ليتفائل من يستطيع ذلك ومن يرغب به ايضا اما انا فلااستطيع ذلك !
فليس في صورة الوضع مايدفع الى التفاؤل.
ان شعور عدم التفاؤل هذا هو انعكاس لصورة الوضع العامة القاتمة التي يعيشها وينتظرها في مقبل ايامه المجتمع العراقي ، وليس اثرا لشخصية غير منبسطة او غير منفتحة . بمعنى انه ليس مزاجا شخصيا ، وانما هو تصورفكري يبني معالمه من خلال نتائج ومعطيات قدرته على التحليل.
فالمسالة إذن تحال الى صورة الوضع السياسي العام ، فما هي ابعاد هذه الصورة ؟
البعد الاول في هذه الصورة هوالنظام الفاشي المنفرد بالساحة والذي يتلاعب بمقدرات الوطن ويسخره كاملا لمشروعه الفقير والمتخلف في ترسيخ احتكاره للسلطة باي ثمن كان..اذ يفرض على المجتمع الاستبداد والمصادرة وينتزع منه الموافقة بطرق فظة.وبين الضغط والابتزاز تبرز حالة طريفة ومؤلمة في ذات الوقت، حيث يسود داخل المجتمع نوع من الخداع المكشوف واللعب المفضوح المتبادل بين النظام وبين جماهيرالشعب . السلطة من ناحيتها تعرف انها مرفوضة ومنبوذة من قبل الغالبية، ولكل الاسباب.. من بين الاسباب السبب السياسي المتعلق بحرية المواطن والمجتمع الذي له اهميته وحضوره، مع انه يتراجع قابعا في خلفية الصورة لصالح الهم الاول، هم الازمة الاقتصادية الطاحنة ، ازمة اولويات الحياة، كذلك قسوة العنف المنفلت الذي تمارسه السلطة ضد المواطنين، تلك هي عناصر الارهاب الاقتصادي والسياسي الذي تمارسه السلطة ولكنها لاتكتفي بهذا بل تريد ان تفرض على المواطن القبول بهذا الواقع . المواطنون من ناحيتهم وتحت الضغط وانعدام الامل في امكانية التخلص من عقاب السلطة لمن لايظهر تاييده( وابتهاجه) بالتدمير الذي تمارسه ضدهم ، والذي باتت تحركه- العقاب- ليس فقط مجريات حياة النظام الداخلية ،بسبب ادمانه للسلطة ومايفرزه هذا الادمان من نتائج واشكال لممارستها ، وانما نوع من الحقد الخاص يكنه هذا النظام ازاء المواطن ، الذي اثبت في لحظة ما وبطريقة عملية ، انه رافض كليا وبالتفصيل لهذا النظام ، اظهر هؤلاء المواطنون - في الوجه الاخر للعب المكشوف- مرغمين تاييدا تعرف السلطة جليا انه تاييد مزيف واضطراري ، والجمهور من جهته يعرف ان السلطة تعلم مدى هذا الزيف لكنها تقبله، لحشد تاييد شكلي يبغي غايات خارج الحدود وللامعان في اذلال المواطنين اكثر واكثر.
التناقض مستعص ، فهذه السلطة حتى اذا هبط عليها الوحي وارادت ان تعيد النظر في ممارساتها من اجل تصحيح علاقتها بالمجتمع- كما يحلم بعض الناس من امثال الاخ عبدالامير الركابي، الحالمين في مصالحة وطنية شاملة تبدا في التقارب المتبادل لاطراف الصراع تحت ضغط الاستهداف الاجنبي للوطن،وبشفاعة التحول الثقافي الادبي ( الروائي) لراس النظام - نقول ان هذه الفرصة قد ضاعت ومنذ زمن بعيد جدا ، ولاتوجد اية امكانية لاصلاح اي شئ مع وجود هذه السلطة بل اكثر من ذلك مع اي نظام حكم قادم لايحمل معه مشروع الديمقراطية والتعددية. فهذا النظام صارت ممارساته مفضوحة لحدود لايمكن احتمالها، وعليه لايمكن اعادة توصيفه فهو من نوع الاشياء التي توصف مرة واحدة والى الابد.
البعدالثاني للصورة يؤشر الى ان قدرات المجتمع الذاتية ، للان على اقل تقدير، لم تستطع ان تنتج ادوات وآليات لكسر معادلة الصراع مع النظام لصالحها، وهذا ليس قصورا ذاتيا فقط وانما يعود الى قدرة السلطة على تكريس وجودها وبطشها، ومضي الوقت يصب في صالح السلطة ، حيث تستطيع ان تعيد بناء نفسها وتجدد قدراتها... لكن رعونة النظام وفصامه التاريخي الذي دفعه للتهور ولمواجهة ( سيدة العالم ) الجديد الولايات المتحدة، بالاضافة الى طابع العولمة وتوجهها في جعل قضايا البلدان الداخلية شانا دوليا ، اديا الى تدويل للقضية العراقية هو في مصبه الاخير يخدم قضية الخلاص للشعب العراقي.
في حديثنا عن قدرات المجتمع الذاتية اغفلنا مؤقتا حالة ودور الاحزاب والقوى السياسية المعارضة بكل تفرعاتها ومسمياتها ، فهي كانت جزءا من هذا العجز وسببا به ، فماعدا استثناءات قليلة ، كنشاط القوى الاسلامية(الشيعية) العنفي والتعبوي في الداخل مستفيدا من مجاورة ايران الجغرافي ودعمها- وهو رصيد تحاول كل القوى الادعاء به حقا وباطلا- فان عموم القوى السياسية المعارضة لها حضور معنوي شكلي في غالبه . والقوى التقليدية تنهل من رصيدها ( اسمها) القديم وتعتاش عليه وهو رصيد يتضائل ويتناقص. ووجود هذه القوى الفعلي هو المنافي .
هذا الابتعاد لهذه القوى عن ساحات العمل السياسي الحقيقي وعن محيطها الجماهيري اثر بشكل حاد على نوعية نشاطها وعلى هياكلها التنظيمية ، فانسلخت عنها لاسباب مختلفة نسبة كبيرة من كادرها ومؤيديها، وهذا افراز طبيعي لحالة العزلة والعطالة السياسية لاسيما اذا ترافق مع نوع من عدم القدرة ،لخلل ذاتي، على التجاوب مع متطلبات الواقع ومتغيراته على الصعيد الداخلي، ولعدم قدرة هذه الاحزاب على تحديث وتطوير بناها وخطاباتها.كذلك
يترك وضع الاحزاب السياسية المعارضة اثره على واقع عملها في حالات التعاون والعمل المشترك فيما بينها، فقد طرحت الائتلافات الاخيرة مشاريع يؤدي عدم قدرتها- الائتلافات- الواقعيةعلى تحويل تلك المشاريع الى ادوات للفعل السياسي المؤثر او وضعها على اقل تقدير في طريق هذا الفعل، يؤدي الى تحويل هذه المشاريع الى امنيات ، وقديما قيل <من ظن انه بغير الجهد يصل فمتمن> و لاشك في ان تلك الامنيات (المشاريع) نبيلة وعقلانية تماما، إذ ان طروحات من مثل[ تغيير النظام هو شان عراقي صرف ويجب ان يتم بايد وقدرات عراقية] هو هدف يستطيع ان يجمع حوله الجميع ،لكن عجز القدرات على تحقيقه وضعه ، كهدف، في اطار قول الراي( تبرئة للذمة) وتثبيت للمواقف لااكثر. ( واضح ان قوى المعارضة السياسية واقعة في نوع من الدوار فهي من ناحية عاجزة بقدراتها الذاتية عن اسقاط النظام ، وفي الوقت الذي لاترى اي حل سوى الحل الخارجي فهي تعارضه في الوقت الذي لاتستطيع ان تفعل اي شئ إزاءه، ولاتستطيع في نفس الوقت ان تؤيده.. اليس هذا مازق؟) من هذه المعطيات يمكن الاستنتاج ان الحل في اسقاط النظام هو حل - للاسف- مرهون تماما بقدرات وايد خارجية وبالتحديد في الايدي الاميركية، وهنا يحضر البعد الثالث للصورة .. الادارة الاميركية والغرب من وراءها لايريدان اسقاط النظام من اجل حل العقدة الداخلية للعراقيين، بل لتطمين مصالحهم بالدرجة الاولى، ولتحقيق مكاسب تفوق بكثير الثمن المدفوع ، خصوصا اذا كان امر التغييرمكلفا ( عندها سيكون تسديد الفاتورة غاليا جدا). ولكسب الثمار فان اميركا ستقرب لمراكز السلطة الجديدة من ترى فيه القدرة والاستعداد لتنفيذ رغباتها.وستؤدي هكذا محصلة الى ارباك للوضع السياسي ولتراجع في المحتوى الديمقراطي للبديل، بل ربما الغاء له.
كما ان امر التغيير هذا ياتي ضمن مشروع كبير وذو ترابطات تتعلق باستراتيجية اميركية هدفها مد النفوذ واعادة ترتيب العالم ليتناسب ويستجيب للاهداف المتعددة لهذه الادارة وبنفس الوقت هو حل له ارتباطه بمشاكل الشرق الاوسط خصوصا والمنطقة العربية عموما ويصب باتجاه مد جسور النفوذ الاميركي الى وسط آسيا حيث البقعة الآسيوية الشاردة .
التبرأ من تاييد الحل الاميركي مع اقراره ذاتيا هو نوع من تبرئة الذمة امام الاخرين في حالة تداعيات الحل الاميركي المعروفة، واولى هذه التداعيات كنتيجة لهذا الحل هي بالاساس كارثة ثلم مبدأ السيادة ومصادرة القرار السيادي وتحويل مقدرات البلد السياسية والاقتصادية مستقبلا الى حقل خاص وجزأ من اجزاء اخرى متعددة تكونه بلدان المنطقة لتنفيذ الاستراتيجية الاميركية وهذا سوف تكون له آثار كارثية على المستوى الداخلي اقتصاديا واجتماعيا. سوف يكون من نتائجه جعل البلد سوقا استهلاكيا مفتوحا ومخزون للمواد الخام وسيتكرس التشوه البنيوي للاقتصاد والمجتمع من خلال لبرلة الاقتصاد مما سيؤدي الى مضاعفة التفاوت الاجتماعي وافقار المجتمع لاسيما الفئات الفقيرة منه، وسيكون لهذا الاستلاب اثره السلبي على المستوى الاقليمي من حيث اسهامه باعادة الترتيب اقليميا نحو المزيد من التهميش والتبعية ، بالاضافة لتاسيسه لتقليد التدخل المباشر في شؤون البلدان المستقلة والتجاوز على سيادتها بحجج مشابهة.
الطوق يضيق اكثر فاكثر والمأزق كبير وحقيقي، المعانات الانسانية كبيرة ولاتطاق . الشعب مضغوط بين سندان النظام الفاشي ومطرقة الحل الاميركي وسط تهلهل ادوار المعارضة الوطنية ويبدو الامل المتفائل في دولة المستقبل الديمقراطية بلا امل ،الامل في نظام حكم يسعى للوحدة الوطنية والمجتمعية ، نظام يحقق حقوق المواطنين ويضع قراراتهم بايديهم امر صعب المنال ، فتلك هي آمال الشعب ومعه المعارضة الوطنية وهما ، كما يبدو ، غير قادرين على المسك بزمام الامور. وفي هكذا اجواء،ينبثق امامنا السؤال: هل يستطيع المرء ان يتفائل ؟
.. إذن ليتفائل من يستطيع ذلك .
السويد
7-7-2002