|
- أبو غْـرَيب - تحتَ ضوءٍ فرُويديّ
سعدي يوسف
الحوار المتمدن-العدد: 895 - 2004 / 7 / 15 - 06:44
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
ترجمة وإعداد : ســعدي يوســف
" المادة المقدَّمة إلى القاريء هي مقتطفٌ أسـاسٌ من دراسةٍ هامة كتبتها جاكلين روز Jacqueline Rose عن فرويد وصعود الصهيونية ، منشورةٍ في عدد تموز 2004 من ( مجلة لندن للكتاب ) London Review of Books معروفٌ أن فرويد كان ضد الصهيونية لأسبابٍ عدةٍ منها علاقة الفكرة ذاتها بالحرب . تستهدي الكاتبة بالمنهج الفرويدي حين الإشارةُ إلى أبو غْـرَيب واحتلال العراق ." س.ي مع سقوط بغداد ، وما صاحبه من سلبٍ ونهبٍ ، عادت الدعوى القديمة ، العتيقة قروناً ، عن " الشعب " ، تعلن عن نفسها صريحةً . هذه الدعوى ترى أن الناس ، الناس المجتمعين ، غير قادرين على كبح جماح أنفسهم . وفي الحالة العراقية ، يبرز أيضاً ادِّعاءان آخران . الأول ، أن الناس الذين تحرروا للتوّ من نير الدكتاتورية هم بحاجة إلى مراقَبة ؛ لقد وُضِعتْ تجاوزات الناس على عاتق صدام حسين في ذات الوقت الذي فقد فيه السيطرة على الناس ؛ أي أن هذه التجاوزات ليست من مسؤولية جيوش الإحتلال ، مثلاً . الإدعاء الثاني هو أن الشعب العراقي نَـزّاعٌ إلى مثل هذا السلوك ، لأنه خارج العملية التمدينية للغرب . هكذا تسمح لنا صيغة دونالد رامسفيلد المراوِغة : " الأمرُ يحْـدُث " ، بالتفكير ، للحظةٍ ، في أن أموراً كهذه قد تحدث لأي أحدٍ ، لنا افتراضاً ، أو له هو . إن ما تتضمّـنه الصيغةُ المذكورةُ ، في العمق ، هو شكلٌ تمييزيٌّ ( بالمعنى العنصري ) للحكم على الأمور . بين الدكتاتورية والبربرية ، يظل العراق تحت الإدانة : ومن أسباب ذلك ، بلا شكٍّ ، أن الديمقراطية ينبغي أن تستورَد ، وأنها لا يمكن أن يُـعهَــدَ بها إلى العراقيين أنفسهم ، حتى وإن كانت الصور الآتية من أبو غْـرَيب تقضي بألاّ فروقَ لصالحنا ، بيننا وبينهم . من أشد الأشياء الصارخة التي جاء بها فرويد في " سيكولوجيا الجمع و في تحليل الذات " العام 1921 ، كان التحول من صورة الجموع المحدودة بالغوغاء الـمنفلتة ، إلى الكنيسة والجيش ، حيث تُصنَع الهويّــاتُ الجمعية الأكثر حميّــةً وقداسةً . إن المصطلح الفرويدي ( بالألمانية طبعاً ) هو “ die Massen “ ، وهو مصطلحٌ ملتبسٌ بين جماعة وجماهير . ولربما كانت الترجمة الأقرب إلى روح النص هي " المجموعية " ، ذلك لأن سؤال فرويد ، عبر نصوصه ، منذ 1914 ولاحقاً ، يتعامل مع ما يجعل الأفراد يربطون أنفسهم في كيانات تضمُّ أكثر من شخصٍ واحدٍ . لكن مصطلح " المجموعية " يبتعد عن المشكلة ، لأنه يتجنب محو الحدود الملتبس والمرتبك بين الناس والجماعات. أو ، لنقلْ بين النهّــابين والجيش . أو ، بين العراقيين الهائجين في الشارع والجنود الأميركيين والبريطانيين في سجون بغداد الذين يطيعون الأوامرَ الشريرة الصادرة من آمريهم الأعلى رتبةً . تقول لِيندي إنجلند ( المجندة صاحبة الصورة الشهيرة في معسكر تعذيب أبو غرَيب ) : " نحن لا نشعرُ بأننا كنا نفعل أموراً كان يُفترَضُ ألاّ نفعلَــها " . لكن حقيقة أن بالإمكان تتبّع الأوامر حتى أعلى مصادرها لم تمنع أن تمسي لِيندي إنجلند شاةَ الفداء في الولايات المتحدة وإنجلترا على حدٍّ ســواء . من الصعب الحفاظ على الأخلاقية بحبل انقيادٍ . في الحالة العراقية ، القضية أفدحُ ؛ لأن الإنتهاكات لم تكن فعلَ فردٍ أو اثنين يسهُلُ كرهُـهُـما ، بل كانت فعلَ مجموعةٍ يفترَضُ فيها أنها تجسِّــدُ مفخرتَــنا القومية . أحياناً ينتاب المرءَ شعورٌ بأن الجُـرمَ لم يكن الفعل نفسه ، بل كشف الفعل . سوف يكون احتقار ليندي إنجلند أقلَّ لو كان الأمر متعلقاً بما اقترفته هي وزملاؤها ، لكن الموضوع هو أنها حطّمت حالة الرضا بالقيم الغربية حين أتاحت للعالم أن يرى ما جرى في أبو غرَيب . المجرم الوحيد يمكن استبعاده ، لكن لا يمكن استبعاد سياسة حكومة ، منتخبة ديموقراطياً ، ومن هنا فهي تمثل ، أيّ واحدٍ منا ، وكلَّ واحدٍ منا . نحن لا يمكن أن نلقي جرائمنا على عاتق دكتاتور . الناس يمكن أن يكونوا قساةً ، ومؤسساتنا يمكن أن تكون شــريرةً . لكن معرفة هذا ، لن تقدم أو تؤخر في المدى البعيد . بل يمكن لها أن تزيد الأمرَ سوءاً . يرى فرويد أن الناس يلجأون إلى التطرف حين يكون حبُّ الذات لديهم مهدَّداً . فبدلاً من أن يكونوا متواضعين ، يميلون إلى الإندفاع في دفاعٍ عن النفس ، نرجسيٍّ . ونحن سنكون في دائرة شريرةٍ لو كان حقاً أن الناس لا يعرفون حدوداً لما يفعلونه حفاظاً على إيمانهم بأنفسهم . *** كتب فرويد يقول : ثم اندلعت الحرب التي كنا رفضنا أن نصدقَها ، وجاءت – بالخيبة … لقد أهمَلت كل الحدود المعروفة في القانون الدولي ، التي التزمت بها الدول وقت السلام . لقد أهملت حقوق الجرحى والخدمات الطبية ، والتمييز بين المدنيين من السكان والعسكريين . لقد داست على كل ما اعترضَ طريقها ، كأنْ ليس من مستقبلٍ … لقد قطعت كل الروابط المشتركة بين الشعوب المتحاربة ، مهدِدةً بميراث مرارةٍ يجعل إحياءَ تلك الروابط مستحيلاً لأمدٍ طويلٍ . ولربما كان أكثر أهميةً ما يفعله هذا السلوكُ في العلاقة بين الـمُواطن والدولة . وبالضبط ، لأن الدولة ممثلةٌ الشعبَ ، وبالضبط لأننا ديموقراطية ، صارت خيبة الأمل شديدةً إلى هذا الحدّ . ما يتهاوى الآن ، هو الإيمانُ بفضيلة المؤسسات التمثيلية وفضلها . لقد شرعَ الناسُ ، المواطنون ، يفكرون بأن الدول قد تجسِّــد‘ الشرورَ ذاتَها التي طالما اتُّخِــذَتْ مبرراً للدخول في حروبٍ ضد دولٍ – تسمّـى الآنَ شموليةً ، أو شريرةً ، أو فاشلةً . ويمضي فرويد قائلاً : الشعوبُ ، إلى هذا الحدّ ، أو ذاك ، ممثَّــلةٌ بالدول التي أسّـسوها ، وتلك الدول ممثَّـلةٌ بالحكومات التي تتولّى شأنها . أما اليومَ ، فإن المواطنَ مواجَــهٌ بـ" الرعب " حسب تعبير فرويد ، رعبِ أن الدولةَ منعتْ على الفرد ممارسةَ الخطأ ، لا بسبب الرغبة في إزالته ، وإنما بسبب الرغبة في احتكاره ، شأنه شأن الملح والتبغ . فرويد يستعمل هنا كلمة “ der Schrecken " ، أي الرعب ، Horror or Terror ، في تصنيفه الحربَ وخيبةَ الناس . الدولةُ المحارِبةُ لا تخرق فقط القانونَ المتعلقَ بالعدوّ ، وإنما تخرقُ أيضاً المبادئ التي تنظم علاقتها مع مواطنيها . يكتب فرويد قائلاً : الدولة المحارِبةُ ، تمنح نفسَها فِعلَ كلِ ســوءٍ ، كلَّ عملِ عنفٍ يُشــِينُ الفردَ . لا غرابةَ ، إذاً ، أن تهرعَ الدولةُ ، بعد افتضاح ما جرى في " أبو غرَيب " ، إلى إلقاء التبعة على المواطنين ، باعتبار أن ما جرى كان " عاراً فرديّــاً " . الأدهى من هذا ، أن الدول تستخدم السرية والرقابةَ لتسلبَ مواطنيها الدفاعاتِ الحاسمة التي قد يحتاجونها للتعامل مع واقع الحرب . كثيراً ما قيل لنا إن الحقيقة هي الضحية الأولى للحرب . ونحن أميَـلُ إلى فهم ذلك في نطاق الرقابة على المعلومات ، لكن فرويد يثير نقطة أخرى . إخماد قدرة المواطنين على الحكم هو هدفٌ رئيسٌ من أهداف الحرب لدى الدولة الحديثة. أعتقدُ أن هذه إحدى لحظات فرويد الأشــدّ تألّـقاً . بالطبع يمكن للمرء قراءة تلك المقالات باعتبارها ، جزئياً ، استجابةً منه لخيبة الأمل حين وجد بلده تلتزم الجانبَ الخطأ في الحرب العالمية الأولى : " نحن نعيش آملين في أن صفحات التاريخ غير المنحاز ستبرهن أن تلك الأمّـةَ التي نكتب بلغتها ، والتي يحارب أعزّاؤنا في سبيل انتصارها ، كانت بالضبط الأقلَّ تعدياً على قوانين التمدن . لكن من يجرؤ أن ينصِّب نفسه قاضياً في قضيته ذاتها ؟ " لكن في هذه المرثيّــة دفاعاً شرساً عن الناس إزاءَ احتكار الدولة الديموقراطية وإساءة استخدام العنف . الأمر لا يقتصر على أن الدولة تطلب من مواطنيها شكلاً من الفضيلة تفتقده هي علانيةً ، أو أنها تقمع الخصالَ النقدية لدى المواطنين حين هم بحاجةٍ أشدّ إلى حرية ممارستها ، أو أنها خانت عهدَ الثقة بينها وبين مواطنيها في وقتٍ تطلب فيه من هؤلاء باسم الوطنية مزيداً من التضحيات . كل هذا سـيّءٌ ، لكن الأسوأ هو إصرارُ الدولة على أن أخسَّ حربٍ هي فضيلةٌ . التضحية الكبرى التي تطلبها الدولةُ من الناس الآن هي التخلي عن حقهم في ألآّ يصدِّقوها . مراراً قيل لنا في الأسابيع الأخيرة ، ربما لتلطيف مشاعرنا ، إن ما فعلناه في أبو غْـرَيب ليس شيئاً مقارنةً بالإعدامات وصنوف التعذيب أيامَ صدام حسين . كأن صدام حسين صار " البوصلة الأخلاقية للغرب " بتعبير أهداف سويف . الإذلالُ مُـرَكّبٌ مركزيٌّ من مركّـبات التعذيب . ومثل ما أشار معلِّـقون كثيرون ، كان الإذلال ، في أبو غرَيب ، مركّـزاً على حساسيات المسْلِـم المتّصلة بالعورة والكبرياء . تكمن خلف هذا الإذلال سياسةٌ دقيقةٌ في التعذيب السايكولوجي . ورد في كتاب " تعليمات التدريب " الذي أصدرته وكالة المخابرات المركزية CIA ، العام 1963 ، للهندوراس ، الآتي : " الغاية من التقنيات القسرية هي الوصول إلى انكفاءٍ سايكولوجي … والإنكفاءُ هو في الأساس فقدانٌ للإستقلالية " . يكاد يكون هذا ، هو السيناريو الذي وضعه العالم في التحليل النفسي ، كريستوفر بولاس ، في مقاله النشور العام 1995 بعنوان " بِـنْــية الشـــر " ، وهو يصف " الموت النفسيّ " أو " التطفيل الراديكالي " Radical Infantilisation ومؤداه أن القاتل المتسلسل The serial killer يفرض على ضحيته جواً " فيه الثقةُ منهارةٌ تماماً ، والجنونُ قائمٌ بسبب النفي المفاجيء للواقع ؛ آنذاك يمارس الضحيةُ نفياً لـبِـنى الشخصية البالغة ، والتحاقاً بزمنٍ هو نوعٌ معيّـنٌ من الوضع الطفوليّ . وربما اعتمدَ في وجوده نفسه على نزوة الجنون الحبيس " . الجنون الحبيس ، تنطبق على أبو غرَيب . أمرٌ هامٌّ في الحالَينِ أن الـمَـعْـنيّ يعادُ إلى حالة التبعية الطفولية ، وفي الوقت نفسه يفقد كل نقاط المرجعية التي تسمح له بأن يجد نفسه حتى وهو في هذا العالم الإنكفائي الطفولي . المفتاح الذي قدّمته الـCIA في تعليماتها هو " فقدان الإستقلالية " . وهكذا ، بدلاً من السموّ بالعالَـمِ إلى مَــراقي التمدن والحضارة ، يبدو أن القوى الحاكمة في القرن الجديد تجهد قدر طاقتها ، في محاولة أن تردَّ مواطنيها وأعداءَها ، على حدٍّ ســواءٍ ، أطفالاً قاصـــرين .
لندن 14/7/2004
#سعدي_يوسف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
زيارةُ سِـيـجمـونـد فْـرُويد Sigmond Freud
-
لا جُـنـاحَ عليكَ
-
زاويةٌ لـلـنـظــر
-
الأســماء
-
طريقُ الشِّـهابِ ، وصالح بِـشْـتـاوه
-
دمٌ فاســـدٌ
-
ثلاثةُ وجوهٍ منتفخةٍ غباءً
-
كــمْ عدَنٍ ســوف ننســـى !
-
الـمـتَـرَحِّـــلون
-
ســاعاتُ جان جِـيْـنَـيه الأخيرة
-
فَـراشاتُ الأنْــدِيز
-
كلامٌ غيرُ مسؤولٍ …
-
الجرذان تغادِرُ السفينةَ …
-
عطلة الـمصارف
-
غلامٌ سـعوديٌّ رئيساً لأرضِ السّوادِ
-
بيـــن مَــوتَـينِ سلافو جيجيك يكتب عن أبو غْرَيب
-
الليلةَ ، أُقَـــلِّـــدُ بازولــيني
-
لا تقتلوا الشهرستاني !
-
الأشــياءُ تتــحـرّك
-
يوميّــاتٌ عراقـيّــةٌ
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|