"تقرير التنمية البشرية العربية":
"الشارع العربي" الفقير جداً...
يحلّل تقرير جديد للأمم المتحدة اسباب تقصير العالم العربي عن تحقيق امكاناته. وتكمن الاجابة في ثلاثة نواقص: في الحرية والمعرفة والطاقة النسائية. وفي غياب التقدم، يصبّ الشعب الساخط جام غضبه على الغرب.
ما الخطب الذي أصاب العالم العربي؟ لمَ هو متأخر في الزمن الى هذا الحد؟ لم يكن مقدّراً لهذه المنطقة ان تفتقر الى الحظوظ الجيدة، اذ ان ثروتها النفطية الهائلة والارث الثقافي والديني واللغوي الغني الذي تتقاسمه شعوبها كانا يؤهلانها لاجتناب استفحال الفقر او النزاع العرقي. كما أنها تخلصت منذ زمن طويل من آثار المرحلة الاستعمارية او النيو استعمارية. اما في ما يتعلق بالبلدان التي شهدت ثورات، فقد حان الوقت لكي تتعافى منها.
الا ان حكام المنطقة الاوتوقراطيين، سواء أكانوا رؤساء جمهورية أم ملوكاً، لا يتخلون عن سلطتهم الا عند وفاتهم، مع استثناء واحد بالكاد. والانتخابات محض مهزلة، ونصف الشعوب تعامل وكأنها كائنات اقل شأناً على الصعيدين القانوني والاقتصادي، وما يزيد على خمسين في المئة من الشباب الذين يعانون البطالة وقيود التقاليد الدينية المحافظة، يريدون على ما يقال الرحيل بأسرع وقت ممكن.
على موائد العشاء، من المغرب وصولاً الى الخليج، لكن في مصر خصوصاً وهي زعيمة العالم العربي الطبيعية، يتساءل المثقفون العرب الى ما لا نهاية عن اسباب اتخاذ الامور منحى سيئاً الى هذا الحد. وقد أمضى فريق من هؤلاء المفكرين عاماً كاملاً واضعين خبراتهم في تصرّف "تقرير التنمية الانسانية العربية لسنة 2002" الذي صدر هذا الاسبوع عن برنامج التنمية في الأمم المتحدة.
لا تحتل نقاط قوة العالم العربي مساحة كبيرة من التقرير، فنقاط ضعفه هي ما يثير اهتمام كاتبيه. وخلال الاعوام العشرة الماضية، دأبت تقارير التنمية الانسانية الخاصة ببرنامج التنمية في الامم المتحدة، على قياس اداء كل بلد بحسب سجّله في مجال متوسط العمر المتوقّع ونسبة ارتياد المدارس ومعدل الأمية لدى الراشدين، بالاضافة الى المدخول الفردي. لكن هذه هي المرة الاولى التي يأخذ فيها البرنامج منطقة محددة في الاعتبار ويلقي عليها نظرة شاملة.
ويشمل العالم العربي الاعضاء الاثنين والعشرين في جامعة الدول العربية، ويبلغ عدد سكانه في الوقت الحاضر 280 مليون شخص، او ما يعادل تقريباً عدد سكان الولايات المتحدة. ويراوح توزيع هؤلاء بين 68 مليوناً في مصر و565 ألفاً في قطر. وتتمتع المنطقة بأعلى نسبة من الشباب في العالم - 38 في المئة من العرب هم دون الرابعة عشرة - ويتوقع التقرير ان يتجاوز عدد سكانها الـ400 مليوناً في غضون 20 سنة.
لكن ثمة بعض الاخبار الحسنة: اذ ازداد متوسط العمر المتوقع بخمس عشرة سنة خلال العقود الثلاثة الاخيرة، وانخفضت وفيات الاطفال بمعدل الثلثين. اما المدخول الفردي العربي فهو أعلى من معظم المداخيل الفردية في المناطق النامية الاخرى (رغم ان مجموع الناتج المحلي الاجمالي، وهو 531 مليار دولار، هو أقل من الناتج المحلي الاجمالي لاسبانيا وحدها). وفي ما يتعلق بنسبة الفقر المدقع (وهو ما يحدّد بمدخول لا يتجاوز دولاراً واحداً في اليوم) فهي اقل منها في اي منطقة نامية اخرى في العالم، ويعود الفضل في ذلك الى تقاليد الاحسان الاسلامية والعربية.
لكن "المنطقة غنية اكثر منها متطوّرة".
ما زال عشرون في المئة من العرب يعيشون بأقل من دولارين في اليوم. وخلال الاعوام العشرين الماضية، كانت زيادة المدخول الفردي التي بلغت نسبة 0،5 في المئة سنوياً، اقل منها في اي مكان آخر في العالم، باستثناء افريقيا ما تحت الصحراوية.
ويقول التقرير إنه بمعدل مماثل، سوف يحتاج العربي العادي الى 140 سنة لكي يضاعف مدخوله، وهو هدف من شأن مناطق اخرى ان تحققه في اقل من عشر سنين. ويعني جمود النموّ، الى جانب الارتفاع السريع في عدد السكان، تضاؤل فرص العمل. ويعاني حالياً نحو 12 مليون شخص، اي نسبة 15 في المئة من القوة العاملة، حال البطالة، وقد يرتفع هذا الرقم، اذا ما استمر الوضع في التدهور، الى 25 مليوناً مع حلول سنة .2010
إن العائق الذي يحول دون تحسّن الكفاية العربية ليس الافتقار الى الموارد، بحسب ما يورد التقرير، بل النقص المؤسف في ثلاثة عناصر جوهرية، الا وهي الحرية والمعرفة والطاقة النسائية. ويؤكد التقرير ان تلك هي النواقص التي تحول دون تحقيق العرب المحبطين كل ما تخولهم امكاناتهم تحقيقه، والتي تدفع في الوقت نفسه بقية العالم الى أن يحتقر هذا المزيج القاتل من الثراء والتخلّف، وأن يخافه في آن واحد.
بناء على تحليل برنامج التنمية في الأمم المتحدة، يفسّر النقص في الحرية عدداً كبيراً من المساوئ الاساسية التي يشكو منها العالم العربي: استمرار النظام الاوتوقراطي المطلق، اجراء انتخابات زائفة، الخلط بين السلطة التنفيذية والسلطة القضائية، القيود المفروضة على الوسائل الاعلامية وعلى المجتمع المدني. بالاضافة الى محيط اجتماعي أبوي ومتعصّب وخانق احياناً.
وتحفل المنطقة بزخارف الديموقراطية الخارجية، اذ تُعقد الانتخابات وتُوقّع معاهدات حقوق الانسان. الا ان الموجة الديموقراطية العظيمة الذي اجتاحت قسماً كبيراً من العالم خلال الاعوام الخمسة عشر الاخيرة لم تؤثّر على ما يبدو في البلدان العربية. وتمارس الديموقراطية في بعض الاحيان، الا أنها تقدّم كامتياز لا كحقّ.
اما حرية التعبير وحرية الاتحاد، فمحدودتان للغاية. ويستشهد التقرير بما أشارت اليه منظمة Freedom House الاميركية المختصة بمراقبة الحقوق السياسية والمدنية، من انه ليس ثمة وسيلة اعلامية حرة فعلاً في اي من البلدان العربية: ثلاثة بلدان فقط تملك وسائل اعلامية "حرة جزئياً"، اما الاخرى فغير حرة على الاطلاق.
والنقص في المعرفة مهول بالقدر نفسه. فرغم ان نسبة الناتج المحلي الاجمالي التي ينفقها العرب على التعليم هي أعلى منها في اي منطقة نامية اخرى، الا ان هذه الاموال لا تُنفق على ما يبدو في شكل فاعل. فنوعية التعليم قد تدهورت الى حد مؤسف، وثمة انعدام تناسب صارخ بين سوق العمل والنظام التعليمي. ورغم ان معدلات الامية لدى الراشدين قد انخفضت، الا انها ما زالت مرتفعة للغاية: اذ ان 65 مليون راشد أميّون، ونحو الثلثين هم من النساء.
وثمة عشرة ملايين طفل لا يرتادون المدرسة على الاطلاق. اما الاستثمار في مجال البحوث والانماء، فهو اقل من سُبع من المعدل العالمي، وما لا يزيد على 0،6 في المئة من الشعب يستخدمون الانترنت. وفي ما يتعلق بنسبة اعتماد جهاز الكومبيوتر الخاص، فلا تتجاوز 1،2 في المئة.
ويرى التقرير ان المعاملة السيئة التي تعانيها النساء هي هدر مريع للامكانات: فكيف يمكن مجتمعاً الازدهار حين يعوّق تقدم نصف طاقته الانتاجية؟ اذ ان نصف النساء العربيات لا يُجدن القراءة ولا الكتابة، ومشاركتهن في حياة بلدانهن السياسية والاقتصادية هي الاقل في العالم.
تختلف الحكومات والمجتمعات في درجات المعاملة السيئة التي تخص بها النساء، لكن النساء يعانين، في كل البلدان العربية تقريباً، انعدام المساواة في وضعهن المواطني وحقوقهن القانونية. ويملك برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة "مقياساً للمساواة بين الجنسين" يظهر بحسبه العرب في أسفل اللائحة تقريباً (وبحسب هذا المقياس، تحتل افريقيا ما تحت الصحراوية مرتبة اسوأ). الا ان الأمم المتحدة تمكّنت من تقويم هذه الناحية في 14 دولة فحسب من الدول العربية الاثنتين والعشرين، بما ان المعلومات اللازمة غير متوافرة في الدول الاخرى.
يمكن بلداً ما ان يعاني واحداً من هذه النواقص او اثنين على الاكثر من دون ان يعوّق ذلك تقدمه، بحسب ما قاله كلوفيس مقصود، وهو مصري نافذ ساهم في اعداد التقرير. فسنغافورة على سبيل المثال بلد مزدهر رغم افتقاره الى القدر اللازم من الحرية. لكن حين يعاني بلد او منطقة ما النواقص الثلاثة في آن واحد، فهما في مأزق حقيقي.
منذ مقاعد الدراسة، يتعلّم العرب انه يجب عليهم الا يتحدّوا التقاليد وان يحترموا السلطة وان يبحثوا عن الحقيقة في النص لا بواسطة الخبرة. الا ان هذا العدول عن البحث والاستفهام الذي تترسخ جذوره فيهم منذ الصغر، مسؤول عن جزء كبير من المشكلات التي يواجهونها. اذ إنه ثنى الشعب عن الشفافية والابتكار، فعوّق بذلك التقدم مساعداً على خلق جيش هائل من الشباب العرب المحبطين وغير الاكفياء والعاطلين عن العمل والعاجزين عن تغيير مجتمعاتهم بأساليب ديموقراطية. اما الاسلام فيمنحهم على الاقل احترام الذات الذي يُحرمون منه بالسبل الاخرى.
وفي مواجهة هذا العدد الهائل من الدروب المغلقة امامهم، ها أن بعضهم يصبّ الآن جام غضبه الخطير على العالم الغربي.
عن "الايكونوميست"
ترجمة جمانة حداد |