أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - بغداد ... متى يتحرك في أركانها الفرح من جديد ؟















المزيد.....

بغداد ... متى يتحرك في أركانها الفرح من جديد ؟


حامد حمودي عباس

الحوار المتمدن-العدد: 2925 - 2010 / 2 / 23 - 18:58
المحور: المجتمع المدني
    


في يوم من أيام بغداد ، وقبل ان تسحق السياسة روحها المرحه ، كنت قد اصطحبت زوجتي وابنتي الصغرى ، والتي لا زالت طفلة لا تقوى على السير بثبات ، في سفرة صيفية الى العاصمة ، تاركين بقية افراد الاسرة في البيت ، طمعا في قضاء وقت ممتع لا يكلفني ما يزيد عن امكانيتي في تغطية هكذا سفرة قد لا تحدث الا بالكاد لضعف الحال . . بغداد كانت في تلك الايام ، تموج بالحركة العفوية للناس ، وكأنهم يسيرون دون مقاصد بعينها .. فالشوارع عندما يحل المساء ، تبدو وكأنها تضم بين جنباتها كرنفال غير مخطط له مسبقا .. حيث تختلط اصوات جميع المغنين العرب وغير العرب ، من خلال مكبرات الصوت على بوابات محلات بيع العصائر ، تتخللها صيحات الباعة المتجولين ، وضربات قطع الدومينو على طاولات المقاهي الشعبيه .. بشر يزحف وبكل الاتجاهات ، بعضهم يجري خلف باص يوشك ان يتحرك من مكانه ، وآخرون يتسابقون كأمواج غير منتظمة المسار على الارصفة ، وغيرهم تراهم ينطون في عرض الشارع محاولين تجاوز السيارات المنطلقة بلا توقف ... صفارات شرطة المرور يمكن سماعها بين الحين والاخر ، مطعمة بصفير سيارات النجدة او الاسعاف هنا وهناك ، دون الاحساس بوجود خطر ما ، وغالبا ما كان الناس يتندرون على سيارات الاسعاف تلك ، بانها تحدث ضجة كاذبة في المكان ، لتستطيع المرور رغم كونها خالية من مريض او مصاب .

شارع السعدون .. كان وجهتي الاولى لكونه اكثر الشوارع احتفالا بمقدم الزائرين للمدينة .. انه يعج بكل شيء ، دور السينما ومحلات ، بيع العطور والخمور ، ومقاهي الدرجة الاولى ، تزاحمها عربات بيع الشاي للمارة حيث يقفون مصطفين دون تكلف ، يلهيهم حديث متشعب رغم كونهم لم يكونوا على معرفة سابقه .. وتعترضك في مسارك فرش رصفت عليها شتى انواع المبيعات البسيطه ، وقد تكون البعض منها لا تحتوي الا على غليون ونظارة شمسيه وقراضة اضافر وعدد من الامشاط المصنوعة من النايلون .. لا يرعبك مرور شخص يترنح مما تناوله في جلسة خاصة مع رفاق العمر ، قد يمر بجانبك وهو يغني ويهتز طربا مع لحنه المختار .. كما لا يثير حفيظتك مرور آخر ملتحي ويحمل صفة الرهبنة الدينيه .. فالكل شركاء بامتلاك الرصيف ، وما عليه من توابع عامة أو خاصه

كان صوت ام كلثوم يتهادى من اجهزة التسجيل ، ليضيف الى ليل بغداد الصيفي الجميل روعة لا توصف ، تختلط به الحان كثيرة لا يمكن فرزها لعدم تجانسها وفهم كلماتها عندما تختلط في فضاء واحد .. ابنتي كانت لا تتوقف عن الرقص عند بلوغ المكان الذي تشعر فيه بان لحنا ما يستهويها لفعل ذلك .. فتحرك اقدامها الصغيرة وتهتز كلعبة فقدت مفاصل اطرافها ، لتاتي رقصاتها على شكل قفزات خفيفة في ذات المكان ، فيداعبها المارة بحنان ، في حين كانت امها تحس بحرج حيال ذلك ، فاحاول ان أمنعها من التدخل في تغيير عالم له طقوسه البريئة ، فتتراجع عن ايقاف الطفلة عن احساسها بالمرح .

لا اعرف لماذا كان العراقيون حينذاك يستهويهم في تجوالهم ونزهاتهم الحرة في بغداد ، ان يمضغوا العلكة ، اضافة الى قضم بذور الرقي والذي كان يدعى لديهم بالحب بفتح الحاء ، ولذا فان ان اصوات باعة العلكة والحب ، حاضرة في كل مكان .. ولا يغيب عن مزاحمة الباعة الاخرين ، اصوات اولئك المتخصصين ببيع الصحف والمجلات ، فتجدهم يسيرون وايديهم مرفوعة تعترض سبيل الماره ، وكأنهم يعرضون بضاعتهم بالعافيه على الناس ..

اكملت مسيرتي الليلية تلك ، وقد ملأ السرور قلبي ليمنحني احاسيس اختلطت فيها مشاعر الراحة والاطمئنان ، لم اكن اقلق من شيء ما .. فانا وسط محيط انساني لا تتواجد فيه دواعي الخوف ، وليس هناك من ارتباط بالزمن ، حيث ان زمن بغداد يبدو مفتوحا متواصلا ليله بنهاره .. ثمة مخبول مر بالقرب مني وهو يهتف باشياء غير مفهومه ، وقد ضايق بمروره رجل كان يحمل بيده ورقة لا اعرف مضمونها ، وهو يستجدي المال من الماره .. وهناك غير بعيد شاب يطوي حزمة من الفساتين النسائية على كتفيه ، ويصيح معلنا عن بضاعته بكلمات لم استطع فهم حروفها رغم محاولتي ذلك .. انه هرج لذيذ .. يحمل النفوس الى واحات من السعادة الغامرة .

شارع ابو نؤاس ، يحتضن ضفة نهر دجله ، ويتهادى مع مسار شارع السعدون ، من خلال ملازمة توحي وكأن رفقة بعيدة الجذور بينهما لم تنقطع .. كم هي رائعة تلك العلاقة الحميمية بين الشارعين ، حيث اصرارهما على عدم الافتراق ، الا في نهايات تجعل من يبلغهما يحس بالاسف على افتراقهما القسري .. وحينما يقرر المرء الانتقال من احد الشارعين الى الاخر عبر ازقة فرعية هي صلة الوصل بينهما ، يشعر وكأن تلك الازقه تحمل جينات مختلفة لكائنين مختلفين ، غير ان ما يجمعهما هو تلك المسحة من الانفتاح على النفس ، وما يعم من أجواء تختلط فيها الروائح المنبعثة من الاطعمة الجاهزه ، وقناني البيره مختلفة المنشأ ، يزاحمها البخار المنطلق من مشاوي السمك المسقوف ، تجاوره تلك النسمات اللذيذة والآتية من بارات تنتشر بكثافة هناك ، تمتليء بسمار الليل .. كل ذلك تراه وانت تتنقل بين السعدون وابي نؤاس دون ان يثير وجودك واسرتك أي متطفل أو معتدي ، حتى الحكومه لا تجدها امامك الا بالكاد .. فالناس تتحرك كما تشاء ، ولا يحدث ما ينفرها عن القيام بالتنزه والتمتع بطعم ليل بغداد الزاهي .

كنت متشوقا للدخول الى احدى دور السينما ، لا لمشاهدة فلم بعينه ، وانما لاستعادة ذكريات الصبى ، حينما كنت وعدد من رفاق العمر ، نتخذ لنا مستقرا في مكان ما وسط صفوف المتفرجين .. والذ ما كنت احس به هو حينما يكون انتضار تشغيل الفلم لا زال قائما ، حيث الاضواء تشيع في المكان ، واصوات باعة قناني الببسي والكوكا كولا تنثر الفرح على الجميع ، من خلال صيحات حامليها في صناديق خاصه وهم يهتفون ( بارد .. بارد ) .. بينما يسحبك كمال الطويل او محمد عبد الوهاب الى الحان شجية تشنف الآذان من خلف الشاشة البيضاء استعدادا لبدء العرض .. لم يكن بوسعي ان ألبي رغبتي لضيق الوقت ، وحاجة من معي للتمتع بما يشتهون وليس ما أشتهي أنا فحسب .. فدخلت احدى المقاهي المفتوحه والقريبه من ضفة دجلة الخالد ، المكان عبارة عن ساحة خضراء ، برع صاحبها في توزيع انواع الزهور على جنباتها ، مع رصف الكراسي المصنوعة من اعواد سعف النخيل وبطريقة بديعه ، حاول من خلال توزيعها ضمان راحة وعزلة العوائل الوافده الى المقهى .. طفلتي كانت لا تريد لنا ان نهدأ ، فكنا نلاحقها بين الحين والاخر لصدها عن الوصول الى ما لا نرغب .. في حين راح بقية من معها من الاطفال ، يتمتعون بوقتهم وعلى طريقتهم الخاصه .

لم يكن بوسعي ، وأنا ارقب حركة من معي في المقهى من العوائل ، إلا التطفل بنظراتي واحاسيسي ، لمعرفة مقدار السعادة التي يشعر بها افرادها ، وهم يتصرفون كما يحلو لهم دون ذلك الاحساس الثقيل بالخوف او ترقب حدوث أمر غير اعتيادي .. ومع كوني اعلم حق العلم ، بان كل فرد من اولئك المتواجدين معي ، يحمل في طيات نفسه ما لا يمكن الافصاح به حينذاك ، إلا انني كنت متأكد جدا ، بان الجميع كانوا سعداء بما فيه الكفايه ..

ترى .. بحكم أية شريعة سرقت ليالي بغداد الجميلة تلك ؟ .. ومن أباح للعابثين أن يبعثروا فرح الناس وبهذه الطريقة البشعه ؟ .. لماذا أصيبت عاصمة بلادي الحبيبة بهذا الخدر المميت ، حتى باتت لا تقوى على الكلام إثر جراح لا تريد ان تنقطع عن النزف المريع ؟؟ .. متى ينتهي جشع المفسدين من مدعي الوطنية المزوره ، لكي تسترجع بغداد عافيتها ، ويعود الناس لممارسة حرياتهم في شوارعها ومقاهيها وباراتها كيفما يحبون ؟ .. لمصلحة من.. تموت المسرات وتقلص الاعياد ، ويجري إفساد الاذواق ، وتغلق أبواب الفرح البريء في بغداد ، حتى باتت مظلمة لا حراك فيها ولا يشوب اجوائها إلا رائحة الموت واصوات الرصاص ؟ .

لا ادري .. سوى أنني عاجز عن ألشعور بالأمل القريب ، في ان يعود الزمن الجميل ، الى ربوع لم تكن تعرف غير أطياف المودة المتبادله .



#حامد_حمودي_عباس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار تلامس ما نحن فيه من أزمه
- نحن والتاريخ
- بعيدا عن رحاب التنظير السياسي
- حينما يصر أعداء العلمانية على رميها بحجر
- عمار يا مصر ... 2
- عمار يا مصر
- نذور السلطان .. 5
- ما لا يدركه الرجال .
- نذور السلطان ... 4
- نذور السلطان ..3
- نذور السلطان ..2
- نذور السلطان
- الإمساك بأمجاد الماضي ، وحده لا يكفي .
- رساله مفتوحه إلى السيده بيان صالح
- رسالة مفتوحه إلى السيده بيان صالح .
- إرفعوا أيديكم عن المسيحيين في مصر والعراق !
- أفكار من أعماق الذات
- حقوق النساء ، وإستحالة الحضور مع الواقع العربي الراهن .
- إبحار في مشاعر أنثويه
- عام جديد .. وأمنيات شخصيه .


المزيد.....




- المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا ...
- المجلس النرويجي للاجئين يحذر أوروبا من تجاهل الوضع في السودا ...
- إعلام إسرائيلي: مخاوف من أوامر اعتقال أخرى بعد نتنياهو وغالا ...
- إمكانية اعتقال نتنياهو.. خبير شؤون جرائم حرب لـCNN: أتصور حد ...
- مخاوف للكيان المحتل من أوامر اعتقال سرية دولية ضد قادته
- مقررة أممية لحقوق الانسان:ستضغط واشنطن لمنع تنفيذ قرار المحك ...
- اللجان الشعبية للاجئين في غزة تنظم وقفة رفضا لاستهداف الأونر ...
- ليندسي غراهام يهدد حلفاء الولايات المتحدة في حال ساعدوا في ا ...
- بوليفيا تعرب عن دعمها لمذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت
- مراسلة العالم: بريطانيا تلمح الى التزامها بتطبيق مذكرة اعتقا ...


المزيد.....

- أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال ... / موافق محمد
- بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ / علي أسعد وطفة
- مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية / علي أسعد وطفة
- العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد / علي أسعد وطفة
- الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي ... / محمد عبد الكريم يوسف
- التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن ... / حمه الهمامي
- تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار / زهير الخويلدي
- منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس ... / رامي نصرالله
- من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط / زهير الخويلدي
- فراعنة فى الدنمارك / محيى الدين غريب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - المجتمع المدني - حامد حمودي عباس - بغداد ... متى يتحرك في أركانها الفرح من جديد ؟