|
فتوى الشيخ البراك!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2933 - 2010 / 3 / 3 - 11:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
إذا أردتم أنْ تقيسوا "درجة تحرُّر (وتحضُّر) المجتمع"، أيُّ مجتمع، فلا تقيسوها بموازين من قبيل "ميزان الانتخابات البرلمانية والرئاسية"، الذي به نقيس درجة تطوُّر، أو منسوب، "الديمقراطية"، و"الحرِّية"، في تلك الانتخابات؛ فهذا "الميزان"، وعلى أهميته، ليس بأهمية "الميزان" الذي به نقيس درجة تحرُّر المرأة، فإنَّ درجة تحرُّرها هي نفسها، تقريباً، درجة تحرُّر المجتمع بأسره، على أنْ نفهم "الحرِّية"، أكانت حرِّية المرأة أم حرِّية الرجل، على أنَّها نَفْيٌ لـ "الإباحية"، أي التحلُّل من كل قيد أخلاقي (وغير أخلاقي) تحتاج إليه كل حرِّية حقيقية.
أمَّا ما حَمَلَني على قول هذا فهو "فتوى جديدة"، أصدرها الشيخ السلفي السعودي د. عبد الرحمن البراك (77 عاماً) وأحلَّ فيها قَتْل "مَنْ يبيح الاختلاط (في العمل والتعليم) بين الجنسين، مُعْتَبِراً إيَّاه "مرتدَّاً كافِراً (ويجب قتله بالتالي)".
الشيخ، في فتواه، وَصَفَ "الذي يسمح لأخته أو زوجته بالعمل، أو الدراسة، مع الرجال" بأنَّه "ديوث"؛ و"الديوث" من الرجال هو القواد على أهله، والذي لا يغار عليهم، ولا يخجل.
"المفتي"، تعريفاً، هو مختص بـ "الإفتاء"، يجيب دينياً (أي إسلامياً) عمَّا يشكل ويلتبس من أمور ومسائل في حياة الناس (الفرد أو الجماعة) المؤمنين، مبيِّناً لهم "الحُكْم الشرعي"؛ و"المفتي"، صفةً، هو، وبحسب ابن القيم، مُبْلِغٌ عن الله، وعن الرسول، أي أنَّ الرأي الذي يدلي به (أو الفتوى التي يُخْرجها) يجب، ولو من حيث النيَّة والقصد، أن يكون مِمَّا يُقرُّه الله ورسوله.
و"الفتوى"، مهما كانت منزلة مُخْرِجها، ودرجة أهليته؛ ولو كانت محل إجماع بين أهل الإفتاء، تظل رأياً لصاحبها، يصحُّ فيه قول الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب".
و"الأجرأ على الإفتاء"، على ما قال الرسول، "أجرأ على النار"؛ فإذا أراد "المفتي" أن يقي نفسه عذاب النار فإنَّ عليه أن يزن كل كلمة يقولها في فتواه، وأن يجتهد في جعلها، على ما يُقدِّر في نهاية مطافه الطويل الشاق، مستوفيةً لشروط نيله الثواب، وإلاَّ وجب عليه أن يكون "مفتياً سلبياً"، أي أن يقول "لا أعلم"، فإنَّ "من قال لا أعلم فقد أفتى".
و"الفتوى"، في بعض من أهم معانيها الدينية الإسلامية، يجب أن تكون بِنْتاً للحياة، والعصر، والواقع، فأهميتها وشرعيتها تُسْتَمدَّان أيضاً من ظرفي الزمان والمكان، ومن الحياة الواقعية للناس، بما تخلقه لهم من مصالح واقعية حقيقية، وبما تولِّده فيهم، ولديهم، من احتياجات واقعية حقيقية، ومتغيِّرة، فالدين كلمَّا أجاب عن الأسئلة بما ينفع الناس، ويلبِّي احتياجاتهم، ويمكِّنهم من العيش بما يوافِق زمانهم ومكانهم، وبما يراعي اختلاف ظرفي الزمان والمكان، تأصَّل في نفوسهم أكثر، وعَظُم ظهوره في سلوكهم وتصرُّفهم.
لا بدَّ من قول ذلك؛ لأنَّ الناس في المجتمع المسلم في ميل متزايدٍ إلى طلب الفتاوى؛ وهذا الميل هو جزء من ميلهم الأوسع إلى أن يزنوا كل تصرُّف (فردي أو جماعي) بميزان الحلال والحرام، فتلوين كل منحى من مناحي حياة الأفراد والجماعات بلون الدين الإسلامي، والذي هو شمولي الطبيعة، هو ما يستبدُّ بتفكير كثير من الناس، أو أكثريتهم.
ومن هذه "الحاجة السلوكية ـ الدينية" التي في اشتداد وتعاظم، يَنْفُذ إلى عقول الناس كثيرٌ من المُغْرضين في "فتاواهم"، والمتَّجرين بها، والذين، عن وعيٍ أو عن جهلٍ، يريدون لفتاواهم أن تكون مُسيِّراً لكثيرٍ من المسلمين (والشباب منهم على وجه الخصوص) بما تشتهي مصالح وأهداف قوى تلبس لبوس الدين توصُّلاً إلى سَتْر عدائها للشعوب الإسلامية، بمصالحها وحاجاتها الواقعية الحقيقية غير الوهمية.
في فتاواهم تَصْغُر العظائم، وتَعْظُم الصغائر، فالأمور والمسائل التي تضرب جذورها عميقاً في المصالح والحاجات العامة والأساسية للمسلمين، أفراداً وجماعات، لا مكان لها في فتاواهم على فيضها وكثرتها وتكاثرها؛ فلم نسمع قط أنَّ أهل الإفتاء قد توفَّروا على إخراج فتوى يؤكِّدون فيها للعامة من المسلمين أنَّ الديمقراطية ليست من الكفر في شيء، إنْ لم تكن من الإيمان، وكأنَّ لهم مصلحة تقضي بالتصالح مع ذوي المصلحة في إبقاء شعوبنا ومجتمعاتنا بمنأى عن الديمقراطية بخيرها وشرِّها.
فتاواهم إنَّما هي لتعظيم الصغائر؛ وكيف لها أن تكون غير ذلك وأصحابها لا ينطقون إلاَّ عن هوى مصالح صغيرة لهم، تهوي بنا، إذا ما صدَّقناها، وأخذنا بها، إلى الدرك الأسفل من النار التي يُعدُّونها لنا بالتعاون مع قوى جُبِلَت على العداء لحقوقنا الديمقراطية، ولقضايانا ومصالحنا القومية؟!
إنَّ أحداً منهم لم يجرؤ على أن يفتي بما يسمح بتذليل العقبات من طريق قيام صحافة حرَّة في الدول العربية؛ ولكنه لم يخجل من أن يمتثل لمشيئة شياطين الاستبداد، وأن يصنع لهم فتوى يبيح لهم فيها "جلد الصحافي" الذي ينشر أخباراً غير صحيحة، أو تُشهِّر بوزراء ونوَّاب..
حتى تحرير المرأة، وتحرير العلاقة بين نصفي المجتمع، بما يرفع منسوب الحرية في المجتمع، ويزاوِج بين تديُّنه وتحضُّره، لم تشمله الفتاوى إلاَّ بما يؤدِّي إلى رفع منسوب الرذيلة، فالمرأة، بحسب "فتوى إرضاع الكبير"، ينبغي لها أن تُرْضِع زميلها في العمل (والذي تعمل معه في غرفة واحدة) خمس رضعات، فيصبح، بالتالي، محرَّماً عليها، فتكشف عن شعرها وتَخْلع الحجاب أمامه؛ وتتحوَّل "الخلوة"، بحسب تلك "الفتوى"، من "غير شرعية" إلى "شرعية". "الرذيلة"، بحسب "فتوى" الدكتور عزت عطية، رئيس قسم الحديث في كلية أصول الدين في جامعة الأزهر، والذي أثبت أنَّه مُرْضِعة لفساد أخلاقي عظيم، إنَّما هي "الاختلاط" بين الجنسين في العمل؛ أمَّا "الفضيلة" فهي أن تكشف المرأة لزميلها (ولكثيرٍ من زملائها من ثمَّ) عن صدرها لترضعه خمس رضعات (لا أكثر ولا أقل)!
جمال البنا، الذي يوصف بأنَّه "مفكِّر إسلامي"، أراد أن يحل مشكلة "الطرف الثالث"، وهو إبليس، فالمرأة والرجل (من غير المتزوِّجين، أو من غير المحارم) ما أن ينفردا في خلوة حتى يصبح ثالثهما إبليس، فيزيِّن لهما الرذيلة وارتكاب الحرام. لقد حلَّها إذ حلَّل القبلات بين الجنسين في الأماكن العامة، أي على مرأى من الناس، ففي المكان العام يُحَلَّل ما يُحرَّم في الخلوة، التي هي أيضاً محرَّمة!
حتى "الشيخ" نزار قباني لم يجرؤ على قول ما قاله "المفكِّر الإسلامي" جمال البنا، فقصارى قوله كان "إذا ما اجتمع رجل وامرأة خرج الشيطان"!
أمَّا أعظمهم شأناً ومكانةً في دنيا الإفتاء إلا وهو مفتي مصر الدكتور علي جمعة، والذي لم يُفْتِ قط إلاَّ بما يقيم الدليل على أنَّه علينا، وليس مِنَّا، فلم يَجِد من أمرٍ يستحق أن يُخْرِج فيه فتوى سوى "بول الرسول"، ففتى بـ "التبرُّك ببول الرسول"، ضارباً صفحاً عن حقيقة أنَّ الرسول بشر، وعن الآية "قل إنَّما أنا بشر مثلكم".
هذا المفتي ختموا على فمه، فلم يرَ ما يستدعي أن يُخْرِج فتوى يُحرَّم فيها أن يشارِك أي مسلم في الحصار الإسرائيلي (والدولي) المضروب على المسلمين، وعلى أطفالهم على وجه الخصوص، في قطاع غزة، وكأنَّه فضَّل أن يرى في جوعهم، وتجويعهم، امتحاناً لصلابة وقوَّة إيمانهم!
إننا في "عصر السرعة"؛ ولكننا لم نرَ من أثرٍ لهذه السمة لعصرنا إلاَّ في "الوجبات السريعة"، وفي "الفتاوى السريعة"، التي يطهونها لنا شيوخ الفضائيات في دقائق معدودات، لعلَّ المتضورين جوعاً إلى الفتاوى من أبناء مجتمعنا "يهتدون"!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحاسَّة الصحافية
-
بيان اليأس!
-
قانون -ولكن-!
-
المواقع الأثرية اليهودية.. قائمة تطول!
-
حَلٌّ يقوم على -تصغير الضفة وتكبير القطاع-!
-
حكومات مرعوبة تَلِدُ إعلاماً مرعوباً!
-
-تحرير- السلطة الفلسطينية أوَّلاً!
-
صناعة التوريط في قضايا فساد!
-
-فالنتياين-.. عيدٌ للتُّجار أم للعشَّاق؟!
-
الأمين العام!
-
عصبية -الدَّاليْن-!
-
مجتمعٌ يُعسِّر الزواج ويُيسِّر الطلاق!
-
العدوُّ الإيراني!
-
-التوجيهية-.. مظهر خلل كبير في نظامنا التعليمي والتربوي!
-
قصَّة نجاح لثريٍّ روسي!
-
-ضرائب دولة- أم -دولة ضرائب-؟!
-
-الإنسان-.. نظرة من الداخل!
-
-شجرة عباس- و-سُلَّم أوباما-!
-
هكذا تكلَّم الجنرال باراك!
-
-ثقافة الزلازل- عندنا!
المزيد.....
-
هكذا أعادت المقاومة الإسلامية الوحش الصهيوني الى حظيرته
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة-إيفن مناحم-بصلية
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تعلن استهداف مستوطنة كتسرين بصلية
...
-
المواجهات الطائفية تتجدد في شمال غربي باكستان بعد انهيار اله
...
-
الإمارات تشكر دولة ساعدتها على توقيف -قتلة الحاخام اليهودي-
...
-
أحمد التوفيق: وزير الأوقاف المغربي يثير الجدل بتصريح حول الإ
...
-
-حباد- حركة يهودية نشأت بروسيا البيضاء وتحولت إلى حركة عالمي
...
-
شاهد.. جنود إسرائيليون يسخرون من تقاليد مسيحية داخل كنيسة بل
...
-
-المغرب بلد علماني-.. تصريح لوزير الشؤون الإسلامية يثير جدلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف حيفا ومحيطها برشقة صاروخي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|