محمد كشكار
الحوار المتمدن-العدد: 2931 - 2010 / 3 / 1 - 11:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أنطلق في هذا المقال من محاضرة ألقاها أحمد شبشوب, الأستاذ التونسي و الباحث في علوم التربية, في المؤتمر الوطني الرابع لتعلّمية العلوم [Didactique des sciences ] بمدينة صفاقس التونسية سنة 1998 وعنوانها "’التربية العلمية للتلاميذ: أيّ عوائق يجب تجاوزها ؟" و الذي يقول فيها: "في الواقع نحن ننتمي إلى ثقافة ما زالت شديدة التأثّر بما هو سحريّ و / أو ما هو وراء الطبيعة مع العلم أن التعليم المكثف للعلوم العصرية مازال حديث العهد في تونس: في سنة 1875 بدأت مدرسة "الصادقية" تنشره لدى النخبة و المفروض أن الإصلاح التربوي لسنة 1958 قام بتعميمه على كامل التونسيين لكن علينا أن ننتظر قانون جويلية1991 ليصبح التعليم إجباري حتى سن السادسة عشرة ثم قانون التوجيه سنة 2002.
رغم تعليمه الطويل مازال التونسي المتوسط يعتمد في حياته اليومية على طريقة تفكير, في إدراك العالم و تفسيره, تتداخل فيها النتائج المادية و الأسباب غير المادية و هذا مخالف للتفكير العلمي… "
نبدأ بتعريف العلم الذي يعتمد منهجية تتألف من المراحل التالية:
- الملاحظة : تنبع الملاحظة من نظريات مسبقة عند العالم و هي لا تحدث صدفة كما يعتقد الكثيرون في تفاحة "نيوتن". عين العالم, عين واعية و مدركة ليست كعيون غير العلميين و العامة.
- الاشكاليات : تمثل مداخل البحوث العلمية و تأتي بعد الملاحظات الصادرة من العلماء بعد تفكير و ليس صدفة.
- الفرضيات : تطرح قبل البحث وهي استشراف لنتائجه لكن تبقي رهينة التجارب, تؤكدها أو تنفيها.
- التجارب : يقوم بها العالم أو الباحث أو التقني و يتحرى فيها الدقة و الأمانة العلمية.
- النتائج : يجمعها العالم أو الباحث أو التقني و يتحرى فيها الدقة و الأمانة العلمية.
- تحليل النتائج و تفسيرها : هي أهم مرحلة لأنها الأصعب و لا يقوم بها إلا العالم أو الباحث الملم بالنظريات السابقة.
- الاستنتاجات : هي خلاصات البحوث العلمية ينشرها العالم أو الباحث في المجلات العلمية المختصة أو يلقيها في المؤتمرات العلمية الجامعية لتوضيح رؤيته الجديدة للآخرين.
لا يوجد فصل ميكانيكي بين هذه المراحل لا في الزمن و لا في الترتيب بينما يوجد بينها تفاعل و أخذ و رد و تغيير في الترتيب.
بعد هذه المقدمة, نحاول مقارنة منهجين سائدين في العالم : العلم و الدين.
- ينبني الأول على الأرض فهو أرضي و على الإنسان فهو إنساني صرف يحرّكه الشك )الشك طريق إلى مزيد من الشك و ليس طريقا إلى اليقين( و يحركه أيضا الخطأ و الصواب و التطور و الاختلاف في وجهات النظر و هو يحمل تاريخا و فلسفة و إيديولوجيا. يستطيع الإنسان أن يجدد و يضيف فيه بلا حدود و يعيد بناء أسسه و يفند نظرياته القاصرة أو غير العلمية.
- أما الثاني فهو آت من السماء فهو سماوي و إلاهي و غيبي و هو صواب لا يحتمل الخطأ و يقين يقود حتما إلى مزيد من اليقين و هو ثابت في نصه متحول في تفسيره. يستطيع الفرد أن يجتهد داخل دائرة صدقه دون أن يمس أسسه.
- يتصف الأول بالشفافية والتحدي فهو يعرض نفسه للنقض على صفحات المجلات المختصة وفي المؤتمرات العلمية لكل من استطاع لذلك سبيلا, لا يحمل جنسا و لا جنسية و لا هوية و لا وطنية و لا عصبية و لا لون و لا عرق و لا دين. يراجع نفسه بلا خجل و يتخلى في أكثر الأحيان على الأفكار السابقة التي كان يمجدها في يوم ما.
- يتعالى الثاني على الأول بنسبه اللائنساني (الله مصدره و ليس الإنسان) و يقينه المطلق و لا زمانيته و لا مكانيته (صالح لكل زمان و مكان) و عصبيته للمؤمنين به و تكفيره للمكذبين به من غير المؤمنين و إقصائه للمخالفين له حتى لو كانوا متدينين.
- يتواضع الأول بإنسانيته و ماديته و نسبيته و تحديد مكانه و زمانه و شكه المتجدد و المتواصل.
- يقبل بالأول كل العالم و يؤمن بالثاني بعض العالم. يطالب الأول بالدحض و التعديل و يطالب الثاني بالتسليم و التقديس.
خطان متوازيان و لو حدث أن تواجدا في شخص واحد فهو ثنائي التفكير و لا ضرر في ذلك عند عظماء العلماء المتدينين مثل الفيلسوف المسلم الكاتب و الطبيب "ابن سينا" (980-1037) و المعلم الثاني بعد أرسطو الفيلسوف المسلم "الفارابي" (872 - 950) و الراهب المسيحي عالم النباتات و الأب المؤسس لعلم الوراثة "مندال" (1822-1884).
أما الضرر الجسيم فيكمن في الخلط بينهما و هذا وارد في عقول بعض المتدينين حين يستشهدون بالعلم لتقوية إيمانهم و لو عكسوا لأصابوا كأن العلم في أذهانهم, أعظم شأنا من الإيمان أما بعض العلمانيين بفتح العين (و ليس بكسرها لأن المفهوم مشتق من كلمة العالم و ليس من العلم كما يعتقد الكثيرون. العلمانيون بفتح العين هم الذين يؤمنون بهذا العالم الأرضي و يثقون بالإنسان و قدرته على صنع مصيره بنفسه) فيتنافسون في تكذيب الدين بالعلم و هذه تجارة خاسرة لأن الإيمان إحساس ذاتي لا يخضع للتجارب العلمية أو العلوم الإنسانية.
خلاصة القول حسب اجتهادنا المتواضع: للعلم منهج, من مشي فيه و احترم قواعده, حقق المعجزات و للدين باب من دخل فيه و صدّق معجزاته وجد فيه راحة باله.
هذان النمطان من الإيمان يستطيعان التعايش إذا احترم كل واحد منهما الآخر لأن غاياتهم السامية تتمثل في تحقيق القيم الإنسانية النبيلة على الأرض, من عدالة و تضامن و صدق و إخلاص و سلم, و مقاومة القيم الهدامة – السائدة منذ ظهور الإنسان على الأرض - من ظلم و جشع و كذب و خيانة و حرب.
العلم "عمومي مشترك" و الدين "ذاتي بحت", أنت حر في دينك تمارسه كيفما يشاء ربك و تشاء أنت في علاقة عمودية و لن تأتي فيه بجديد مهما علا شأنك أما العلم فتمارسه كيفما يشاء اتفاق العلماء و تشاء أنت في علاقة أفقية و تستطيع أن تبدع في مجالك و تثبت صحة فرضياتك فتجازى على قدر إبداعك أو تكذّب فرضياتك فيستفيد الآخرون من فشلك و من نجاحك.
الرسالات الدينبة موجهة للبشرية جمعاء فهي ليست حكرا على المتدينين و العالم الإنساني المادي المحسوس ملك للعلمانيين و لغيرهم. فالعلماني "متدين محتمل" بالنسبة للمتدين المعتدل و المتسامح و المتدين "علماني محتمل" بالنسبة للعلماني المتفتح و المتفائل.
العلم و الدين - لكل محرابه - فلا يهدم الواحد منهما محراب الآخر و إذا رمت المقام في أحدهما أو في كليهما فالدين رحب, يسكنه المؤمنون فقط و هم كثر, و العلم أرحب يدخله المؤمنون و غير المؤمنين و هم أكثر. من الأفضل أن لا نسجن أنفسنا في خانة الخيارات الخاطئة مثل: أنت مؤمن بنظرية التطور لداروين إذا أنت ملحد أو العكس أنت مؤمن بالله إذا أنت لا تعترف بهذه النظرية. من الممكن أن يكون الإنسان مؤمنا بالله و يعترف بنظرية التطور أو ملحدا و لا يعترف بها. يكوّن الدين و العلم عالمين مختلفين و منفصلين و مستقلين لا تطابق بينهما و لا مواجهة مطلقة. قد يلتقيان في مجال الأخلاقيات.
بعد ما نشرت ما سبق من المقال في جريدة أسبوعية تونسية, قرأت في موقع “WIKIPÉDIA" و اكتشفت أن ما قلته يتوافق تماما مع ما قيل عن لسان عالم الإحاثة [Paléontologiste ] الأمريكي الكبير "قولد" [ Stephen Jay Gould] : { يهدف مبدأ "فصل السلطات العقائدية و الفكرية و الخلقية" بين الدين و العلم [Principe de NOMA : Non-Overlapping Magisteria ou non recouvrement des magistères ] إلى إرساء استقلالية متبادلة في الاختصاصات. و باسم هذا المبدأ, يوبّخ "قولد" الأصوليين الذين يعتقدون أن قيمة النص في الكتاب المقدس تساوي قيمة النص في المجلة العلمية الثانية في أمريكا, و باسم هذا المبدأ أيضا يختبر العلماء الذين, بسبب إلحادهم, يهاجمون اعتقادات المتدينين}.
الإمضاء: "أنا أكتب – لا لإقناعكم بالبراهين أو الوقائع – بل بكل تواضع لأعرض عليكم وجهة نظر أخرى"..."على كل مقال سيّئ نردّ بمقال جيّد لا بالعنف لا المادي و لا اللفظي".
#محمد_كشكار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟