|
حكومات مرعوبة تَلِدُ إعلاماً مرعوباً!
جواد البشيتي
الحوار المتمدن-العدد: 2920 - 2010 / 2 / 17 - 14:13
المحور:
الصحافة والاعلام
رُصَّاد لتبدُّلات الأجواء النفسية للصحافة والإعلام في العالم العربي توصَّلوا، في تقرير جديد لهم، إلى أنَّ منسوب خوف الصحافيين ومؤسساتهم (من حكوماتهم وعقوباتها وبطشها) سجَّل، في الآونة الأخيرة، ارتفاعاً ملحوظاً؛ ولكن متفاوِتاً، فبعض الدول العربية تفوَّقت على سواها في "صناعة الخوف الإعلامي"، والتي هي الوجه الآخر لارتفاع منسوب الخوف الحكومي (الذي بعضه مَرَضيٌّ) من عواقب "تمادي" الصحافيين في التعبير الحر عن آرائهم ومواقفهم، فـ "الكلمة الحُرَّة" في عالمنا العربي لها، على ما تتوقَّع أو تظن الحكومات، مفعول "قنبلة هيروشيما".
في دهشةٍ واستغرابٍ، سأل "الهشيم" خصمه الصغير، وهو "الشرارة"، عن سرِّ قوَّته، على ضآلة وزنه وحجمه، فأجابه قائلاً: "أنتَ الذي فيكَ يكمن سرَّ قوَّتي، فلو لم تكن هشيماً، ولو احتفظتَ بشيء من أسباب الأخضر فيكَ، لانتفت حاجتكَ إلى هذا السؤال، وإلى ما معه من دهشة واستغراب".
إنَّ حكوماتنا لا تحكم إلاَّ بطرائق وأساليب، يكفي أن تُدْمِن عليها في ممارَسة الحكم، أي في صراعها اليومي والدائم من أجل البقاء، حتى تغدو كالهشيم لجهة تأثُّرها بـ "الرأي الآخر"، ولو كان في حجم شرارة؛ ثمَّ تلوم "شرارة" انطلقت من هنا أو من هناك، وكأنَّها ليست المسؤولة عن جعل "الرأي الآخر"، إذا ما عُبِّر عنه بحرِّية، كمثل "صندوق باندورا".
وأحسب أنَّ من الأهمية بمكان أن نفهم ظاهرة "الإعلام المرعوب" في بلادنا على أنَّها التوأم لظاهرة "الحكومات المرعوبة"، فالحكومة التي يستبدُّ بها الشعور بالخوف من كلمة "لا"، ولو أتت في سياق "أشهد أن لا إله إلاَّ الله"، هي وحدها التي تحتاج إلى نشر وبثِّ الخوف والذعر في نفوس الصحافيين والكتَّاب، والإعلام على وجه العموم، وإلى التأسيس لظاهرة "الدركي القابع في النفوس"، والذي لا عمل له يؤدِّيه إلاَّ أن يقول للصحافي "قُلْ.. ولا تَقُل.."!
ويطيب لنا نحن معشر الصحافيين والكتَّاب أن نزيِّن معاناتنا، فنُطْلِق على هذا الدركي، والذي هو الخوف إذ ضَرَب له جذوراً في داخل النفوس، اسماً جميلاً هو "الرقابة الذاتية"؛ وهي أُخْت "الحرِّية المسؤولة"!
والخوف هدَّامٌ بنَّاء، فهو يتوفَّر على هَدْم "الكاتِب الحر"، ليبتني من حجارته "الكاتِب المسؤول"، أي الذي يتحوَّل الحبر في قلمه إلى ماء، فلا يُنْتِج للقرَّاء إلاَّ ما يتَّصِف بصفات "الماء الصالح للشرب"، أي المقالات والآراء.. التي لا لون لها، ولا طعم، ولا رائحة، وكأنَّ الصحافة تظل صحافة إنْ هي تخلَّت عن "سلاح الاستفزاز"، أي استفزاز العقل والشعور بما يهيِّئ الأسباب لموت الجدير بالموت، وولادة الجدير بالحياة، فإنَّ اللعبة الديمقراطية في عالم الصحافة والإعلام تَفْقِد أهميتها إنْ لم نرَ فيها "وَرَقَاً يَكْشِف وَرَقَاً"!
"الخوف" إنَّما هو شعورٌ يشتركُ فيه الصحافيون العرب مع سائر الصحافيين في العالم؛ ولكنه يختلف عندنا في بعضٍ من أسبابه ونتائجه، فلو سألتَ صحافياً عربياً "مِمَّ تخاف؟"، و"علامَ تخاف؟"، لأتت إجابته مختلفة (كثيراً) عن الصحافي في أوطان الصحافة الحُرَّة.
إنَّه، في معارضته لحكومته، يخاف من أشياء، يكفي أن يخاف منها المرء حتى يُقام الدليل على أنَّه مُنْتَمٍ إلى مجتمع لا ينتمي إلى الديمقراطية إلاَّ زوراً وبهتاناً؛ ويخاف على أشياء، يكفي أن يخاف عليها حتى يُقام الدليل على أنَّه أقرب إلى "البقالة"، واقعاً وفكراً، منه إلى "الصحافة"، أو إلى "الكاتب الحر"، الذي بحبرٍ يشبه الدم، وبقلم على هيئة سكِّين، يَكْتُب، لا قول يمتثل له إلاَّ قول "أنتَ إنْ نطقتَ مُت، وإنْ سكتَّ مُت، فقُلْها ومُت"، فإذا غَلَب الخوف شجاعته، امتثل، على الأقل، لقول فولتير "قد يرغمني الأقوياء على عدم قول كل ما أنا مؤمِنٌ به؛ ولكن ما من قوَّة يمكنها إرغامي على قول ما أنا غير مؤمِن به".
و"الصحافة الحُرَّة"، أي التي صارعت، وعرفت كيف تصارع، ضد الخوف وأسبابه وقواه، مُكْتَسِبَةً، بالتالي، مزيداً من الشجاعة والجرأة، ومحتفظةً، في الوقت نفسه، بشيء من الخوف، إنَّما هي الصحافة التي شفيت من مرضين: مرض الخوف من الحكومة وعقوباتها وبطشها، ومرض المجاملة الفكرية والثقافية للمجتمع نفسه في قضايا وأمور حان لنا أن نشحذ ضدَّها سلاح النقد، وأن نكفَّ عن المهادنة فيها، ابتغاء "الشعبية الرخيصة"، فالصحافة يجب أن تكون لـ "الجديد" رَحْماً وثدياً؛ وهذا "الجديد" لن يكون كذلك إذا لم يكن في أوَّل ظهوره على هيئة "الشرِّ الهيجلي"؛ أَوَلَم يكن خروج المرأة إلى العمل، في البدء، على هيئة "شرٍّ مستطير" في عيون المجتمع؟!
إنَّ ما تستنه الحكومات العربية من قوانين ضدَّ الصحافة والصحافيين على هيئة "أُحِلَّ لكم.. وحُرِّم عليكم.." لا يُنْتِج من "الصحافة الحُرَّة المسؤولة" إلاَّ ما يكفي للتكلُّم بحرِّية تامة ضدَّ أشياء لا تضرُّ ولا تنفع، وضدَّ شخوص يَسْتَحِقُّون إذلالهم بالصفح عنهم!
لقد طالت، وطالت كثيراً، قائمة المحرَّمات والمقدَّسات الحكومية في العالم العربي؛ وطال معها سيف الحكومات المُشْهَر على الصحافيين وصحفهم، تخويفاً لهم، وردعاً، أو لقطع الأسوأ من قطع الأعناق، وهو قطع الأرزاق؛ ولكنَّه سيف، لا تستله الحكومات من غمده، وتشهره على الصحافيين، إلاَّ لتؤكِّد أنَّها لم تأتِ إلى الدنيا، ولا تبقى على قيد الحياة، إلاَّ بصفة كونها "المرعوب المُرْعِب"!
#جواد_البشيتي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-تحرير- السلطة الفلسطينية أوَّلاً!
-
صناعة التوريط في قضايا فساد!
-
-فالنتياين-.. عيدٌ للتُّجار أم للعشَّاق؟!
-
الأمين العام!
-
عصبية -الدَّاليْن-!
-
مجتمعٌ يُعسِّر الزواج ويُيسِّر الطلاق!
-
العدوُّ الإيراني!
-
-التوجيهية-.. مظهر خلل كبير في نظامنا التعليمي والتربوي!
-
قصَّة نجاح لثريٍّ روسي!
-
-ضرائب دولة- أم -دولة ضرائب-؟!
-
-الإنسان-.. نظرة من الداخل!
-
-شجرة عباس- و-سُلَّم أوباما-!
-
هكذا تكلَّم الجنرال باراك!
-
-ثقافة الزلازل- عندنا!
-
أوباما يَفْتَح -صندوق باندورا-!
-
مفاوضات فقدت -الشريك- و-الوسيط- و-المرجعية-!
-
سنة على تنصيب أوباما.. نتائج وتوقُّعات!
-
حال -اللاتفاوض واللامقاومة-!
-
مزيدٌ من الإفقار.. ومزيدٌ من -التطبيع-!
-
نمط من المراكز البحثية نحتاج إليه!
المزيد.....
-
-نيويورك تايمز-: المهاجرون في الولايات المتحدة يستعدون للترح
...
-
الإمارات تعتقل ثلاثة أشخاص بشبهة مقتل حاخام إسرائيلي في ظروف
...
-
حزب الله يمطر إسرائيل بالصواريخ والضاحية الجنوبية تتعرض لقصف
...
-
محادثات -نووية- جديدة.. إيران تسابق الزمن بتكتيك -خطير-
-
لماذا كثفت إسرائيل وحزب الله الهجمات المتبادلة؟
-
خبراء عسكريون يدرسون حطام صاروخ -أوريشنيك- في أوكرانيا
-
النيجر تطالب الاتحاد الأوروبي بسحب سفيره الحالي وتغييره في أ
...
-
أكبر عدد في يوم واحد.. -حزب الله- ينشر -الحصاد اليومي- لعملي
...
-
-هروب مستوطنين وآثار دمار واندلاع حرائق-.. -حزب الله- يعرض م
...
-
عالم سياسة نرويجي: الدعاية الغربية المعادية لروسيا قد تقود ا
...
المزيد.....
-
السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي
/ كرم نعمة
-
سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية
/ كرم نعمة
-
مجلة سماء الأمير
/ أسماء محمد مصطفى
-
إنتخابات الكنيست 25
/ محمد السهلي
-
المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع.
/ غادة محمود عبد الحميد
-
داخل الكليبتوقراطية العراقية
/ يونس الخشاب
-
تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية
/ حسني رفعت حسني
-
فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل
...
/ عصام بن الشيخ
-
/ زياد بوزيان
-
الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير
/ مريم الحسن
المزيد.....
|