3_إميل دوركايم: ظاهرة الانتحار .
لطفي الإدريسي
2010 / 3 / 7 - 16:53
الانتحار والتيارات الاجتماعية :
قدم دوركايم مفهوماً أكثر تحديداً وحيوية وأقل تبلوراً ذلكم هو التيارات الاجتماعية. وهى أيضا حقائق اجتماعية غير مادية وعرّفها كحقائق اجتماعية غير مادية لها نفس الموضوعية والهيمنة على الفرد مثل الحقائق الاجتماعية التى ناقشناها سابقاً لكن " بدون ذلك الشكل المتبلور" وقدم لذلك عدداً من الأمثلة "مثل الحماس, السخط والغضب داخل تجمع ما. بالرغم من أن التيارات الاجتماعية الأخرى أقل تحديداً من الحقائق الاجتماعية الأخرى لكنها تبقى حقائق اجتماعية وقد أوضح دوركايم ذلك عندما ذكر"إنها تأتى لكل منا من حيث لا يدرى ويمكن أن تحملنا بعيداً رغم أنفسنا".
شرح دوركايم فكرة التيارات الاجتماعية في كتابه (قواعد المنهج الاجتماعي) لكنه استخدمها كمؤشر توضيحي أساسي في دراسة ميدانية أصبحت نموذجاً لتطور الدراسات الميدانية الأمريكية. في الحقيقة إن البحث الوارد في الانتحار يمكن اعتباره محاولة لاستخدام الأفكار التى طورت في (قواعد المنهج الاجتماعي) في دراسة ميدانية عن ظاهرة اجتماعية محددة هى الانتحار. في (الانتحار) أوضح دوركايم أن الحقائق الاجتماعية وخاصة التيارات الاجتماعية مستقلة عن الفرد وقاهرة له. ولقد اختار دراسة الانتحار بدلاً عن العديد من الظواهر الاجتماعية الأخرى لانه ظاهرة ملموسة ومحددة. كما أن هنالك قدر جيد من المعلومات عن الانتحار ويعتبر بواسطة العديد من الناس فعلاً خاصاً وشخصياً. يعتقد دوركايم أنه إذا تمكن من توضيح أن لعلم الاجتماع دور يلعبه في توضيح ما يبدوأنه فعل فردى مثل الانتحار فإنه يصبح من الممكن توسيع مجال علم الاجتماع لدراسة ظواهر هى أكثر انفتاحاً للتحليل السوسيولوجى. أخيرا اختار دوركايم دراسة الانتحار لأنه إذا تمكن من إقناع المجتمع العلمي بدراسته لهذه الظاهرة سيكون لعلم الاجتماع فرصة أكبر في الحصول على الاعتراف من العالم الأكاديمي.
كعالم اجتماع لم يكن دوركايم مهتماً بدراسة لماذا أن شخصاً محدداًً ينتحر. هذا يجب أن يترك لعالم النفس. لكن دوركايم كان مهتماً بتوضيح التباين في معدلات الانتحار، أي أنه كان مهتما بلماذا نجد أن مجموعة معينة لها معدل انتحار أعلى من الأخرى. يفترض دوركايم أن العوامل البيولوجية، والنفسية الاجتماعية تبقى ثابتة من مجموعة لأخرى ومن وقت لاخر. وإذا كانت هنالك اختلافات في معدل الانتحار من مجموعة لأخرى أو من وقت لأخر يرى دوركايم أن الاختلاف يرجع إلى الاختلاف في العوامل الاجتماعية وتحديدا ً التيارات الاجتماعية.
وكملتزم بالبحث الميداني لم يكتف دوركايم بإبعاد الأسباب الأخرى التى ربما تؤدى إلى الاختلاف في معدلات الانتحار وإنما قام باختبار تلك الأسباب ميدانيا ً .
بدأ كتابه عن الانتحار بسلسلة من الأفكار المغايرة عن أسباب الانتحار. من ذلك الحالة المرضية النفسية للفرد، العرق، الوراثة والمناخ .
في حين أن دوركايم عرض قدراً واسعاً من الحقائق ورفضها كمسبب لاختلاف معدلات الانتحار، لكن حجته الأوضح والتي تنسجم مع مجمل تصوره كانت حول علاقة العوامل العرقية مع تلك الاختلافات. أحد أسباب رفض العرق هو أن معدلات الانتحار تتباين وسط المجموعات ذات الأصل العرقي الواحد. وإذا كان العرق سبباً مؤثرا في تباين معدلات الانتحار فيمكننا أن نفترض أن له أثراً مشابها على مختلف المجموعات. دليل آخر ضد أهمية العرق في تباين معدلات الانتحار هو التغير في تلك المعدلات وسط عرق معين عندما ينتقل من مجتمع إلى آخر. وإذا كان العرق حقيقة اجتماعية ذات علاقة يجب أن يكون لها نفس الأثر في مختلف المجتمعات. بالرغم من أن حجة دوركايم هنا ليست كافية جداً وربما تكون حججه حول العوامل الأخرى التى رفضها أضعف ، لكن هذا يعطينا فكرة عن طريقة ومدخل دوركايم في الرفض المدعم بمعلومات ميدانية لما يعتبره عوامل إضافية مما مكنه من الانتقال إلى ما يعتقد أنه العوامل الأكثر أهمية. إضافة إلى رفضه للعوامل سابقة الذكر، فقد درس دوركايم نظرية التقليد التى تنسب إلى عالم النفس الاجتماعي الفرنسي جابريل تاردا ورفضها. تقول نظرية التقليد أن الناس ينتحرون ( ويدخلون في نطاق واسع من الأفعال الأخرى ) لأنهم يقلدون أفعال الآخرين الذين انتحروا. هذا المدخل النفسي الاجتماعي غريب على علم الاجتماع وعلى تركيز دوركايم على الحقائق الاجتماعية. لذلك لم يأل دوركايم جهداً في رفضها. سبب دوركايم ذلك بأنه إذا كان التقليد مهماً كان يجب أن تكون الأمم التى تجاور بلداً ذا معدل انتحار عال هى نفسها لها معدلات عالية، ثم نظر في المعلومات الخاصة بهذا العامل الجغرافي و خلص إلى أنه ليس له أي أهمية. قبل دوركايم أن انتحار بعض الأفراد ربما يكون بسبب التقليد، لكن هذا عامل ضعيف جداً وليس له أي تأثير على معدلات الانتحار الكلية. أخيراً رفض دوركايم نظرية التقليد كعامل هام لرؤيته أن حقيقة اجتماعية ما تكون فقط نتيجة حقيقة اجتماعية أخرى. وبما أن التقليد عامل اجتماعي نفسي لن يكون له في نسقه أية أهمية في تباين معدلات الانتحار لاجتماعية، وخلص إلى أن "معدلات الانتحار الاجتماعي يمكن توضيحها فقط سوسيولوجيا.ً" بالنسبة لدوركايم، العوامل الأهم في التغير في معدلات الانتحار يجب أن توجد في الاختلافات على مستوى الحقائق الاجتماعية. بالطبع هنالك نوعان من الحقائق الاجتماعية - مادية وغير مادية. وكما هو دائما ًالحقائق الاجتماعية تحتل موقع الأهمية الرئيسية لكن ليست الأساسية. مثلا ً نظر دوركايم في أهمية الكثافة الحيوية في تباين معدلات الانتحار لكنه وجد أن أثرها غير مباشر. لكن التباين في الكثافة الحيوية وفى الحقائق الاجتماعية المادية الأخرى يؤثر على التباين في الحقائق الاجتماعية غير المادية وهذا له أثر مباشر على التباين في معدلات الانتحار. هنا يقدم دوركايم حجتين مترابطتين، من ناحية فهو يقول أن المجموعات المختلفة لها ضمير جمعي مختلف وتمثلات جمعية مختلفة أيضاً. من الناحية الأخرى هذا ينتج تيارات اجتماعية متباينة ذات أثر تبايني على معدلات الانتحار. إحدى طرق دراسة الانتحار هي المقارنة بين مختلف المجتمعات أو الأنواع الأخرى من المجموعات. من ناحية أخرى يري دوركايم أن التغير في الضمير الجمعي يقود إلى تغير في التيارات الاجتماعية والتي بدورها تؤدي إلى التباين في معدلات الانتحار. أدى هذا إلى الدراسة التاريخية للتغيرات في معدلات الانتحار ضمن مجموعة معينة. في كلتا الحالتين، ثقافياً أو تاريخياً فأن منطق الحجة هو نفسه التباين أو التغير في الضمير الجمعي الذي يؤدي إلى تباين أو تغير في التيارات الاجتماعية وهذا بدوره يؤدي إلى تباين في معدلات الانتحار. بمعني آخر، التغير في معدلات الانتحار يرجع إلى التغير في الحقائق الاجتماعية، وبشكل أساسي التيارات الاجتماعية. كان دوركايم واضحا حول الدور الأساسي الذي تلعبه التيارات الاجتماعية في تسبيب الانتحار" كل مجموعة اجتماعية لها استعداد جماعي للفعل، خاص بها، وهو مصدر الاستعداد الفردي وليس نتيجته. وهو يتكون من تيارات من الأنانية، الإيثار أو اللامعيارية تتخلل كل المجتمع. هذه النزعات للجسم الاجتماعي ككل، وبتأثيرها علي الأفراد تدفعهم إلى الانتحار "أنواع الانتحار الأربعة
نظرية دوركايم عن الانتحار وبنية تنظيره السسيولوجي يمكن أن يري بوضوح عند دراستنا لكل واحد من أنواع الانتحار الأربعة. الأناني، الإيثارى، اللامعيارى والقدري.
الانتحار الأناني:
المعدلات العالية من الانتحار الأناني غالبا ما توجد في المجتمعات، التجمعات أو المجموعات الذي يكون فيها الفرد غير مندمج تماماً في الوحدة الاجتماعية الكبرى. المجتمعات ذات الضمير الجمعي القوي تمنع التيارات الاجتماعية الوقائية والشاملة التي تنبع من ذلك الضمير حدوث وانتشار الانتحار الأناني فيها. عندما تضعف هذه التيارات الاجتماعية يتمكن الأفراد وبسهوله من تجاوز الضمير الجمعي ويفعلون ما يريدون. في الوحدات الاجتماعية الكبرى ذات الضمير الجمعي الضعيف، يترك الأفراد للجري وراء مصالحهم الخاصة بأي طريقة يريدونها. مثل هذه الأنانية غير المكبوحة "غالبا ما تقود إلى قدر كبير من الاستياء والضجر بما أنه لايمكن إشباع كل الحاجات وحتى التي يمكن إشباعها تنتج حاجات أكثر وأكثر، كما أنها تنتج الاستياء المطلق للعديد من الناس كما تدفع بعضهم إلى الانتحار. لكن الأسر المندمجة بقوة،(المجموعات الدينية، الجماعات السياسية) تتعامل كهيئات ذات ضمير جمعي قوي ولا تشجع الانتحار "الدين يحمي الإنسان من الرغبة في تحطيم الذات. ما يكّون الدين هو وجود عدد من المعتقدات والممارسات التقليدية المشتركة بين كل المؤمنين، و لذا فهي ملزمة. وكلما تعددت هذه الحالة العقلية الجمعية وقويت كلما ازداد الاندماج في المجموعة الدينية وكذلك ازدادت القيمة الواقية ."
تفكك المجتمع ينتج تيارات اجتماعية مميزة وهي السبب الأساسي في تباين معدلات الانتحار. مثلا تحدث دوركايم عن تفكك المجتمع الذي يقود إلى تيارات من الكابة والخيبة " التفكك الأخلاقي للمجتمع يعرض الفرد لارتكاب فعل الانتحار، لكن لابد من وجود تيارات الكآبة لحدوث التباين في معدلات الانتحار الأناني. ما هو مثير للاهتمام أن دوركايم هنا يعيد تأكيد أهمية العوامل الاجتماعية، حتى في الانتحار الأناني الذي يعتقد فيه أن الفرد حر من كل قيود اجتماعية. الفاعلون ليسوا أحراراً أبداً من قوة الجماعة " مهما كان الإنسان فرديا يبقي هناك دائماً شئ جماعي- الكآبة والسوداوية الناتجة من المبالغة في الفردية. إن الأنسان يؤثر علي المشاركة من خلال الحزن عندما لا يكون لديه ما يمكن تحقيقه بها "
إن حالة الانتحار الأناني تشير إلى أنه حتى في أكثر الأفعال فردية وخصوصية تكون الحقائق الاجتماعية هي المحدد الأساسي.
الانتحار الإيثاري :
النوع الثاني من الانتحار الذي ناقشه دوركايم هو الانتحار الإيثاري. في حين أن الانتحار الأناني غالباً ما يحدث عندما يكون الاندماج الاجتماعي ضعيف جداً. الانتحار الإيثاري يحدث عندما يكون "الاندماج الاجتماعي قوي جداً." الفرد يجبر حرفيا علي ارتكاب فعل الانتحار.
ربما يكون أفضل نموذج للانتحار الإيثاري ذلك الانتحار الجماعي لاتباع "ريفيرنيد جيم جونز " في جونزتاون، غيانا. لقد تناولوا وبوعي كامل مشروب سام وفي بعض الحالات سقوا أطفالهم أيضا. من الواضح أنهم ارتكبوا الانتحار لأنهم دفعوا, بقوة أو بهدوء إلى الموت من أجل اتباع جمعية جونز المتعصبة. بشكل عام إن الذين يرتكبون فعل الانتحار الإيثاري يفعلون ذلك لأنهم يحسون أن ذلك هو واجبهم.
وكما في حالة الانتحار الأناني درجة التكامل ( في هذه الحالة درجة عالية) ليست السبب الرئسي في الانتحار الإيثاري ولكن التباين في درجة الاندماج ينتج تيارات اجتماعية مختلفة تؤثر في معدلات الانتحار. مثلما في الانتحار الأناني اعتبر دوركايم أن التيارات الاجتماعية السوداوية هي سبب معدلات الانتحار الإيثاري العالية. في حين أن معدلات الانتحار الأناني العالية تنتج من التمزق والاكتئاب الحزين فإن الزيادة في معدلات الانتحار الإيثاري " تأتى من الأمل لأنها تعتمد علي الاعتقاد في التصور الجميل لما بعد هذه الحياة ."
الانتحار اللامعياري:
النوع الأخير والأساسي من أنواع الانتحار الذي نوقش بواسطة دوركايم هو الانتحار اللامعياري ويحدث عندما تضطرب ضوابط المجتمع. وترتفع معدلات الانتحار اللامعياري إذا كانت طبيعة الاضطراب إيجابية (الانتعاش الاقتصادي مثلا ) أو سلبية (الكساد الاقتصادي ). كلا النوعين من الاضطراب يؤدى إلى التعطيل المؤقت للجماعة عن أداء دورها السلطوي علي الأفراد. فترات الاضطراب تطلق العنان لتيارات اللامعيارية ـ الإحساس بانعدام الجذور وانعدام المعاييرـ وتقود هذه التيارات إلى الزيادة في معدلات الانتحار المعياري. من السهل تصور هذا في حالات الكساد. إغلاق مصنع نتيجة للكساد الاقتصادي ربما يؤدي إلى فقدان وظيفة ونتيجة ذلك أن الفرد ينقطع عن تأثير ضوابط الشركة والوظيفة. الانفصال عن مثل هذه البنيات – لأسرة, الدين, الدولة مثلاً – يترك الفرد فريسة لأثر تيارات اللامعيارية. يبدو أنه من الصعب تخيل أثر الانتعاش الاقتصادي. في هذه الحالة يمكن القول أن النجاح المفاجئ ربما يقود الأفراد بعيداًً عن البنيات التقليدية التى نشأوا فيها. النجاح الاقتصادي ربما يقود الفرد إلى ترك عمله والانتقال إلى مجتمع جديد وربما يتخذ زوجة جديدة. كل هذه التغيرات تؤدى إلى اضطراب أثر ضوابط البنيات الموجودة وتترك الفرد في فترات الانتعاش الاقتصادي فريسة للتيارات الاجتماعية اللامعيارية. الزيادة في معدلات الانتحار اللامعيارى خلال فترات اضطراب الحياة الاجتماعية منسجمة مع رؤية دوركايم عن الأثر الضار لنزوات الفرد عندما يتحرر من القيود الخارجية. فعندما يتحرر الناس يصبحون عبيداً لنزواتهم ونتيجة لذلك، يرى دوركايم أنهم يقومون بسلسلة واسعة من الأفعال المدمرة تشمل قتل أنفسهم في أعداد أكبر مما هو معتاد .
الانتحار القدري :
هنالك نوع رابع من الانتحار لا يشار إليه كثيرا - الانتحار القدري – والذي ناقشه دوركايم في إحدى حواشي كتابه (الانتحار). ففي حين أن الانتحار اللامعيارى يحدث في الحالات التى تضعف فيها الضوابط فان الانتحار القدري يحدث في الحالات التى تكون فيها الضوابط متجاوزة للحد المرغوب فيه. وصف دوركايم الذين يرتكبون فعل الانتحار القدري بأنهم "أشخاص مستقبلهم مغلق بقسوة ونزواتهم خنقت بعنف عن طريق نظام قهري "[17] المثال التقليدي هو الرقيق الذى يقتل نفسه بسب عدم الأمل المصاحب للضوابط القاهرة لكل أفعاله. الزيادة في الضوابط – القهر – تطلق العنان لتيارات السوداوية والتي بدورها تتسبب في ارتفاع معدلات الانتحار القدري. قدم ويتن بوب ملخصاً مفيداً لأنواع الانتحار الأربعة التى ناقشها دوركايم. قام بذلك من خلال التداخل الذى أجراه بين درجات مرتفعة ومنخفضة للاندماج والضوابط على النحو التالي :
عال انتحار إيثاري
الاندماج:
منخفض انتحار أناني
عالية انتحار قدري
الضوابط: منخفضة انتحار لامعيارى