|
خيارات الشعب الفلسطيني في ظل انسداد آفاق -الحلول القريبة-
داود تلحمي
الحوار المتمدن-العدد: 2934 - 2010 / 3 / 4 - 04:40
المحور:
القضية الفلسطينية
شهدت المناخات التفاؤلية (الحذرة) التي انتشرت في أجواء منطقتنا إثر وصول إدارة باراك أوباما الى سدة الحكم في الولايات المتحدة في مطلع العام 2009 تراجعاً ملحوظاً في النصف الثاني من العام. وكان الرئيس الجديد، بأصوله نصف الإفريقية وخطابه السياسي الأكثر عقلانية وانفتاحاً من سلفه، قد أعطى انطباعاً قوياً، بعد يومين فقط من تسلمه لسلطاته الرئاسية، بأنه جاد في التعاطي مع معالجة الصراع العربي – الإسرائيلي وقضية الحقوق الفلسطينية، وذلك من خلال تعيين مبعوث خاص لقضايا هذا الصراع، ليس مدموغاً بميول إسرائيلية فاقعة، كما كان حال العديد من المبعوثين الرسميين الأميركيين السابقين للمنطقة، من وزير الخارجية هنري كيسنجر، في سبعينيات القرن الماضي، الى المبعوث الخاص دينيس روس، في التسعينيات الماضية. وهذا المبعوث الجديد، والمقصود جورج ميتشل، ذو كفاءة عالية في التعاطي مع الصراعات المحلية والإقليمية، وسبق وحقّق إنجازاً مهماً في معالجة مشكلة إيرلندا الشمالية في التسعينيات الماضية. وكان ميتشل عضواً في مجلس الشيوخ الأميركي لمدة 15 عاماً (1980-1995)، منها ستة أعوام كان فيها رئيساً لكتلة الأغلبية الديمقراطية في المجلس (1989-1995). ولكن الجولات الأولى للمبعوث الجديد، وكذلك بعض زيارات وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون للمنطقة، لم تعطِ مؤشرات إيجابية سريعة، في منطقة وصل فيها الطرف المغبون، الفلسطيني، الى حافة اليأس من مثل هذه الجهود ومن المسارات الدبلوماسية، بعد أكثر من 16 عاماً على اتفاق أوسلو و18 عاماً على مؤتمر مدريد، وأكثر من 42 عاماً على احتلال الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية، وقطاع غزة، وأكثر من 60 عاماً على النكبة الكبرى في العام 1948 وتهجير غالبية الشعب الفلسطيني من قراه ومدنه، وحتى من وطنه. فقد ظهر، في النصف الثاني من العام الأول للإدارة الجديدة، انها، خلافاً للإنطباعات الأولى التي أعطتها بعزمها على المضي بحزم في التعاطي مع الإستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تتراجع أمام التشدد الإسرائيلي في هذا المجال، وليست مستعدة لممارسة ضغط جدّي على حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة. لا بل بالعكس من ذلك، بدت هذه الإدارة وكأنها تتراجع أمام "ضغوط" تمارسها حكومة إسرائيل وأنصارها الكثر في مراكز القرار في واشنطن، وخاصة في مجلسي الكونغرس، وفي عدد هام من المنابر الإعلامية والمرافق الإقتصادية. وهي "ضغوط مضادة" سهّلتها أيضاً جملة الإحتقانات التي واجهتها إدارة أوباما في سياساتها الداخلية والخارجية منذ أشهرها الأولى، سواء بالنسبة لاستمرار مفاعيل الأزمة الإقتصادية، بما في ذلك استمرار تنامي نسب البطالة، أو مصاعب تمرير مشروع الرعاية الصحية، العزيز على قلب أوباما، في الكونغرس، أو الأوضاع العسكرية والأمنية المتفاقمة على جبهة أفغانستان- باكستان، حيث تزايدت الخسائر البشرية الأطلسية، وخاصة الأميركية، بنسب كبيرة، بعد قرار الإدارة الجديدة التركيز على هذه الجبهة. ناهيك عن التعقيدات المستمرة على الجبهة العراقية، مع تزايد العمليات التفجيرية، في وقت كانت ترغب فيه إدارة أوباما وضع قضية العراق وراء ظهرها، باعتبار أن مشروع الإنسحاب العسكري من العراق قبل نهاية العام 2011 مقرٌّ حتى منذ زمن الإدارة السابقة، وأن رئيس الإدارة الأميركية الجديد كان، بالأساس، من غير المؤيدين لهذه الحرب على هذه الجبهة.
هل هناك، فعلاً، "فرصة أخيرة" لحل "الدولتين"؟!
ومن المعروف أن لجنةً شكّلها الكونغرس الأميركي في العام 2006 وحملت اسم "مجموعة دراسة العراق"، وترأستها شخصيتان بارزتان من كلا الحزبين الكبيرين في البلد، وهما الجمهوري جيمس بيكر، وزير الخارجية الأسبق في عهد جورج بوش الأب في أوائل التسعينيات، والديمقراطي لي هاميلتون، الذي شغل عضوية مجلس النواب طوال 34 عاماً (1965-1999)، ترأس خلالها عدداً من لجان المجلس الرئيسية، هذه اللجنة خرجت بتقرير تم تقديمه الى الرئيس السابق جورج ووكر بوش يوم 6/12/2006، دعا في ما دعا إليه الى الإهتمام بمعالجة الصراع العربي - الإسرائيلي. ومما جاء في هذا التقرير، في هذا المجال: * "لا تستطيع الولايات المتحدة أن تحقق أهدافها في الشرق الأوسط إلا إذا تعاملت بشكل مباشر مع الصراع العربي - الإسرائيلي". * "كل القضايا المفتاحية في الشرق الأوسط... الصراع العربي - الإسرائيلي، العراق، إيران، الحاجة الى الإصلاحات السياسية والإقتصادية، التطرف والإرهاب، كلها متداخلة ومترابطة بشكل وثيق". * "من الضروري أن يكون هناك التزام متجدد ومتواصل من قبل الولايات المتحدة في مجال سلام عربي - إسرائيلي شامل على كل الجبهات". وفي حين ألقى جورج بوش بهذه التوصيات وراء ظهره، مكتفياً ببعض التحركات الدبلوماسية فارغة المضمون، من نمط عقد مؤتمر أنابوليس عام 2007، وتجديد الوعد المكرر، وغير الموفى به، بإقامة الدولة الفلسطينية قبل نهاية ولايته، كان هناك انطباع بأن إدارة أوباما، من خلال خطواتها الأولى في هذا المجال، كانت تتجه لأخذ هذه الإستخلاصات على محمل الجد. وصبّت في اتجاه تدعيم هذا الإنطباع تلك المذكرة الأخرى المثيرة التي تم تقديمها لأوباما، في بدايات ولايته، من قبل عشر من الشخصيات البارزة التي كانت تحتل في فترات سابقة مواقع مسؤولية رئيسية في الإدارات المتعاقبة أو المؤسسات المؤثرة في قراراتها، أعادت فيها التأكيد على نفس الإستخلاصات، مركّزة بشكل خاص على الجبهة الفلسطينية - الإسرائيلية، وبصيغة أكثر إلحاحاً من الوثيقة السابقة، المكرّسة أصلاً للعراق. حيث حملت المذكرة الجديدة عنواناً ملفتاً: "من أجل فرصة أخيرة للإتفاق على حل الدولتين، إسرائيل وفلسطين". ومن بين الشخصيات العشر البارزة الموقّعة على هذه المذكرة أسماء معروفة، مثل: برينت سكاوكروفت، مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جورج بوش الأب (1989-1993)، وزبيغنيو بريجينسكي، مستشار الأمن القومي للرئيس الأسبق جيمي كارتر (1977-1981)، ولي هاميلتون، عضو مجلس النواب السابق المشار إليه أعلاه، وجيمس وولفنسون، رئيس البنك الدولي الأسبق، وهنري سيغمان، مدير "مشروع الولايات المتحدة للشرق الأوسط"، وبول فولكر، محافظ سلطة النقد (الإحتياط الفيدرالي) الأميركي بين العامين 1979 و1987، والذي عاد ليحتل موقع مسؤولية حالية في إدارة أوباما، كرئيس لـ"المجلس الإستشاري لإعادة استنهاض الإقتصاد" في البيت الأبيض. وفولكر هو الذي قام، باسم الشخصيات العشر، بتسليم الوثيقة الى الرئيس الأميركي الجديد في آذار/مارس 2009. ومما جاء في هذه المذكرة: * "بالعكس من كونه حرفاً للأنظار عن بقية الأزمات الشرق أوسطية، فإن اتفاق سلام إسرائيلياً - فلسطينياً سيقود بشكل ملموس الى تسهيل تحقيق تحسن فيها". * "إن الأشهر الستة الى الإثني عشر القادمة ربما توفر الفرصة الأخيرة من أجل حل منصف وقابل للحياة وللإستمرار"... للصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. وتضمنت المذكرة، في ما تضمنت، مقترحاً مفصلاً بعض الشيء لمشروع حلٍ متدرج للصراع، يتضمن مرحلة انتقالية تتواجد فيها قوات دولية وإقليمية في الأراضي الفلسطينية المحتلة لعدة سنوات، الى أن يتم التسليم بقيام الدولة الفلسطينية المستقلة. وبما ان معظم هذه الشخصيات تعتبر مؤيدة لإدارة أوباما أو مقربة منها، كان منطقياً توقع شيء من التفهم من قبل هذه الإدارة لتوصيات هذه اللجنة. لكن التراجع الرسمي الأميركي، في النصف الثاني من العام 2009، عن المطلب الذي بدا ملحاً بالتجميد الكامل للتمدد الإستيطاني الإسرائيلي في القدس الشرقية وبقية الضفة الغربية المحتلة، ثم التصويت الأميركي ضد تقرير لجنة القاضي الجنوب إفريقي ريتشارد غولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة التي شُنّت في أواخر 2008 وأوائل 2009، والمدائح التي أخذت تكال من قبل بعض المسؤولين الأميركيين لرئيس الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بنيامين نيتينياهو، كلها صبّت ماءً بارداً على الرهانات السابقة للأوساط الرسمية الفلسطينية على أداءٍ سريع وتطوير ملموس في سياسات هذه الإدارة في المنطقة. خاصةً، وأن خطاب باراك أوباما الشهير في جامعة القاهرة في 4/6/2009 قد عزّز الإعتقاد لدى أوساط واسعة فلسطينية وعربية وإسلامية بأن تحولاً جدياً قد يطرأ على السياسات الأميركية المعهودة تجاه هذه المنطقة، بعد سنوات إدارة جورج ووكر بوش العجاف التي تميّزت بعدائية شديدة، ومتبادلة، تجاه المنطقة وقضاياها الرئيسية. وكانت المشاعر الشعبية السلبية تجاه الولايات المتحدة في المنطقة العربية - الإسلامية قد وصلت، في السنوات الماضية، حداً غير مسبوق، بما في ذلك في بلدٍ إسلامي، مثل تركيا، كان حتى فترة قريبة حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة ضد الإتحاد السوفييتي وحركة التحرر العربية، وحتى حليفاً قوياً لإسرائيل. حيث تغيّر المزاج الشعبي في تركيا بشكل جذري خلال السنوات القليلة الماضية تجاه الولايات المتحدة وتجاه إسرائيل على حد سواء، وهو ما كانت تعكسه استطلاعات للرأي كان يقوم بها مركز أميركي معروف، مثل مركز أبحاث "بيو" للجمهور والصحافة. حيث أظهرت بعض الأرقام أحياناً أن الرأي العام التركي أصبح، خلال السنوات القليلة الماضية، أكثر راديكالية في مواقفه السلبية تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل حتى من الجمهور في بعض البلدان العربية. ومهما كانت تقلبات وتطورات سياسة إدارة أوباما بشأن القضية الفلسطينية والصراع العربي- الإسرائيلي خلال الأشهر والسنوات القادمة من ولايته، أو ربما ولايتيه، فإن هذا التراجع أمام التشدد الإستيطاني الإسرائيلي أعطى انطباعاً قوياً بأن مسألة التعاطي مع الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والعربي – الإسرائيلي، لن تكون سهلة، وأن الحلول لن تكون، في كل الأحوال، قريبة، حيث أن المسائل التي يُفترض أن يتضمنها أي حل لهذا الصراع هي أعقد وأصعب بما لا يقاس من مسألة وقف التمدد الإستيطاني، سواء مسألة القدس الشرقية المحتلة عام 1967 أو قضية اللاجئين الفلسطينيين، أو قضايا الحدود ومصادر المياه، وغيرها من المسائل. وربما كان المبعوث الأميركي الى الشرق الأوسط، جورج ميتشل، أكثر واقعية حين قال في الكلمة التي ألقاها في البيت الأبيض ابان تكليفه بالمهمة، يوم 22/1/2009، بحضور كل من أوباما ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون، مشيراً الى الإنجاز الذي حققه في التسعينيات (بين العامين 1995 و1998) في معالجة الصراع الدامي الطويل في إيرلندا الشمالية، انه شهد سبعمئة يوم من الفشل ويوماً واحداً من النجاح.
حكومات إسرائيل المتعاقبة كلها رفضت التخلي عن الضفة الغربية
وحتى واقعية ميتشل هذه في حديثه عن تجربته في إيرلندا الشمالية تبقى نسبية حين يتعلق الأمر بقضية الحقوق والأراضي الفلسطينية، ناهيك عن سائر جوانب الصراع العربي – الإسرائيلي. فقضية الشعب الفلسطيني وحقوقه مطروحة على طاولة "الحل" منذ زمن طويل: وبالنسبة لمشروع "الحل" الأخير، أي عملية مدريد- أوسلو، فقد مرّ عليه زهاء العقدين من الزمن، منذ انعقاد مؤتمر مدريد في أواخر العام 1991. ووفق اتفاق أوسلو في أيلول/سبتمبر 1993، وهو الإتفاق الذي كان محط خلاف داخلي فلسطيني، كان من المفترض، نظرياً، أن نهاية المطاف لـ"الحل" وفق صيغة الإتفاق هو العام 1999، عام الإنتهاء المفترض للفترة الإنتقالية الوارد ذكرها في هذا الإتفاق. وها قد مضى عقد كامل من الزمن بعد هذه النهاية المفترضة، والفترة الإنتقالية تمددت بشكل تلقائي وبدون حدود ومواعيد جديدة للنهاية، بحيث بات هناك تخوف متزايد لدى المواطنين الفلسطينيين بأن هذه الحالة، المفترض أنها مؤقتة، قد تتحول الى حالة دائمة. خاصةً وأن الجانب الإسرائيلي تصرّف خلال هذه السنوات وكأنه يرسم "حلاً" من طرف واحد على الأرض، من خلال مواصلة تهويد القدس الشرقية المحتلة عام 1967 وتغيير تكوينها الديمغرافي وتوسيع حدود المدينة، التي جرى ضمّها، عنوةً، وفي تجاوزٍ صارخ للقانون الدولي، الى الدولة الإسرائيلية، كما من خلال الإستمرار المحموم في الإستيطان في أنحاء الضفة الغربية المحتلة الأخرى، واستكمال بناء الجدار الفاصل التوسعي، الذي يلتهم أجزاء إضافية من الضفة الغربية، تقترب مساحتها من حوالي عُشر مساحة الضفة الغربية. هذا، بالإضافة الى إجراءات تقطيع أوصال ما تبقى من الضفة الغربية من المناطق المأهولة فلسطينياً، بحيث لا تبقى عملياً هناك أراضٍ متصلة، يمكن أن تقوم عليها سيادة فلسطينية فعلية لاحقاً. ولم تبالِ حكومات إسرائيل المتعاقبة بالقرارات الدولية المتواصلة التي أدانت ضم القدس، وبناء المستوطنات، وإقامة الجدار العازل، بما في ذلك تلك الفتوى القانونية الهامة الصادرة عن محكمة العدل الدولية في لاهاي في 9/7/2004 والتي تقضي بعدم قانونية الجدار وبضرورة إزالته، كما وتعتبر كل العمليات الإستيطانية غير قانونية ومخالفة لمعاهدة جنيف الرابعة وللقانون الدولي. أحد أبرز مفاوضي الجانب الإسرائيلي في أوسلو في مطلع التسعينيات الماضية، أوري سافير، يروي في مقالة نشرتها له صحيفة "يديعوت أحرونوت" في أواخر تموز/يوليو 2009 (نقلتها صحيفة "الأيام" الفلسطينية في عدد يوم 23/7) ان المفاوضين الفلسطينيين في أوسلو طلبوا من الطرف الإسرائيلي عدم إقامة مستوطنات جديدة وعدم تدمير المستوطنات القائمة، لكن رد رابين وبيريس، والأخير كان آنذاك وزيراً للخارجية، كان "ان المستوطنات ستكون ضمن موضوعات التسوية الدائمة، ولكن ليس في نية الحكومة أن تقيم مستوطنات جديدة أو توسِّع المستوطنات القائمة"، كما أورد سافير. وأضاف: "في نظرة الى الوراء، يتبين أن الأمور لم تكن هكذا في الواقع. قبل اتفاقات أوسلو كان هناك 116،300 مستوطن في الضفة الغربية (طبعاً، سافير لا يحتسب هنا المستوطنين في القدس الشرقية المحتلة)، وبعد اتفاقات أوسلو وحتى العام 2007، أُضيف 159،745 مستوطناً للإقامة في هذه المنطقة". ويعقّّب: "بات عدد المستوطنين الجدد بعد أوسلو أكبر مما كان قبله، ومعظمهم تحت ذريعة النمو الطبيعي". وهذه الزيادة في عدد المستوطنين استمرت حتى خلال فترة حكومتي رابين وبيريس (1992- 1996)، وبعد التوقيع على اتفاق أوسلو، مما يظهر غياب النية لديهما في الإنسحاب الكامل من الضفة الغربية المحتلة في النهاية المفترضة لعملية أوسلو.
وفي واقع الأمر، بقي الجانب الإسرائيلي الرسمي المقرر، والمقصود آنذاك رئيس الحكومة اسحق رابين ووزير خارجيته وخلفه في رئاسة الحكومة شمعون بيريس، غير مسلّمٍ فعلاً بالحقوق الفلسطينية، بما في ذلك وخاصةً بالحق الفلسطيني في إقامة دولة مستقلة على الأراضي المحتلة عام 1967. وقد انتشرت روايات بعد اغتيال اسحق رابين في أواخر العام 1995، وفترة حكومة شمعون بيريس القصيرة بعده، ومن ثمّ مجيء حكومة الليكود واليمين المتطرف في العام 1996، تفيد بأنه لو بقي رابين حياً لكانت الدولة الفلسطينية قد أُقيمت في الموعد المفترض لها في رزنامة إتفاق أوسلو، وهو العام 1999. وفي واقع الحال، ليست هناك أية مؤشرات ملموسة تؤكد صحة هذه الفرضية. فحتى مدير مكتب رابين ابان رئاسته للحكومة بين تموز/يوليو 1992 وتشرين الثاني/نوفمبر 1995، إيتان هابر، أعاد التأكيد، في مقال نشره في صحيفة "يديعوت أحرونوت" في أواسط شهر حزيران/يونيو الماضي، في معرض التعليق على إشارة رئيس الحكومة الإسرائيلي الحالي، بنيامين نيتينياهو، في المداخلة التي ألقاها في جامعة بار- إيلان، يوم 14/6/2009، الى "الدولة الفلسطينية"، بأن "إسحق رابين لم يتحدث قط عن دولة فلسطينية"! أي ان رابين لم يحسم، وفق مدير مكتبه، حين وقّّع على اتفاق أوسلو مع القيادة المقررة في منظمة التحرير الفلسطينية في العام 1993، أمره بشأن طبيعة "الحل النهائي"، وأبقى الخيارات كلها مفتوحة، بما في ذلك خيار استمرار الإحتلال بشكل أو بآخر، أي خيار تأبيد صيغة الحكم الذاتي. ورابين نفسه هو صاحب العبارة المشهورة حول عدم وجود "مواعيد مقدسة"، بما يعني أنه لم يكن حتى ليتقيد، بالضرورة، بموعد العام 1999 لإنهاء المفاوضات حول "الوضع الدائم". وهو ما يؤكده أيضاً مدير مركز بيغن – السادات في جامعة بار- إيلان إياها، إفرايم عِنبار، الذي أصدر كتاباً بعنوان "رابين وأمن إسرائيل القومي"، حيث اعتبر أن رابين هو، بالأساس، رجل عسكري، وأنه، بمعزل عن الأسطورة التي حاكتها بعض أوساط "اليسار الصهيوني" بعد اغتياله حول كونه "بطل سلام"، فإن نظرة رابين الى هذا "السلام"، وفق عِنبار، كانت محكومة بغلبة الإعتبار الأمني لديه، بحيث يكون هذا "السلام" وسيلة لتدعيم أمن إسرائيل، حيث كان "رابين الحذر يؤمن بأن الإنتقال الى علاقات سلام بين إسرائيل وجيرانها يحتاج الى عقود"، وفق تقدير عِنبار. وما ينطبق على رابين، من حيث الموقف من مصير الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، ينطبق على من خلفه من رؤساء حكومات إسرائيل، بدءً بكل من شمعون بيريس (1995-1996) وإيهود باراك (1999-2001)، المنتميين في حينه الى حزب العمل ذاته (شمعون بيريس التحق في العام 2005 بالحزب الذي شكّله آريئيل شارون كانشقاق عن "الليكود"، وحمل اسم "كاديما"). وباراك هو الذي صرّح، بعد أن أنهى ولايته القصيرة كرئيس للحكومة، وهي الولاية التي شهدت في ما شهدت مناورته الماكرة في لقاء كامب ديفيد في صيف العام 2000 مع الرئيس الأميركي كلينتون والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، بأن الحل مع الجانب الفلسطيني ربما يحتاج الى الإنتظار الى ما بعد العام 2028، حين لا يتبقى هناك أحياء من اللاجئين الذين ولدوا في الأراضي التي أقيمت عليها إسرائيل في العام 1948! وربما يثير الإستغراب أكثر من الحديث عن نوايا سلام مفترضة لاسحق رابين، حديث بعض المقربين من آريئيل شارون، المعروف، منذ الخمسينيات الماضية، بمواقفه الصقرية المتطرفة ومغامراته العسكرية الدموية في فلسطين والمحيط العربي، ودعواته المتكررة في العقود الأخيرة للتوسع الإستيطاني في كافة أنحاء الضفة الغربية (الحث المتكرر للمستوطنين اليهود لاحتلال رؤوس التلال في الضفة الغربية)، بأنه لو بقي شارون في السلطة، أي لو لم يصب بالغيبوبة التي لا زال تحت وطأتها منذ مطلع العام 2006، لكانت الدولة الفلسطينية قائمة الآن! والمفارقة هنا أن أحد هؤلاء المقربين، والمقصود مدير مكتبه أبان رئاسته للحكومة، دوف فايسغلاس، كان في مقابلة شهيرة مع صحيفة "هآرتس" في 7/10/2004 قد أعطى تفسيراً مثيراً لمشروع شارون الذي كان مطروحاً آنذاك للإنسحاب، أو بالأحرى لإعادة الإنتشار، خارج قطاع غزة، وهو المشروع الذي جرى تطبيقه في الفصل الثالث من العام 2005، حين قال (أي فايسغلاس) بأن شارون استهدف عملياً إفشال الضغوط عليه للإنسحاب من الضفة الغربية ولتنفيذ "خارطة الطريق"، واستخدم تعابير طريفة في حينه، من نمط وضع "عملية السلام" في ما يشبه الثلاجة، وفرض شروط متلاحقة على الفلسطينيين قبل إعطائهم أي شيء، الى أن يصبحوا "فنلنديين"، على حد تعبيره. ومعروف أن فنلندا، الدولة الأوروبية الشمالية، تُعتبر، في تقييمات المراكز المختصة خلال السنوات الأخيرة، الدولة الأقل فساداً في العالم، وأحد البلدان الأكثر تطوراً على صعيد "التنمية البشرية"! وأبان رئاسته الأولى للحكومة الإسرائيلية بين العامين 1996 و1999، طرح بنيامين نيتينياهو تشبيهات طريفة في سياق الحديث عن مفهومه لـ"الكيان الفلسطيني" العتيد، حين أشار الى نماذج بورتوريكو وموناكو وأندورا. فالأولى، الواقعة في البحر الكاريبي، هي عملياً مستعمرة أميركية، وهناك أفكار حول احتمال ضمها الرسمي اللاحق الى الولايات المتحدة. وموناكو هي إمارة صغيرة (زهاء 33 ألف نسمة، وبمساحة تقل عن كيلومترين مربعين) تحيطها فرنسا من كل حدودها البرية وتتولى عنها كافة الشؤون الأمنية والعسكرية الخارجية. وأندورا هي دويلة صغيرة أخرى (أقل من 90 ألف نسمة، وبمساحة 180 كيلومتر مربع تقريباً) تقع بين فرنسا وإسبانيا، ويرأسها بشكل مشترك رئيس الدولة الفرنسي وأسقف أورخيل في إسبانيا، أي هي محكومة بصيغة سيادة ثنائية مسماة باللغة السياسية "كوندومينيوم"! وهذه النماذج التي اقترحها نيتينياهو معبرة تماماً عن مفهومه لسقف "الإستقلال" الذي يفكر فيه بالنسبة للكيان الفلسطيني، الذي يمكن أن يُسمّى "دولة"، كما هو حال كلٍ من موناكو وأندورا، إذا ما أراد الفلسطينيون هذه التسمية لكيانهم معدوم السيادة. ولا شك أن نيتينياهو الجديد في ولايته الثانية كرئيس حكومة لم يختلف كثيراً على هذا الصعيد عن نيتينياهو الأول. وحين أورد تعبير "الدولة الفلسطينية" في الخطاب الشهير الذي ألقاه في جامعة بار- إيلان بعد أيام من خطاب باراك أوباما في جامعة القاهرة، لم يكن يقصد أكثر من ترضية شكلية للإدارة الأميركية، لتمرير ما هو أهم بالنسبة له، وهو مواصلة التمدد الإستيطاني في القدس الشرقية والضفة الغربية. وهو ما حدث فعلاً، بحيث تراجعت إدارة أوباما، كما أوردنا، عن إصرارها على الوقف الكامل السريع للتمدد الإستيطاني. والطريف في هذا الصدد ما نقله الصحافي توني كارون في مجلة "تايم" الأميركية (عدد 14/7/2009)، عن والد نيتينياهو، بن تسيون نيتينياهو (وهو صهيوني متطرف كذلك)، بأن ابنه "لا يؤيد إقامة دولة فلسطينية، وهو ربط موافقته على الدولة بشروط يستحيل على الفلسطينيين القبول بها"، كما أوردت المجلة الأميركية! *** إذاً، باختصار، ، ليس هناك أي تسليم من قبل أية حكومة إسرائيلية، أو أي طرف إسرائيلي ذي شأن في الخارطة السياسية الإسرائيلية، بفكرة الدولة الفلسطينية المستقلة فعلاً. وهو ما أكدته بوضوح شخصية أميركية يهودية واسعة الإطلاع في هذا المجال، هو هنري سيغمان، مدير "مشروع الولايات المتحدة للشرق الأوسط" في نيويورك والأستاذ الزائر لجامعة لندن والمدير التنفيذي السابق للكونغرس الأميركي اليهودي بين العامين 1978 و1994، والذي شارك، كما أوردنا أعلاه، في صياغة المذكرة الموجهة لأوباما بشأن "الفرصة الأخيرة لحل الدولتين". يقول هنري سيغمان في مقال نُشر له في مجلة "لندن ريفيو أوف بوكس" بتاريخ 16/8/2007: "في الواقع، كل مبادرات السلام السابقة لم تصل الى أية نتيجة لسبب ليس لدى بوش ولا لدى الإتحاد الأوروبي الشجاعة السياسية للإعتراف به. هذا السبب هو الإجماع المتفق عليه منذ زمن بعيد من قبل النخب صاحبة القرار في إسرائيل بأن إسرائيل لن تسمح أبداً بقيام دولة فلسطينية تحول دون سيطرتها الفعلية، العسكرية والإقتصادية، على الضفة الغربية". ويضيف ان هذا الموقف الإجماعي لا يمنع إمكانية قبول إسرائيل بوجود عدد من الكيانات المعزولة عن بعضها البعض التي يمكن أن يسميها الفلسطينيون دولة، وذلك لتفادي قيام دولة ثنائية القومية، يمكن أن يصبح الفلسطينيون فيها أكثرية. وينتقد سيغمان في مقاله مروجي الأوهام حول "الإنسحاب" الإسرائيلي الذي نفذته حكومة شارون من قطاع غزة في العام 2005، موضحاً بأن وضع القطاع الجديد بعد "الإنسحاب" هو النموذج الذي أراده شارون لمجموعة لاحقة من "البانتوستانات الفلسطينية"، على حد تعبير سيغمان نفسه، بحيث "يُظهر لنا وضع غزة كيف ستكون عليه هذه البانتوستانات إذا ما تصرف سكانها بغير ما تريده إسرائيل". وليس هناك ما هو أوضح من ذلك في تفسير توجهات النخب الإسرائيلية الحاكمة والمسيطرة تجاه التطلعات والحقوق الفلسطينية. وقد أظهرت الإنتخابات الإسرائيلية المتعاقبة منذ العام 2001 بأن الأطراف القليلة "المعتدلة" بين هذه النخب، والمعروفة عادةً بتعبير "الحمائم"، قد تهمّشت الى حد بعيد، فيما تزايد نفوذ ووزن اليمين الأكثر تطرفاً ونزعةً عدائية تجاه الحقوق الفلسطينية والعربية، وهو ما ظهر بشكل فاقع في انتخابات الكنيست الأخيرة التي جرت في شباط/فبراير 2009.
أية بدائل أمام الشعب الفلسطيني؟
وواقع الرفض الإسرائيلي، الفعلي وليس بالضرورة اللفظي، لقيام دولة فلسطينية مستقلة في الأراضي المحتلة عام 1967 أكده مؤخراً مسؤول فلسطيني على صلة وثيقة بمركز القرار والعملية التفاوضية منذ بداياتها في مدريد في العام 1991، هو د. صائب عريقات، عضو اللجنة التنفيذية الحالية لمنظمة التحرير، الذي قال بوضوح، في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب. وُزّعت يوم 11/11/2009، ان "لحظة الحقيقة جاءت، وعلينا مصارحة الشعب الفلسطيني بأننا لم نستطع أن نحقق حل الدولتين من خلال المفاوضات التي استمرت ثمانية عشر عاماً"، وفق ما أوردته الوكالة. ويبقى أن يتم طرح السؤال الكبير: وماذا بعد؟ ماذا على حركة تحرر الشعب الفلسطيني أن تفعل الآن، بعد أن اتضح، أكثر من أية فترة سابقة، أن رهانات مطلع التسعينيات الماضية لم تقد الى النتيجة المتوخاة؟ الجواب ليس سهلاً، وليست هناك، بالتأكيد، حلول أو بدائل سحرية تفتح طرقاً سريعة نحو إخراج مشروع "حل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي" من مأزقه المستحكم الراهن. وليس لدى فرد وحده، أو مجموعة من الأفراد، إجابات سهلة. بل هناك حاجة لمناقشة مفتوحة في صفوف الشعب الفلسطيني، في الوطن المحتل وفي أقطار اللجوء والمهاجر المختلفة، لإعادة بلورة استراتيجية ورؤية وطنية تحررية مشتركة لعموم الشعب في كل أماكن تواجده، تشمل تحديد الهدف أو الأهداف بشكل واضح، على الأمد القريب وعلى الآماد الأبعد، كما تسعى لتوضيح جملة الوسائل والطرق التي تساعد على الوصول الى هذا الهدف وهذه الأهداف. وبشكل أولي، وكمدخل لمزيد من التعمق اللاحق في الموضوع، وللإسهام في طرح عناوين للنقاش الواسع المطلوب، يمكن تسجيل التالي: * ليس هناك أي حل قريب للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وليست هناك آفاق قريبة لإنجاز هدف الدولة المستقلة في الأراضي المحتلة عام 1967، ناهيك عن انتزاع حق اللاجئين والمشردين في العودة الى وطنهم وديارهم، الذي هو هدف أصعب، في ظل موازين القوى الراهنة في المنطقة، وفي ظل استمرار الغطاء الأميركي للمشروع الصهيوني، أي لـ"إسرائيل كدولة يهودية"، وهي صيغة تعني ضمناً رفض التغيير الديمغرافي الذي ستشكله ممارسة اللاجئين الفلسطينيين لحقهم في العودة الى وطنهم وديارهم. وغياب الأفق القريب لتحقيق الدولة المستقلة لا يلغي، طبعاً، إمكانية التحرك الفلسطيني باتجاهات مختلفة للتأكيد على هذا الحق، بما في ذلك من خلال التفكير بقرار فلسطيني أو دولي بإعلان السيادة الفلسطينية على الأراضي المحتلة عام 1967، بما في ذلك استصدار قرار من مجلس الأمن الدولي بهذا الإتجاه، إذا ما كان ذلك ممكناً. ولكن الموضوع يحتاج، طبعاً، الى دراسة جادة للخطوات اللاحقة المطلوبة بعد هذه الخطوة والإستعداد، بالتالي، للعواقب المحتملة لها على الأرض. * هدف "الدولة الواحدة" في حدود فلسطين الإنتدابية بين العامين 1922 و1948 هو أصعب بكثير وأبعد منالاً من هدف "الدولة الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1967"، لأنه يفترض تغييراً حاسماً وكبيراً في موازين القوى المحلية والإقليمية والدولية، ليست مؤشراته الأولية متوفرة ولا مرئية حتى الآن. دون أن يعني ذلك أن هذا الهدف ليس له مشروعيته ومنطقيته. لا بل هو الصيغة الوحيدة التي توفر الحل الجذري لكافة جوانب القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، بما في ذلك ممارسة اللاجئين لحقهم في العودة، وتمتُّع "فلسطينيي 48"، كما نسمّي أهلنا الفلسطينيين الذين بقوا على الأراضي التي أقيمت عليها دولة إسرائيل في العام 1948، وحملوا بالتالي جنسيتها، تمتعهم بحقوق المواطنة الكاملة على أرضهم، باعتبارهم، ومجمل الشعب الفلسطيني، أصحاب البلد الأصليين، كما هو حال السود في جنوب إفريقيا، أو من يُطلق عليهم خطأ تعبير "الهنود الحمر" في نصف الكرة الأرضية الغربي، أي أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية. وممارسة الإفريقيين السود في جنوب إفريقيا لحق المواطنة الكاملة في بلدهم، كما والإجراءات الدستورية الجديدة التي طُبّقت مؤخراً في بلد مثل بوليفيا، في أميركا الجنوبية، بالإعتراف بحقوق كافة السكان الأصليين للبلد، كلها تشكّل النموذج الذي يمكن أن يكون عليه الحل الجذري في فلسطين، بعد أن تتوفر الشروط الموضوعية لتحقيقه. وهي، كما ذكرنا، بعيدة التحقيق حالياً. ولكن من حق الفلسطينيين والإسرائيليين اليهود الديمقراطيين الجذريين، مهما كان عددهم قليلاً حالياً، أن يعملوا من أجل التمهيد لتوفير هذه الشروط. أما الصيغة التي ستكون عليها هذه "الدولة الواحدة"، فمن المبكر الدخول في تفاصيلها، ويكفي التأكيد على ضرورة كونها دولة ديمقراطية حقاً يتمتع فيها كل المواطنين بكل حقوقهم، الجماعية والفردية، وفق صيغ يتم التوافق عليها حين يتم الإقتراب من تحقيق هذا الحل. * من الخطأ، في الوقت ذاته، التخلي عن المطالبة بإنهاء الإحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية التي جرت السيطرة عليها إثر حرب العام 1967. فحتى وإن كان هذا المطلب الفلسطيني لم يتحقق حتى الآن، بعد أن طُرح على جدول الأعمال الفلسطيني منذ العام 1973 وبصيغ متدرجة الوضوح في الدورات المتعاقبة للمجلس الوطني الفلسطيني منذ العام 1974 وصولاً الى صيغة "إعلان الإستقلال" في العام 1988، فهو قد كرّس مسألة هامة في المؤسسات الدولية والقانون الدولي، وهي إقرار عالمي شبه شامل، باستثناء إسرائيل، بكون هذه الأراضي هي أراضٍ واقعة تحت الإحتلال، وأن الإستيطان الإسرائيلي فيها وبناء الجدار التوسعي العازل وتهويد القدس كلها خروقات فاضحة للقانون الدولي، كما أكدت ذلك جملة من قرارات مؤسسات منظمة الأمم المتحدة، بما في ذلك مجلس الأمن الدولي، وكذلك الفتوى القانونية الهامة لمحكمة العدل الدولية في لاهاي التي أشرنا إليها والتي صدرت في أواسط العام 2004. وفد حقق الشعب الفلسطيني خلال هذه المرحلة، الطويلة نسبياً، إنجازاً قد يبدو الآن معطىً مسلّماً به وطبيعياً، ولكنه لم يكن كذلك في الخمسينيات والستينيات الماضية، وهو الإعتراف العالمي بوجود الشعب الفلسطيني كشعب له حقوقه الوطنية، وليس فقط مجموعة من اللاجئين ذوي الإحتياجات الإنسانية. وهذا الإعتراف العالمي بالحقوق الوطنية يشمل الحق في تقرير المصير، بمعزل عن التعطيل الذي مارسته الإدارات الأميركية المتعاقبة، بشكل خاص، لمنع تطبيق هذه القرارات وترجمة هذه الحقوق على الأرض، ومواصلة هذه الإدارات حماية إسرائيل من أية محاسبة وإجراءات عقابية كتلك التي مورست في السبعينيات والثمانينيات بحق نظام جنوب إفريقيا العنصري، والتي قادت، في نهاية المطاف، مع جملة من العوامل الأخرى، الى الإطاحة بهذا النظام، وإنهاء حقبة الفصل العنصري والتمييز بين المواطنين على أساس العرق واللون والجذور الإثنية. ذلك ان أي تخلٍ من الجانب الفلسطيني عن المطالبة بإنهاء الإحتلال الذي قامت به إسرائيل في العام 1967 لا يفتح الطريق أمام خيارات أكثر تقدماً، بل هو يتيح لإسرائيل أن تعطي مشروعية لمواصلة عملياتها الإستيطانية في القدس والضفة الغربية المحتلتين، بدون أن تقلق من كونها تقوم بخروقات للقوانين والقرارات الدولية. حتى وإن كان قلقها الحالي محدوداً ولا يجد له انعكاساً على الأرض. وفي نهاية المطاف، وحين تتوفر الضغوط الكافية، ستضطر إسرائيل الى الرضوخ، كما حصل مع نظام جنوب إفريقيا العنصري، مهما طال الزمن، وبالرغم من الوقائع التي تفرضها إسرائيل على الأرض، طالما يبقى الشعب الفلسطيني صامداً على أرضه وموحداً، عليها وخارجها، في تمسكه بحقوقه الوطنية. * وتقصير الزمن، واختزال معاناة الشعب الفلسطيني الكبيرة المستمرة منذ زهاء القرن من الزمن، وعلى الأقل منذ عام النكبة قبل أكثر من ستين عاماً، هما أمران مهمان، ويتطلبان بالتالي جهداً كبيراً من كل الأطراف الفلسطينية المعنية، ومن مجمل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده، لاستنهاض كافة عوامل القوة الذاتية، من جهة، بما في ذلك رص الصفوف وبناء وحدة وطنية قوية والتوافق على استراتيجية نضالية موحدة، متعددة الأشكال والجبهات، وفق تقديرات عقلانية لجدوى هذه الأشكال ودرجة إسهامها في تقدم عملية التحرر، الى جانب استنهاض عوامل الدعم والمساندة العربية والدولية، بكل أشكالها الفاعلة والمؤثرة. * وفي مجال استنهاض عوامل القوة الذاتية، من الضروري إعادة الإعتبار لدور وفعالية كل مكونات الشعب الفلسطيني، بدون استثناء، سواء سكان الأراضي المحتلة عام 1967، أو الفلسطينيين المشردين خارج وطنهم في أقطار اللجوء والمهاجر المختلفة، أو "فلسطينيي 48" من موقعهم ومكانتهم في التصدي لبعض جوانب القهر الإحتلالي، كما كان واضحاً، على سبيل المثال لا الحصر، في تحركات التضامن مع انتفاضات الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة عام 1967 وفي الدفاع عن المواقع الدينية والتاريخية الهامة في القدس الشرقية المحتلة، التي يجري الحؤول دون وصول سكان الضفة الغربية المحتلة اليها. ومن الإنصاف، لا بل من الضروري والملح، إعادة الإعتبار لدور وفعالية ذلك القسم الكبير من الشعب الفلسطيني الموجود خارج الوطن، والذي كان له دور أساسي في إعادة إحياء النضال الفلسطيني وحركة التحرر المعاصرة منذ الخمسينيات والستينيات الماضية، وذلك عبر التأكيد على أهمية التمسك بحق اللاجئين في العودة الى وطنهم واستعادة حقوقهم المشروعة فيه وفي التعويض عن الإضرار التي لحقت بهم منذ تهجيرهم، وضرورة مواصلة المطالبة بإنجاز هذا الحق، مهما طال الزمن في توفير شروط ترجمته على أرض الواقع. وهذا العنصر، أي حق العودة، هو جزء هام وأساسي في أي حل جذري للصراع في المنطقة، ولا يمكن الوصول الى حل ناجز بدون تلبيته. وفي الوقت ذاته، من المهم بناء مقومات الصمود والإستمرار في المسيرة النضالية لعموم الشعب الفلسطيني، من خلال توفير شروط حياة كريمة لكل تجمعاته، سواء من ناحية السكن اللائق أو الحق في العمل وتوفير مقومات الحياة الأساسية، سواء في الأراضي المحتلة أو في مخيمات اللجوء. ومن الخطأ ربط الصمود والتمسك بحق العودة بإبقاء المواطنين الفلسطينيين في ظروف حياة غير إنسانية، كما هو الحال في العديد من المخيمات في الوطن وخارجه. كما من الضروري التركيز في السياسات الإقتصادية والإجتماعية في الأراضي المحتلة عام 1967 على أهمية العمل على توفير استقلالية الإقتصاد الفلسطيني هناك، ولو بشكل متدرج، عن اقتصاد دولة الإحتلال كما عن استمرار الإعتماد، الى حد كبير، على التمويل الخارجي. * وعلى صعيد استنهاض الدعم والمساندة على المستويين العربي والدولي، يمكن التفكير بصيغ عديدة، تحتاج، بالتأكيد، الى تفصيل وتطوير مستمرين. ويمكن الإشارة السريعة هنا الى أهمية إجراءات "المقاطعة وسحب الإستثمارات والعقوبات" المعروفة بالأحرف الأولى بالإنكليزية BDS التي يجري العمل على تطبيقها، بدفع وتشجيع من الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية النشطة، من قبل العديد من النقابات والمؤسسات الإجتماعية والدينية والجامعات في أنحاء العالم، وأهمية الإستمرار في العمل، انطلاقاً مثلاً من تقرير لجنة غولدستون حول جرائم الحرب الأخيرة على قطاع غزة، على إقرار عقوبات وإجراءات محاسبة ملموسة، كي يشعر المسؤولون الإسرائيليون بأن انتهاكاتهم لن تبقى تمر بدون عقاب. * طبعاً، استنهاض الدعم للنضال الفلسطيني في كافة مناطق العالم، بدون استثناء، ضروري وهام، ولكن هناك وضع خاص للولايات المتحدة، لكونها الدولة الكبرى التي توفر الدعم المادي والعسكري الأساسي والغطاء السياسي المتواصل لإسرائيل، وتحول، حتى الآن، دون إلزام إسرائيل باحترام القانون الدولي وقرارات الهيئات الدولية. ولذلك هناك أهمية لكل تأثير خارجي أو داخلي على مراكز القرار في واشنطن لإحداث تغيير في مواقفها المنحازة لإسرائيل وسياساتها الإحتلالية نحو مواقف أكثر توازناً وانسجاماً مع مواقف وقرارات الشرعية الدولية. وهنا نستذكر أن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغن (1981-1989) كان يتلكأ في ممارسة الضغوط على نظام جنوب إفريقيا العنصري، من منطلق اعتباره هذا النظام حليفاً مهماً في معركته الكونية آنذاك "ضد الإتحاد السوفييتي والشيوعية"، الى أن أدى الضغط داخل الولايات المتحدة ومن دول العالم الأخرى الى التغيير في الموقف الرسمي الأميركي، مما ساهم في تقصير عمر نظام التمييز العنصري. وبالطبع، ليست المقارنة سهلة هنا، نظراً للعلاقة التاريخية الخاصة بين النخب الحاكمة والمؤثرة في الولايات المتحدة وإسرائيل وترابط المصالح الواسع بين الطرفين. لكن الباب ليس مغلقاً على أمد أطول. وهناك بعض البدايات المشجعة في السنوات القليلة الماضية، من خلال النقد المتزايد لتأثير "اللوبي الإسرائيلي" في الولايات المتحدة على سياستها في منطقتنا. ويمكن هنا اعتبار بدايات تشكل "لوبي يهودي معتدل" نوعاً ما، يعرف باسم "جي ستريت"، عقد مؤتمره الأول في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2009، مؤشراً إيجابياً، الى حد ما، وإن ما زالت المسافة مع نفوذ "إيباك"، اللوبي الإسرائيلي اليميني الرئيسي، ما زالت كبيرة. ولكنها بداية تستحق الإهتمام والمتابعة. وأي تحول في وسط الجاليات أو المواطنين ذوي الأصول اليهودية، سواء في الولايات المتحدة أو في بلدان أوروبا وبلدان العالم الأخرى، أو داخل إسرائيل نفسها، على محدودية حجم التحول الجاري فيها حالياً، هو أمر هام بالنسبة للشعب الفلسطيني وللسلام الحقيقي في منطقتنا. لأن التأثير المتراكم لهذه التحولات، ومجمل العوامل الأخرى، هي التي ستقود، في نهاية المطاف، الى توفير الضغط الضروري لتقصير عمر الإحتلال والقهر الممارس بحق الشعب الفلسطيني، وشعوب الجوار العربي الأخرى، وفتح آفاق إنهاء المعاناة والظلم ووضع حد لفصل دموي مظلم في تاريخ المنطقة، وفتح صفحة مرحلة تاريخية جديدة في المنطقة. كل هذه العناوين هي أفكار عامة، وقابلة، بالضرورة، للنقاش والإغناء والتفاعل مع أفكار أخرى، يمكن أن تأتي في سياق هذا الجدل الضروري في مرحلة البحث هذه عن مداخل لاستراتيجية فعل ونضال، طويلة النفس بالضرورة، لإنجاز حقوق الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة في الحرية والإستقلال والسلام الحقيقي القائم على احترام كرامة الشعوب والبشر، بديلاً لـ"سلام" القهر وفرض إرادة الأقوى، الذي لا زال حكام إسرائيل يحلمون به. ----------- * أُنجزت هذه المادة في أواخر العام 2009. وتُنشر في العدد الجديد من فصلية "مجلة الدراسات الفلسطينية" التي تصدر في بيروت والقدس عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
#داود_تلحمي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العقد الثاني من القرن: الأزمة الإقتصادية الرأسمالية مستمرة..
...
-
يسار أميركا اللاتينية في عقده الثاني...التيار الجذري هو الذي
...
-
اليسار الياباني مرشّح لتأثير أكبر على سياسات البلد
-
هل تفتح الأزمة الإقتصادية العالمية آفاقاً جديدة أمام اليسار؟
-
اليسار الأوروبي: هل من مؤشرات للخروج من المرحلة الرمادية؟
-
لماذا تراجع اليسار في انتخابات الهند الأخيرة؟
-
على خلفية خطوات فنزويلا وبوليفيا التضامنية ابان محنة غزة...
...
-
من ستالينغراد، عام 1943، الى معارك جورجيا 2008... تطورات الق
...
-
حول سمات وآفاق الوضع الفلسطيني بعد الحرب على غزة (من ندوة لم
...
-
هل بالإمكان تجاوز الأزمة الإقتصادية العالمية بدون حروب كبيرة
...
-
نجاحات جبهة فارابوندو مارتي الإنتخابية في السلفادور تؤكد است
...
-
الحرب على غزة... وخطة شارون- داغان لتصفية مشروع الإستقلال ال
...
-
بعد عشر سنوات على رحيل عالم التاريخ والتراث هادي العلوي...ما
...
-
نهاية نهاية التاريخ..!
-
حول الموقف السوفييتي من مسألة فلسطين في العامين 1947-1948
-
حول بعض الملاحظاتٍ على كتاب -اليسار والخيار الإشتراكي-
-
في أربعين -الحكيم- جورج حبش... نكبات فلسطين المتعاقبة وتحديا
...
-
-اليسار والخيار الإشتراكي... قراءة في تجارب الماضي وفي احتما
...
-
90 عاماً على الثورة البلشفية في روسيا.... هل كان بالإمكان تف
...
-
حروب النفط والصراعات على منابعه وممراته مرشّحة للإتساع
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|