|
-اسطنبول- أورهان باموق: سيرة حياة ومدينة
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 2925 - 2010 / 2 / 23 - 18:58
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
أطلق أورهان باموق على الكتاب الذي خصصه للحديث عن مدينته وعلاقته بها اسم ( اسطنبول )*. وهذا العنوان بدءاً لا يكشف لنا جنس الكتاب الذي بين أيدينا. هل سيصطحبنا المؤلف في دهاليز التاريخ، أم سيحكي عن اسطنبول المعاصرة؟ أم سيتنقل بين الماضي كما قرأ عنه ووجد آثاره، وبين الحاضر كما عاشه وخبره؟ أهو كتاب في الجغرافيا مشرّبة بعلوم الطبيعة، أم في الأنثربولوجيا؟ أم تراه سيجعل من المدينة مناسبة للخوض في إشكالية العلاقة بين الشرق والغرب؟ أو ربما سيرسم بالكلمات لوحة عن المدينة كما صُوِّرت عبر عيون الرحّالة والمستشرقين في غضون بضع عشرات، أو مئات من السنين؟. ينطوي العنوان على الرغم من بعض تجريده وكونه مباشراً ( حافياً ) على شيء من الغموض، أو قل على عنصر مخاتلة. لكنه في النهاية يمنحنا وعوداً خصبة، لاسيما مع اسم مؤلفه أورهان باموق الحائز على جائزة نوبل للآداب 2006. وحين ننتهي من قراءة الصفحات الأولى يتهيأ لنا أن باموق أسقط عامداً كلمة ( أنا ) التي من الممكن أن تكون معطوفة على اسم المدينة لأسباب قد لا تتعلق بالتواضع، وإنما لرغبته في أن يحلّق في فضاء الكتابة بحرية تتجاوز اشتراطات الأنا وحدودها. والكتاب في جانب منه إذن سيرة مدينة، وفي جانب آخر سيرة أنا الفنان وصورته في إطار الصورة الشاملة والمجسّمة للمدينة. وقد تنبه المترجم الأستاذ عبد القادر عبد اللي لهذه الحقيقة فأضاف كلمتي ( الذكريات والمدينة ) على العنوان الأصلي ( اسطنبول ) ليوضح للقارئ طبيعة الكتاب وتوجّه الكاتب. نرصد اسطنبول بعيني أورهان باموق الطفل لنعيش معه متعة الاكتشاف الأول للأشياء.. الشغف بالاكتشاف مع ما يستدعيه من فضول وبراءة ودهشة. ولأن أورهان الطفل كان يفصح عن موهبة مبكرة بالرسم فقد طغى حس الفنان على رؤيته، حيث العالم يتجلى بالأسود والأبيض كما لو أننا إزاء شريط سينمائي قديم، أو في فضاء حلم. وباسترساله في تدوين سردية المدينة سينفض باموق الغبار عن بعض من أرشيفها، لا لينقل لنا شيئاً من عبق التاريخ وحسب، وإنما ليعطينا صورة بانورامية مركّبة عنها، هي مجموع ما التقطه بعين الفنان والباحث المدققة. كان في ذهن أورهان الطفل أورهان آخر، التوأم والقرين، المستنسخ الذي يشبهه ويعيش في بيت يشبه البيت الذي يعيش فيه هو، تماماً. وفي زقاق آخر من اسطنبول. وكان يغادر نفسه ليحل محل ذلك الآخر الذي يوفر له فسحة واسعة من الحرية افتقر إليها هو.. ألا يعكس هذا قوة خيال استثنائي وعقل غض لمّاح، وروح متحفزة، تبغي التحرر من إسار المكان ومواضعاته، والانطلاق خارجاً، بكل ما في الخارج من ممكنات ومفاجآت ووعود؟. ولم يكن السبب في هذا الهرب تعاسته الذاتية، مثلما يخبرنا، بل "لأن الحياة، وصالون البيت المتحفي وممراته وسُجّاده ( أكره السُجّاد ) وجمع الرجال الناضجين الفضوليين لحل الأحاجي الرياضية كانت تبعث على الضيق كثيراً، ثم زيادة الظواهر اللامعنوية، واللاحب، واللاتصوير، واللاأدب ( اللاحكائية ) ( أنكروا هذا مع تقدمهم في السن ) وامتلاء البيت بالأغراض وظلمته وبعثه على الضيق". إذن، يحب أورهان باموق مدينته، غير أنه يضيق ذرعاً بها أحياناً.. تُدهشه مناظرها الجميلة والآسرة، وآثارها المعرّضة للتلف والحرائق، وتسبب له الملل أيضاً. وشرطه الإنساني المتبدل، بفعل تبدل الظروف والأحوال يفضي إلى تلوّن مشاعره، وتحولها من السار والمفرح إلى الحزين والكئيب، وبذا يتقلب من الرضا والشاعرية إلى الحنق والغضب والسخرية. لكن، في نهاية المطاف، لا يمكن أن ينجز مثل هذا الكتاب، عن مدينة ما، سوى عاشق كبير لها. يقر باموق بأن الشعور الذي منحته إياه اسطنبول هو الحزن، هذه المدينة التي لا تضاهي، الآن، بأية حال أية مدينة أوربية كبيرة، بعد الهزيمة. وبقي يخيل إليه بأنه يعيش في مدينة ريفية كبيرة وفقيرة، فقدت من جانب آخر تعدديتها اللغوية والعرقية وأيامها المظفرة والطنانة، نتيجة سياسات التعصب القومي.. يقول: "وفرغت المدينة وتحولت إلى مكان خاوٍ أحادي الصوت وأحادي اللغة". فيما التأرجح بين التغريب والحياة التقليدية جعلت من كل شيء في اسطنبول ناقصاً وغير كافٍ وغير مكتمل. لعلّه لهذا سيطرت عليه فكرة ــ مثلما حصل مع بقية الاسطنبوليين ــ بأنه ليس هنا ( في مكانه ) بالكامل، وليس غريباً فيه بالكامل. لمدة طويلة، رغب أورهان باموق أن يكون رساماً.. هذا الولع جعله يتجول متسكعاً في أحياء اسطنبول وشوارعها وأسواقها وحاناتها وحدائقها ومقابرها، ويمعن النظر في البوسفور ( أمواجه وأنواره ومراكبه ) فامتلك دقة الملاحظة، والقدرة على تشرّب التفاصيل المرئية وتمثلها. فتكونت عنده ذاكرة بصرية غنية ومرهفة، مفعمة بخيال خلاّق ستعينه فيما بعد حين يودع الرسم ويمتهن الكتابة.. خاض باموق صراعاً ضارياً مع نفسه وعائلته، بالأحرى مع أمه، حول خياراته في الحياة ( هل سيكمل دراسته في العمارة ويحصل على الشهادة الجامعية، أم سيتفرغ للرسم؟ ) وقد حذرته أمه بغضب، وإلى حد الاستفزاز من عواقب أن يصبح رساماً في بلد مثل تركيا لا تقدِّر الفنانين كما هو الأمر في أوروبا، وإنما تستهين بهم وتحقّرهم. وكان هذا الصراع يأخذ شكل شجار يومي فيهرب الشاب ليتسكع في الأزقة شبه المعتمة أو على ضفاف البوسفور، أو يرتاد الحانات، يدخن ويشرب الخمر. وأخيراً، ذات يوم، وهو في العشرين من عمره، سيفاجئ أمه، وربما ذاته أيضاً، بهذه العبارة الحاسمة: "لن أغدو رساماً.. سأكون كاتباً". حتى وهو يكتب عن نفسه ( طفولته وعائلته ومدرسته وقصة حبه الأول ) كانت اسطنبول تفرض حضورها، لا خلفية للحدث فحسب، بل إطاراً شاملاً يتضمن تفاصيل الأحداث المتتابعة وكأنها جزئيات من مشهد المدينة الكبير. وهذا الكتاب من زاوية ما، ليس سوى تطور نظرة فنان إلى العالم مذ يفتح عينيه، ويجمع في حافظته من خلالهما كل ما يدور حوله، وحتى مرحلة تجاوزه سن المراهقة وبلوغه العشرين من العمر. وهكذا كتب عن اسطنبول، كما لو أنها العالم، أو أنها المدينة الوحيدة في هذا العالم.. ليست هناك إشارات قوية وواضحة إلى مدن أخرى، أو مقارنات من أي نوع معها. وحتى حين يتكلم عن رحالة ومغامرين، يُظهرهم كما لو أنهم قادمون من كوكب آخر. فاسطنبول هي محور كل شيء ومرآته، والوجود الإنساني الذي لا يتحقق إلاّ في حدود مكان يكون هنا اسطنبول لا غيرها. وهو أبداً متحيز لمكانه ذاك، يحاول إخفاء تحيزه تحت وابل من التعليقات والانتقادات اللاذعة، والتي في النهاية لا تنال من قيمة المكان بقدر ما تنال من سلوك وأخلاق بعض ساكنيه. وهو لا يزدري أبداً بقدر ما يؤلمه ويحزنه أن الوضع فيها ليس على ما يرام، أو مثلما يشتهي. فقدت اسطنبول المتروبولية سطوتها بعد انهيار الإمبراطورية وتدشين عهد التغريب. وكان كل شيء يتحول بطريقة قاسية، وليس من غير ثمن. وبدا أن التاريخ ينعطف ويتخلق في أحبولة سرد مغاير. وكان لابد من تقبل الخسارة قبل المضي قدماً بعد أن غدت استعادة المفقود وهماً. وبذا فإن مجمل أدب باموق متشرب بالأسى، يحكي عن الانكسار والتمزق بشيء من الكآبة وبشيء من السخرية المرّة، وبشيء من أمل غير راسخ، وغير مضمون تماماً. * ( اسطنبول؛ الذكريات والمدينة ) أورهان باموق.. ترجمة؛ عبد القادر عبد اللي.. دار المدى للثقافة والنشر/ دمشق ــ ط1/ 2007.
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماركس وأنجلس: صداقة في نور الفكر والحياة
-
ماركس صديقاً
-
مصادر ماركس
-
مكنسة الجنة رواية ضد سياسية في سريالية عراقية خالصة
-
يوميات القراءة لألبرتو مانغويل: انطباعات قارئ
-
أطلقوا سراح المعلومات
-
قيامة العنف
-
-خيال ساخن- في خريطة السرد المصري
-
في -ثغرها على منديل- تحسين كرمياني يحتفي بالحب
-
أسماؤنا
-
نحو استشراف مستقبل ثقافتنا
-
بعقوبة التسعينيات: ثقافة تعاند حصاراً مركّباً
-
حس الواقع
-
الولع بالقراءة: مع آلبرتو مانغويل في -تاريخ القراءة-
-
في استهلاك المصطلحات السياسية
-
القارئ مترجماً
-
شذرتا الحداثة ومأزق تحديث الدولة العربية
-
حداثة المثقف.. تحديث الدولة
-
سيرك الإعلام ومهرِّجوه
-
ذلك الانهيار في عالم الأمس لستيفان تسفايج
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|