أعلن أن مؤتمرا للضباط العراقيين سيعقد في لندن. وقيل أن هذا المؤتمر يعقد بتمويل ذاتي ، وبعيدا عن الإدارات الأجنبية التي تخطط لمصالحها ، المتناقضة تماما مع مصلحة الشعب العراقي ،وأن اتفق الهدف المعلن آنيا : الإطاحة برئيس المافيا صدام.
ودون الرغبة في التشكيك ينبغي الحذر والانتباه مما قد يحاك خلف الستار ،والمساعي لتوريط المخلصين بأساليب أتقنتها المخابرات الأجنبية. وتجربة المؤتمر الوطني العراقي لم يعف عليها الزمن بعد ، فقد قيل في البداية أن محسنين عراقيين ، لا يمكن
كشف أسمائهم ، هم مولوا المؤتمر ، ثم انفضح سر المحسنين بعدما عودوا الناس على القبول بالتعامل حتى مع السي آي أي. وكم حري بنا ونحن في هذا الزمن أن
نعي قولة الإمام علي: " إذا استولى الفساد على الزمان وأهله ، فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر " .وعلى صواب هو الأخ العميد جودت النقيب فيما ثبته في رسالته إلى مؤتمر الضباط من حقيقة : ( أن الاعتماد على النفس ولو طال الزمن خير من الاتهام بالخيانة والعمالة .. لان شعبنا لا يرحم من يدخل بغداد بقطار أجنبي ولا يرضى بحكمه أبدا ) . وقد خبر شعبنا وشعوب المنطقة والعالم كوارث الوصول للسلطة بقطار أمريكي حتى زمن القطبية الثنائية ، فكيف واليوم لا أحد غير القطب الأحد ، القطب الساعي لأن يكون القيصر الأوحد.
ولا شك في ضرورة تعبئة كل القوى المناؤئة اليوم للنظام ، و لا جدال في أهمية
دور القوى المسلحة في الخلاص من صدام ، ولكن من المهم أيضا التخلص من الأوهام التي نسجت حول تاريخ الجيش العراقي ومواقفه، والتفكير في دوره في الظرف الاستثنائي الذي كان للجيش - فعلا أو تركا - دور في وصول عراق اليوم إليه.
فطابع أية مؤسسة لا يتحدد بنوايا وسلوك بعض منتسبيها ، وانما وفق المهمات التي توكل إليها أساسا.
والجيش العراقي، كمؤسسة، لا يشذ عن هذه القاعدة.فقد تأسس الجيش العراقي أساسا من أجل حماية الأمن الداخلي، كأداة لقمع التمردات الشعبية،غير أن تأسيسه ونموه صارا تحت واجهة الدفاع عن الوطن، ولا بد من بحث مسألة الجيش بعد صدام انطلاقا من الوضع الاستثنائي الذي وصل إليه العراق نتيجة سياساته ،مع الأخذ بنظر الاعتبار الالتزامات المفروضة على العراق بعد خروج صدام من الكويت ودخوله
خيمة صفوان ، مع مراعاة الظروف الإقليمية والدولية، التي تحيط بالعراق.
ان العراق نتيجة سياسة نظام صدام دولة مخربة ، تخربت كل البنية التحتية بعد حرب الخليج، ونتيجة سياسة الحصار المفروض على العراق لم يمكن إعادة بناء وتشغيل ما خرب من مؤسسات لتعود الدورة الاقتصادية إلى مجراها. فالعراق بحاجة إلى تشغيل مؤسسات صناعة النفط كي يستطيع تصدير النفط بالطاقة المسموح له بتصديرها، بحاجة إلى بناء شبكة المواصلات والاتصالات، إعادة المؤسسات الصحية والتعليمية. إعادة المهجرين والمهاجرين، ودفع التعويضات والديون، وتكاليف الرقابة الدائمة على
التسلح.ان تخليص العراق مما حل به من كوارث ودمار، تحتاج جهد أجيال عديدة ، وتحتاج إلى وضع سلم استثنائي للأوليات.
وبالنظر لما فرضه قرار الاستسلام، القرار 687 من التزامات تدمير أسلحة الدمار الشامل واعداد خطة لرصد امتثال العراق لهذا الالتزام والتحقق منه بشكل مستمر في المستقبل، والتزامه بالتخلي عن الإرهاب الدولي وعدم مساندة الإرهاب، والتأكد من النوايا السلمية للعراق ، والتأكيد على التزام العراق بالمواثيق الدولية فإن مجرد الدعوة للتفكير بإمكانية جعل الجيش قوة للهجوم، كما طرحت في ورقة عمل الوفاق الوطني، بحد ذاتها تضع عراق بعد صدام موضع الشك والريبة، مما يقوي رأي بعض القوى الإقليمية والدولية ببقاء عراق ضعيف مهمش مع صدام أفضل من عراق بدون صدام غير مضمون توجهه السلمي.
أن دول المنطقة تخشى عودة العراق قوة عسكرية إقليمية.
عسكرة المجتمع عهد صدام والنتائج الكارثية للحربين شوهت المجتمع وأزالت ما كان موجودا فيه من نواتات مجتمع مدني، والنزعة العسكرية و الديمقراطية ضدان لا يتلاءمان.
كثير من منتسبي الجيش العراقي ساهموا في النضال الوطني من اجل الاستقلال السياسي ، ونصرة القضايا الوطنية و القومية، وفي سبيل الديمقراطية. وبسبب هذه المشاركة ارتقت كوكبة منهم أعواد المشانق او اعدموا رميا بالرصاص ، وتحملوا
عذابات السجن و الفصل و التشريد. وتتهدد المادة 200 من قانون العقوبات العراقي بالإعدام كل عسكري ، أو عسكري سابق، بتهمة النشاط السياسي خارج صفوف حزب البعث الحاكم بعد تموز/يوليو68 ، حتى وان كان ذلك قبل دخوله الجيش. وبالرغم من هذا يتزايد عدد العسكريين الذين يتخلون عن النظام ، وتزداد أعداد العسكريين الذين يعدمهم صدام ويتعرضون للتصفيات من قبل أجهزة الحكم الموالي للنظام ، وتبقى مهمة كسب الجيش للتخلي عن النظام مهمة أساسية لخلاص العراق من نظام صدام، إذ بدون انفضاض الجيش عنه تبقى مهمة الخلاص من النظام صعبة المنال ، ومحفوفة بالتضحيات الجسام ، التي ستزيد العراق خرابا على خراب.
وكما جرت الإشارة إليه فإن طابع أية مؤسسة لا يتحدد بنوايا و رغبات بعض الأفراد العاملين فيها ، ولا بعدد ما يتعرض أفراد منها للتضحيات ،إنما يتحدد بالأغراض و الأهداف المرسومة للمؤسسة ، وما تؤديه فعلا من المهمات. والجيش العراقي ،الذي تأسس بقرار من حكومة الانتداب البريطانية ، ألقيت على عاتقه مهمة حفظ الآمن الداخلي لصالح الحاكمين ، اي قمع الحركات الوطنية و الشعبية ، وقد أدى الجيش كمؤسسة هذه المهمة خير أداء، كما وصار أداة تنفيذ انقلابات للطامعين في الحكم. يشهد على ذلك ضرب وإفشال انتفاضات الشعب في الثلاثينات و الأربعينات و الخمسينات - انتفاضتي 52 و 56 أثناء العدوان الثلاثي على مصر ، و انتفاضة شعبان / آذار- مارس 91 ، وأداة لضرب الحركة الكردية في مختلف عهود الدولة العراقية الحديثة، والى حد استخدام السلاح الكيماوي في حلبجة ، واقتراف جريمة الأنفال وتجفيف الاهوار.
و منذ تأسيس الدولة العراقية سيطر العسكريون و تحكموا في تسيير المجتمع ، فرجال الحكم الملكي من رهط نوري السعيد كانوا ضباطا خلعوا البزة العسكرية دون التخلي عن ذهنية العسكر , وحكم الزعيم عبد الكريم قاسم جمهورية 14 تموز محتفظا بزيه العسكري ، وتوارثها بعده عبد السلام عارف ثم شقيقه عبد الرحمن كرئيسي جمهورية ، كان الحكم فيها بيد الأرستقراطية العسكرية الجديدة من أمثال طاهر يحيى و احمد حسن البكر ، الذي صار بعد انقلاب 68 رئيسا لجمهورية الرعب و الإرهاب ، المستندة على الجيش و التشكيلات العسكرية المتنوعة ، حتى آلت بالتمام إلى"" المهيب الركن"" صدام حسين الذي عسكر المجتمع بمساعدة الجيش، و أوكل للجيش القيام بالغزو الخارجي فشن الحرب على الجارة إيران ، و احتل الكويت الشقيق.
والعراق ، الذي كان من أوائل الدول العربية التي نالت استقلالها الشكلي بعد الحرب العالمية الأولى ، وأصبح عضوا في عصبة الأمم عام 1932، وكان من مؤسسي الجامعة العربية والأمم المتحدة عام 1945 هو اليوم بلد منقوص السيادة ، و يخضع الى اسوء شكل من أشكال الوصاية نتيجة سياسة النظام الحاكم ، المستمر في سياسته الحمقاء ، لا يضيره تعرض الشعب للمجاعة و والموت مرضا ، وانتحارا
والتعرض لمخاطر الهجرة بسبب الإصرار على مواصلة الحصار ومواصلة سيطرة المافيا منذ أكثر من 30 عاما.
ان المفخرة التي يسجلها العراقيون للجيش هي ثورة 14 تموز التي نجحت نتيجة النضالات الشعبية المتعددة قبلها، بما في ذلك حركة أيار 41 ، ومساهمة العسكريين في حرب فلسطين 48 ، وما خبروه من خيانة وتواطؤ الحكام ضد القضية الفلسطينية ، وترك الجيش العراقي في فلسطين مشلولا لأن " ماكو أوامر". وبفضل الإسهام الكبير للشعب الذي كان موحدا في جبهة الاتحاد الوطني وتنسيقها مع الضباط الأحرار نجحت الثورة في تموز58 ذلك النجاح الباهر، لكن تلك الثورة سرعان ما تحولت إلى حكم دكتاتوري فردي،جراء التصارع على السلطة بين الفئات العسكرية و الذي كان موجودا حتى قبل الثورة وانعكس في تعدد إرجاء المحاولات الانقلابية في تنظيمات الضباط الأحرار قبل 14 تموز، طمعا في تحقيق الاستئثار بالسلطة لكتلة دون أخرى.
وشخص بعض الضباط العراقيين ايضا الدور القمعي في تاريخ الجيش العراقي ، وتأثيره السلبي على الحركة السياسية. فيؤكد محمد حسن الطريحي، وهو من الضباط الذين شهدوا انقلاب بكر صدقي ، يؤكد في حديث له مع كامل الجادرجي يوم كان في السجن قبيل ثورة 14تموز 1958 تعقيبا على احتمال قيام الجيش بإسقاط النظام : " آنا لست من مؤيدي تدخل الجيش في السياسة لانه يصبح حزبا سياسيا مسلحا و معنى ذلك سيطرة الدكتاتورية العسكرية و القضاء النهائي على الديمقراطية ".وهذا هو ديدن العسكر في كل زمان و مكان و لذلك تبدو دعوة الحزب الشيوعي العراقي في مؤتمره السادس إلى إعطاء العسكر في العراق نفس وظيفة العسكر في شيلي و في تركيا : حماية الشرعية الدستورية، دعوة غريبة جدا ،هي اقرب ما تكون تمنيا .وشيلي وتركيا دولتان أوكل للجيش فيهما حماية الدستور،ومعروف كيف حمى عسكر بينوشيت دستور شيلي ، وكيف يحمي جيش أتاتورك الدستور في تركيا.
الجيش أداة إتلاف الثروة الوطنية
الإنفاق العسكري تبديد مرعب و رهيب للثروة الوطنية ، فقد بلغ ارقاما خيالية. و صنع المدفع العملاق كلف و قبل ان يكمل إنتاجه مليا ري دولار . وضخامة أتلاف الثروة الوطنية على الإنفاق العسكري ليس حكرا على زمن صدام وحده بل في كل عهود الدولة العراقية و منذ نشأتها. ففي تقرير لياسين الهاشمي عن الوضع الاقتصادي وضعه عام 1928 عندما كان وزيرا للمالية ذكر ان ما استورده العراق من الرز الهندي بلغ 529 ألف روبية و من الطحين 227 ألف روبية و اعتبر خروج هذا المبلغ الجسيم خسارة لا مسوغ لها ، لكنه لا يتحدث بنفس المنطق عن مصروفات الجيش ، فهو يذكر ان مصروفات ألبسة الجيش وحدها بلغت 983 آلف روبية ، و مصروفات ألبسة الشرطة 591 آلف روبية ، و مصروفات شرطة السجون 65 ألف روبية ، أي ان استيراد ملابس الخاكي وحدها تجاوزت ضعف المبلغ " الجسيم" الذي انفق على استيراد المواد الغذائية الأساسية للناس. و من ميزانية عام 1936 التي بلغت 4728,780 دينار خصص للجيش 2596720 دينارا فيما بلغت ميزانية الري 976500 دينارا و مخصصات الخدمات الاجتماعية و الصحة 746000 دينارا، أي ان حصة الجيش تقارب 55% . وكثير من مشاريع مجلس الاعمار إبان العهد الملكي كان مخصصا لأغراض عسكرية ،و يشير الطريحي في مذكراته عن إصدار عبد الكريم قاسم بعد ثورة تموز 58 لقانون أعيد بموجبه الضباط المحالون على التقاعد لاسباب وطنية إلى الجيش و منحهم رتبتين وعين بعضهم في وظائف مدنية فصار الراتب التقاعدي بحدهم نتيجة هذا القانون 220 دينارا بعد ان كان 18,5 دينارا. فتصور مدى الامتيازات الكبيرة التي تخصص للجيش! إذا كان الراتب التقاعدي أواخر الخمسينات قد تجاوز المائتين دينارا فكم تبلغ ميزانية التقاعد العسكري اليوم و الجيش قد تضخم تضخما سرطانيا. و لا بد ان عدد المتقاعدين العسكريين وخاصة بفضل سياسة "القائد الضرورة" يشكل جيشا يفوق جيوش بعض الدول عددا و لربما من حيث النفقات ايضا .
مما لاشك فيه ان لموقف الجيش من النظام دورا كبيرا في الخلاص من النظام. ولكن بعد إسقاط النظام اي دور ينبغي ان يقوم به الجيش. إن على العراق إعادة بناء البنية التحتية التي خربتها حرب الخليج ،واعادة اعمار البلاد ، وذلك في ظروف اقتصادية صعبة جدا . فالعراق المدمر عليه ديون و تعويضات تقدر بعدة مئات من مليارات (بليارات) الدولارات ، ومفروض عليه التقيد بتدمير أسلحة الدمار الشامل و التخلي عن امتلاكها مستقبلا ، و لهذا الغرض سيبقى العراق تحت الرقابة المستمرة، و تبقى تجارته الخارجية خاضعة للرقابة لمنع استيراد السلع ذات الاستخدام المزدوج ، طبقا للقرار رقم 687 ، و يتحمل العراق نفقات القيام بمهمات الرقابة و التحقق. و ليس عليه فقط تنفيذ هذه الشروط والامتثال لكل القرارات ذات الصلة و الممكن التحقق منها بل تبقى مهمة " ضرورة التأكد من نوايا العراق السلمية " مستمرة ايضا كما جاء في القرار المذكور، وعليه " اتخاذ الخطوات الضرورية لاثبات نياته السلمية تجاه دولة الكويت و دول المنطقة، قولا و عملا، من اجل تجنيب المنطقة ويلات تكرار تلك الكارثة ، و تحقيق الأمن و الاستقرار لكل دول المنطقة" ، كما جاء في البيان الختامي للقمة الخليجية أواخر عام 97
يقدر الاقتصاديون إن العراق أمام مستقبل قاتم ، ويحتاج إلى عشرات السنين ، ليعود باقتصاده الى مستوى عام 1960.ان جسامة الجهود و المواد اللازمة لإعمار العراق و تسديد الاستحقاقات المفروضة عليه تتطلب وضع أوليات تؤمن توفير الحد الأدنى من الضرورات المعاشية و الصحية و التربوية ومكافحة الفلتان الأمني وتزايد الجرائم ، جرائم السلب و النهب والقتل والاختلاس المستشرية و المتزايدة باستمرار. هل يمكن تحقيق مهمة إعادة اعمار الوطن ، الذي بات كله بصرة حل بها الخراب، و في نفس الوقت تجري إعادة بناء الجيش؟ هل يجوز لبلد جائع ان يضع إعادة بناء جيشه في سلم الأولويات؟ هل يمكن لعراق تحت الوصاية أن يعيد تسليح جيشه لدرجة تجعله قادرا عسكريا على الدفاع عن الوطن ضد اي اعتداء؟ هل حقا ان إعادة بناء الجيش هي الوسيلة الوحيدة للحفاظ على سلامة العراق و أمنه الخارجي؟ هل ان دور العراق العربي والإقليمي يتوقف على قدراته العسكرية فقط.؟ أما يمكن للعراق بعد صدام أن يضمن أمنه وسلامته دوليا وإقليميا بربط التزامه في التخلي عن أسلحة الدمار الشامل وعن أية أطماع إقليمية وتخليه عن إعادة بناء الجيش، و الاستفادة مما في قرارات الأمم المتحدة من تأكيد على ضمان حرمة الحدود الدولية للعراق.؟ ان قيام عراق بدون جيش هو اضمن خطوة للتأكد من نواياه السلمية. والسبيل الممكن لانصراف العراق لاعادة اعمار البلاد و توفير لقمة الغذاء وحبة الدواء، ويشارك سلميا في تحقيق نظام للأمن والسلام في المنطقة، و يخصص نسبة محدودة من ميزانيته لصندوق للدفاع من اجل تمويل قوات من الأمم المتحدة عند حدوث خطر عدوان عليه بدل إهدارها على جيش دائم لن يصل في مستقبل منظور إلى درجة تمكنه ذاتيا من حماية حدوده. ان قيام عراق مسالم بدون جيش، تضمن حرمة حدوده و أمنه الأمم المتحدة المسئولة عن رصد امتثال العراق للتخلي عن أسلحة الدمار الشامل، هو في صالح جميع دول المنطقة ، فلا يكون مصدر تهديد لجيرانه ، مما يحد من الإنفاق العسكري في المنطقة، ويكون دافعا لجعل المنطقة كلها خالية من أسلحة الدمار الشامل ، وتحقيق رقابة متوازنة وشاملة للأسلحة في المنطقة الهدفان الذان حددهما القرار 687 ،و ضاعا في ضجيج الأزمات التي افتعلها النظام العراقي. ويساعد في تفعيل التضامن العربي ومؤسسات الجامعة العربية وإقامة نظام أمن وتعاون إقليمي في المنطقة ،
وليست هذه فكرة لا سابقة لها إطلاقا، فكوستاريكا تعيش بدون جيش منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية دون ان تتعرض لعدوان، و بقيت ألمانيا ، الدولة العظمى في اوربا، دون جيش طوال عشرة أعوام بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية ، و لولا اشتداد الحرب الباردة و المجابهة بين حلفاء الأمس ، لما فسح لها مجال إعادة بناء الجيش وتسليحه . انها تساؤلات للبحث عن حل استثنائي لوضع استثنائي ، تساؤلات تجر أخرى وراءها ، مثل البحث عن سبل سلمية لحل المشاكل القائمة والمحتملة في المنطقة ،حول الحدود والمياه ومسيرة السلام بين العرب وإسرائيل والقضية الكردية ، تساؤلات تحتاج لاراء و دراسات ذوي مختلف الاختصاصات بما فيهم العسكريون الوطنيون ،تحتاج لتتبع ما يدور في العالم من دراسات حول دور الجيش والتسلح،في ألمانيا مثلا يطرح الخبير في نزع السلاح إيغون بار فيما اذا كان بقاء البوندسفير(جيش ألمانيا) قائما يتفق مع الدستور الألماني بعد تبدل الوضع السياسي جذريا مع انتهاء المجابهة بين الشرق والغرب ، ويؤكد على أن أوربا الغربية غير قادرة على اللحاق بالتفوق العسكري الأمريكي،وان من المضحك أن تسعى أوربا لمنافسة أمريكا عسكريا، ,ان الفجوة العسكرية ستتسع بدل أن تتضاءل، وأن قوة أوربا الغربية هي في استقلاليتها السياسية لا العسكرية. انها تساؤلات تحتاج لتحريك و تنشيط النقاش حولها ، دون إن تشغل قوى المعارضة عن المهمة الرئيسية: مهمة خلاص العراق و المنطقة من هذا النظام ، واقامة نظام ديمقراطي تعددي لا يشكل خطرا على جيرانه.
في مقابلة الدكتور النصراوي يدعو إلي ان " الوضع الصحي و المعاشي و التربوي ينبغي ان تكون له الاولوية بعد الحرمان الطويل " ويدعو باستحياء و خجل بل ربما بنوع من الوجل ، اذ ان فيما يدعو اليه مس بواحد من قدس الاقداس ، بواحد من الاغلاط التي صيرتها كثرة الترديد واحدة من الحقائق ، انه يدعو الى امكان اهمال:" بعض المنشآت المهدمة مثل المنشآت العسكرية التي لا حاجة اليها في عراق مسالم " .لكنه و ربما لبعض هذا الوجل لا يتعمق او لا يفصح عما يعنيه مثل هذا الرأي في آخر المطاف ألا هو : حل الجيش . ان أسلحة الدمار الشامل ليس فقط لا يحتاجها عراق مسالم بل هي محرمة عليه ، و سيخضع العراق لسنين طويلة للرقابة في هذا الخصوص. ما هي الأصناف من الجيش التي يحتاجها العراق لاعادة تعميره ؟ أيحتاج لمجموعة من صواريخ الحسين و العباس ؟ أيحتاج لقوة جوية محدد مجالها الجوي؟ أيحتاج إلي فرق الدبابات ؟ أيحتاج إلي صنف المدفعية و قد دمر المدفع العملاق قبل ان يصل المرحلة التجريبية؟ ان كانت ثمة مؤسسات في الجيش يحتاجها العراق المكتوب عليه أن يكون مسالما فهي فقط تلك التي لها علاقة بالشؤون المدنية و تحقيق الأمن الداخلي ومراقبة التهريب . ولهذه المهمات توجد حاجة للمنشآت الطبية العسكرية لتلحق بوزارة الصحة ، وصنف الأمور الهندسية يلحق بهيأة للأعمار ، و دوائر التجنيد تلحق بهيأة الإعمار و تقوم بسوق " المجندين" للخدمة المدنية الإلزامية في هيأة الإعمار الوطني .وبهذا توفر و تكثف الجهود و القدرات من اجل الإعمار و لا تبدد الأموال على حديد يصدأ أو يصهر قبل أدائه مهمته او يؤدي مهمته في قتل أبناء الوطن كما جرى في كردستان ، و حلبجة شاهد يجب الا ينسى، وكما جرى أثناء انتفاضة آذار/شعبان 91 و فيما بعد في الأهوار. صعب طرح مثل هذا الرأي وركام القرون الخوالي كله يقيد تفكيرنا و يجبرنا على تصديق الادعاء بضرورة وجود جيش من اجل الوطن ، و كذلك واقع " النظام العالمي الجديد" ذو القطب الواحد الذي يدين للقوة العسكرية لا للحق . ورغم هذا لا بد من الجهر بأن من غير الممكن إعادة تعمير العراق واعادة بناء الجيش في آن واحد . وهل يمكن مسك رمانتين موقوتتين في يد مشلولة؟ إن تحقيق ضرورة حل الجيش العسكري و إقامة هيأة اعمار الوطن على أساس الخدمة المدنية الإلزامية تحتاج إلى توافر جهود كل الحريصين على مستقبل الوطن من مفكرين وسياسيين وعسكريين أيضا يضعون مصلحة العراق فوق المصلحة الشخصية. أما مسألة حماية أمن العراق من عدوان خارجي فينبغي العمل من اجل ان تكون ضمن نظام أمن شرق أوسطي و خليجي ويتكفل مجلس الأمن الذي فرض القيود على عراق الغد ضمانه . وحربا الخليج برهان جديد على أن القوة العسكرية ليست حلا للمشاكل الدولية واستعادة الحقوق، وليست الضمان لتوفير الأمن وحماية الاستقلال الوطني .
ان العراق ، بتقديرات الاقتصاديين العراقيين ومنهم الدكتور فاضل الجلبي ، سيستدين ليأكل . أفليس من الكفر و الحرام ترك فرد جائع واحد يموت لتخصيص ما يكفي قوته يصرف على عتاد عسكري يصدأ أو يستبدل بأحدث منه بعد حين.
إن شعار هتلر : المدفع بدل الزبد ، قاد إلى إلغاء بروسيا من الخارطة الألمانية ، وسعيا وراء عراق مزدهر ينبغي ألا يكون شعارنا سوى :
كسرة خبز وحبة دواء بدل طلقة قتل.