أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - الحزب الشيوعي السوري - حول أزمة العمل السياسي في سورية















المزيد.....


حول أزمة العمل السياسي في سورية


الحزب الشيوعي السوري

الحوار المتمدن-العدد: 182 - 2002 / 7 / 7 - 08:27
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


 

            أصبح الحديث عن الأزمات في بلادنا لازمةً دائمة في أيِّ طرحٍ سياسي. وهو يندرج في خانة الفعل السلبي الذي يُضيف إلى الوعي أشياء جديدة أحياناً، من دون أن يكون له فعل عملي يسهم في إخراج الناس من الدوامة التي تدور بهم وتكاد تطحنهم.

          الأزمة موضوع الحديث هنا هي "أم الأزمات" كلّها. فلو كانت هناك حياةٌ سياسية في سورية، لأصبحت البرامج والأهداف قابلةً بذاتها للحياة. حين تطرح السلطة هدفاً صحيحاً يقوم الناس المنظَّمون و المعبّأون بحمايته   وتأمينه   والمشاركة  في  تطويره وتوصيله إلى غايته. وحين تطرح المعارضة هدفاً كذلك، يكون للناس كلمتهم وقدرتهم على فرض هذه الكلمة. في غياب هذه الحياة، تكون السياسة لعبة سخيفة مشخصنةً قابلة للاختراق والتحولات المفاجئة، غير جذابةٍ للناس، ينفعلون بها ولا يتفاعلون معها. من كان جاداً في دعواه، من السلطة أو المعارضة أو النخب المختلفة، لابدّ له من الاهتمام بأزمة العمل السياسي في سورية، والعمل على إزالة مكوّناتها وعواملها المختلفة. الحديث هنا يعني في جهة السلطة حزب البعث الحاكم، وأحزاب "الجبهة" المنضوية تحت لوائه، وفي جهة المعارضة أحزاب التجمع الوطني الديموقراطي والأحزاب والتجمّعات الثقافية-السياسية الأخرى على اختلافها في الحجوم والمواقف.

لماذا نتحدّث عن الطرفين ونساويهما في المسؤولية، على الرغم من وضوح كون السلطة في مسارها الطويل هي التي خلقت وأوجدت هذه الحالة، فنظلم المعارضة مرة ثانية فوق ظلم السلطة لها؟‍‍ لأن من يتصدّى لبرنامجٍ يتحمّل مسؤوليته أو يستقيل منها، مكتفياً بالخدمات  والتضحيات التي قدّمها، من خلال رعايته لهذا "المشتل" الذي لا يعني الإنتاج الزراعي الكبير، ولكنه يُساعد على الإقلاع به بالهمّة في أيِّ وقت وفي الظروف السائدة، بدءاً من "الشتلات" الصالحة التي لم تتخرّب بعد بفعل الرطوبة الزائدة أو الجفاف الزائد.. إن صحَّ التعبير على هذه الطريقة.

          تفكيك الأزمة يبدأ بالشجاعةِ في مواجهتها، والبحث في مكوّناتها من أجل إنهائها. هذه دعوة مفتوحة للحوار والعمل، نرى فيها أسباباً ثلاثة للأزمة: الخوف، النمط الشمولي، وفقدان الثقة.

                                         ******

          حين مرَّ فلاّح كهل من غوطة دمشق أمام محكمة أمن الدولة التي تحاكم رياض الترك وزملاءه، ورأى بين الجمع المحتشد المتضامن على الرصيف بعض الشبّان يحملون لوحات تطالب بالحرية والديموقراطية وبالإفراج عن السجناء السياسيين، قال لرفيقه بإعجاب ظاهر: "هؤلاء يضعون دماءهم على أكفّهم!". الخطر الجسيم الذي يتعرّض له من يعترض سلمياً على إجراءات السلطة فكرة سائدة لدى السواد الأعظم من أفراد الشعب السوري. هذا هو منبع مثل تلك الجملة البريئة.. إنه الخوف المُعمّم، والحيطة والحذر وكتمان المواقف حتى عن الأقربين، وبالتالي، الامتناع عن السياسة تفكيراً وحواراً وعملاً.

          على الرغم من مرور سنواتٍ على حملات الاعتقال العشوائية الكبيرة واختفاء الناس زرافاتٍ ووحداناً خلف الجدران الغامضة أو تحت الأرض، وعلى الرغم من "اللطف" الظاهر الذي يتصرّف به رجال الأمن مع الناس بالمقارنة مع ما كان موجوداً من قبل، ما زالت شائعةً تلك النصائح "الحكيمة" التي تتوقع تفجّر القمع في أية لحظة، وتدعو إلى الاحتراس البالغ والصمت، بل تبرّر النفاق أحياناً.

          الإنسان السوري الذي تبقّعت ذاكرته بآثار الكدمات الزرقاء منذ أعوام العقد التاسع الأولى من القرن الراحل، المعتاد على حالة الطوارئ المستمرّة بامتياز، المعايش لهيمنة الأجهزة الأمنية في كلِّ زاوية من المجتمع، الذي تعرَض للسجن مرّة أو رأى أو عرف أخاً أو صديقاً اختفى وعاد بعد عقودٍ أو لم يعد.. هذا الإنسان تعطّلت به محرّكات العمل السياسي، وأورث هذا التعطّل إلى أبنائه.

          إصلاح هذه المحرّكات من مسؤولية الذي أعطبها أولاً، وهو شرطٌ لازم (غير كافٍ بالطبع) لأيّ إصلاح تقول السلطة إنها بصدده. ليست المسألة أخلاقية هنا وحسب، بل هي عملية وإجرائية أيضاً. فأي إصلاح ممكن ما دامت أدواته -أصحاب المصلحة به- مستقيلة أو مُقالة من دائرة النشاط والحركة؟!

          ليست العملية بالصعوبة التي يُصوّرها المحافظون، الذين يرون في استمرار التوتّر والخوف وسيلةً وحيدةً للاستمرار على النسق الذي اعتادوا عليه وألفوه. فإغلاق ملف السجن السياسي نهائياُ وإلغاء حالة الطوارئ وحلِّ قضية المفقودين والمنفيين وسيادة القانون وترك القضاء لاستقلاله، مسائل قد تحمل للسلطة مخرجاً من مأزقها، لمن يستطيع  من أهلها رؤية مثل هذا المأزق.

          إصلاح هذه المحرّكات من مسؤولية الذي أهملها ثانياً، وهو شرطٌ لازم لانتقال المعارضة أو أية قوة سياسية تزعم استقلالها من الوجود الرمزي إلى الوجود الفاعل، أو هو شرطٌ لوجودها ذاته. هذه العملية تحتاج إلى البرامج الواضحة، وإلى الشجاعة والتجدّد، وإلى استعادة العمل الدؤوب في الزوايا والأزقة والمعامل والجامعات، لأن ما سلم من هذه المحرّكات من العطب العميق أو ما استعاد شيئاً من حيويته يحتاج أيضاً إلى "روداج" متدرج وصبور.

          تأثير الخوف لا يشمل من تعرّضوا مباشرة للقمع المبالغ به سابقاً وحدهم، بل هو –لغرابة أوضاعنا- يشمل من راقبوه أيضاً، على الرغم من انتمائهم الرسمي إلى الجهة الأمينة. فترى التردّد والحذر والانكماش بين بعض البعثيين أنفسهم في إحجامهم حتى عن دعم اتّجاهات التحديث في النظام ويأسهم من إمكان مواجهة "قوة" الاتجاهات المحافظة وسعة انتشارها في جسم السلطة. مثل هذا تجده في أحزاب الجبهة، تلك التي تعكس في كيانها الحدَّ الأدنى من مفهوم الحزب بالطبع، لا تلك المضمحلة ذات الوجود الشكلي وحسب.

          لماذا إعطاء عامل الخوف تلك الدرجة الأولى في التأثير على غياب العمل السياسي؟! لأنه الوحيد الذي يجعل هذا الغياب ممكناً، مهما اشتدّ تأثير العوامل الأخرى. حتى تعميم النمط الشمولي على المجتمع، وتوسيع انتشاره إلى حلقة الفرد والعائلة، لم يكن قادراً على تغييب النشاط السياسي من حياة الشعب، لولا الرهبة التي أشاعها النظام على مرِّ عقودٍ من حياة البلاد.

          في النمط الشمولي يغدو كلّ شيء ضمن الدولة، معها، لاشيءَ ضدّها، كما قال موسوليني. في بلادنا، ربما لا يُمكن اعتبار النظام شمولياً على طريقة السوفييت أو الألمان أو الطليان بمقدار ما هو تسلّطي، خصوصاً من حيث الفرق في حجم الدور الذي لعبته الإيديولوجيا عندهم وعندنا. وليس هذا هو المهم هنا، بمقدار أهمية استعمال النظام للآليات ذاتها.

كلّ شيء: الأطفال في طلائع البعث، والفتيان في شبيبة الثورة.. جميعاً. العمّال في نقابات غير مستقلة، أصحاب المهن الحرة في نقابات تمَّ اغتصاب استقلاليتها في القوانين 25 و26 و27 لعام 1981، الطلبة في تنظيم إجباري غير مستقل. قانون تشكيل نقابة الأطباء البيطريين الصادر حديثاً، يكرّر النغمة القديمة ذاتها، وينصّ في متنه(الفقرة ج من المادة الأولى) على اعتقال النقابة ضمن تعريفها الذي يقول إنها "تنظيم مهني مؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية ملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته" .. في مطلع الألفية الثالثة!! كيف تكون نقابات يتواجد فيها "رب العمل" بقوة وجبروت، فلا تستقلّ عنه ولا ينطبق عليها من ثمّ شرط تكوينها وتعريفها!

كلّ شيء: حين كانت المسيرات تنتظم الناس بالإكراه، والعمل "الطوعي" يحصل تحت التهديد بتحمل "المسؤولية"، وتنظيم الطلبة والفلاحين في حزب البعث بالترغيب والترهيب، حتى وصل عديده إلى ما يُقارب المليون ونصف. هنا نتفوق على الصين الشيوعية نفسها .. نسبياً.

حين يتعلّم الأطفال هتافات الصراخ، ويصفّقون بإيقاع أجوف وشعارات لايفهمونها، يُرجّح أن يصلوا إلى إحدى حالتين: شباب مشوّه بعيد عن العلم وروح المبادرة والفعل، أو شباب يحمي نفسه بالنفاق يومياً. والبلاد خاسرة في الحالتين.

وحين تُفرَّغ النقابات من دورها الخلاق من أجل المجتمع والإنتاج مثلما هو خلاّق لمصلحة الذين تمثّلهم، تُخيّم البلادة والانتهازية، وتنسى الطبقة العاملة كلمة الإضراب وحرية الانتخاب ومفهوم النقابي المدافع عن حقوق العمال.

أما في نقابة المحامين فيغيب الحق والنزاهة ليبرز الفساد والرياء، وتسود السمسرة والجهل بالقانون. لدى المهندسين يضيع العلم والإبداع والمسؤولية، ويتقدّم الانتهازيون والمحدودون. عند الأطبّاء يتقدّم السماسرة ويتراجع النطاسيون. ومن الطبيعي عندئذٍ أن يهاجر الكثيرون من خيرة أبناء الوطن.

في مجتمع تخترق شمولية السلطة جدران بيوته وأطفاله وحياته المباشرة، تضيق المساحة على العمل السياسي، ويُخيم الملل واليأس على تفكير أفراده. عندئذٍ تجفّ عروق البلاد، وتضمحلّ الرغبة بالمبادرة أو المشاركة.

هذه الشمولية الطاغية تخترق البناء النفسي للأفراد، وتظهر في فقدان الثقة العميق. وليست الحالة المعيشية البالغة الصعوبة، التي يعيشها الإنسان السوري ويراها سبباً للابتعاد عن الاهتمام بالشأن العام والمشاركة السياسية، إلاّ تعبيراً مراوغاً عن حالة فقدان الثقة هذه، التي تُشكّل مع الخوف والشمولية مثلّثاً عازلاً ما بين المواطن و اندفاعه للتأثير في حاله ومصيره.

فقدان الثقة بالعامية هو انتشار الردّ الذي يكاد يكون مفحماً، على مسألة النشاط والعمل السياسي والاهتمام بالشأن العام: " ما في فايدة !!".

فقد الناس الثقة في معرفة الحقائق وحتى الوقائع، وأخذوا يرون فيما حولهم بحراً من الرياء والكذب والانتهازية، بشكلٍ يدفعهم باتّجاه " يا ربِّ نفسي!".

قبل هيمنة الفضائيات، كان الإعلام الرسمي وحده المتاح، وكان يحفر في صدور الناس بدأبٍ وينتزع الثقة منها. التطبيل والتزمير والكذب المفضوح الوقح الذي يكاد يقول "خذوني"، والاتّكاء على المعارك الخارجية بصراخٍ لا مثيل له، وتوصيل الرسالة الضمنية التي تقول ها نحن هنا وأنتم هناك، ولا منفذ أمامكم ولا مخرج. والحديث عن الاشتراكية و"المجتمع العربي الاشتراكي الموحّد" من قبل أشخاص يعرف القاصي والداني كيف يعيشون ومن أين يغرفون وأين يصبّون غنائمهم، وآخرين يفهمون تولّيهم المناصب عطيّةً ومكرمة من حقّهم استنزافها حتى النهاية. كلُّ ذلك مع أجهزةٍ تتدخّل في الشاردة والواردة، حتى يقتنع الواحد أن الآخرين مخبرون محتملون دائماً.

الثقة تعني هنا الإيمان بأحد معانيها. وحين يفتقد الناس الثقة يفقدون الإيمان أيضاً بمعناه النفسي العميق الذي يستبطن الأمل. عكسه الكفر، أيضاً بمعناه النفسي العميق، الكفر بالوطن والشعب وكلُّ ماهو عام و جمعي واجتماعي. ومن دون توفّر الإيمان لا يُمكن الاندفاع نحو العمل السياسي، ولا يُمكن التعويل على الروح الوطنية، ولا على الصفة الاجتماعية للفرد. من دون هذا النوع من الإيمان يتكوّر الإنسان على ذاته ويحتمي بالتصوّف أو بالعدمية أو بالانغماس في مستنقع الانتهازية التي يتعمّم تبريرها.

يحتمي بعض أولي الأمر من الطراز الحجري بفكرة أن الشعب سيّء وجاحد وكسول ولا يستحق نعمة توليهم شأنه.. هؤلاء لا مستقبل لهم بالتأكيد. يقول آخرون إنهم يريدون من الناس أن يُشاركوا في إنقاذ البلاد، أو في عملية"التطوير والتحديث". ولكن حتى يُشارك الناس، تنبغي استعادة الثقة. ولهذه الاستعادة إجراءات لا بدَّ من اتّخاذها: الشفافية أولاًّ، لا التعتيم وتركيب الحقائق والأرقام، مثلما حدث بدءاً من اليوم الثاني بعد كارثة انهيار سدِّ زيزون، لا مثلما حدث في اليوم الأول. ثمّ إبعاد مصادر الخوف وظلال الهراوات الثقيلة، والبدء بإلغاء المؤسسات والمظاهر الشمولية، وفسح المجال لحرّية الرأي والتعبير بجميع أشكاله.

لا يتجاوز الحديث هنا مسؤولية المعارضة والنخب السياسية والثقافية عن مواجهة حقيقة فقدان الثقة عند الناس، والجهد من أجل استعادتها أيضاً، بتقديم البرنامج و تكريس الشجاعة والاجتهاد. وبخاصةٍ، العمل الدؤوب على التفاصيل التي طال إهمالها، بعيداً عن المركز أفقياً وشاقولياً: على الأرض وبين الطبقات والفئات الاجتماعية.

خارج هذه الأسباب الموضوعية الثلاثة للأزمة، يلعب تخبّط الوعي الديموقراطي دوراً كبيراً. فعلى الرغم من أسبقية المعارضين السوريين في هذا الميدان، واختيارهم النهج الديموقراطي منذ منتصف السبعينات، إلاّ أن هذا الخيار كان يتعرّض للاهتزاز أحياناً، وبخاصة عند التعارض مع بعض التجلّيات العلمانوية أو اليساروية أو الدينية والإثنية. في السنوات العشر الأخيرة تحسّن الوضع نسبياً، ولكنّ الاعتقاد بأن مواجهة الاستحقاق أصبحت على الأبواب جعلت البعض يتردّد و"يكسر أسعاره"، فيحسم التداولية أحياناً، وحرية التعبير الكاملة ونفي الشمولية أحياناً أخرى، ليرضى بالتوافق على نمطٍ من الطريقة اللبنانية، أو ببعض الحرية على الطريقة المصرية.

ليس الرضا بالقليل على طريق الكثير المنصوص عليه في البرامج الجلّية التي لا تحتمل التباساً بأمر خاطئ، ولكن القناعة الآتية من التعب والكلل وتقزّم الغايات لا تستوي مع تاريخ العلاقة مع الشعب ومع حجم المعاناة الطويلة.. وبخاصة لأن ما بقي من الطريق أقصر مما راح بالتأكيد. . الإحساس بألم العضة أكبر ما يكون في آخرها، ولو صبر الأعرابيّ لحظةً لصرخ قبله عمر.

                                 *          *          *

أصعب ميادين هذا العمل المطلوب، وأهمّ مظاهر أزمة العمل السياسي في سورية، اغتراب الشباب عن السياسة حتى الآن، وبشكلٍ يبعث على الإحباط والخيبة.. ولا عجب!.

العاملون والمهتمّون في الحقل السياسي في سورية يغلب عليهم بياض الشعر، وربما لا يقلّ متوسّط أعمارهم عن الخمسين عاماً. لذلك لا توجد ثقة في أن "السياسة" عندهم أكثر شباباً من هذا العمر. لذلك أيضاً ترى "سياستهم" مسكونةً بالماضي، وتضع برامج غير مضمونة للمستقبل، في درجة فعاليتها وملاءمتها للوقائع الراهنة، ولأبناء الأجيال التي لا يُعوّل على تغييرٍ في غيابها.

الشباب الذين كانوا وما زالوا عرضةً لانتهاك خصوصيتهم من قبل الطلائع والشبيبة والحزب الحاكم ودورات الصاعقة والتدريب العسكري ومنهاج التربية القومية الاشتراكية، بالاشتراك مع تدهور العلم والتعليم، حتى تأتي البطالة لتهزمهم بالضربة القاضية.. هؤلاء الشباب غائبون عن المشاركة في الشأن العام، لايعرفون السياسة الحقّة، ولا يعرفونها أيضاً على طريقة السلطة والمعارضة الكهلتين.

الأمر الأشدّ صعوبة هو أنه لا يوجد أحد يجرؤ على وضع وصفةٍ جاهزة لتجاوز هذه المعضلة الكبرى، في غياب أصحاب الشأن أنفسهم. لكن الأمر الواضح هو مقدار حدّة المسألة وضرورة مواجهتها، وكونها لا تبدأ بالتبلور والتفكّك إلاّ من خلال إعطائها الأولوية القصوى، والعمل على تنظيم الشباب ضمن الصيغ التي تلائم حالهم، ليقدّموا هم بأنفسهم وسائل النهوض وتغيير هذه الأوضاع. ربّما يساعد على ذلك تسارع الانفتاح والعودة عن الشمولية وإرهاب الأجهزة، إلاّ أنه القادم الذي لا يمكن انتظاره، سواء جاء قريباً أو قاومته وأخّرته العناصر المحافظة إلى أمدٍ أبعد.

تعايش الشباب منذ طفولتهم مع مفهوم للسياسة يختصرها في التصفيق والهتاف الإيقاعي وعبادة الأفراد وتحية أهداف وخدمة غيرها، مع النفاق والتملّق وتحويل القضايا إلى جملٍ فارغة عجفاء. ولم يعرفوا السياسة من خلال الانتخاب الحرّ والمحاسبة والتعدّدية والتداول والتنافس على الخدمة العامة والبرامج الحقيقية. كان منتهى السياسة لديهم هو التركيز على المعركة مع العدوّ المحتلّ بطريقة تبرّر حالة الطوارئ الدائمة، ومواجهة أمريكا التي تقف في وجه طموحنا إلى التحرير والتقدّم، مع تحريم الحديث عن حال الفرد والمجتمع، والشبهة في كلِّ من لا يلتزم الصمت والتصفيق أو يرفض الالتزام الشكليّ وشبه الإجباري في تنظيمات السلطة وترتيباتها.

لم تصلهم برامج واضحة جذّابة من المعارضة أيضاً. تلك المعارضة التي كانت تلهث ببطء وتتنفس بعمق حتى تحافظ على حياتها واستمرارها في العقدين السابقين. ولو وصلتهم مثل هذه البرامج، ربما كان بعضهم جاهزاً للتطوّع بتقديم الوقت والجهد من أجل الشأن العام، ومستقبل الدولة والمجتمع. ومن دون العمل على مفهوم العمل الطوعي التطوعي هذا لا يمكن للمشاركة أن تتّسع، ولا للحال أن تتعدّل.

هذه المعارضة تفعل حسناً إذ تطرح الحوار والمصالحة على السلطة بعد ردِّ المظالم إلى أهلها، ولكنّها لم تُراجع نفسها في البنية والأساليب والبرامج في العمق حتى الآن، حتى تأخذ فرصة جديدة في الحياة والتجدّد، وحتى تتعزّز مشروعية مطالبتها للسلطة بالمراجعة الأكثر أهميّة وفعلاً في تعديل المسارات المرتبكة على الأرض، ذلك الذي يدفع الشعب ثمناً غالياً لتأخّره يوماً بعد يوم.

مواجهة الذات هذه، شرطٌ ضروري لانطلاق العمل السياسي وانتعاشه، وليست شرطاً  للراغبين في استمرار هذا العمل على علله منهكاً مهلهلاً قابلاً للاختراق والتسميم بأعراض الانتهازية أو التواكل وانتظار المكرمات والفتحات الضيقة في الجدار الكبير، أو التحوّل إلى مجرّد نخبة تُعجب بها الناس من دون أن ترتقي إلى مستوى عمل سياسي، وعلى مستوى وطن.

*          *          *

والدعوة مفتوحة لمن يرى خلاف ذلك، جزئياً أو كلّياً.

 

 

 



#الحزب_الشيوعي_السوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوضاع الحركة الديمقراطية في سورية
- بيان إلى الرأي العام حول الحكم على رياض الترك
- من مداخلات المؤتمر التداولي للحزب-آذار 2001
- سورية ممكنة بلا معتقلين سياسيين!
- سوريا إلى أين؟
- عود على بدء


المزيد.....




- إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
- مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية ...
- بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما ...
- سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا ...
- مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك ...
- خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض ...
- -إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا ...
- بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ ...
- وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
- إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - الحزب الشيوعي السوري - حول أزمة العمل السياسي في سورية