو المقالة أو القصيدة) ما يُعرّض الموضوع إلى الإستهجان أو السخرية أو الإتهام بمحاولة السرقة الأدبية (أو العلميّة... إلخ) من جهة المثقفين وذوي الإختصاص. ليس ذلك فحسب؛ بل الأهمّ في نظري هو التحقق من صحّة المعلومة؛ ربّما كان المؤلّف المنقول عنه مُنافقاً أو جاهلاً أو مُعارضاً بدون وجهٍ حقّ أو مُغْرضاً أو "كاتباً" لأغراض مشبوهة أتيح له النشر والإنتشار من بعض وسائل الطباعة والنشر فلا يشرّفُ الكاتبَ أن ينقل معلومة من المؤلّف المذكور أو يقتبس إلّا بهدف الدحض والتفنيد. ولقد لاحظت اليوم سقوط كثير من الذين يظنّون بأنفسهم كتّاباً بهذا المنزلق وسيعلمون- عاجلاً أو آجلاً- بأنّ الجهد المبذول والوقت المقتول قد ذهب أدراج الرياح- كما يُقال.
وقرأت في ما بعد كتيّباً عنوانه "الحبْكة" والتي تجعل من الموضوع مُحْكَماً من جميع الجوانب، فكريّاً ولغويّاً وأدبيّاً وعلميّاً، ما لا يدع قارئاً يُشكّك في أهميّة فكرة المقالة وكثافة عناصرها المعلوماتيّة وقوّة التركيز والبلاغة والدّقّة والمستويين العام (لتكون مفهومة لدى العامّة ما أمكن) والخاص (لتكون مقبولة من أصحاب التخصّص) وتالياً يوضع الموضوع في الطريق الصحيح، ليصبح قلم الكاتب مميّزاً إلى الدرجة التي سيُعرَف بها من خلال أسلوبه في الكتابة في ما بعد. ويمثّل تميّز القلم أعلى درجة من درجات الكتابة وأرقى مستوى من مستوياتها.
لقد وضعتُ ما تقدّم نصْب عينيّ قبل الشروع بالكتابة وفي ذهني أنّ القارئ سيكتشف من خلال المادّة المقروءة (أو المسموعة) بأنّ الكاتب- صاحب المادة الفلانية- مثقف ولا مجال للشكّ بأنه قرأ الكثير من كتب اللغة والأدب والعلم والتاريخ... إلخ محليّاً وإقليميّاً وعالميّاً وإلّا لما ظهرت الثقافة بين سطور مقالته واضحة للعيان. كنت أقول لأصدقائي في محاور الحياة قاطبة: لماذا أحسِدُ فلاناً على شيء؟ لا يوجد غـِنىً مطلق- كما هو معلوم- فكلّ منّا غنيّ بشيء ما ولكنْ فقير إلى أشياء. فبماذا تفوّق فلان على غيره ليصبح كاتباً كبيراً (في مجال ما أو أزيد) ويُشار إليه بالبنان؟ حتى لو أصبح كبيراً سواء في مجال تخصّصه أو غيره فتلكم من ثمار دراسته وتجاربه فكريّاً وعمليّاً ومن مَعـِين خياله ومن استمراريّته في عمل دؤوب. ولماذا لا يحسِب السارق- قبل أن يسرق- إنّ أيّة محاولة لسرقة فكرة من بنات أفكار مؤلّف ناجح لدليل قاطع على عجز السارق! وهل في الحياة مرارة أصعب من مرارة الإحساس بالعجز؟! وهل يوجد ما هو أطيب من الرفعة والنزاهة والأمانة؟
وتذكّرتُ- بهذه المناسبة- أني يوماً ما من أيّام الصّبا قد وضعت في خيالي العاطفي صورة لفتاة أعجبتني لسبب ما فما رأيتُ أحداً ينظر إليها باهتمام (أو علـِمتُ بأنّها داخلة في خيال شابّ آخر) حتى غضضت بالطرف عنها، قبلما لمّحتُ لها باهتمام وقبل أن يُطلق لساني تعبيراً عنها ليدلّ على نوع من الإعجاب. قلت في نفسي: يبدو أنها من نصيب غيري فلأبحثنّ إذاً عن نصيبي. وأيقنت مبكّراً أني في الدور الموصوف بدور المراهقة لم أكن مراهقاً ولا عبثيّاً ولا أنانيّاً! وقد سألتني إحدى محبوباتي يومذاك: ما الدليل على أنك تحبّني؟ قلتُ ما نُسِبَ إلى الشاعر يزيد بن معاوية- الخليفة الأمويّ- من بحر الكامل: (خفقان قلبي واضطراب جوانحي ** ونحول جسمي وانعقاد لساني) ثمّ أردفتُ: ولو لم أكن أحبّك يا حبيبتي لما فكرت معك بصوتٍ عالٍ ولسعيت إلى السعادة من دونك. قالت: وما الدليل على أنّ سعادتي تهمّك بشيء؟ قلتُ: لو انكِ صادفتِ في المستقبل فتىً آخر خيراً مني- بما أني لست زين الشباب لا في نظرك ولا في نظري- فلا تتردّدي في تركي لمرافقة فتاك الجديد! حدّقتْ في عينيّ تحديقاً خاطفاً يحوي جملة استفهام تكاد تكون مفهومة فأردفتُ اٌستطراداً مع بدء شفتيها بالنطق حتّى كأنّي أقاطع: لحظة من فضلـِكِ، لستُ أقصد أني لا أغار عليكِ، لكنّكِ حُرّة بحياتك وهي ليستْ مُلكاً لأحد غيرك وأنّ لغيرتي حدّاً يتلاشى مع اختيار مصيرك بمحض إرادتك. ولكنْ متى قرّرتِ ذلك وحان وقت الرحيل فأتمنى عليك أن تنسي هذه الأيّام، أمّا القصائد التي كتبتُ لكِ فهي لكِ ولنْ أنسِب ملكة الأحلام التي فيها لغيرك. فما أعظم الإيثار! وما أحلى رؤية علامات القبول والاستحسان في عينيّ الحبيبة- والحبيب!
هي ذي رؤيتي في عمليّة الكتابة وإنّ من المؤسف لديّ القول بأنّ فلاناً "كاتب" أو "شاعر" من باب المجاملة لا من باب الشهادة والإعتراف وإلّا لما بقِيَ لي من الزملاء بل من الأصدقاء إلّا قليلا. لأنّي يقيناً أعرف ما هي مواصفات الكتابة ليكون المُنشئ- أو الباحث أو المُعَبِّر عن رأيه وإحساسه- كاتباً كذلك الشاعر والفنان وسواهما. وهذا الموضوع (فنّ الكتابة والسرقة سواء الأدبية والعلمية والعاطفيّة... إلخ) هو ما جعلني بالدرجة الأساس حريصاً على فتح باب التعليق على مقالاتي، حتى إذا لم يسع وقتي للحوار، ذلك لكي يأخذ القارئ-الناقد (أو الكاتب) الذي يدّعي أنّ لهُ حقّاً عليّ حقّه بدون نقص.
ولعلّي أتذكّر بهذه المناسبة أني كنت أعطي في العراق درساً خصوصيّاً لأحد التلاميذ (في غير المدرسة التي كنت أعمل فيها بصفة مُدرّس) وكان والده مُحامياً يثق بي تماماً؛ كان ذلك في بداية التسعينيات وقد راجت سرقات كثيرة بسبب احتلال العراق دولة الكويت الشقيقة، كان اللصوص يبيعون مسروقاتهم بأسعار زهيدة، لكنّ السرقات طالت أهل البلد أنفسهم ومنهم كاتب المقالة، كان من المخزي أن أرى اثنين من زملائي يستردّان ما سُرق من منزليهما بطريقة غير مشروعة، أي كانا يسرقان كيفما اتُّفِق لتعويض المسروق منهما بل أكثر. وقد رأيت بأمّ عينيّ أحد اللصوص في الشارع العام المقابل لشقّتي وهو يدفع عربة محمّلة بمسروقات، منها جهاز تلفاز كنت أعتزّ به، لم أستوقف اللصّ بل رثيتُ لحاله وأحسستُ بأني متفوّق عليه بإمكانيّاتي الماديّة والعمليّة. حتّى قرّرت- لهذا السبب وغيره- ترك بلدي الحبيبة العراق ولكنْ بعد انتهاء أزمة تلك الحرب المأساويّة وتجاوزاتها إذ لم يكن باب السفر مفتوحاً على مِصراعيه. فطلبت إلى المحامي المذكور أن يشتريَ ما تبقّى من أثاث بيتي فوافق مسروراً، ليس بسبب السعر الزهيد الذي اتفقنا عليه لكنْ للذكرى الطيّبة. وحين قدِم لتحميل الأثاث، مع ثقته بشخصي المتواضع، سألني- بدون خجل ولا إحساس ظاهر بالحرج- أن أقوم بإخراج الأثاث إلى الساحة المقابلة لمنزلي كي تكون على مرآى من الجيران، عندئذ فقط يتأكّد بنفسه بألّا شيء منها مسروق. وقد التمست له العذر بعدما شاهدت اثنين من الزملاء المدرّسين على تلك الحال، بل قلت: إنْ وصل البلد إلى تلك الحال التي اضطرّت حتى أفراداً في المؤسّسة التعليمية- وهي أرقى شرائح المجتمع على الإطلاق- إلى السرقة فماذا سيحلّ بمستقبل ذلك المجتمع وتالياً ما مصير هذا البلد العظيم أو الذي كان في الأقلّ عظيماً؟ لات وقت جواب على ذلك التساؤل ولات وقت حوار حول مستقبل البلد مع قريب أو صديق إذ كان عليّ المغادرة آنذاك بأقصى سرعة، بسبب استمرار سوء الأوضاع وزيادة تردّيها- فغادرت آسِفاً غير نادم. فهل سيُعـِيد أيّ كاتب فاضل- ومحترم- النظر في فتح باب التعليق بعدما أغلقه منذ زمن غير قصير أمام النقّاد ولا سيّما بعد قراءة ما تقدّم؟ أشكّ!
#رياض_الحبيّب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سابعاً: شطرنج السيدات
-
الشطرنج تاريخاً وعِلماً... سادساً
-
الشطرنج تاريخاً وعِلْماً... خامساً
-
جامعة الدول المتوسطية
-
الشطرنج تاريخاً وعِلْماً... رابعاً
-
الشطرنج تاريخاً وعِلْماً وفنّاً وأخلاقاً- ثالثاً
-
الشطرنج تاريخاً وعِلْماً وفنّاً وأخلاقاً- ثانياً
-
هل «تعلّق قلبي» لاٌمرئ القيس؟- ثانياً
-
هل «تعلّق قلبي» لاٌمرئ القيس؟- ثالثاً
-
هل -تعلّق قلبي- لاٌمرئ القيس؟
-
الشطرنج تاريخاً وعِلْماً وفنّاً وأخلاقاً- أوّلاً
-
مع سيداو والجرأة على إنصاف المرأة
-
تجَسُّدُ الإله لو يُفهَمُ مَعناه
-
هكذا قرأتُ القرآن ١٠ سورة الفجْر- ثانياً
-
أسجوعة الخفاش
-
هكذا قرأتُ القرآن ١٠ سورة الفجْر - أوّلاً
-
هكذا قرأتُ القرآن ٩ سورة الليل
-
هكذا قرأتُ القرآن ٨ سورة الأعلى
-
أسْجُوعَة العَجْز
-
هكذا قرأتُ القرآن ٧ سورة التكوير
المزيد.....
-
طفل بعمر 3 سنوات يطلق النار على أخته بمسدس شبح.. والشرطة تعت
...
-
مخلوق غامض.. ما قصة -بيغ فوت- ولِمَ يرتبط اسمه ببلدة أسترالي
...
-
-نيويورك تايمز-: إسرائيل اعتمدت أساليب معيبة لتحديد الأهداف
...
-
خمسة صحفيين من بين القتلى في غارات إسرائيلية على قطاع غزة
-
كازاخستان: ارتفاع حصيلة ضحايا تحطم الطائرة الأذربيجانية إلى
...
-
تسونامي 2004.. عشرون عاماً على الذكرى
-
إسرائيل تعلن انتهاء عملية اقتحام مدينة طولكرم بعد مقتل ثماني
...
-
الولايات المتحدة.. سحب قطرات عين بعد شكاوى من تلوث فطري في ا
...
-
روسيا.. تطوير -مساعد ذكي- للطبيب يكشف أمراض القلب المحتملة
-
وفد استخباراتي عراقي يزور دمشق للقاء الشرع
المزيد.....
-
مَوْقِع الحِوَار المُتَمَدِّن مُهَدَّد 2/3
/ عبد الرحمان النوضة
-
الفساد السياسي والأداء الإداري : دراسة في جدلية العلاقة
/ سالم سليمان
-
تحليل عددى عن الحوار المتمدن في عامه الثاني
/ عصام البغدادي
المزيد.....
|