أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خالد إبراهيم المحجوبي - الفكر الجماهيري :نظرة نقدية















المزيد.....


الفكر الجماهيري :نظرة نقدية


خالد إبراهيم المحجوبي

الحوار المتمدن-العدد: 2933 - 2010 / 3 / 3 - 00:04
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


مدخل مفاهيمي:

ظل موضوع جماهيرية الفكر عرضة للتمويه النتائجي واللبس الفهْمي ؛ بسبب خطأ منهجي شهير ، كثيرا ما يقع في فخِّه الدارسون . أعني بذلك عدم تحديد وبيان الحمولة المعنوية التي يحملها المصطلح . ومكمن ذلك -تحديداً-في مفهوم الفكر ، والتفريق بينه وبين التفكير ، وكذا مفهوم كلمة الجماهير ، والتمييز بينها وبين الجمهور ( ).
ومن حسن واقعنا في هذا البُحيث أننا منتبهون لجريرة ذلك الخطأ المنهجي ؛ وهذا وِجاءٌ يعصمنا عن الوقوع في مترتباته ، من تلبيس وتمويه مربك لفهم القارئ .
إن مصطلح الفكر الجماهيري داخل في ساحة ما أُسميه (المصطلَح غيرُ المصطلِح) أقصد بهذا كل مصطلح لم يلقَ إجماعاً قبولياً على المستوى الدلالي ، بحيث نجده في ساحة ما ، مُوَطأً لاستعمال موحَّد ، وفي ساحة غيرها فاقداً صفة القبول الاصطلاحي ؛ مما يحدث تلبيساً في الساحة المعرفية الجاري فيها تداوله .





المفهوم المعجمي:
كلمة الفكر ، هي مصدر الفعل فكّر يفكّر ، تفتح فاؤه وتكسر والفتح أفصح(1) برغم قلة نطقه ، ومن أوجهه الفكرة والفكرى(2)وينطوي الجذر (ف ك ر ) على غير معنى أهمها :
1- الحاجة : ومن ذلك قولك : لافكر لي في هذا إذا لم تحتج إليه(3).
2- الاهتمام : ومن ذلك قولك : ما دار حوله فكري ، لافكر لي في هذا ، إذا لم تبال به(4) .
3- إعمال الخاطر في الشيء وتأمله(5) . وهذا المعنى هو الملصق بمصطلح الفكر في استعمالاته المعاصرة خاصة ، وكذا في أكثر مواقعه في كلام العرب ، ومن ذلك قول أحدهم :
إذا المرء كانت له فكرة ** ففي كل شيء له عبرة (*)
4- ما وقع في الذهن والقلب(6) : ومن تصريفاته أن يقال : فكرفي الأمر ، وتفكر، وأفكر فيه(7)

ويمكن نظم تلك المعاني في هذا البيت :
تأملُ خاطرٍ وكذا اهتمامٌ ** وحاجةُ طالبٍ وقعت بذهنِ
أما التفكير فهو كلمة غير مرادفة لكلمة الفكر ، والفرق بينهما أن التفكير هو الممارسة العملية الهادفة لإنتاج الفكر ، بواسطة العقل .
من هنا فالعلاقة بين الفكر والتفكير هي علاقة ارتباط شرطي ، حيث يكون التفكير هو الإجراء العملي ، والفكر هو النتيجة التي يشترط للحصول عليها إتمام العملية التفكيرية.
أما كلمة الجماهيري فدلالتها اللغوية حسب التوضيح التالي:
في المستوى المعجمي حين نستبين دلالات الأصل الذي صدرت عنه كلمة الجماهيري ، نجد المعني التالية:
جمهور الناس بمعنى جلَّهم . وجمهر الأشياء جمعها ، قال ذو الرمة:
أبى عزُّ قومي أن تخاف ظعائني ** صباحاً وإضعافَ العديد المجمهر .
ويقال جمهر له الخبر أي أخبره بطرف منه على غير وجهه ، وترك الذي يريد . قال الكسائي : إذا أخبرت الرجل بطرف من الخبر وكتمته الذي تريد ، قلت جمهرتُ عليه الخبر . والجمهور :هو الرمل الكثير المتراكم الواسع. والجمهور: الأرض المشرفة على ما حولها ،وجمهور كل شئ معظمه ، وجماهير القوم أشرافهم ،وجمهرتُ القومَ أي جمعتهم ، والجمهرة المجتمع ، والجماهر الضخم.
إذاً في الاستعمال العربي نجد الرباعي (ج م هـ ر) ذا نفوذ استعمالي وسط



ست ساحات معنوية تمثلها ستة معان هي التالية :
1- الإخفاء 2- الرمل الواسع 3- الأرض المشرفة 4- الأكثرية من الأشياء 5- الأشراف من الناس 6- جمع الأشياء .( )
المفهوم الاصطلاحي :

لم يزل هذا المصطلح في مرحلة الخطوات الأولى في ساحة الاستعمال العربي ؛ لذلك لماّ تنضبط دلالته الاصطلاحية على نحو صارم دقيق وعلى كل حال فهو دال إلى معنيين هما :
1- فتح المجال أمام الناس كلهم لممارسة التدبير والتفكير فيما يتعلق بشؤون المجتمع من قضايا وشواغل على كل مستوى نظري وعملي ، بحيث تكتسي الآراء والأفكار التي تنبط عن الناس صفة الجماهيرية ؛ لكونها صدرت مباشرة عن الجماهير .
2- إتاحة المجال أمام الجماهير كلها لمجرد الاطلاع على ما يتصل بالأفكار والآراء التي تبدعها نخبة المفكرين ، وأهل الاختصاص ، بحيث تكتسب آراؤهم واجتهاداتهم الصفة الجماهيرة ، باطّلاع الجماهير عليها ، وعدم قصرها في نطاق مخصوص، يقصُر عنه اطلاع الجماهير .
ذانك هما المعنيان اللذان أراهما ماكثين في إطار الاستعمال التواضعي ، لتركيب (الفكر - الجماهيري ) من غير تكلف ، ولا ازورار عن مقتضيات الدلالة المعجمية لكلمتي : الفكر ، الجماهيري.


ظهور المصطلح:
لم تشهد الكتابات العربية استعمالاً لهذا المصطلح ، قبل أن يظهر في كتابات معمر القذافي ، وشُرَّاح النظرية العالمية الثالثة ، التي احتواها الكتاب الأخضر قبل ثلاثين عاماً ، وهو الذي أقم فكره على فكرة رئيسة مفصلية ، هي (نبذ النخبوية والإنابة)( ) . لقد شمل هذا النبذ كل ساحات الفعل الإنساني الجماهيري ، سواء في المجال السياسي ،أو الاقتصادي ، أو الاجتماعي ، أو الفكري .
وقد انجرَّ عن تطبيق تلك القاعدة ، الوصولُ إلى الدعوة لنبذ انحصارية الفكر ، ولترك تحييد الجماهير بإزاء الممارسة الفكرية ؛ فبرز حينها هذا المصطلح ، ليشير إلى الفكر الخارج عن نطاقات الانحصار ،وعن سلطات الاحتكار.

مدخل تأصيلي :

موضوع الفكر الجماهيري في حاجة إلى تحديد موضعي من حيث الانتماء العلمي إلى ساحة معرفية علمية معينة ، وهذه العملية التحديدية لم أر من اهتم بها فيمن كتب في موضوع الفكر الجماهيري ، حيث سارت الدراسات منطلقة على نحو مفتوح تعميمي ، من غير تأصيل للحقل العلمي الذي ينتمي إليه مبحث جماهيرية الفكر ؛ لذلك أبدأ كلامي هنا بالإشارة إلى أن موضوع الفكر الجماهيري على الصعيد المعرفي العلمي ، عائد إلى فرع من فروع الأنثروبولوجيا ، وتحديدا إلى ما عرف بالأنثروبولوجيا الثقافية نهاية القرن التاسع عشر الميلادي . وهي التي تفرع منها فرع خاص وهام اصطلح على وسمه بالأنثروبولوجيا النفسية ، التي تركز على علاقة الثقافة المجتمهية بالشخصية الفردية ، وذلك ما بدأ به الأميركي (هوايت Hwite ) سنة 1925م ( ) .
إن الأنثروبولوجيا الثقافية علم لا غنى عنه للكشف عن ملابسات ودقائق علاقة الجماهير (المجتمعات) بالفكر ، وعلاقة الفرد بالفكر إنتاجاً واستهلاكاً ، هذا إذا نظرنا إلى الأنثروبولوجيا الثقافية نظرة أوسع مما حصرها فيه الأميركي (هوايت) ، حيث رأى أن موضوعها هو السلوك الإنساني ( ) إنه بهذا يجعلها قرينةً لعلم النفس ويضيِّق مجالها الذي يشمل السلوك والثقافة والفكر الموجه للسلوك نفسه.
إن بحث موضوع الفكر الجماهيري يقتضي قبل كل شئ تحديد وتشخيص مفهوم كلٍ من كلمتي الفكر ، والجماهير . وهذا ما بدأنا به كلامنا في المدخل المفاهيمي قبل قليل من الأسطر .
إن علاقة الجماهير بالفكر هي علاقة (ضرورة ) بالمعنى الفلسفي للضرورة ، ولكي تكون هاته العلاقة نافعة منتجة يجب أن ننظر إليها بوصفها غير مطلقة ، إنما هي محددة ومنسقة ومقننة ، على نحو يخالف علاقة الجماهير باحتياجاتها المعيشية الأخرى سواء الكمالية أو الضرورية ، إذاً من الهام التفريق بين الاحتياجات الفكرية للجماهير وبين احتياجاتها لمعيشية بقدر أهمية التفريق بين وظيفة العقل ، وبين وظائف أطراف البدن .
بوادر التوجُّه إلى الفكر الجماهيري:

السوفسطائيون:
إن أوضح مثال للممارسات الأولى للفكر الجماهيري الشعبي ، ما وجدناه في نتاج ومنهج السوفسطائيون اليونان في القرن الرابع قبل الميلاد ، وبخاصة في طروح كل من : بروتاغوراس (480-410ق م) وجورجياس(480-375 ق م) . فقد تم التوجه إلى الجماهير ولم يحصروا طروحهم وأفكارهم بين جدران مخصوصة ، ولا في جماعة معينة ، وبغض النظر عن الهدف والنتيجة إن الفكر السوفسطائي كان جماهيرياً ، فاقداً صفة الخفاء والانحصار .
هزيود :
وقد سبق المثال السوفسطائي مثال آخر غير ظاهر ولا شهير بقدر شهرة السوفسطائييين ، وذلك ما أجده في محاولة الشاعر التعليمي هزيود في القرن الثامن قبل الميلاد . وهو الذي جمع فكره وحكمته في كتاب أراد له أن يكون جماهيرياً مستشرياً في أوساط الشعب بعيدا عن الانحصار في ساحة نخبوية معينة ؛ لذلك نشر حكمته وفكره بين الفلاحين وعوام الناس خلال كتابه (الأعمال والأيام ) الذي ((ملأه حكمة وأمثالاً تسودها فكرة العدالة ))( ) . وقد قسم هزيود كتابه هذا إلى

أربعة أقسام رائسة :
1- درس في العمل من وجهة أخلاقية ، وحثٌ عليه وخلال ذلك يورد حِكماً متنوعة .
2- يحوي عدداً من النصائح في المجال الزراعي ، مردفة بإرشادات في الفلاحة .
3- يحتوي وصايا في مواضيع الزواج وغيره منالعلائق الاجتماعية فضلا عما يتصل بالشعائر الدينية.
4- وضع فيه هزيود مسرداً جمع فيه ما رآه من أيام السعد والنحس ، فضلاً عن كثير من الخرافات الشعبية التي ساقها غبّ ذلك .

بوادر استثمار الفكر الجماهيري
في ساحة الحضارة العربية الإسلامية نجد أن البادرات الأولى لاستثمار وتفعيل الفكر الجماهيري كانت في توظيف الشورى ، حيث يتم اللجوء إلى الجماهير في حالة الحاجة لإرشاد فكري ، أو استنارة توجيهية متعلقة بالشأن العام أو الخاص للمجتمع .
إن الشورى سلوك يرسخ حقاً من حقوق الإنسان مغيباً هو حق التفكير والمشاركة في خدمة البلاد والعباد ، لكن يجب أن يكون ذلك المجال مفتوحاً بنحو مطلق غير محدود ؛ لأنْ ليس من الحكمة إطلاع الجماهير على كل شئ ، وليس في مُكنتهم استيعاب كل شئ ؛ فهم طبقات وأطوار لا يمكن الإغضاء عن حقيقة تفاوتهم بحسبها ، فالحكمة تقضي بإتاحة النصيب المناسب كمياً وكيفياً للشرائح الملائمة فقط .
ليس في الحكمة ولا الصواب أن يتاح الفكر كله للجماهير ، فهذا اعوجاج عن الإجراء السليم في التطبيق الهادف لتحقيق الفكر الجماهيري ، والأدنى حكمة أن ينظر فيما هو لائق ونافع ومناسب لمستويات العامة فيكون جماهيرياً ،وأن يحدد ما لا تكون حاله كذلك فينتبذ عنهم . وقد ورد في الأثر ((ما أنت محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)).

تغييب الجماهير وأزمات المجتمع:

عاشت مجتمعاتنا العربية الإسلامية أوازم مزمنة على أكثر من صعيد من صُعد الحياة سياسيا واجتماعياً واقتصادياً .
تسنح لنا تلك الأوازم ظاهرة بمجرد عقد مقارنة بين أحوال جماهير عالمنا وجماهير العالم الأول أو الثاني ، برغم عدم خلو عالمهم أيضاً من بعض النواقص والمعايب المتعلقة بدور الجماهير في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية (إن الإنسان في مجتمعاتنا لم يُؤخذ بعين الاهتمام بوصفه عنصراً أساسيا ومحورياً في أي خطة تنموية ولا ريب في أن التنمية مهما كان ميدانها تمسُّ تغيير الإنسان ونظرته للأمور في المقام الأول )( ) .
إن الإعاقة التي تعانيها مجتمعاتنا ترجع إلى أسباب من أهمها تعطيل فاعلية الفرد بوصفه عنصراً داخل مجموعة جماهيرية مؤهلة للبناء والتنمية على المستوى النظري العلمي ، والمستوى العملي التقني ، لكن الحجب والتغييب الذي يقع أمام إمكانيات الفرد يسهم في إرساخ تلكم الإعاقة التي تسقط مترتباتها الضارة على الكيان الجماهيري بوصف شامل غير مقيد .
وبناء على الوعي بتلك الإشكالية وملابساتها تجيء الدعوة إلى تحقيق الفكر الجماهيري ( ) في سياق المحاولات الهادفة إلى فك الأغلال المعيقة للنماء والتقدم وسط القاعدة الجماهيرية المعوّل عليها في سبيل التنمية والنهضة الحضارية . لكن الدعوة إلى فكر جماهيري تعاني من غموض مردّه الأساسي إلى عمومية التعبير واتساع دلالته التي حاولنا في مقدمة كلامنا هذا تحديدها وتشخيصها على نحو ينفي عنها الضبابية الفهمية .
أريد التوكيد هنا على أن الدعوة إلى فكر جماهيري هي دعوة مؤهلة للنجاح ومبشرة بنتائج إيجابية ، ما لم تظل في وضعها العمومي والضبابي غير المحدد في معالمه ومفاهيمه ، وغير المقنن في تطبيقاته الإجرائية على نحو يكون مساوقاً للإمكانات والمؤهلات المتاحة لأفراد الجماهير ، في واقع تمايزهم وتفاوتهم على أكثر من مستوى على نحو يوجب توزيعهم على طبقات ، يقضي تنوعها وتفاوتُها معاملة كل ٍ منها بما يلائمه من حيث إجراء فكرة جماهيرية الفكر .
وعلى كل تصورٍ لا يصح إغفال الحقيقة القائلة إن تغييب الجماهير هو من مولّدات التخلف المجتمعي الجماهيري ، وتبدو (خصائص التخلف النفسية وأولياته الدفاعية في أبرز صورها في نمط حياة الجماهير العفوية غير المنظمة وغير المؤطرة سياسياً . تلك الجماهير التي لم تتحْ لها فرصة الممارسة المنتجة للوصول إلى التعامل مع الواقع انطلاقا من الوعي بجدليته وموضوعيته)( )
أعلن معمر القذافي استراتيجية الفكر الجماهيري بوصفها وسيلة إلى تنمية المجتمع فكرياً والرفع من قدره العلمي وفاعليته العقلية ، إن الجماهير في حاجة إلىمن يعمل إلى تنميتها علمياً وإنضاجها على المستوى العقلي وتطويرها على صعيد الممارسة الفكرية ، لكن هل يمكن أن يحقق كل المجتمع تلك الأهداف ؟ أم أنها مأمولة من طرف بعض شرائحه المؤهلة للإنتاج العلمي والفكري ؟.
الواقع يوكّد لنا أن المجتمع - بوصفه كياناً إنسانياً – لايمكنه كله الوفاء بتلك الإمكانية بل إن الأهلية منحصرة في جزء بئيل محدود من صفوفه ، ممن لهم القدرة على الإنتاج العقلي المثمر والإبداع الفكري المؤثر. ويبقى للأكثرية مهمة أخرى هامة ن هي تسيير شؤونه على مستوى الحرف اليدوية والأعمال التربية القائمة أساساً على الجهد البدني أكثر من قيامها على الجهد العقلي الفكري .
تلكم النخبة والصفوة هي بمكانة العقل في بدن المجتمع ، وتكوّن باقي الجماهير بقية الأعضاء المتفاوت قدرها وأهميتها فيه ، فمنها من يقوم بدور الأطراف ، ومنها من يؤدي دور الأعضاء الحساسة والمركزية كالقلب والكبد ، ومن المجتمع من لا يجاوز دوره دور الزوائد الجسمية التي يجب التعامل معها بحدة ؛ لكونها مشوهة له و نائية به عن صورة الاعتدال ، كما هو الحال مع الشعر الزائد ، والأظافر النابية ، ومن المجتمع من ينحط فيكون دوره كدور المعايب المصيبة للجسم كالدمامل والقروح الواجب إزالتها ،وتنظيف أثرها. هذا وضع المجتمع فهو كالجسم البشري.

الجماهير وإعاقة الفكر:
إن تاريخ الفكر الإنساني لم يحمل موقفاً محددا من قضية جماهيرية الفكر . فهي قضية لم تزل مثاراً لتباين الآراء والقناعات ، وسواءً في التاريخ القديم –في المثال الإغريقي- أوالوسيط –المثال العربي الإسلامي – أو الحديث –منظري الفلسفة الحديثة شرقا وغرباً -.
وبرغم انعدام الاتفاق فإن كفة المانعين لجماهيرية الفكر هي الراجحة في المراحل الفكرية الإنسانية كلها . ويقوم هذا الرأي على مساند ومبررات أراها مجتمعة في النقاط التالية :
1- تحقق التباين الفطري والجبلي بين الناس على مستوى المواهب الفهمية .وهذا أمر يقضي بوجود المجتمع في حالة من تفاوت المستويات والميول والأهداف . وهذا ما يجعل العمل على إشاعة الفكر جماهيرياً إهراقا للوقت والجهد في غير طائل .
3- ثبوت الضرر والفساد في إسناد أي أمر إلى غير أهله ممن يقْصُرون عن إقامته ، ويعجزون عن الوفاء بمسؤولياته .
إن الفكر والتدبير من الأمور التي لايحسن تفويضها إلا إلى من ثبتت له أهليةالممارسة الفكريةوالمهارةالعقلية ؛ حتى تكون النتيجة نافعة غير ضارة علىالنحوالذي يتوقع في حالة تفويضه إلى من افتقد القدرة والأهلية من أصناف الناس الذين قد تحسن الاستفادة منهم في مجالات أخرى ، من ذلك الاستفادة من أهل المهن اليدوية والعضلية فيما تؤهلهم له خلقتهم البدنية ، وطبائعهم النفسية لأدائه ، ونفع سائر الجماهير به .
2 - إن منح الفكر صفة الجماهيرية -بلا تقييد-من شأنه إعاقته عن الاستعماق ، والانطلاق الحر ، فمن شأن الجماهير الاعتراض على ما لا يفقهون ولا يدخل في نطاق علمهم من مباحث الفكر ونتائج التفكير ، بل إن التاريخ ليوكّد أن الجماهير والعوام كثيراً ما كانوا سدا مانعاُ أمام انسيابية النشاط العقلي والتفكيري الصادر عن المفكرين والفلاسفة وهذا ما يفسر جنوح كثير من المفكرين إلى التقية وترك التصريح بافكارهم ، واتخاذ كثير منهم طريق الإسرار والكتمان والتخفي ، نأياً عن سطوة الجماهير .
لقد كان من أشهر منظري نخبوية الفكر عند الإغريق أفلاطون ، حين ميز بين نوعين من الناس ، فريق منهم هم من ذوي الاستعداد ،وفريق من فاقدي الاستعداد لاستقبال الفلسفة والفكر ، ورأى أن ((ادعاء الدولة بأكملها حق الفلسفة سييؤدي إلى دمارها))( ). ويجيء تفريقه بين أنواع الجماهير مساوقاً لواقع الإمكانات الذاتية للجماهير غير غافل عنها ، هذا الواقع الذي أقنعه بتبني فكرة نخبوية الفكر والفلسفة وعدم صلاحية وضعها في سياق جماهيري .بل يوكّد أن وضع الفكر الفلسفي في قالب جماهيري غير محدود يشكل خطراً سيؤدي لدمار الدولة كلها.
هذا موقف لم يخالفه فيه فلاسفة الحضارةالعربية الإسلامية حين صرح كثير منهم بأن تلك الإتاحة الجماهيرية تماثل محاولة إهلاك الإنسان حين لا يكون من الخواص المؤهلين لتلقي ذلك النوع من الفكر وهذا ما ظهر بجلاء في كلام ابن رشد وابن ميمون الأندلسي ( ).
إن تاريخ الحضارة العربية والإسلامية مشحون بمثالات كاثرة توكّد ذلك ، منها –مثلاً – جماعة إخوان الصفا التي ظهرت نحو سنة 334هـ في البصرة .
ينطلق إخوان الصفا من منطلق الفكر (النخبوي ) ولا يرون صلاحية الفكر الدقيق ليكون جماهيرياً مبررين ذلك بأن العوام لايشاركون الخواص في دقة الفهم ، وسلامة الاستيعاب ، فيكثر في رسائلهم تكرار هذا المعنى ، من ذلك وصفهم للجماهير بأنهم لا يحسنون قراءة أكثر أصناف العلوم ، قالوا:((اعلم أيها الأخ- أيدك الله وإيانا بروح منه - أن لنا كتباً نقرؤها ما يشاهده الناس ولا يحسنون قراءتها ، وهي صور أشكال الموجودات بما هي عليه الآن من تركيب الأفلاك وأقسام البروج ... وأمهات الأركان واختلاف جواهر المعادن وفنون أشكال النبات وعجائب هياكل الحيوانات )) ( ).وقالوا (( ولنا كتاب آخر لا يشاركنا فيه غيرنا ولا يفهمه سوانا ،وهو معرفة جواهر الىنفوس ومراتب مقاماتهاواستيلاء بعضها على بعض ،وافتنان قواها)).
وهم لاينكرون كتمهم العلم عن جماهير الناس ويزْجُون مبرراً لذلك بقولهم (( اعلم أيها الأخ البار الرحيم أنّا لا نكتم أسرارنا على الناس خوفاً من سطوة الملوك ذوي السلطنة الأرضية ولا حذراً من شغب العوام ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا كما أوصى المسيح فقال: لا تضعوا الحكمة عند غير أهلها فتظلموها ، ولا تحرموها أهلها فتظلموهم ))( )

وعلى كل وضعٍ ظلت هاته الجماعة سرية أمام سطوة الحكم وحدة سيفه . وإلى جانب ما مثله أهل السلطة من قوة قامعة وردعٍ رادع ، وجدنا الجماهير في المجتمع العربي والإسلامي لا تقصر في قمع الفكر الجديد ، والفلسفة المتطرئة على ساحتهم ، وكثيرا ما نُكب مفكرون وفلاسفة بسبب الجهل الشعبي ، والتخلف العوامي .
لذلك كان من الإجراءات الحكيمة اجتناب إشاعة منتجات الفكر الدقيقة ، وترك إذاعة تدريسها بين الجماهير. وفي هذا السياق عرف التراث الإسلامي مصطلح ( المضنون به على غير أهله ).
من هنا وجدنا مثلا ابن رشد 595هـ يحرم الكلام مع الجماهير في مسألة علم الله من الناحية الفلسفية ، ويعد ذلك بمكانة إعطائهم السمّ ، وإن كان غذاء لغيرهم ( ). كما قال((الإفصاح بالحكمة [أي الفلسفة]لمن ليس بأهلها ، يلزم عن ذلك بالذات إماإبطال الحكمة ، وإما إبطال الشريعة ...والصواب كان ألاّ يصرح بالحكمة للجمهور ))( ).
كذلك نلقى ابن ميمون الأندلسي 1204م يقدم مثالا لمن يعرض المسائل الفلسفية الدقيقة على الجماهير والعوام فيقول ((إني لا أقارن هذا إلا بمن يجعل طفلا رضيعا يأخذ من خبز الحنطة ، ويشرب الخمر ، فإنه يكون سببا في ضرره بلا ريب وليس هذا لأن ما تناوله هو من الأطعمة والأشربة الضارةوالرديئة والمضادة لطبيعة الإنسان ،ولكن لأن الذي تناول منها هو أضعف من أن يهضمها ويفيد منها)) .

وفي السياق ذاته يخبرنا التوحيدي بأن رؤوس الفلسفة في وقته كانوا حذرين من تسرب مباحث وآراء الفلاسفة إلى الجماهير غير المتخصصة ، مما لا يظهر توافقه مع الشائع من أحكام الدين.

كل ذلك استند إلى واقع التفاوتات في عقول الناس والتباينات في فهومهم ؛ وهذا ما دعا بعض الفلاسفة تقسيمات طبقية على المستوى المعرفي ، من ذلك تقسيم أبي سليمان السجستاني الناس إلى :
1 - طبقة العامة : وهم الّذُون ليس لهم أن يتصلوا بالحكمةوغرائب الفلسفة ؛ لرداءة عقولهم ، وضآلة معارفهم .
2 -طبقة الخاصة : هم الّذون يحق لهم البحث فيما يشاؤون ولهم من فضــائل ا لنفس ما يعصم عن الضلال .
وفي هذا الباب يقدم إخوان الصفا تقسيماً للناس مشابهاً ، فيقولون ((اعلم أن الناس على طبقات كثيرة فمنهم العامة من النساء والصبيان والجهال ، ومنهم الخاصة من العلماء والحكماء البالغين فيها الراسخين ، ومنهم متوسطون بين ذلك ))( ).







ختـــــــــام

في هذا البُحَيث استعرضنا قضية الفكر الجماهير ، بوصفه من مباحث الأنثروبولوجيا الثقافية ، وعملنا على ضبط دلالته المعجمية والاصطلاحية على نحو من شأنه الإسهام في تجلية الموضوع والنأي به عن ضبابيةالتناول ، وعمومية الطرح .
ورأينا كيف استقر رأي المفكرين على أن الجماهير ليست على نمط واحد ولا في مستوى موحّد ، مما يوجب التعامل معهم لا بطريقة جامعة بلا تفريق ، بل بتمحيص تدقيقي ، وتزييلٍ تفريقي يجعل الفكر في أهله ، كي يثمر ما فيه الخير والنفع للجماهير كاملة ،ويتيح لكل فرد منها أن ينتج ما هو في نطاق مُكنته ، ويتعاطى مع ما هو في ساحة إمكاناته الطبيعية المتاحة له .
وليس هذا الكلام مقتضياًأن تغيَّب الجماهير على النحو الذي تعاني منه أكثر جماهير العالم في ظل الأنظمة المصادرة لحقوق الشعوب ، والغافلة عن مدى ما تنطوي عليه الجماهير من كوامن مؤهلة للإفادة على الصعيد المعرفي ، والإنتاجي ؛ فظلت –لتلك الغفلة- في معزل عن الفعل الجماعي المباشر لشؤون الدول ، في وقت غفل فيه أكثر العالم على أن تحييد الجماهير ، أمر معيق للتنمية البشرية التي يتغياها كل نظام من الأنظمة العاملة إلى الرقي بالمكونات البشرية للدول في هذا العالم .




المراجـــــــع:

- أساس البلاغة – ابوالقاسم الزمخشري – دار الفكر –بيروت – 2000

- تاريخ الفلسفة اليونانية- يوسف كرم – دار القلم – بيروت

- التخلف الاجتماعي : مدخل إلى سيكولوجية الإسان المقهور- مصطفى حجازي – معهد الإنماء العربي – بيروت – ط1 – 1976

- الثـقافة الشخصية – عاطـف وصفي – دار النهــضة العربية – بيروت – 1981

- جمهرة اللغة لابن دريد . مكتبة الثقافة الدينية . القاهرة .

- الجمهورية والجماهيرية – المهدي مبيرش- دار تالة للطباعة والنشر – طرابلس ليبيا – ط1 – 2006

- رسائل إخوان الصفا وخلان الوفا – تحقيق إحسان عباس – دار صادر – بيروت.

- القاموس المحيط للفيروز آباذي - عالم الكتب - بيروت .
- الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة- ابن رشد- مركز دراسات الوحدة العربية. بيروت.

- لسان العرب – ابن منظور – تحقيق : عبد الله الكبير وغيره -دار المعارف . القاهرة- ط3-

- مختار الصحاح – زين الدين الرازي – تحقيق: أحمد زهوة – دارالكتاب العربي – بيروت - 2005-
- المقابسات . أبو حيان التوحيدي –تحقيق السندوبي – دار المعارف- سوسة - تونس .



#خالد_إبراهيم_المحجوبي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العوائق التنموية في القارة الأفريقية : تشخيص وعلاج
- شعوبية أم عروبية: دراسة في ظاهرة العصبية السلالية
- الأمن المغاربي بين الإسلام السياسي والإسلام العسكري
- الخطاب الصوفي بين الفتنة والاغتراب
- بلاغة اللغة ولغة البلاغة
- العولمة وإشكاليةالخصوصية الثقافية للأقليات
- جدلية المثقف والسلطة بين االإقصاء والإخصاء
- آلية التأويل في منهج الصادق النيهوم
- بعيدا عن الحضارة الورقية
- الجمال : بين خلل المعايير ، وخفاء التجليات
- جدلية الفلسفة والدين
- ملامح التأثير الحداثي في الفكر الديني


المزيد.....




- الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج ...
- روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب ...
- للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي ...
- ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
- الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك ...
- السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
- موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
- هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب ...
- سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو ...
- إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس ...


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - خالد إبراهيم المحجوبي - الفكر الجماهيري :نظرة نقدية