|
أنا سوري ما نيالي
منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 888 - 2004 / 7 / 8 - 07:05
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
قالت لي زوجته: لقد دخل الحمام منذ ساعة تقريبا ولم يخرج، وعلى غير عادته، فهو يدندن بأغنية لم أفهمها، أو ربما هو يغنيها بصورة خاطئة عن عمد، لست ادري!، فأنت أعلم بصاحبك. تسللت إلى جوار باب الحمام أسترق السمع، فإذا بصاحبي، كما ذكرت زوجته فعلا، يدندن : " أنا سوري ما نيالي....ولك: أنا سوري ما نيالي.." كانت كلمات الأهزوجة تتفاوت في وضوحها بالعلاقة على ما يبدو مع حركة يديه وهي تدلك جسمه، وتخيلت أن تدليكه لبعض المناطق الحساسة في جسمه كانت وراء استبداله للـ"يا" بالـ"ما"، التي غيرت دلالة الأغنية، فهو كان قد اعتاد، منذ بعض الوقت، على تجاوز أية مشكلة تواجهه، أو حادثة أو ظاهرة لا تروق له، أو كلما رجع من عمله وهو مثقل بمشاهداته اليومية، باستخدام عضوه لحسم المسألة. حتى أصبحت عبارة" أيـ... فيه أو فيها" لازمة ضرورية لكل حديث أو نقاش يجري أمامه. وكأي حرفيي تخيلت صاحبي يشحذ أداته في التحليل والتفكير وحل المشكلات. غير أنه هذه المرة قد تجاوز الحد، فأنا من المعجبين بأهزوجة " أنا سوري يا نيالي" عندما يهزج بها الفنان السوري القدير عبد الرحمن أل رشي، وما إن هممت بطرق باب الحمام لأقطع عليه استرساله في تشويه الأغنية، حتى فاجأني علو صوته ووضوحه، "....ولك أنا سوري ما نيالي..."، وكأنه، في هذه اللحظة، قد انتهى من تنظيف وشحذ أداته في حل المشكلات وحسم القضايا الخلافية. صرخت عليه: " الله لا يعطيك العافية، لقد شوهت أجمل أهزوجة وطنية.. وأنت تعلم كم أنا معجب بها.. ولك حتى في الحمام تريد أن تناكدني". خرج من الحمام، نظر إلي وقال : " أعرف أنك هنا، هل نسيت أننا على موعد.." وصمت. جلسنا في الصالون، قدمت لنا زوجته الشاي وجلست هي الأخرى، وعلامات الاستغراب الممزوج بالخوف بادية عليها، تنقل نظرها بينه وبيني، في حيرة واضحة. ما بالك يا صاحبي..،قطعت عليه صمته، منذ أن خرجت من الحمام وحتى الآن لم تتكلم بكلمة واحدة... هل آكل القط لسانك؟ نظر نحوي، وبرصانة لم أعتدها منه، قال: منذ بعض الوقت وأنا مشغول بتطوير، ما تسميه أنت وأمثالك بطريقتي" الأيـ..يه" في الحوار وحسم القضايا. وقد تستغرب إذا قلت لك: أنني اهتديت للتو إلى تحديث وتطوير " طريقتي"، وان مكوثي الطويل في الحمام، كان من اجل ذلك، فحمامي في العادة أقرب إلى التيمم منه إلى الوضوء..وما هي طريقتك الجديدة إن شاء الله! سألته: فنظر في عيني مباشرة وقال: من الآن فصاعداً سوف أضيف إلى لازمتي الحوارية التي لا يمكنني الاستغناء عنها، فقد أصبحت أعرّف بها، العبارة التالية: " ولك أنا سوري ما نيالي". ما رأيك يا صديقي العزيز بهذا التحديث والتطوير؟..ولم يمهلني حتى أعقب على ما قاله، بل تابع يقول: البارحة ذهبت لتسجيل عقد أجار شقتي الصغيرة، شقتي إياها تلك التي تعرفها، والتي كان أبو عمار يؤجرها لصاحبنا المسؤول باليوم، حيث يتدارس فيها جدول أعمال يومه التالي مع سكرتيرته. وكالعادة طلب مني الموظف رسما مختلفا عن المرة السابقة، غير أن ما لفت انتباهي وأثار استغرابي هو أنه في إشعار الدفع كتب رقما مختلفاً، فقلت له لماذا تطلب مني مبلغا مختلفا عما هو مكتوب في الوصل. نظر إلي بهدوء لافت وقال: يتوجب عليك المبلغ الذي طلبته، أما ما أكتبه في الوصل فهذه مسألة بيني وبين الدولة، هل نسيت أنني موظف حكومي. فقلت له: إذا نظير كل عقد تأخذ 500ل.س، وفي اليوم الواحد تنجز أكثر من مائة عقد، يعني بحسبة بسيطة دخلك اليومي يبلغ نحو 50 ألف. فاجأني أيضا ببرودة رده وهدوءه: لماذا تتعب حالك يا مواطن، وجودي هنا على هذه الكرسي مدفوع ثمنه، ثم أن ما أكسبه بتعبي وعرق جبيني، يذهب قسمه الأكبر للمسؤولين الكبار. "بعدين الواحد منكم ما بقدر هالقعدي طول اليوم ع هالكرسي، ولك يازلمي طلعتي خشكريشات في مخلفي ...". انتهزت فترة توقف صاحبي لأخذ مزيد من الهواء، لأهون عليه الأمر، واخفف من توتره وانفعاله، غير أنه لم يتح لي فرصة التكلم، وكأنه قرر سلفا، أن لا حديث لي اليوم معه، حيث تابع يقول: البارحة يا صديقي المتفائل جداً!، قمت بزيارة صديق محام، وعند باب بيته صادف دخولي خروج شخص من عنده، لفت انتباهي استعجاله له برد الجواب. سألت المحامي:أبو مضر، بماذا يستعجلك ضيفك الخارج من عندك؟ أجاب: قد لا تصدق، الشخص الذي شاهدته يخرج للتو من عندي هو قاض جاء لزيارتي ليقول لي أن الخصوم يعرضون مبلغاً أكبر من المبلغ الذي عرضناه، لذلك سوف يكون مضطراً للحكم لصالحهم. حاولت مقاطعة صديقي بأن رفعت صوتي، فقلت:أين الحق أين القانون؟ ثم ما أدراك أن هذا المبلغ الذي يتبازرون عليه ليس جزءاً من حل المشكلة وليس رشوة؟.يبدو أن كلماتي لم تصل إلى أذني صاحبي فتابع حديثه: بنت جارتنا أن تعرفها لقد شاهدتها أكثر من مرة عندنا، وهي طالبة في الجامعة، البارحة جاءت مع والدتها لزيارة أم عدنان، وخلال شربهم للقهوة قالت أم رزان لزوجتي: "شوري عليّ يا أم عدنان: رزان حط حطاها أستاذ أحد مقرراتها، وقال لها بصريح العبارة عليها أن تختار بين دفع مبلغ عشرة آلاف ليرة، أو أن تلبي دعوته إلى شقته. والبنت متل ما بتعرفي واقف تخرجها علـ النجاح بهالمقرر..". وأنت يا صديقي ألم تقرأ قصة ذلك الأستاذ الجامعي الذي نشرتها إحدى صحفنا المحلية، وكيف أن "الشبيحة" طاردوه حتى مكتب أحد المسؤولين عن تطبيق القانون، الذي التجأ إليه، فما كان من هذا المسؤول إلا أن سلمه لهم، معتذرا أن ليس بمقدوره مساعدته. ولا شك أنك سمعت بمسابقة الريجي التي قيل أنها ألغيت بعد أن فاحت رائحتها، " ولك العمى ما بيشبعو.." ثُم أنت ذاتك هل نسيت ما حصل مع زوجتك..." . استفزتني كلماته الأخيرة، فأطلقت من داخلي ما كنت أخشاه، خصوصا في حضرته، فهو كان قد سماني" سيد أمل"، وكان يقدمني بهذا الاسم لجميع أصدقائه، وعندما يستفسر أحد منهم عن سر هذا الاسم كان يجيبه:" أبو إياس يرى دائما بصيص الضوء في الظلمة الحالكة "، ولا أريد أن أبدو في حضرته متشائما. غير أنني لم أستطع هذه المرة أن أبدو على غير حقيقتي، كما جرت العادة خصوصا في حضرة زوجته، التي كانت قد انضمت إليها جارتها مع ابنتها. فقلت له:" ليس موضوع زوجتي هو الذي يستفزني، فإذا استجابوا لطلب نقلها أم لم يستجيبوا فهذا ليس كارثة، بل.."، وهنا تحول صاحبي كله إلى آذان وعلامات الدهشة والاستغراب بادية عليه، وحتى زوجته وضيفتيها حولن إنتباهن صوبي، فتابعت: "بل سلوك بعض الأجهزة الأمنية، وبشكل خاص ذاك العقل الذي يوجهها..،فهي لا ترى ولا تسمع عن شيء أسمه الفساد أو الرشوة أو المحسوبيات...لكن تحصي عليك أنفاسك إذا كانت قد صنفتك في خانة المعارضة. ومما يزيد في استغرابي تفننها في الإساءة إلى سمعة البلد في الخارج والداخل.. قل لي بربك ماذا تجني سورية، في هذا الظرف الدولي الجديد، وبعد كل ما جرى في العالم من تغيرات لصالح الإنسان بصورة عامة، من استمرار العمل بحالة الطوارئ والأحكام العرفية، والاحتفاظ بملف الاعتقال السياسي مفتوحاً، إلا السمعة السيئة. والذي يحيرني يا صديقي أن يتم الحكم بسجن عالم من علمائنا في الاقتصاد لمدة عشر سنوات، وهي تعادل الحكم بالموت لمن هم في سنه، وهو الغيور على مصالح البلد كما تعلم، وأن يقدم أحد كتابنا المرموقين للمحاكمة لرأي عبر عنه ، أو أن يحتفظوا بالسيد جمعة قوبان أكثر من ثلاثين يوما، ومن ثم يقدم هو الآخر إلى المحكمة العسكرية بتهمة حيازته على مطبوعات ممنوعة، تستطيع قراءتها متى شئت على شبكة الإنترنت. بل هناك قضية أسمها ثرثرة الإنترنت...ثم أخيرا لا بد أنك سمعت بما جرى في ساحة عرنوس، في يوم التضامن مع السجين السياسي.. ومما يحط العقل بالكف، يا صاحبي، أن صحفنا ووسائل الإعلام المختلفة عندنا، تتابع باهتمام ملحوظ أخبار المظاهرات والإضرابات في البلدان الأخرى، وقضايا الانتخابات..الخ، وتسهب في التعليق عليها.. أما عندما يفتح أحد عندنا فمه بنصيحة أو مطلب، أو يتجمع للاحتفال بمناسبة وطنية، أو للتضامن مع قضية عادلة، فيتم قمعه بشدة....آآآآآه متى يدركون أن في الحرية حياة لنا ولهم وللوطن ،وفي الاستبداد موتنا جميعاً". ما إن توقفت لأخذ بعض الهواء حتى سمعت زوجة صاحبي وضيفتها تقولان:" الله يحميك من الآه، ولك يا أستاذ هدي سياسة مقصودة، ونهج متعوب عليه، كيف لكان...ما سمعت المثل شو بيقول: قطع الأعناق ولا قطع الأرزاق..بدك المواطن يكون بشخصية سوية..وفي حرية بالبلد، وفي قانون وديمقراطية...وين ريحين وين.. ما سمعت شو بيقول بعض المسؤولين: الحرية والديمقراطية والقانون وجميع هذه الخزعبلات الغربية، بدا حتى تمشي عنا يكون دخل المواطن فوق العشرين ألف دولار..أنتبهوا دولار ها، ما ليرة سوري ". تدخلت الطالبة رزان مقاطعة زوجة صاحبي: معنى ذلك أن الحرية والديمقراطية في جميع الدول المتقدمة، وفي الهند، وفي لبنان و موريتانيا وفي اليمن وفي المغرب ....ليست سوى تمثيلية ومن اختراع الصهيونية، الله يحمي بلدنا منها ومن شرورها!!!". صاحت أم رزان فجأة: والله تحولت قعدتنا كلها إلى غم بغم، يلعن بو هالحالة.." ما إن صمتت حتى أدارت زوجة صاحبي مفتاح التلفاز وإذا بفنانا القدير عبد الرحمن آل رشي بكل كبريائه وهيبته يهزج:" أنا سوري.. "، وفي ظل الدهشة والانبهار، من هذه المصادفة التي أخذت منا جميعا أنفاسنا، شرعنا جميعا وبصوت واحد نغني معه : " أنا سوري ما نيالي " وإذا سألت صاحبي أو زوجته أو ضيفتيها لأقسم كل منهم أن عبد الرحمن كان يهزج" أنا سوري ما نيالي" ونحن قمنا بمجاراته. وفجأة وعندما قارب اللحن على نهايته، جاء صوت صاحبي قاطعاً وكأنه قائد أوركسترا سمفونية يعلن بحركة من عصاه نهاية العزف:" ولك أيـ..ي بالحياة، وبهالبـ..بعد"
#منذر_خدام (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
(بمثابة موضوعات لحزب سياسي) د-منطق التاريخ والبديل الديمقراط
...
-
د(بمثابة موضوعات لحزب سياسي) منطق التاريخ والحياة السياسية ف
...
-
د (بمثابة موضوعات لحزب سياسي) الوضع الداخلي والمهام المطلوبة
...
-
د - (بمثابة موضوعات لحزب سياسي) الوضع الداخلي والمهام المطلو
...
-
ج- بمثابة موضوعات لحزب سياسي- الوضع العربي والمهام المطلوبة
-
ب - (بمثابة موضوعات لحزب سياسي) طبيعة العصر والمهام المطلوبة
...
-
أ - بمثابة موضوعات لحزب سياسي
-
كيف ينظر بعض السوريين لما حدث في مساء 27/4 في دمشق
-
حول - الإرهاب يدخل إلى سورية -
-
تنمية الموارد المائية ف سورية وترشيد استعمالاتها
-
الدولة والسلطة في سورية
-
منظمة التجارة العالمية-الفلسفة والأهداف
-
منظمة التجارة العالمية -المخاض الصعب
-
بمثابة بيان من أجل الديمقراطية
-
الديمقراطية في ميزان القوى الاجتماعية
-
الاوالية العامة للحراك الاجتماعي
-
التغيرات العالمية والديمقراطية
-
إشكالية الديمقراطية في سورية
-
دكتاتورية البروليتاريا أم الديمقراطية الشاملة
-
هل تعود سورية إلى النظام الديمقراطي
المزيد.....
-
هدنة بين السنة والشيعة في باكستان بعد أعمال عنف أودت بحياة أ
...
-
المتحدث باسم نتنياهو لـCNN: الحكومة الإسرائيلية تصوت غدًا عل
...
-
-تأثيره كارثي-.. ماهو مخدر المشروم المضبوط في مصر؟
-
صواريخ باليستية وقنابل أميركية.. إعلان روسي عن مواجهات عسكري
...
-
تفاؤل مشوب بالحذر بشأن -اتفاق ثلاثي المراحل- محتمل بين إسرائ
...
-
بعد التصعيد مع حزب الله.. لماذا تدرس إسرائيل وقف القتال في ل
...
-
برلماني أوكراني يكشف كيف تخفي الولايات المتحدة مشاركتها في ا
...
-
سياسي فرنسي يدعو إلى الاحتجاج على احتمال إرسال قوات أوروبية
...
-
-تدمير ميركافا وإيقاع قتلى وجرحى-.. -حزب الله- ينفذ 8 عمليات
...
-
شولتس يعد بمواصلة دعم أوكرانيا إذا فاز في الانتخابات
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|