كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 889 - 2004 / 7 / 9 - 09:36
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
حوار في مطعم حول أوضاع العراق 1-2
كاظم حبيب
2004 / 7 / 8
كان اللقاء بين عدد من العاملين في مجال الفكر والسياسة والمجتمع المدني من بعض الدول العربية في إحدى المدن الأوروبية عفوياً وغير مخصص لنقاش فكري أو سياسي بل لتكريم زميل فاضل. ولكن ما أن يجتمع بعض العرب في أي مكان كان حتى يبدأ حوار سياسي عسير بينهم يبحث في أوضاع العراق والاحتلال والمقاومة والإرهاب ... الخ. وفي الغالب الأعم ما تدخل هذه الحوارات في طريق مسدود بسبب المواقف المتباينة, وهو أمر غير سلبي, بل طبيعي ويعبر عن حرية الفكر والحق في التباين إذا ما حافظ الحوار على القواعد الديمقراطية. وإذا كان حوارنا في المطعم قد اتسم بهذه الميزة, فأن الحوارات الأخرى بين كثرة من المواطنين العرب غالباً ما تنتهي بالإساءات والتجاوزات التي تعبر عن هيمنة الأجواء غير الديمقراطية, رغم العيش في الأجواء الديمقراطية للبلدان المضيفة, وليس في عالمنا العربي الذي يفقد الحياة الديمقراطية إلى ابعد الحدود.
كانت الإشكالية التي أثارت النقاش تكمن في أن بعض العرب الأقحاح اتهموني "بالعمالة" للولايات المتحدة الأمريكية وتسلمي مئة ألف دولار أمريكي من المخابرات المركزية. وكان البعض من هؤلاء قد ورط السيد الدكتور محمد المسفر فتحدث عن هذه "العمالة" المزعومة عبر الاتصال الهاتفي في قناة شبكة الأخبار العربية ANN, مما أجبرني على طلب تنظيم ندوة لي لمناقشة الموضوع وإلا سأكون مجبراً على نقل الأمر إلى المحاكم في الإمارات حيث يعيش الزميل وإلى لندن حيث تبث القناة المذكورة من هناك. واقترحت أن يمنح التعويض الذي تقرره المحكمة إلى أحد دار الأيتام الكثيرة التي تركها صدام حسين خلفه في العراق. وقد رجوت مكتباً للمحاماة لمتابعة هذا الموضوع في حالة إقامة الدعوى. ولكن انتهى الأمر بتنظيم الندوة وإدارتها من قبل السيد الدكتور قاسم المزرعاني وحضور الدكتور المسفر على الهاتف ليتحدث من الإمارات ويعتذر عما بدر منه إزائي شخصياً وإزاء المتهمين الآخرين الذين تعرضوا للإساءة دون أدنى مبرر أو وثيقة تسمح بتوجيه مثل هذا الاتهام البائس. ورجوته أن لا يكرر مثل هذه الاتهامات ضد أي إنسان كان باعتباره أستاذاً جامعياً المطلوب منه تعليم الطلبة طريق الوصول إلى الحقيقة لا غير, وإذا كانت لديه أدله ضد هذا الشخص أو ذاك, فما فعليه إلا أن يذهب إلى المحاكم لمقاضاة مثل هذا العميل البائس.
وقبل نقل الحوار الذي دار في المطعم يفترض الإجابة عن السؤال التالي: ما السبب وراء هذه الحملة غير النظيفة من بعض العرب؟
لم يكن لدي الوقت الكافي للرد على مثل هذه الأقاويل والأكاذيب والإساءات, إذ من الأفضل أن أنصرف إلى عملي البحثي أو أي عمل فيه الفائدة لي وللآخرين من أن أنشغل بهذه الإساءات التي لا يمكن إلا أن يردد الإنسان قول الشاعر:
إذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة بأني كامل
رغم عدم وجود إنسان كامل في هذه الدنيا.
إلا أن إصرار بعض الأخوة جعلني أستثمر فرصة اللقاء للحديث بالشأن العراقي وأن أطرح للقراء العوامل الكامنة وراء مثل هذه الحملة الظالمة ودون وجه حق:
• من كان يتابع أحداث العراق قبل حرب الخليج الثالثة ممن يعمل في المجال الفكري والسياسي من العراقيين والعرب, وخاصة في ألمانيا, عرف موقفي الذي تشكل من جانبين:
o ضد الحرب على العراق ومن أجل رفع الحصار الفوري ضد الشعب العراقي وإدانة قرار تحرير العراق الذي أقره الكون?رس الأمريكي. وبينت الأسباب الكامنة وراء هذا الموقف بمقالات كثيرة؛
o ضد نظام صدام حسين الدكتاتوري الدموي بمكوناته السياسية الفاشية والعنصرية, والدعوة إلى وحدة القوى السياسية العراقية لإسقاط نظام البعث الصدّامي, والعمل لتأمين دعم الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي والشعوب العربية والقوى الديمقراطية فيه لتحقيق هذا الهدف.
إذا كان الموقف الأول قد انسجم مع رأي هؤلاء البشر الذين يهاجموني اليوم, فقد أغاظهم موقفي من النظام العراقي كثيراً, خاصة وأني قد نشطت كثيراً في مجال الندوات التلفزيونية والندوات الشعبية مع الألمان والمقالات الكثيرة التي نشرتها أيضاً. ولقد وجهت رسالة مفتوحة باللغة الألمانية إلى نشطاء حركة السلام ومعاداة الإمبريالية تضمنت توضيحاً للأوضاع في العراق كما تضمنت نقداً صريحاً وواضحاً لهؤلاء الناس لعدم فهمهم للعلاقة القائمة بين النضال ضد الحرب والاحتلال ومنع وقوعهما يتطلب في الوقت نفسه النضال ضد الدكتاتورية ومن أجل تمتع الشعب العراقي بالحرية والديمقراطية والسلام.
• وكل الذين كانوا يتابعون الوضع في عراق صدام حسين من العراقيين والعرب في الخارج, دع عنك الداخل, كانوا يعرفون بأني أقف بحزم وصرامة إلى جانب حق الشعب الكردي في تقرير مصيره بنفسه, وبما أنه اختار إقامة الفيدرالية الكردستانية في العراق الموحد, فأنا إلى جانب هذا الحل السليم, وأن من يسلب هذا الشعب المناضل حقه ولا يحترم إرادته الحرة, فأنه لا يحترم قوميته بالذات ولا يفهم معنى الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ولا يتمتع بها أساساً. ويهمني جداً أن يطلع جميع الأخوة العرب على مقال لي كتب منذ شهور تحت عنوان "رؤيتان مختلفتان حول المسالة الكردية في العراق" نشرت في الكثير من الصحف العراقية كما يمكن الاطلاع عليها في موقع الحوار المتمدن www.rezgar.com حيث لي صفحة خاصة في هذا الموقع وباسمي, إذ أشير فيه إلى الرؤية الديمقراطية لحل المسألة الكردية لصالح الشعبين الكردي والعربي في العراق ولصالح القوميات الأخرى, وبين الحلول القومية اليمينية المتطرفة التي تتمسك بعقلية شوفينية رجعية عاجزة عن رؤية حقوق الشعوب الأخرى ولا تفكر إلا بحريتها, وهي محرومة منها أيضاً.
• بعد سقوط النظام العراقي اتخذت موقفاً واضحاً جداً تميز بالاتجاهات التالية:
o إدانة الفوضى والنهب والسلب الذي لم توقفه القوات التي شنت الحرب وأدت إلى تدمير إضافي للواقع العراقي المدمر من الحروب والسياسات الصدامية. وبالتالي فهي لم تسقط النظام فحسب, بل أسقطت الدولة العراقية. وكان هذا أحد أسباب ما يعيشه الشعب حالياً.
o رفض قرار الاحتلال واعتباره مساساً بالاستقلال والسيادة الوطنية وتجاوزت على ما ادعت بأنها جاءت محررة لا محتلة. وهي تذكرنا بموقف الجنرال مود البريطاني عندما احتل بغداد في عام 1917 حيث قال "جئنا محررين لا محتلين", وكان كاذباً.
o ضرورة الإسراع بتسليم السلطة إلى ممثلي المعارضة العراقية التي قاومت النظام الصدّامي في الداخل والخارج وقدمت أغلى التضحيات على طريق النضال.
o تشكيل وإرسال قوة دولية تابعة للأمم المتحدة إلى العراق من أجل أن تأخذ على عاتقها مع الشعب العراقي حماية الأمن والسلام وإنهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة الوطنية وإعادة إعمار البلاد.
o رفضي الثابت النشاطات الإرهابية التي نظمتها فلول نظام صدام حسين الملطخة أيديها بدماء الشعب والمؤسسة للمقابر الجماعية في سائر أنحاء العراق ورفضي اعتبارها أعمال مقاومة للمحتلين, فالنظام الصدّامي هو الذي تسبب باحتلال العراق وهو الذي أفقد العراق الاستقلال والسيادة الوطنية منذ ما يزيد على خمسة عشر سنة وخاصة في أعقاب حرب الخليج الثانية. وكل منصف يستطيع أن يؤكد ذلك.
o أدنت السياسات الخاطئة والقاتلة التي مارستها سلطات الاحتلال والتي أدت إلى إبقاء حدود العراق مفتوحة أمام قوى الإسلام السياسي المتطرفة والإرهابية والولوج إليه والبدء بالعمليات التخريبية. وقد نبهت إلى ذلك في وقت مبكر جداً. كما كانت أخطاء قوى الاحتلال كبيرة في طريقة تعاملها مع المجتمع العراقي, وهي من خصائص قوى الاحتلال في كل أنحاء العالم, وإسرائيل تقدم النموذج الأكثر عدوانية في المنطقة في احتلالها لفلسطين وتعاملها مع الشعب الفلسطيني.
o أدنت سياسة الولايات المتحدة الخاطئة والقاتلة الداعية إلى تقسيم طائفي للسلطة في العراق, كما حصل في مجلس الحكم الانتقالي ورفضت مواقف القوى التي قبلت بذلك.
o أدنت مواقف قوى نشطاء السلام والمعادين للإمبريالية المتعاونة مع بعض القوى البعثية الصدّامية وتلك التي تدين بالولاء إلى صدام حسين ونظامه المخلوع والتي دعت إلى جمع التبرعات لدعم تلك القوى التي تدعي المقاومة والتي قتلت أضعافاً مضاعفة مما قتلت من الجنود الأمريكيين, وهي تساهم اليوم في تعطيل عملية إعمار البلاد وإعادة الحياة للاقتصاد الوطني وقطع الموارد المالية النفطية عنه.
o دعوت إلى أن الشعب العراقي يمتلك حساً صادقاً وسليماً في مناهضته للاحتلال ولا بد من استثمار ذلك في الوقت المناسب لشن نضال سلمي لإخراج المحتل. وأن الشعب سيحصل على دعم واسع من قبل الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي المعارض لسياسات الولايات المتحدة بشأن العراق بدلاً من خوض عمليات مسلحة غير قادرة على تحقيق المطلوب, وهي موجهة أساساً ضد الشعب. وقد وجهت رسالة مفتوحة باللغة الألمانية دعوت فيها إلى رفض جمع التبرعات لهذه القوى التي كانت تؤيد نظام صدام حسين وهي تسعى على غقامة نظام مماثل له في العراق.
o أشرت بوضوح إلى أن مجلس الحكم الانتقالي ليس أداة بيد بريمر, بل تشكل بالرغم من إرادة الإدارة الأمريكية التي كانت تريد حكم العراق مباشرة وإبعاد القوى الوطنية عن الساحة السياسية وعن الحكم. وأن مجلس الحكم يمثل بتشكيلته السابقة جزءً كبيراً ومهماً من الشعب العراقي, رغم أنه يضم عناصر قليلة جداً مؤيدة بالكامل لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية, ولكنها لا تشكل الأكثرية في المجلس بل أقلية ضئيلة جداً, وأن دعمنا للمجلس يشكل قوة له في مواجهة قرارات بريمر. ولا يعني هذا عدم انتقاد المجلس عن الأخطاء التي يرتكبها في مسيرته القصيرة, بل لا بد من ممارستها, ومارستها من جانبي فعلياً. وعلى المتتبع بعد أن حل المجلس أن يعرف من هي القوى التي كانت تعمل فيه, إذ أن غالبيتها العظمى كانت مناهضة لنظام صدام حسين ومناضلة ضده وليست دخيلة على الحركة الوطنية العراقية.
o وأشرت بوضوح لا يقبل الإبهام أو سوء الفهم بأن القوى التي تمارس الإرهاب في العراق هي القوى التالية: فلول صدام حسين, تنظيم القاعدة, أنصار الإسلام, جيش أنصار السنة, التوحيد والجهاد, جيش المهدي, إضافة إلى عصابات الجريمة المنظمة بمختلف أنواعها وتشكيلاتها, وخاصة تلك التي أطلق سراحها صدام حسين قبل سقوطه بقليل لإشاعة الفوضى والجريمة في البلاد بعد سقوطه. كما أن هناك بعض العناصر التي تقاوم لأسباب عديدة بما في ذلك كرهها للاحتلال ورفضها له أو انتقاماً لقتلى سقطوا لهم, ولكنها جماعة صغيرة جداً جداً لا تتجاوز أصابع اليدين. وفي رأيي أن هذه الجماعة الأخيرة اتخذت مساراً خاطئاً مما يضعها في صف الإرهابيين, إذ أن أفعالهم لم تعد تطال الأمريكيين, بل العراقيين في الغالب الأعم. وأغلب الظن أنها كفت أيضاً هن العمل المسلح.
o وعندما تشكلت الحكومة الجديدة أشرت بوضوح إلى رأيي فيها ويمكن الاطلاع على الموقف في أكثر من مقال نشر في الموقع الذي أشرت إليه, كما نشر في صوت العراق وفي مواقع أخرى وصحف عراقية عديدة, ولا أجد مبرراً لتكراره خاصة وأنه سيرد ضمن الحوار الذي دار بيننا في جلسة المطعم في الحلقة الثانية.
من الضروري في هذا الصدد الاطلاع على مقال لي تحت عنوان "لست مناهضاً للولايات المتحدة الأمريكية .. ., ولكن!" وهو مقال يوضح رأيي بشكل دقيق إزاء السياسات الأمريكية العولمية والحروب الإستباقية والأمم المتحدة وعلى مستوى العراق والمنطقة والقضية الفلسطينية .... الخ وهو منشور في الصفحة المخصصة لي في موقع الحوار المتمدن أيضاً.
إن محاولة الإساءة لي أو لغيري من العراقيين منذ سقوط نظام صدام حسين في العراق لا شك أنها تنطلق من مجموعتين من البشر:
1. إما مجموعة تستهدف الإساءة أصلاً لأنها لا تمتلك الحجة الكافية للدفاع عن وجهات نظرها بشأن الواقع العراقي ولها مواقف محددة فكرية وسياسية إزاء مجمل القضايا التي أطرحها, وخاصة تلك التي أشرت إليها في أعلاه.
2. وإما جماعة لا تعرف عني شيئاً وتردد ما تسمعه من آخرين, أو أنها من الجهلة الأميين في النواحي الفكرية والسياسية والوعي الاجتماعي, رغم قدرتهم على القراءة والكتابة.
وهناك من يختلف معي, ولكن يعرفني جيداً أو بالحدود الكافية التي لا تسمح له بتوجيه مثل هذه الاتهامات البائسة التي تدلل على مرض أصحابها, ولكنها تسمح له بتبادل وجهات النظر بحرية وباحترام متبادل, فاحترام الرأي والرأي الآخر مسألة مركزية في قضايا حقوق الإنسان وفي النشاطين الفكري والسياسي. إن ترديد الشتائم والاتهامات قضية قديمة ابتلت بها الحركة السياسية اليسارية والحركة القومية وقوى الإسلام السياسي. فما أن اختلف البعض في وجهات النظر حتى رفع في وجه الآخر تهمة العمالة للأجنبي, وإذا كانت الحركات القومية والإسلامية تتهم الشيوعيين والأحزاب الشيوعية بالعمالة للسوفييت والمعسكر الاشتراكي, وهي على خطاً طبعاً, فأن الحركات اليسارية, ومنها الأحزاب الشيوعية, كانت تتهم الآخرين بالعمالة للولايات المتحدة وبريطانيا أو فرنسا أو للمعسكر الرأسمالي عموماً, وهي في الغالب لم تكن تهماً واقعية أو صحيحة. وهذا المرض القديم ما يزال يعاني منه البعض من القوى السياسية, وخاصة القومية منها, وهو دليل ضعف وهزال لا قوة, رغم أن البعض ممن يردد هذه الفتاوى والاتهامات لا يمتلك الوثائق التي تسمح له بتوجيه مثل هذه الإساءات ويعرف أنها غير مطابقة للحقيقة بل على النقيض منها. وهي تعبير عن عدم احترام الرأي والرأي الآخر وعدم احترام لحقوق الإنسان وكرامته التي ينبغي أن تصان وأن لا تمس بأي شكل كان. إن طريقة توجيه الاتهامات طريقة فجة وقاسية, وأن الجماعة التي تثير مثل هذه الاتهامات تعمل وفق القاعدة التي سار عليها هتلر والقائلة "افتروا ثم افتروا ثم افتروا, لعل بعض افتراءاتكم تعلق بأذهان الناس".
برلين في 06/07/2004 كاظم حبيب
***********************
حوار في مطعم حول الأوضاع في العراق 2-2
كانت الأسئلة التي تدور في بال الأخوة الأفاضل ونحن نتحاور حول الوضع في العراق كثيرة. وكان عددنا خمسة, انقسمنا إلى مجموعتين, إحدى المجموعتين, وأنا منهم, ترى بأن ما يجري في العراق من عمليات عسكرية ليست مقاومة بل عمليات إرهابية مدمرة للعراق وشعبه, في حين كانت المجموعة الأخرى لا ترى ذلك ولكنها تتفق بأن الأعمال التي توجه ضد الشعب العراقي هي إرهاب دون شك مع قناعتها بأن ما يوجه ضد الولايات المتحدة يقع ضمن عمل المقاومة. ولا يفترض أن يكون هناك اتفقاً في التفاصيل أيضاً داخل المجموعتين. كانت الآراء عند المجموعتين متبلورة والمواقف مستقرة, وبالتالي يصعب الوصول إلى مواقف مشتركة. ولكن كان توضيح المواقف مهم في هذا الشأن. وإذا كان الحوار قد بدأ حول الوضع في العراق فقد امتد ليشمل المسألة الكردية وحق تقرير المصير والهوية العراقية ومضمون الهوية وحول العلمانية والتغلغل الإسرائيلي في كردستان العراق كما جاء في مقال سايمور هيرشSeymour Hersh في صحيفة ال?اردينال في 21 حزيران/يونيو 2004 تحت عنوان "مع اقتراب الثلاثين من حزيران تنظر إسرائيل نحو الكرد" وفق المعلومات المقدمة له من الطرف التركي في الحكومة التركية والتي نعرف نواياها جيداً إزاء الكرد. لقد كان حواراً مغنياً ومفيداً للجميع. وكان الاتفاق قائماً حول حق الشعب الكردي في الفيدرالية وفي العراق الديمقراطي, وحول الهوية بشكل عام والتشابك الموجود في هذه الهوية العراقية. ويمكن القول بأن مثل هذه الجلسات الديمقراطية ذات أهمية فائقة لتطوير فكر الإنسان بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف في وجهات النظر, بل هي ذات أهمية كبيرة لهذا السبب أيضاَ.
كان الاختلاف يدور حول صواب أو خطأ تعاون القوى السياسية الوطنية العراقية ضمن مجلس الحكم الانتقالي في ظل الاحتلال الأمريكي-البريطاني للعراق, وخاصة كيف يمكن للحزب الشيوعي العراقي أن يشارك في مثل هذا المجلس. وكان الاختلاف يمس موضوع هل ما يجري في العراق مقاومة أم إرهاباً وأين الفاصل بينهما, وكذلك حول طبيعة الحكومة الجديدة وطبيعة الدكتور أياد علاوي ... الخ. لم تكن المجموعة التي تتحاور معي ذات وجهة قومية يمينية, بل ذات طبيعة ديمقراطية تقدمية وماركسية, ولهذا كانت المهمة سهلة وصعبة في آن.
كان السؤال: كيف أطالب بدعم الحكومة الراهنة وأطلب وضع برنامج لها وإنجاز مهمات وطنية وهي حكومة فرضتها الإدارة الأمريكية على العراق؟ وجاء السؤال على أثر الحلقات الخمس من المقال الذي كتبته ونشرته تحت عنوان "المهمات الخاصة لفترة الانتقال في العراق".
أشرت في هذا الحوار إلى ما يؤكد بأني أعبر عن وجهة نظري الشخصية وعن قناعاتي حول الوضع في العراق ولا أتحدث باسم شخص أو حزب أو كتلة معينة وقلت: ليست هذه الحكومة تجسد المصالح الأمريكية في العراق, إنها حكومة مؤقتة تشكلت تحت وطأة صراع واضح بين الطرف العراقي الذي تمثل في الغالبية العظمى من أعضاء مجلس الحكم الانتقالي ومن ورائه الغالبية العظمى من الشعب, وبين الطرف المحتل للعراق بإدارة بريمر, وبين ممثل الأمين العام للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي السيد الأخضر الإبراهيمي. وبالتالي, فالحكومة بتكوينها الحالي عبارة عن مساومة مهمة ومقبولة نسبياً ومرحلياً بين الأطراف الثلاثة, حيث توصلوا إلى أفضل ما يمكن الوصول إليه في ظل الأوضاع الراهنة وليس بالضرورة الأفضل الذي تسعى إليه كل القوى الوطنية. كما أن هيئة الرئاسة تعبر عن مصالح الشعب بشكل واقعي وفعلي. وهو الأمر المهم أيضاً. إذ لدى هيئة رئاسة الجمهورية الحق في رفض أو المصادقة على قرارات مجلس الوزراء, رغم التأثير الأمريكي القائم على الوضع العام بسبب وجود العدد الكبير من القوات الأجنبية, وخاصة الأمريكية, في العراق. في الحكومة العراقية المؤقتة تجد التيارات المختلفة التي تعبر عن المصالح الأمريكية, ولكن ليست بالضرورة الصرفة, بل تتداخل مع المصالح العراقية, والتيارات التي تدافع عن مصالح الوطن عموماً ومصالح القوميات المختلفة, كما تجد فيها من مختلف الأحزاب السياسية والقوى غير الحزبية, إضافة إلى وجود بعثيين سابقين يحتلون مواقع مهمة في الوزارة ولكنهم, كما يبدو, لم يتورطوا بجرائم ضد الشعب. إن هذا لا يعني أني من مؤيدي كل الوزراء, فلدي تحفظات على هذا الوزير أو ذاك, ولكن هذا لا يمنع من دعمي لها ومطالبتها بتنفيذ مهمات مرحلة الانتقال على أفضل وجه ممكن. إن ما يهمني هنا هو اتفاق القوى الوطنية العراقية على هذه التشكيلة الحكومية الراهنة أولاً وإنجازها للمهمات الملقاة على عاتقها من منطلق المصالح العراقية ثانياً وإنهاء وجود القوا الأجنبية بأسرع وقت ممكن ثالثاً. ولدي الثقة بأن الشعب العراقي سيبقى يضغط بهذا الاتجاه والجميع, بغض النظر عن وجهات نظرهم, يريدون إيقاف الإرهاب وبدء عملية إعادة إعمار العراق وتحسين أوضاع الناس والخلاص من القوات الأجنبية.
كانت المجموعة الأخرى تؤكد أن رئيس الوزراء عميل أمريكي مفضوح لا يمكن أن يخدم مصالح العراق وكذا الذين جاء بهم, وبالتالي فمن غير المعقول أنها ستنفذ مصالح الشعب العراقي, وأن الصحافة الأمريكية تتحدث بصراحة بهذا الصدد. ولا يمكن لوزارة من هذا النوع إلا تنفيذ الإرادة الأمريكية ومصالحها في العراق.
أشرت إلى رأيي بالقول بأن من المعروف أن تحرير العراق من ربقة الدكتاتورية كان نتاجاً عرضياً للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة والعالم, هذا صحيح, ولكن الولايات المتحدة ليست حرة في تنفيذ مشاريعها في المنطقة, فالشعب العراقي, ومعه قواه السياسة الوطنية, يسعى للحفاظ على الثروة النفطية في إطار قطاع الدولة ويمنع قدر الإمكان المساس بها, كما أن الحكومة ليست حرة في ما تريد أيضاً, فالشعب يسعى إلى تحقيق مصالحه والوضع لا يساعد إلا بهذا الاتجاه, وأن الحكومة تسعى إلى إدخال الأمم المتحدة لتقود عملية الحفاظ على الأمن واستعادة الاستقرار والطمأنينة إلى النفوس في العراق بدلاً من الدور الأمريكي-البريطاني الراهن. إن قرار مجلس الأمن 1546 بنقل السلطة لم يمنح العراق السيادة الكاملة, رغم نصه على ذلك, ولكن علينا أن نناضل في سبيل تعزيز استقلالية القرار العراقي. وهي مهمة غير سهلة ولكنها ضرورية وممكنة. كما أني لست واثقاً مما تقولون بشان العمالة وبالطريقة التي تطرح, فهو قد تعاون للخلاص من صدام حسين ونظامه, فهل هو بالضرورة عميل ولا يخدم مصالح العراق. أنا شخصياً لا أستطيع اتهام أي إنسان بالعمالة, ما لم أمتلك ما يؤكد ذلك. تشير الصحافة الأمريكية إلى تعاون الدكتور العلاوي مع المخابرات المركزية ووزارة الخارجية. ولكن إلى أية حدود وبأية صفة, هذا ما يفترض التحري عنه وليس كيل التهم. علينا أن نترك هذا للتاريخ, ولكن المهمة مواجهة الإرهاب الذي يدمر الشعب ومصالحه.
أشار الأخوة إلى أن أعمال المقاومة وإرادة السيد السيستاني كانا من العوامل الأساسية في اضطرار الإدارة الأمريكية إلى التعجيل بنقل السيادة شكلياً وأن توافق على إجراء الانتخابات بوقت محدد.
قلت بأن القوى السياسية العراقية كانت تريد ذلك أيضاً وكانت تضغط بهذا الاتجاه والسيد السيستاني لعب دوراً إيجابياً في هذا الصدد, ولكن ليس الإرهاب, بل العديد من العوامل الداخلية والإقليمية والدولية, بما في ذلك موقف مجلس الحكم الانتقالي وموقف الشعب عموماً من الاحتلال. إن الإرهاب الجاري يمكن أن يطيل من أمد بقاء القوات الأجنبية في العراق.
أثار الأخوة موضوع الإرهاب والمقاومة وأن هناك مقاومة لقوى الاحتلال وأشاروا بعدم جواز اعتبار الجميع إرهابيين, مؤكدين أهمية هذه العمليات الموجهة ضد القوات الأجنبية في تخليص العراق من الاحتلال, علماً بأن الحضور كلهم كانوا ضد نظام صدام حسين الدكتاتوري ويعرفون دوره العدواني وسياساته التي دفعت البلاد إلى هذا الحضيض. اختلفت معهم في الجزء الأول من الموضوع حيث أشرت إلى أن القوى الفاعلة في العمليات العسكرية الإرهابية هي قوى الإرهاب, سواء أكانت فلول صدام حسين أم القاعدة ... كما جاء في الحلقة الأولى, وأن الإرهاب يعطل الحياة العامة وإعادة البناء وإخراج القوات الأجنبية بسرعة من البلاد. اتفقوا على أن العمليات الموجهة ضد الشعب العراقي هي عمليات غير مقبولة وإرهابية, ولكن تلك التي توجه ضد القوات الأجنبية هي مقاومة مشروعة. لا يمكن أن يختلف الإنسان في أن مقاومة الاحتلال بكل السبل هو أمر مقبول. ولكن السياسة فن الممكنات وميزان القوى يلعب دوراً مهماً في هذا الصدد, وأن إمكانيات أخراج القوات الأمريكية من العراق أمر ممكن بالطرق السلمية وبعد انتهاء فترة الانتقال, وفي حالة الامتناع يمكن خوض النضال, أما الآن فأنا أعتبر ما يجري في العراق أعمالاً إرهابية دموية غير مشروعة وينبغي التصدي لها وإيقافها, خاصة وأن قوى خارجية قد وضعت يدها بيد الإرهابيين ويحصلون على الدعم والتأييد.
أثير موضوع تعاون القيادات الكردية مع إسرائيل ووجود إسرائيليين في كردستان العراق, وأن هذا امتداد لتعاون البارزاني الأب مع إسرائيل.
أشرت إلى خطأ هذا الرأي, وأن نشر هذه المعلومات الخاطئة هي محاولة تركية, إيرانية, عربية لتشويه الواقع العراقي ومواقف قواه السياسية والقوى الكردية في كردستان العراق. لقد أكدت القيادات الكردية خطأ ما حصل في النصف الثاني من الستينات وبداية السبعينات من تعاون محدود مع إسرائيل بسبب الأوضاع المعقدة للأكراد حينذاك, وجاء أيضاً تحت الضغط الإيراني وأوضاع المنطقة. ولكن هذا التعاون الجزئي والمحدود قد انتهى وليس من مصلحة القضية الكردية أي تعاون من هذا النوع وأن القيادات الكردية هي قيادات وطنية وأنها تدرك مصلحة العراق, كما يدركها أي عراقي مخلص لوطنه, وأن المعلومات التي كتبها هيرش استقاها من الأتراك المعادين حقاً للقضية الكردية وللشعب الكردي ويخشون من الفيدرالية لأنها تساهم في تطوير نضال الشعب الكردي في تركيا وإيران ضد حكوماتهم دفاعاً عن حقوقهم ومصالحهم القومية المشروعة. أشير إلى أن الموقف الأمريكي ومواقف الشيعة إزاء المسالة الكردية والمعارضة للفيدرالية يمكن أن يدفع بالقيادات الكردية وليس الشعب الكردي إلى التعاون مع إسرائيل لضمان ظهير لها في المنطقة. اختلفت معهم في هذه القضية أيضاً وأشرت إلى أن الأكراد سيحصلون على فيدراليتهم في العراق رغم المصاعب التي يمكن أن تعترض هذا الطريق, إذ أن تجربة العقود الثمانية المنصرمة تؤكد أهمية ذلك, وأن الكرد يتحرون عن حلفاء لهم في الشعوب العربية ويأملون أن تحصل قناعة لدى العرب في العراق بحق الشعب الكردي في ذلك, كما أن الفيدرالية ينبغي أن يقررها الشعب الكردي انطلاقاً من حقه في تقرير المصير, وأن من الصائب أن تكون في العراق فيدراليتان, فيدرالية كردستانية وفدرالية وادي الرافدين. كان هناك اتفاق حول القضية الأخيرة, ولكن كان هناك تباين في الرأي حول موضع إسرائيل والعلاقة بالقيادات الكردية, علماً بأن أغلب القيادات العربية الحاكمة لها علاقات بإسرائيل وبعضها الآخر يتطلع بشوق غريب إلى إقامتها.
وأثير موضوع الانتخابات ورأى الأخوان بأن من الصائب ممارستها بسرعة لضمان وصول ممثلي الشعب إلى المجلس الوطني. اتفقت معهم بضرورة الانتخابات واختلف معهم بضرورة عدم الإسراع في ممارستها, إذ أن الأوضاع الأمنية وواقع الشعب الراهن وخضوعه للدكتاتورية طيلة 35 عاماً تجعل من سرعة إجراء الانتخابات عملية غير جدية ولا تحقق الهدف المنشود منها, وهي اختيار الشعب لممثليه بعقلانية وروية, خاصة وأن الشعب بحاجة ماسة إلى فترة هدوء وتفكير, بحاجة إلى وقت أطول للتعرف على الأحزاب والقوى السياسية وبرامجها وممثليها, بحيث يتم إعطاء الصوت لا على أساس شراء الذمم, بسبب الفقر الواسع والبطالة العامة أو بسبب الجهل بالبرامج والأهداف والأشخاص...الخ, بل على أساس الوعي بأهمية هذه الانتخابات لمستقبل العراق وأهمية البرامج والممثلين وضرورة الخلاص من وجود القوات الأجنبية في البلاد.
وجرى الحديث عن قناة الجزيرة فقيم البعض من الحاضرين الجزيرة على إنها خدمت التوجه العربي العام وكسرت احتكار الحكومات للإعلام. وهذا لا يعني أن البعض منسجم مع كل ما تنشره الجزيرة. وعبرت عن رأيي في اللقاء باختصار شديد حول الموقف من قناة الجزيرة. ولكني أحاول هنا أن أتوسع قليلاً من خلال الإشارة إلى أن قناة للجزيرة لعبت وما تزال تلعب دورا إيجابياً وآخر سلبياً, يتلخص الأول في كسر احتكار الإعلام الحكومي, والثاني تهريجي وفوضوي غير مناسب ولا يساهم في التثقيف باتجاه ممارسة الحوار الديمقراطي والاحترام المتبادل للرأي والرأي الآخر, كما أن قناة الجزيرة غير حيادية إزاء الأحداث الجارية في العراق, ففي الوقت الذي وقفت إلى جانب نظام صدام ودافعت عنه بحرارة كبيرة, تقف منذ سقوط النظام حتى اليوم ضد معالجة الإشكالية العراقية بالطرق السلمية لصالح تغيير هذه الأوضاع. وهي تعبر في وجودها في قطر عن انفصام في الشخصية الحاكمة في قطر وفي أبرز العاملين في قناة الجزيرة, فمن جهة أصبحت قطر مرتعاً لكل القوات والأسلحة الأمريكية وساحة للوثوب على الدول الأخرى في الحروب الإستباقية التي مرت والمحتملة لاحقاً, وفي الوقت نفسه تحاول عبر هذه القناة أن توازن هذا الأمر بما يستر العورة الكبيرة.
لا يمكن أن نختلف بشان المصالح التي تسعى إليها الولايات المتحدة الأمريكية في ظل الإدارة الراهنة التي تعبر بدقة عن مصالح المحافظين واللبراليين الجدد الأكثر شراسة في الدفاع عن مصالح الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسية, ودور الولايات المتحدة الرئيسي فيها. ولكن يمكن أن نختلف بشأن الوضع في العراق والمهمات, وهذا لا يدعو إلى اليأس في إمكانية الوصول إلى اتفاق بشان المصالح العراقية التي يبدو أننا ننظر إليها من زوايا مختلفة وصاحب الدار أدرى بمشكلاته ومصالحه.
إن على القوى والأحزاب السياسية العراقية, سواء أكانت كردية أم عربية أم تركمانية أم كلدانية وأشورية أم عراقية مختلطة, أن تدرك مدى أهمية العمل والتنسيق المشترك وإيجاد السبل والخطاب السياسي المناسب للحديث مع شعوب وقوى المنطقة, على أن تبقى متمسكة, كما أرى, بالثوابت التي لا يجوز التنازل عنها, ومنها السيادة والاستقلال والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق القوميات ومنها الفيدرالية الكردستانية وإجراء انتخابات حرة ونزيهة وعدالة اجتماعية...الخ.
إن مثل هذه اللقاءات والحوارات مفيدة ويفترض أن نمارسها ما دامت تبقى في حدود الأجواء الديمقراطية وهو ما تحقق في هذه الجلسة الودية غير المنظمة لأغراض النقاش بل لتكريم إنسان ديمقراطي, علماني, طيب ونبيل.
برلين في 8/07/2004 كاظم حبيب
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟