|
القرآن .. قراءة على قراءة
تيسير العفيشات
الحوار المتمدن-العدد: 2915 - 2010 / 2 / 12 - 08:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لماذا أختار السيوطي وكتابه (الإتقان ) في هذا البحث الذي نطمح من خلاله للكشف عن تلك الأشياء التي لم يفكر فيه داخل القرآن ذاته، وتحولت عبر عمليات الضغط التاريخية والطقوسية الى ما يطلق عليه لالاند المستحيل التفكير فيه ، ثم كيف تحول هذا النمط الفكري عبر عمليات كثيرة من التحوير،الى جدل من نوع خاص أي جدل لا يسعى الى انتاج المعرفة والوعي بها، بقدر ما يهتم بنوعية التمظهر النمطي للمعرفة ، حتى تحول العقل برمته الى دائرة مغلقة يقتات ذاته، ويعيد انتاجها باستمرار ، ولم يعد في مستطاعه أن يتحرك حركة فعالة وفاعلة ، لأن تلك القوى التي هيمنت عليه عبر قرون طويلة وضعته في مساره القسري هذا، وراحت تؤسس لمعرفة خارج العقل، وخارج السياق العام للتاريخ ، نختار الأتقان هنا لأنه ظل يكرس تلك الدوغما النصية والأسلوبية القديمة بعد أن خلع عليها مشروعية جديدة صارمة وضابطة من جهة، ومن جهة أخرى لأنه شكل المرجعية لكل الدراسات الحديثة المتعلقة بالقرآن من كافة الباحثين المعاصرين ، وعلى أية حال لن أنخرط في تحليل تفصيلي لهذا الكتاب ( الإتقان ) المكون من أكثر من (1500) صفحة، وإنما سأكتفي بتفحص عناوين المواد التي شكلته وتحليل البنية العامة للسياق الثقافي التاريخي الذي تشكل في فضائه وذلك لغاية سنصل إليها لاحقا في النسق العام لهذا البحث أو لهذه القراءة المغايرة نوعا ما لما أُعتيد عليه، تتكون مواد الكتاب من 80 مادة أو عنوان هي على النحو التالي : 1ـ المكي والمدني 2 ـ الحضري والسفري 3ـ النهاري واليلي 4 ـ ألسمائي والأرضي 5 ـ الأرضي والسمائي 6 ـ الفراشي والنومي 7 ـ أول ما نزل 8 ـ آخر ما نزل 9 ـ سبب النزول 10 ـ فيما نزل من القرآن على لسان الصحابة. 11 ـ ما تكرر نزوله. 12 ـ ما نأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه. 13 ـ ما نزل مفرقا وما نزل مجمعا 14 ـ ما نزل مشيعا وما نزل مفردا. 15 ـ ما نزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي. 16 ـ في كيفية إنزاله 17 ـ معرفة أسمائه وأسماء سوره 18 ـ جمعه وترتيبه 19 ـ عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه 20 ـ حفاظه ورواته 21 ـ معرفة العالي والنازل من أسانيده 22 المتواتر 23 ـ المشهور 24 ـ الآحاد 25 ـ الشاذ 26 ـ الموضوع 27 ـ المدرج 28 ـ معرفة الوقف والأبتداء. 29 ـ بيان الموصول لفظا المفصول معنى. 30 ـ في الأمالة والفتح وما بينهما 31 ـ في الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب. 32 ـ في المد والقصر. 33 ـ في تخفيف الهمز. 34 ـ في كيفية تحمله. 35 ـ في آداب تلاوته. 36 ـ في معرفة غريبة. 37 ـ فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز. 38 ـ فيما وقع فيه بغير لغة العرب. 39 ـ في معرفة الوجوه والنظائر. 40 ـ في معرفة الأدوات التي يحتاج اليها المفسر 41 ـ في معرفة اعرابه 42 ـ في قواعد مهمة يحتاج الي معرفتها المفسر. 43 ـ في المحكم والمتشابه 44 ـ في مقدمه ومؤخره. 45 ـ في عامه وخاصه. 46 ـ في مجمله ومبنيه. 47 ـ في ناسخه ومنسوخه. 48 ـ في مشكله وموهم الأختلاف والتناقض. 49 ـ في مطلقه ومقيده . 50 ـ في منطوقه ومفهومه 51 ـ ه. 55 ـ في الحصر والأختصاص . 56 ـ في الإيجاز والإطناب. 57 ـ في الخبرفي وجوه مخاطباته 52 ـ في حقيقته ومجازه. 53 ـ في تشبيهه واستعاراته. 54 ـ في كناياته وتعريض والإنشاء. 58 ـ في بديع القرآن. 59 ـ في فواصل الآي. 60 ـ في فواتح السور. 61 ـ في خواتم السور . 62 ـ في مناسبة الآيات والسور. 63 ـ في الآيات المشتبهات. 64 ـ في إعجاز القرآن. 65 ـ في العلوم المستنبطة من القرآن 66 ـ في أمثال القرآن 67 ـ في أقسام القرآن 68 ـ في جدل القرآن . 69 ـ فيما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب. 70 ـ في المبهمات . 71 ـ في أسماء من نزل فيهم القرآن . 72 ـ في فضائل القرآن. 73 ـ في أفضل القرآن وفاضله. 74 ـ في مفردات القرآن . 75 ـ في خواص القرآن. 76 ـ في مرسوم الخط . 77 ـ في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفة والحاجة إليه. 78 ـ في معرفة شروط المفسر وآدابه . 79 ـ في غرائب التفسير . 80 ـ في طبقات المفسرين.
إن هذا الترقيم المطول للعناوين يسمح لنا بأن نسجل العديد من الملاحظات الممكنة التالية، وهي على أية حال تبقى ملاحظات مبدئية ، لأن مسألة تحليل البنية العامة العامة للكتاب على رغم أهمية ذلك تحتاج الى جهد كبير، نتمنى أن نعود له في مقبل الأيام . الإتقان يمثل كل سمات طراز التأليف المدرسي، على الهيئة التي كان قد فرض نفسه عليها لدى الموسوعيون الذين التقطوا المعارف المتراكمة أثناء العصر الكلاسيكي، إن الموسوعيين أنفسهم لم يفعلوا شيئا سوى إنتاج أساليب العرض التي كانت قد استخدمت زمنا طويلا من قبل اختصاصي العلوم المتعلقة بالحالات الفردية ،كالفقهاء المشرعين، وعلماء الكلام والمفسرين والنحويين، إن بنية كتب الغزالي والماوردي والجويني وفخر الرازي ، الخ ... هي ذات دلالة كبرى على هذا الصعيد، إن ما يميز هذه التصنيفات إذا نظرنا اليها عن كثب تكشف عن تنوع المواضيع وطريقة تركيبها وترتيبها، ثم الى المضامين المتفرعة عنها ، أننا امام معرفة مبعثرة ومقسمة بدون جدوى الى أبواب يمكن ارجاعها الى تقسيمات أكثر تلاؤما مع الاختصاصات التي التي رسختها المؤلفات الكلاسيكية الكبرى، هكذا نلاحظ أنه من الممكن إعادة توزيع وترتيب جدول مواد كتاب الأتقان ليس طبقا للتصنيف الحديث للعلوم ، وإنما بما يتوافق مع العلوم العربية الإسلامية ،بالصفة التي عرفها عليها السيوطي أو أتيح له أن يعرفها ، إنني لا أريد أن أعيد تشكيل الكتاب حسب رأيي وإنما أريد تحقيق مقاربة أفضل لنوع من تنظيم ما يمكن معرفته،هذا الشيء الذي تتوقف عليه حتى الآن كل التقديمات التي حظي بها القرآن . مسائل التسلسل الزمني للأحداث ( 1 ـ 8 ـ 11 ـ 13 ـ 15 ـ 47 ) أنماط وطرائق الوحي ( 9 ـ 10 ـ 13 ـ 14 ـ 16 ) الجمع والنقل (17 الى 27 ) التقديم والوصف الشكلي للمصحف (17 ـ 60 ـ 60 ـ 76 ) النظم والوحدات النصية( 13 ـ 15 ـ 28 ـ 35 ـ 59 ـ 61 ) مفردات اللغة ( 36 ـ 39 ) النحو ( 41 ـ 42 ) التحليل المنطقي ( 42ـ 46 ـ 48 ـ 50 ـ 63 ) البلاغة الاسلوبية ( 51 ـ 58 ـ 64 ـ 66 ـ 68 ـ 70 ـ 84 ) التفسير ( 77 ـ 42 ـ 80 ) العلوم المشتقة من القرآن ( 65 ) ملحوظات تاريخية ( 69 ـ 71) قيم تشفعية ( 82 ـ 73 ـ 75 )
نلاحظ هنا اختلال التوازن الذي يبدو واضحا ما بين المكان المخصص للنحو والمفردات من جهة، ثم الإلحاح الذي تحظى به البلاغة والتحليل المنطقي الذي تتطلبه عملية استنباط الأحكام الشرعية في الفقه من جهة أخرى . أما النظم فإنه يجيب على الحاجات العملية للتذكر والحفظ وتلاوة النص . وأما التسلسل الزمني وأنماط الوحي فإن لهما انعكاسا مباشرا على تجديد الشريعة . بكلمة أخرى فإننا نعلم أن تسعة قرون من نشأة وتطور علوم القرآن قد أنتجت مجموعة من المعارف العملية الموظفة في تغذية الشعور بوجود أساس إلهي للقانون الديني، وبالسمة الخارقة للطبيعة لكلام الله، ولشروط نقله، وإعادة إنتاجه، التي لا تمس ولا يعتريها الشك. إن الإتقان يختتم عملا بطيئا من التصفية والإنتخاب وتكثيف المعطيات ووجهات النظر والتحديدات والتوضيحات وأنماط المعارف التي شكلت بالتدريج الخطوط العريضة للقرآن. من بين المعارف التكنيكية التي جيشها التراث المدرسي الذي التقطه السيوطي، يلفت انتباهنا خصوصا مستويات التحليل اللغوي من مفردات وصياغة ونحو ومعنى وبلاغة ونظم. على الرغم من إثارة السيوطي لمسائل التسلسل الزمني ونقل الوحي فإنه من الصعب أن نتكلم عن وجود معرفة تاريخية في كتاب الإتقان . على العكس فإن الدهشة تصيبنا إذ نلاحظ انتصار وجهة نظر لا تاريخية فيما يخص كل المشاكل المطروقة . أريد القول بأن النقاش الخصب المتعلق بظروف الوحي والنقل وانجاز المصحف أو المتعلقة بتطور المفردات المعجمية قد هجر او قلص الى ملحوظات مشتتة، في حين جرى التركيز دائما على الحلول التي تحدد منذ القرن الرابع الهجري العقيدة الإسلامية، لا يكفي القول بأن العلماء المتأخرين كالسيوطي يلتزمون فقط بالنقل الأمين وبالحفاظ على تعاليم العلماء الكلاسيكيين الأساسيين بشكل تربوي وتعليمي، دون أي تغيير أو تحوير، وإنما ينبغي أن نترصد فيما وراء تبعية المقلدين للمجتهدين مسألة ظهور عقل ديني معين يرتكز على الخطاب القرآني ، سوف يحاول هذا العقل الديني جاهدا السيطرة على دلالات هذا الخطاب وذلك بمعونة المعارف التكنيكية المتنوعة والمعمقة قليلا أو كثيرا بحسب المؤلفين والعصور التاريخية. هل يمكن أن نقول بأن العقل الديني الشغال في الخطاب القرآني هو نفسه العقل الذي يستخدمه الحسن البصري والقاضي عبد الجبار أو ابن خلدون ، ثم هنا السيوطي ؟ ما الروابط التي يتعاطاها العقل الديني مع العقول التكنيكية المستخدمة في في القواعد والمنطق والتاريخ والرياضيات ... الخ؟ وهل هناك سيطرة للعقل الأول ـ العقل الديني ـ على الثانية ، أم هناك تأثير لهذه الأخيرة على العقل الأول؟ إحدى السمات الدائمة للعقل الديني تتلخص في أنه يبحث عن بناء متماسك عملي داخل سياج تيولوجيي دون أن يتسائل عن الفرضيات المسبقة والمسلمات واليقينيات التي تجعل ممكنا ممارسة الفاعلية التأملية الأستدلالية ضمن هذا السياج، لذا فإنه يعيش حالة توتر دائم مع العقل العلمي الذي بسبب أنه يشتغل على مواد وضعية يمكن ملاحظتها والقبض عليها، يستطيع بل وينبغي عليه أن يعري كل عملياته وآلياته ،ينبغي هنا أن نزيل غموضا قاتلا للروح لأنه مستغل على صعيد واسع منذ سنوات من قبل الخطابات الأسلامية المعاصرة، ينبغي عدم تحديد الروابط بين العقل الديني والعقل العلمي عن طريق أفضلية وتفوق أحدهما على الآخر ولا عن طريق الموضوعية الوهمية التي تحدد لكل منهما مجالات خاصة به وأدوارا ومسارات خصوصية ، ولا عن طريق المماحكة الجدالية العنيفة التي ميزت الغرب المعلمن، ذلك النقاش المتعلق بالكنيسة والدولة أو الروحي والزمني أو الديني والعلماني ، سوف ننطلق فلسفيا ، من فكرة المعرفة العاطفية الشعورية، المكتسبة والمؤسسة على قاعدة الوعي العاطفي الشعوري . إن كل فرد يتميز بتوازن معين أو بختلال توازن ، ما بين قطبي الوعي العاطفي والوعي العقلي الثقافي ، إن الفيلسوف يتسائل عن مصدر هذين الوعيين ومكانتهما المعرفية، هل ينبغي أن نفكر مع تيار هيدغر قائلين بأن الأنسان يرتقي الى مكانة الكائن بدءا من الكينونة أوالوجود، وأن الكائن هو دائما لأجل الفكر ولأجله وحده؟ وهل نستطيع أن نقول مع ف الكييه بأن القناعة الأساسية للإنسان هي يقين الكائن بالمعنى الأسمي للكلمة ، أي بمعنى آخر الاعتقاد بوجود واقع سابق لروحنا ومستقل عنها ولا يمكن نعته بدقة ولكنه قابل لأن يوجد بلا عبثية وهو محدد على سبيل الأفتراض كمادة او كإله. على العكس من الكيية فإنني سوف أترك هذه المسألة الفلسفية مفتوحة من أجل أن أعود الى هذه الموضوعات الدراسة المحسوسة التي تتمثل بالنصوص الموحى بها في القرآن، مع الوعي الذي أنتجته . نحن نعلم الى أي حد كان القرآن فرض وغذى بقوة الاقتناع الأساسي بوجود كائن سابق لروحنا ومستقل عنها هذا الكائن الموصوف والمذكور بكثافة فيه الى درجة أن الروح المغموسة من كل جهة بصفاة الله وأسمائه وأحكامه، التي نص عليها الله ذاته في لغة عربية واضحة ، مدعوة لأن تتمثل وتعيد إنتاج ما سوف يصبح منذ الآن وصاعدا المعرفة المتعالية، إنه لممتع أن نلاحظ بهذا الصدد أن العقل الديني كان قد التقط في المكان الأول الآيات والسور التي تتمتع بالمضمونات الأنطلوجية الأكثر كثافة والأكثر حسما ، إن العقل الديني إذ يستغل العاطفة المباشرة والقسرية التي تقول بأن الله الواحد الحي الخير يتكلم ويملأ الوجود بحضوره ويحيا في آياته، وإذ يستند على على المعرفة العاطفية التي لا تدحض ولكن التي لا تزال تطرح اشكالا من الناحية الفلسفية ، فإنه ينخرط في مسارات متعددة، نجد في هذه المسارات أن ضغط الخيال الأجتماعي والهلوسات الفردية والمعارف الخاطئة المثبتة من قبل اجماع النفوس الطيبة وقيم الطبقة المسيطرة .. الخ تتغلب على الحدس الأنطلوجي من أجل تبرير أخطائه ودوغمائيته وانهزاميته. يقدم الاتقان دلائل كثيرة على مدى السهولة والانتهازية التي تميز العقل الديني عندما يتحول دون أن يعرف ، إلى عقل أرثوذكسي . إن المؤلف يستشهد، بحسب ممارسة معهودة وقديمة جدا بأحاديث مزورة من أجل توطيد ودعم كلامه، في حين أنه يجهد نفسه في إدانة هذه العملية عند أسلافه، من أجل توطيد سلطته المعرفية، هكذا يتغير رهان المعرفة التكنيكية ـ أقصد نقد الحديث أو علم الحديث ـ فبدلا من أن تستخدم كمجرد ضابط لصحة الأحاديث النبوية التي تشترط هي ذاتها مسألة المنفذ أو الوصول الى الحضور الأنطولوجي التأسيسي ، فإنها تصبح أداة للمزاودة المحاكاتية بين الفقهاء والمدارس المتنافسة، هكذا يستعيد كل مؤلف الحجج ذاتها والنصوص والأسماء المكرسة داخل الأرثوذكسيات الكبرى من سنة وشيعة ..الخ ، إن السيوطي لا ينجو من هذه الممارسة أو هذه الضرورة ، كما أنه لا يلحظ أكثر من غير هذه الأنقطاعات التي يحدثها عقله الأرثوذكسي بالقياس الى العقل الديني الأول كما يتجلى من خلال الآيات الوجودية الكونية للقرآن ، هناك أولا إنقطاع تاريخي ـ الذي لا يحدث بالضرورة انقطاعا روحيا ـ بالقياس الى حياة النبي وأفعاله الحقيقية ، ثم الأنقطاع اللغوي بالقياس الى نظام اللغة العربية كما يتبدى في القرآن ثم هناك الانقطاع الثقافي المتمثل بالتقلص والضيق بالقياس الى الانفتاح الذي يتحلى به الشارحون الكبار كالطبري وفخر الدين الرازي، الذين كان السيوطي استشهد بهما في الاتقان ، وإن كان قد ركز على الأول أكثر من الثاني وذلك بخصوص مسائل صغيرة دائما ، ثم هناك انقطاع عقلي يتمثل بالفقر والضمور بالقياس الى موقف رجل كالجاحظ والتوحيدي وعبد الجبار وابن سينا وبن رشد الخ .. ثم أخيرا هناك انقطاع علمي بالقياس الى الجهد التنظيري لرجل كالجرجاني في عمله الخاص ببلاغة القرآن. هكذا نجد أنفسنا مضطرين لأن نتسائل فيما إذا كان الاتقان وكل الأدبيات المشابهة، التي الفت قبله أو بعده تتيح لنا تكوين أية معرفة بالقرآن ، أم أنها تمثل فقط وبكل بساطة معارف مدرسية لا بد منها لدراسة القرآن ، في كلتا الحالتين نجد أن المناهج والمقاربات والاشكاليات والعلوم والمواقف العقلية المستخدمة في هذه الادبيات، هي إما بالية وإما غير مطابقة وإما غير كافية ، لكي نتيح المجال للتساؤلات الجديدة . لكي نجعل قراءات القرآن التي لم تجرب ولم تحاول حتى الآن ممكنة الوجود، لكي ندمج الظاهرة القرآنية في الحركة الكبرى للبحث العلمي والتأمل الفلسفي ، لابد والحال هذه أن نعمد الى إضاءة الرهانات المعرفية والثقافية والايديولوجية للتوترات الموجودة بين التيارات الفكرية العديدة ، ولا بد أيضا أن نطمح الى تنشيط الفكرالاسلامي المعاصر وذلك بتركيز الانتباه على المشاكل التي كان قد استبعدها والمحرمات التي اقامها والحدود التي خططها، والآفاق التي توقف عن التطلع إليها أو منع وحرم هذا التطلع، وكل هذا بطبيعة الحال تم من خلال فرضه تدريجيا بصفة أنه الحقيقة الوحيدة. أنطلاقا من اللحظة أو الحظات الزمنية التي يوفرها الاتقان ، يمكن أن نحدد ثلاث منعطفت تتزحزح فيها الحدود ما بين لحظة التفكير أي ما هو ممكن التفكير فيه ، ولحظة غير المسموح التفكير فيه ، وما هوغير مفكر فيه، فيما يخص القرآن، لحظة الوحي لحظة جمع المصحف وتثبيته لحظة الزمن المدرسي المسيطر والمهيمن الى غاية هذه اللحظة. قبل أن نسبر كلا من هذه اللحظات الثلاث ، فإنه يلزم التذكير بما تعنيه المصطلحات السابقة ، إن تاريخ الفكر العربي وتاريخ الأدب العربي يترواحان منذ سنوات بين العرض الوصفي والعرض الخطي لأغلب المؤلفين، وبين القفز المهلك لكثيرين نحو التحليل البنيوي والسيميائي ، في كلتا الحالتين يستمر الجميع في اهمال اللجوء الى النقد الاجتماعي وعلم النفس التاريخي، اللذين يساعدان ليس فقط على ربط المنهج الوصفي والمنهج البنيوي ضمن منظور حي ، وإنما على إضهار قارات من الحقيقة التاريخية لم تكتشف بعد ، وكل ذلك ضمن منظور سسيولوجي وانتربيولوجي ، إن للوعي اسطوريا كان أم تاريخيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم فلسفيا أم أخلاقيا أم جماليا أم دينيا الخ ... وللعقل وما هو غير عقلاني وللخيال والخيالي وللحساسية وللطبيعي وما فوق الطبيعي وللدنوي والمقدس ، الخ .. إن لكل ذلك تاريخا لم يدرس قط لذاته ، لأن التيار المسيطر في الفكر الاسلامي الحالي يجهل حتى التمييز بين الوعي الاسطوري والوعي التاريخي وبين العقلاني والخيالي فإنه يستطيع أن يقراء القرآن كما لو كانت أدوات العقل الحديث مطابقة في كل شيء لأدوات العقل الشغال في الخطاب القرآني والمحيط الابستمي للنبي، وبتوجيهنا هذا البحث في هذا الاتجاه نستطيع أن نتتبع انزياح الحدود وتغيرها بين الوعي واللاوعي، وبين العقلاني والخيالي ، وإذن بين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه واللامفكر فيه ـ حسب تعبير لالاند ـ بالنسبة لأمة لغوية ما هو الشىء الذي يمكن إيضاحه والتفكير فيه بمساعدة الجهاز العقلي المتوفر في تلك الفترة، إن هذا التعريف يحدد فورا ما هو مستحيل التفكير فيه وما هو مستحيل إيضاحه في الفترة ذاتها والبيئة الاجتماعية الثقافية ذاتها ، وذلك إما بسبب محدودية النظام المعرفي وطراز العقلانية الخاص بالنظام الاجتماعي الثقافي الموجود، وإما بسبب أن الذات المتكلمة ـ المؤلف ـ كانت قد تمثلت على هيئة رقابة ذاتية الإكراهات المتجسدة بالايديولوجيا المسيطرة ( نجد في هذه الحالة أن الكتاب المنحرفين أو المخربين يستطيعون إذ يخاطروا بأنفسهم ويغامرون بها عندما يردون أن يبرزوا مزايا المستحيل التفكير فيه، وذلك عن طريق اختراقهم للنظام الاجتماعي ـ الثقافي، المبالغ في قيمته والمحروس بشدة من قبل الأمة ) واما أخيرا بسبب أن توتر الفكر يصل الى منطقة ما يستعصي على الوصف والتحديد ومنطقة الكثافة التي لا يمكن سبرها للكائن، كما يفعل ذلك بامتياز الخطاب الشعري والخطاب النبوي. يمكن أن نقد أمثلة عديدة لتوضيح هذا التحليل فمثلا، فيما يخص الخطاب الاجتماعي العربي قبل القرآن ، نجد أن كل ما يتعلق بالوحدانية ـ الايمان بالله الواحد ـ كان لا يزال مستحيل التفكير فيه وهذا ما يفسر لنا من جهة الصفة المخربة للخطاب القرآني لذلك النظام، ومن جهة أخرى المناخ الجدالي والاحتجاج الجذري ضد الصحة الآلهية للرسالة التي أتى بها محمد الذي كان يعتبر آنذاك من قبل أبطال الصراع هداما ومهدما لعقائد الآباء والأسلاف، لم يكن الهدف النهائي للصراع الذي دار خلال عشرين عاما هو مجرد استبدال قوة اجتماعية بأخرى ضمن إطار من المؤسسات ومن النظام المعرفي المقدس، وإنما راح التدمير والقلب يصيب بالدرجة الأولى وبشكل أساسي الممكن التفكير فيه الخاص بمجتمع وبزمن احتقر كل راسماله الرمزي، لمصلحة ممكن التفكير فيه من نوع آخر ، ولمصلحة نظام من العمل التاريخي غير معروف في اللغة العربية حتى ذلك الوقت ـ التوحيد والاسلام ـ إنه لمن الضروري أن نقول بأن الأمر يتعلق بالضبط باللغة العربية ، وذلك لأن اللغة الآرامية والسريانية والعبرية واليونانية كانت تعبر منذ وقت طويل عن نوع من الزلزلة والتدمير مماثل أصاب العوالم الشرق أوسطية القديمة، ( عن طريق اليهودية والمسيحية) لهذا السبب نجد أن بنية الخطاب القرآني ذاتها تعكس خريط القوى الاجتماعية ـ السياسية الموجودة في الساحة، إنها تمثل مرحلة سردية تبدو فيها علاقة الذات بالموضوع ـ أي العلاقة الخاصة بالبحث عن الخلاص ـ مرتبطة كليا بالعلاقة بين المرسل ـ المرسل إليه ( أي الله ثم البشر عبر محمد) إن المرسل هو الفاعل الذي يملك قانونا سلطة كافية لأن تفرض على خصمه إكراهات كان قد قرر أن يجبره على تنفيذها ، إن المصطلحات التي تسفه وتحتقر معارض البحث عن الخلاص ـ أي الكفار ـ المستخدمة في عبارات الكينونة أو الوصف لا تتخذ كل قيمتها السلبية إلا لأنها تعتمد على عبارات الفعل، أي على أنماط متضافرة من مثل السلطة والواجب والمعرفي والارادة ، يضاف الى ذلك أن التركيب السردي والتأملي للعبارات القرآنية مرتبط أيضا بالحياة اليومية للمؤمنين وبعملهم التاريخي الضافر ضد الكفار المعارضين، وبنية الخيال الموجود عند أهل الكتاب ، هنا نجد أن السردية لا تكتفي بالتلاعب بالشخصيات العجائبية والحالات الدرامية والإخراج الأسطوري، لأجل غايات جمالية أو متعلقة بالتسلية والجاذبية، وإنما نجد أنها متولدة عن طريق تاريخ محسوس في الوقت الذي تولد فيه هي ذاتها علم قيم جديد من أجل تاريخ محسوس آخر. إنها تدل على اللامفكر فيه الخاص بالتاريخ السابق وذلك بتحديدها الأطر ووسائل وآفاق نوع من الممكن التفكير فيه غير محدود. لا يمكننا من وجهة نظر تاريخية أن نكتفي بهذا العرض الذي يساهم إذا لم ننتبه للأمر في تقوية التعارض ذي الجوهر التيلوجي ، كان هذا التعارض قد رسخ نهائيا الممكن التفكير فيه اللامحدود الخاص بالقرآن ضد الممكن التفكير فيه الخاطئ والاستعبادي المصحوب بلامفكر فيه ضخم لدى الكفار.هكذا نجد أن ما نكتشفه عندئذ في الخطاب القرآني هو نوع من القدرة على السيطرة على هذه الآليات الى درجة أن آثار المعنى الناتجة كانت قد أثرت ولا تزال على الوعي ذي المشارب اللغوية والثقافية الشديدة التنوع حتى يومنا هذا ، وهذا لا يقلل في شيء من قيمة الممكن التفكير فيه ولا من اتساع المستحيل التفكير فيه ولا من طبيعة اللامفكر فيه السائد ضمن الأنظمة الثقافية المهمشة أو المستأصلة بواسطة نوع من التنظيم الخاص بالممكن التفكير فيه وبالخيال اللذين أدخلهما القرآن، ذلك أنه هذا فيما وراء التسفيه الجدالي والتيولوجي . إن المواقف المتخذة إزاء الظاهرة القرآنية واللغات أو الأساليب التي تعبر عنها كانت بالطبع قد تغيرت في كل لحظة من اللحظات الثلاث ، إن الصعوبة بالنسبة لنا اليوم تتركز في مسألة أنه ينبغي علينا أن نخترق بدء من المعرفة المتجمة في الاتقان ، الطبقات الرسوبية للخيال الاسلامي المتشكل خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى من أجل أن نصل الى زمن الوحي ، لا يعرف الوعي الخاضع للتراث مثل هذه الصعوبة أو المشكلة ، إن السيوطي لا يرى أي إزعاج أو إشكال في تأسيس عرضه وأفكاره على سلسلة من المحدثين يضمن صحتها الإجماع السني ، ثم هو يستخدم بثقة كاملة ـ المعرفة الظافرةـ إن زمن الوحي هو الزمن التدشيني لعصر تاريخ كوني موجه هو ذاته نحو مستقبل أخروي، يبقى مع ذلك أن هذا الزمن ذي الجوهر الأسطوري متصور وموصوف على شكل تتابع للأحداث الأرضية المؤرخة والمضبوطة والمستخدمة بصفتها مراجع معيارية تضبط محاكمة تفكير وسلوك كل مؤمن، كما أن جمع وتثبيت المصحف قد سرد بصفته يعبر عن عمليات خارجية نفذت بعناية وأمانة مما يضع مضمون الرسالة نهائيا بمنأى عن عن كل ضياع أو ارتياب واحتجاج ، يقدم الاتقان مادة غزيرة لمن يريد أن يبين كيف أن الفكر الاسلامي المكرس من قبل حراس العقيدة كان قد استخدم عناصر ومواد واساليب وإطارا تأرخيا من أجل نزع الصفة التاريخية عن زمن الوحي وعن زمن جمع وتثبيت المصحف ، إن الأمر يتعلق بعملية جماعية ضخمة كانت قد جيشت الفقهاء والمحدثين ومفسرين وكتبة تاريخ وفقهاء لغة وبلاغيين، في الفترة اللاحقة لزمن الصحابة والتابعين ، وجيشت السلطة الزمانية والخيال الاجتماعي المستوعب والمولد للأساطير والشعائر والصور والحماسة والانتضار والرفض الذي تتغذى منه الى الآن الحماسة التقليدية، هكذا نجد أنفسنا أمام تقليد جبار لممكن التفكير فيه من نوع اسطوري ـ ديني منضغط في تسلسل زمني ضيق ومنفتح في آن معا على قبل وبعد من الأبدية ، ويبدو هذا الممكن التفكير فيه قاسيا وإكراهيا وبالتالي بلا مفكر فيه أكثر اتساعا وأكثر أهمية كلما توغلنا في زمن الاسلامي الى الوراء ، هكذا نجد أن السيوطي لا يذكر ولا يشير الى ابو بكر ابن مجاهد إلا من أجل أن يقول أنه لم يتكلم عن التخفيف في رسالته المسبغة ـ القراءات السبع ـ وهنا نجد أنفسنا بإزاء مثال صارخ على نزع الصفة التاريخية عن المصحف وذلك لأن ابن مجاهد هو بالضبط الرجل المسؤول عن الإصلاح النهائي الذي حصل عام 324 هـ ، والذي وضع حدا لتنافس الفقهاء فيما يخص قراءات القرآن ، إن حلقات الصراع المتتالية التي أدت الى هذا الاصلاح ونتائجه فيما يخص تثبيت النص كانت سوف تتيح لنا لو أننا نعرفها بشكل أفضل أن نواجه مشكلة من أكبر المشاكل التي كان الفكر الإسلامي قد رماها في ساحة اللامفكر فيه ألا وهي ـ تاريخة الخطاب الذي أصبح نصا رسميا مولدا للتعالي.إن المرور من حالة الخطاب القرآني الى التشكيلات الفكرية العديدة للثقافة العربية المرتبطة بحاجات دولة ومجتمع في حالة توسع كان قد حصل بعد أن دفع ثمنه على شكل انقطاعات ابستميولوجية لم تلحظ بعد، ولم توصف بشكل جيد من قبل الدراسات الاسلاميه المعاصرة والقديمة كما فعل السيوطي في تجميع المعارف الواقعية المحسوسة المكتسبة بواسطة تراث من من التبحر والتنقيب دون أن يتساءل عن الشروط العقلية ـ أي طراز العقل الشغال ـ لانتاج المعارف هذه المعارف ، أي دون التساؤل صحتها ، ضمن هذه المعنى يمكن القول إذن بأن هناك فعلا استمرارية ابستميولوجية ما بين العقل الاسلامي والعقل التاريخي للقرن التاسع عشر، إن موقف التقليديين إزاء الأدبيات التفسيرية القديمة والحالية وإزاء مشكلة يعكس استمرارية نظام قديم من اليقينيات يخص طبيعة اللغة ووظائفها ، وخصوصا اللغة العربية . هذه اليقينيات التي تكذبها الألسنيات الحديثة بشدة ، يعتقد أولاء أن المفسر ذي السيادة والأهلية يمكنه ( هنا كما في أمكنة أخرى حيث يحصل تسرب التراث المدرسي ) أن يجد المعنى القانوني الوحيد القابل للأستخدام أخلاقيا وقضائيا تشريعيا في الحياة اليومية للبشر، هذا المعنى الملتصق بكل كلمة وكل تعبير وكل آية من القرآن.
قراءة على قراءة السيوطي لماذا أختار السيوطي وكتابه (الإتقان ) في هذا البحث الذي نطمح من خلاله للكشف عن تلك الأشياء التي لم يفكر فيه داخل القرآن ذاته، وتحولت عبر عمليات الضغط التاريخية والطقوسية الى ما يطلق عليه لالاند المستحيل التفكير فيه ، ثم كيف تحول هذا النمط الفكري عبر عمليات كثيرة من التحوير،الى جدل من نوع خاص أي جدل لا يسعى الى انتاج المعرفة والوعي بها، بقدر ما يهتم بنوعية التمظهر النمطي للمعرفة ، حتى تحول العقل برمته الى دائرة مغلقة يقتات ذاته، ويعيد انتاجها باستمرار ، ولم يعد في مستطاعه أن يتحرك حركة فعالة وفاعلة ، لأن تلك القوى التي هيمنت عليه عبر قرون طويلة وضعته في مساره القسري هذا، وراحت تؤسس لمعرفة خارج العقل، وخارج السياق العام للتاريخ ، نختار الأتقان هنا لأنه ظل يكرس تلك الدوغما النصية والأسلوبية القديمة بعد أن خلع عليها مشروعية جديدة صارمة وضابطة من جهة، ومن جهة أخرى لأنه شكل المرجعية لكل الدراسات الحديثة المتعلقة بالقرآن من كافة الباحثين المعاصرين ، وعلى أية حال لن أنخرط في تحليل تفصيلي لهذا الكتاب ( الإتقان ) المكون من أكثر من (1500) صفحة، وإنما سأكتفي بتفحص عناوين المواد التي شكلته وتحليل البنية العامة للسياق الثقافي التاريخي الذي تشكل في فضائه وذلك لغاية سنصل إليها لاحقا في النسق العام لهذا البحث أو لهذه القراءة المغايرة نوعا ما لما أُعتيد عليه، تتكون مواد الكتاب من 80 مادة أو عنوان هي على النحو التالي : 1ـ المكي والمدني 2 ـ الحضري والسفري 3ـ النهاري واليلي 4 ـ ألسمائي والأرضي 5 ـ الأرضي والسمائي 6 ـ الفراشي والنومي 7 ـ أول ما نزل 8 ـ آخر ما نزل 9 ـ سبب النزول 10 ـ فيما نزل من القرآن على لسان الصحابة. 11 ـ ما تكرر نزوله. 12 ـ ما نأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه. 13 ـ ما نزل مفرقا وما نزل مجمعا 14 ـ ما نزل مشيعا وما نزل مفردا. 15 ـ ما نزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي. 16 ـ في كيفية إنزاله 17 ـ معرفة أسمائه وأسماء سوره 18 ـ جمعه وترتيبه 19 ـ عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه 20 ـ حفاظه ورواته 21 ـ معرفة العالي والنازل من أسانيده 22 المتواتر 23 ـ المشهور 24 ـ الآحاد 25 ـ الشاذ 26 ـ الموضوع 27 ـ المدرج 28 ـ معرفة الوقف والأبتداء. 29 ـ بيان الموصول لفظا المفصول معنى. 30 ـ في الأمالة والفتح وما بينهما 31 ـ في الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب. 32 ـ في المد والقصر. 33 ـ في تخفيف الهمز. 34 ـ في كيفية تحمله. 35 ـ في آداب تلاوته. 36 ـ في معرفة غريبة. 37 ـ فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز. 38 ـ فيما وقع فيه بغير لغة العرب. 39 ـ في معرفة الوجوه والنظائر. 40 ـ في معرفة الأدوات التي يحتاج اليها المفسر 41 ـ في معرفة اعرابه 42 ـ في قواعد مهمة يحتاج الي معرفتها المفسر. 43 ـ في المحكم والمتشابه 44 ـ في مقدمه ومؤخره. 45 ـ في عامه وخاصه. 46 ـ في مجمله ومبنيه. 47 ـ في ناسخه ومنسوخه. 48 ـ في مشكله وموهم الأختلاف والتناقض. 49 ـ في مطلقه ومقيده . 50 ـ في منطوقه ومفهومه 51 ـ ه. 55 ـ في الحصر والأختصاص . 56 ـ في الإيجاز والإطناب. 57 ـ في الخبرفي وجوه مخاطباته 52 ـ في حقيقته ومجازه. 53 ـ في تشبيهه واستعاراته. 54 ـ في كناياته وتعريض والإنشاء. 58 ـ في بديع القرآن. 59 ـ في فواصل الآي. 60 ـ في فواتح السور. 61 ـ في خواتم السور . 62 ـ في مناسبة الآيات والسور. 63 ـ في الآيات المشتبهات. 64 ـ في إعجاز القرآن. 65 ـ في العلوم المستنبطة من القرآن 66 ـ في أمثال القرآن 67 ـ في أقسام القرآن 68 ـ في جدل القرآن . 69 ـ فيما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب. 70 ـ في المبهمات . 71 ـ في أسماء من نزل فيهم القرآن . 72 ـ في فضائل القرآن. 73 ـ في أفضل القرآن وفاضله. 74 ـ في مفردات القرآن . 75 ـ في خواص القرآن. 76 ـ في مرسوم الخط . 77 ـ في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفة والحاجة إليه. 78 ـ في معرفة شروط المفسر وآدابه . 79 ـ في غرائب التفسير . 80 ـ في طبقات المفسرين.
إن هذا الترقيم المطول للعناوين يسمح لنا بأن نسجل العديد من الملاحظات الممكنة التالية، وهي على أية حال تبقى ملاحظات مبدئية ، لأن مسألة تحليل البنية العامة العامة للكتاب على رغم أهمية ذلك تحتاج الى جهد كبير، نتمنى أن نعود له في مقبل الأيام . الإتقان يمثل كل سمات طراز التأليف المدرسي، على الهيئة التي كان قد فرض نفسه عليها لدى الموسوعيون الذين التقطوا المعارف المتراكمة أثناء العصر الكلاسيكي، إن الموسوعيين أنفسهم لم يفعلوا شيئا سوى إنتاج أساليب العرض التي كانت قد استخدمت زمنا طويلا من قبل اختصاصي العلوم المتعلقة بالحالات الفردية ،كالفقهاء المشرعين، وعلماء الكلام والمفسرين والنحويين، إن بنية كتب الغزالي والماوردي والجويني وفخر الرازي ، الخ ... هي ذات دلالة كبرى على هذا الصعيد، إن ما يميز هذه التصنيفات إذا نظرنا اليها عن كثب تكشف عن تنوع المواضيع وطريقة تركيبها وترتيبها، ثم الى المضامين المتفرعة عنها ، أننا امام معرفة مبعثرة ومقسمة بدون جدوى الى أبواب يمكن ارجاعها الى تقسيمات أكثر تلاؤما مع الاختصاصات التي التي رسختها المؤلفات الكلاسيكية الكبرى، هكذا نلاحظ أنه من الممكن إعادة توزيع وترتيب جدول مواد كتاب الأتقان ليس طبقا للتصنيف الحديث للعلوم ، وإنما بما يتوافق مع العلوم العربية الإسلامية ،بالصفة التي عرفها عليها السيوطي أو أتيح له أن يعرفها ، إنني لا أريد أن أعيد تشكيل الكتاب حسب رأيي وإنما أريد تحقيق مقاربة أفضل لنوع من تنظيم ما يمكن معرفته،هذا الشيء الذي تتوقف عليه حتى الآن كل التقديمات التي حظي بها القرآن . مسائل التسلسل الزمني للأحداث ( 1 ـ 8 ـ 11 ـ 13 ـ 15 ـ 47 ) أنماط وطرائق الوحي ( 9 ـ 10 ـ 13 ـ 14 ـ 16 ) الجمع والنقل (17 الى 27 ) التقديم والوصف الشكلي للمصحف (17 ـ 60 ـ 60 ـ 76 ) النظم والوحدات النصية( 13 ـ 15 ـ 28 ـ 35 ـ 59 ـ 61 ) مفردات اللغة ( 36 ـ 39 ) النحو ( 41 ـ 42 ) التحليل المنطقي ( 42ـ 46 ـ 48 ـ 50 ـ 63 ) البلاغة الاسلوبية ( 51 ـ 58 ـ 64 ـ 66 ـ 68 ـ 70 ـ 84 ) التفسير ( 77 ـ 42 ـ 80 ) العلوم المشتقة من القرآن ( 65 ) ملحوظات تاريخية ( 69 ـ 71) قيم تشفعية ( 82 ـ 73 ـ 75 )
نلاحظ هنا اختلال التوازن الذي يبدو واضحا ما بين المكان المخصص للنحو والمفردات من جهة، ثم الإلحاح الذي تحظى به البلاغة والتحليل المنطقي الذي تتطلبه عملية استنباط الأحكام الشرعية في الفقه من جهة أخرى . أما النظم فإنه يجيب على الحاجات العملية للتذكر والحفظ وتلاوة النص . وأما التسلسل الزمني وأنماط الوحي فإن لهما انعكاسا مباشرا على تجديد الشريعة . بكلمة أخرى فإننا نعلم أن تسعة قرون من نشأة وتطور علوم القرآن قد أنتجت مجموعة من المعارف العملية الموظفة في تغذية الشعور بوجود أساس إلهي للقانون الديني، وبالسمة الخارقة للطبيعة لكلام الله، ولشروط نقله، وإعادة إنتاجه، التي لا تمس ولا يعتريها الشك. إن الإتقان يختتم عملا بطيئا من التصفية والإنتخاب وتكثيف المعطيات ووجهات النظر والتحديدات والتوضيحات وأنماط المعارف التي شكلت بالتدريج الخطوط العريضة للقرآن. من بين المعارف التكنيكية التي جيشها التراث المدرسي الذي التقطه السيوطي، يلفت انتباهنا خصوصا مستويات التحليل اللغوي من مفردات وصياغة ونحو ومعنى وبلاغة ونظم. على الرغم من إثارة السيوطي لمسائل التسلسل الزمني ونقل الوحي فإنه من الصعب أن نتكلم عن وجود معرفة تاريخية في كتاب الإتقان . على العكس فإن الدهشة تصيبنا إذ نلاحظ انتصار وجهة نظر لا تاريخية فيما يخص كل المشاكل المطروقة . أريد القول بأن النقاش الخصب المتعلق بظروف الوحي والنقل وانجاز المصحف أو المتعلقة بتطور المفردات المعجمية قد هجر او قلص الى ملحوظات مشتتة، في حين جرى التركيز دائما على الحلول التي تحدد منذ القرن الرابع الهجري العقيدة الإسلامية، لا يكفي القول بأن العلماء المتأخرين كالسيوطي يلتزمون فقط بالنقل الأمين وبالحفاظ على تعاليم العلماء الكلاسيكيين الأساسيين بشكل تربوي وتعليمي، دون أي تغيير أو تحوير، وإنما ينبغي أن نترصد فيما وراء تبعية المقلدين للمجتهدين مسألة ظهور عقل ديني معين يرتكز على الخطاب القرآني ، سوف يحاول هذا العقل الديني جاهدا السيطرة على دلالات هذا الخطاب وذلك بمعونة المعارف التكنيكية المتنوعة والمعمقة قليلا أو كثيرا بحسب المؤلفين والعصور التاريخية. هل يمكن أن نقول بأن العقل الديني الشغال في الخطاب القرآني هو نفسه العقل الذي يستخدمه الحسن البصري والقاضي عبد الجبار أو ابن خلدون ، ثم هنا السيوطي ؟ ما الروابط التي يتعاطاها العقل الديني مع العقول التكنيكية المستخدمة في في القواعد والمنطق والتاريخ والرياضيات ... الخ؟ وهل هناك سيطرة للعقل الأول ـ العقل الديني ـ على الثانية ، أم هناك تأثير لهذه الأخيرة على العقل الأول؟ إحدى السمات الدائمة للعقل الديني تتلخص في أنه يبحث عن بناء متماسك عملي داخل سياج تيولوجيي دون أن يتسائل عن الفرضيات المسبقة والمسلمات واليقينيات التي تجعل ممكنا ممارسة الفاعلية التأملية الأستدلالية ضمن هذا السياج، لذا فإنه يعيش حالة توتر دائم مع العقل العلمي الذي بسبب أنه يشتغل على مواد وضعية يمكن ملاحظتها والقبض عليها، يستطيع بل وينبغي عليه أن يعري كل عملياته وآلياته ،ينبغي هنا أن نزيل غموضا قاتلا للروح لأنه مستغل على صعيد واسع منذ سنوات من قبل الخطابات الأسلامية المعاصرة، ينبغي عدم تحديد الروابط بين العقل الديني والعقل العلمي عن طريق أفضلية وتفوق أحدهما على الآخر ولا عن طريق الموضوعية الوهمية التي تحدد لكل منهما مجالات خاصة به وأدوارا ومسارات خصوصية ، ولا عن طريق المماحكة الجدالية العنيفة التي ميزت الغرب المعلمن، ذلك النقاش المتعلق بالكنيسة والدولة أو الروحي والزمني أو الديني والعلماني ، سوف ننطلق فلسفيا ، من فكرة المعرفة العاطفية الشعورية، المكتسبة والمؤسسة على قاعدة الوعي العاطفي الشعوري . إن كل فرد يتميز بتوازن معين أو بختلال توازن ، ما بين قطبي الوعي العاطفي والوعي العقلي الثقافي ، إن الفيلسوف يتسائل عن مصدر هذين الوعيين ومكانتهما المعرفية، هل ينبغي أن نفكر مع تيار هيدغر قائلين بأن الأنسان يرتقي الى مكانة الكائن بدءا من الكينونة أوالوجود، وأن الكائن هو دائما لأجل الفكر ولأجله وحده؟ وهل نستطيع أن نقول مع ف الكييه بأن القناعة الأساسية للإنسان هي يقين الكائن بالمعنى الأسمي للكلمة ، أي بمعنى آخر الاعتقاد بوجود واقع سابق لروحنا ومستقل عنها ولا يمكن نعته بدقة ولكنه قابل لأن يوجد بلا عبثية وهو محدد على سبيل الأفتراض كمادة او كإله. على العكس من الكيية فإنني سوف أترك هذه المسألة الفلسفية مفتوحة من أجل أن أعود الى هذه الموضوعات الدراسة المحسوسة التي تتمثل بالنصوص الموحى بها في القرآن، مع الوعي الذي أنتجته . نحن نعلم الى أي حد كان القرآن فرض وغذى بقوة الاقتناع الأساسي بوجود كائن سابق لروحنا ومستقل عنها هذا الكائن الموصوف والمذكور بكثافة فيه الى درجة أن الروح المغموسة من كل جهة بصفاة الله وأسمائه وأحكامه، التي نص عليها الله ذاته في لغة عربية واضحة ، مدعوة لأن تتمثل وتعيد إنتاج ما سوف يصبح منذ الآن وصاعدا المعرفة المتعالية، إنه لممتع أن نلاحظ بهذا الصدد أن العقل الديني كان قد التقط في المكان الأول الآيات والسور التي تتمتع بالمضمونات الأنطلوجية الأكثر كثافة والأكثر حسما ، إن العقل الديني إذ يستغل العاطفة المباشرة والقسرية التي تقول بأن الله الواحد الحي الخير يتكلم ويملأ الوجود بحضوره ويحيا في آياته، وإذ يستند على على المعرفة العاطفية التي لا تدحض ولكن التي لا تزال تطرح اشكالا من الناحية الفلسفية ، فإنه ينخرط في مسارات متعددة، نجد في هذه المسارات أن ضغط الخيال الأجتماعي والهلوسات الفردية والمعارف الخاطئة المثبتة من قبل اجماع النفوس الطيبة وقيم الطبقة المسيطرة .. الخ تتغلب على الحدس الأنطلوجي من أجل تبرير أخطائه ودوغمائيته وانهزاميته. يقدم الاتقان دلائل كثيرة على مدى السهولة والانتهازية التي تميز العقل الديني عندما يتحول دون أن يعرف ، إلى عقل أرثوذكسي . إن المؤلف يستشهد، بحسب ممارسة معهودة وقديمة جدا بأحاديث مزورة من أجل توطيد ودعم كلامه، في حين أنه يجهد نفسه في إدانة هذه العملية عند أسلافه، من أجل توطيد سلطته المعرفية، هكذا يتغير رهان المعرفة التكنيكية ـ أقصد نقد الحديث أو علم الحديث ـ فبدلا من أن تستخدم كمجرد ضابط لصحة الأحاديث النبوية التي تشترط هي ذاتها مسألة المنفذ أو الوصول الى الحضور الأنطولوجي التأسيسي ، فإنها تصبح أداة للمزاودة المحاكاتية بين الفقهاء والمدارس المتنافسة، هكذا يستعيد كل مؤلف الحجج ذاتها والنصوص والأسماء المكرسة داخل الأرثوذكسيات الكبرى من سنة وشيعة ..الخ ، إن السيوطي لا ينجو من هذه الممارسة أو هذه الضرورة ، كما أنه لا يلحظ أكثر من غير هذه الأنقطاعات التي يحدثها عقله الأرثوذكسي بالقياس الى العقل الديني الأول كما يتجلى من خلال الآيات الوجودية الكونية للقرآن ، هناك أولا إنقطاع تاريخي ـ الذي لا يحدث بالضرورة انقطاعا روحيا ـ بالقياس الى حياة النبي وأفعاله الحقيقية ، ثم الأنقطاع اللغوي بالقياس الى نظام اللغة العربية كما يتبدى في القرآن ثم هناك الانقطاع الثقافي المتمثل بالتقلص والضيق بالقياس الى الانفتاح الذي يتحلى به الشارحون الكبار كالطبري وفخر الدين الرازي، الذين كان السيوطي استشهد بهما في الاتقان ، وإن كان قد ركز على الأول أكثر من الثاني وذلك بخصوص مسائل صغيرة دائما ، ثم هناك انقطاع عقلي يتمثل بالفقر والضمور بالقياس الى موقف رجل كالجاحظ والتوحيدي وعبد الجبار وابن سينا وبن رشد الخ .. ثم أخيرا هناك انقطاع علمي بالقياس الى الجهد التنظيري لرجل كالجرجاني في عمله الخاص ببلاغة القرآن. هكذا نجد أنفسنا مضطرين لأن نتسائل فيما إذا كان الاتقان وكل الأدبيات المشابهة، التي الفت قبله أو بعده تتيح لنا تكوين أية معرفة بالقرآن ، أم أنها تمثل فقط وبكل بساطة معارف مدرسية لا بد منها لدراسة القرآن ، في كلتا الحالتين نجد أن المناهج والمقاربات والاشكاليات والعلوم والمواقف العقلية المستخدمة في هذه الادبيات، هي إما بالية وإما غير مطابقة وإما غير كافية ، لكي نتيح المجال للتساؤلات الجديدة . لكي نجعل قراءات القرآن التي لم تجرب ولم تحاول حتى الآن ممكنة الوجود، لكي ندمج الظاهرة القرآنية في الحركة الكبرى للبحث العلمي والتأمل الفلسفي ، لابد والحال هذه أن نعمد الى إضاءة الرهانات المعرفية والثقافية والايديولوجية للتوترات الموجودة بين التيارات الفكرية العديدة ، ولا بد أيضا أن نطمح الى تنشيط الفكرالاسلامي المعاصر وذلك بتركيز الانتباه على المشاكل التي كان قد استبعدها والمحرمات التي اقامها والحدود التي خططها، والآفاق التي توقف عن التطلع إليها أو منع وحرم هذا التطلع، وكل هذا بطبيعة الحال تم من خلال فرضه تدريجيا بصفة أنه الحقيقة الوحيدة. أنطلاقا من اللحظة أو الحظات الزمنية التي يوفرها الاتقان ، يمكن أن نحدد ثلاث منعطفت تتزحزح فيها الحدود ما بين لحظة التفكير أي ما هو ممكن التفكير فيه ، ولحظة غير المسموح التفكير فيه ، وما هوغير مفكر فيه، فيما يخص القرآن، لحظة الوحي لحظة جمع المصحف وتثبيته لحظة الزمن المدرسي المسيطر والمهيمن الى غاية هذه اللحظة. قبل أن نسبر كلا من هذه اللحظات الثلاث ، فإنه يلزم التذكير بما تعنيه المصطلحات السابقة ، إن تاريخ الفكر العربي وتاريخ الأدب العربي يترواحان منذ سنوات بين العرض الوصفي والعرض الخطي لأغلب المؤلفين، وبين القفز المهلك لكثيرين نحو التحليل البنيوي والسيميائي ، في كلتا الحالتين يستمر الجميع في اهمال اللجوء الى النقد الاجتماعي وعلم النفس التاريخي، اللذين يساعدان ليس فقط على ربط المنهج الوصفي والمنهج البنيوي ضمن منظور حي ، وإنما على إضهار قارات من الحقيقة التاريخية لم تكتشف بعد ، وكل ذلك ضمن منظور سسيولوجي وانتربيولوجي ، إن للوعي اسطوريا كان أم تاريخيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم فلسفيا أم أخلاقيا أم جماليا أم دينيا الخ ... وللعقل وما هو غير عقلاني وللخيال والخيالي وللحساسية وللطبيعي وما فوق الطبيعي وللدنوي والمقدس ، الخ .. إن لكل ذلك تاريخا لم يدرس قط لذاته ، لأن التيار المسيطر في الفكر الاسلامي الحالي يجهل حتى التمييز بين الوعي الاسطوري والوعي التاريخي وبين العقلاني والخيالي فإنه يستطيع أن يقراء القرآن كما لو كانت أدوات العقل الحديث مطابقة في كل شيء لأدوات العقل الشغال في الخطاب القرآني والمحيط الابستمي للنبي، وبتوجيهنا هذا البحث في هذا الاتجاه نستطيع أن نتتبع انزياح الحدود وتغيرها بين الوعي واللاوعي، وبين العقلاني والخيالي ، وإذن بين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه واللامفكر فيه ـ حسب تعبير لالاند ـ بالنسبة لأمة لغوية ما هو الشىء الذي يمكن إيضاحه والتفكير فيه بمساعدة الجهاز العقلي المتوفر في تلك الفترة، إن هذا التعريف يحدد فورا ما هو مستحيل التفكير فيه وما هو مستحيل إيضاحه في الفترة ذاتها والبيئة الاجتماعية الثقافية ذاتها ، وذلك إما بسبب محدودية النظام المعرفي وطراز العقلانية الخاص بالنظام الاجتماعي الثقافي الموجود، وإما بسبب أن الذات المتكلمة ـ المؤلف ـ كانت قد تمثلت على هيئة رقابة ذاتية الإكراهات المتجسدة بالايديولوجيا المسيطرة ( نجد في هذه الحالة أن الكتاب المنحرفين أو المخربين يستطيعون إذ يخاطروا بأنفسهم ويغامرون بها عندما يردون أن يبرزوا مزايا المستحيل التفكير فيه، وذلك عن طريق اختراقهم للنظام الاجتماعي ـ الثقافي، المبالغ في قيمته والمحروس بشدة من قبل الأمة ) واما أخيرا بسبب أن توتر الفكر يصل الى منطقة ما يستعصي على الوصف والتحديد ومنطقة الكثافة التي لا يمكن سبرها للكائن، كما يفعل ذلك بامتياز الخطاب الشعري والخطاب النبوي. يمكن أن نقد أمثلة عديدة لتوضيح هذا التحليل فمثلا، فيما يخص الخطاب الاجتماعي العربي قبل القرآن ، نجد أن كل ما يتعلق بالوحدانية ـ الايمان بالله الواحد ـ كان لا يزال مستحيل التفكير فيه وهذا ما يفسر لنا من جهة الصفة المخربة للخطاب القرآني لذلك النظام، ومن جهة أخرى المناخ الجدالي والاحتجاج الجذري ضد الصحة الآلهية للرسالة التي أتى بها محمد الذي كان يعتبر آنذاك من قبل أبطال الصراع هداما ومهدما لعقائد الآباء والأسلاف، لم يكن الهدف النهائي للصراع الذي دار خلال عشرين عاما هو مجرد استبدال قوة اجتماعية بأخرى ضمن إطار من المؤسسات ومن النظام المعرفي المقدس، وإنما راح التدمير والقلب يصيب بالدرجة الأولى وبشكل أساسي الممكن التفكير فيه الخاص بمجتمع وبزمن احتقر كل راسماله الرمزي، لمصلحة ممكن التفكير فيه من نوع آخر ، ولمصلحة نظام من العمل التاريخي غير معروف في اللغة العربية حتى ذلك الوقت ـ التوحيد والاسلام ـ إنه لمن الضروري أن نقول بأن الأمر يتعلق بالضبط باللغة العربية ، وذلك لأن اللغة الآرامية والسريانية والعبرية واليونانية كانت تعبر منذ وقت طويل عن نوع من الزلزلة والتدمير مماثل أصاب العوالم الشرق أوسطية القديمة، ( عن طريق اليهودية والمسيحية) لهذا السبب نجد أن بنية الخطاب القرآني ذاتها تعكس خريط القوى الاجتماعية ـ السياسية الموجودة في الساحة، إنها تمثل مرحلة سردية تبدو فيها علاقة الذات بالموضوع ـ أي العلاقة الخاصة بالبحث عن الخلاص ـ مرتبطة كليا بالعلاقة بين المرسل ـ المرسل إليه ( أي الله ثم البشر عبر محمد) إن المرسل هو الفاعل الذي يملك قانونا سلطة كافية لأن تفرض على خصمه إكراهات كان قد قرر أن يجبره على تنفيذها ، إن المصطلحات التي تسفه وتحتقر معارض البحث عن الخلاص ـ أي الكفار ـ المستخدمة في عبارات الكينونة أو الوصف لا تتخذ كل قيمتها السلبية إلا لأنها تعتمد على عبارات الفعل، أي على أنماط متضافرة من مثل السلطة والواجب والمعرفي والارادة ، يضاف الى ذلك أن التركيب السردي والتأملي للعبارات القرآنية مرتبط أيضا بالحياة اليومية للمؤمنين وبعملهم التاريخي الضافر ضد الكفار المعارضين، وبنية الخيال الموجود عند أهل الكتاب ، هنا نجد أن السردية لا تكتفي بالتلاعب بالشخصيات العجائبية والحالات الدرامية والإخراج الأسطوري، لأجل غايات جمالية أو متعلقة بالتسلية والجاذبية، وإنما نجد أنها متولدة عن طريق تاريخ محسوس في الوقت الذي تولد فيه هي ذاتها علم قيم جديد من أجل تاريخ محسوس آخر. إنها تدل على اللامفكر فيه الخاص بالتاريخ السابق وذلك بتحديدها الأطر ووسائل وآفاق نوع من الممكن التفكير فيه غير محدود. لا يمكننا من وجهة نظر تاريخية أن نكتفي بهذا العرض الذي يساهم إذا لم ننتبه للأمر في تقوية التعارض ذي الجوهر التيلوجي ، كان هذا التعارض قد رسخ نهائيا الممكن التفكير فيه اللامحدود الخاص بالقرآن ضد الممكن التفكير فيه الخاطئ والاستعبادي المصحوب بلامفكر فيه ضخم لدى الكفار.هكذا نجد أن ما نكتشفه عندئذ في الخطاب القرآني هو نوع من القدرة على السيطرة على هذه الآليات الى درجة أن آثار المعنى الناتجة كانت قد أثرت ولا تزال على الوعي ذي المشارب اللغوية والثقافية الشديدة التنوع حتى يومنا هذا ، وهذا لا يقلل في شيء من قيمة الممكن التفكير فيه ولا من اتساع المستحيل التفكير فيه ولا من طبيعة اللامفكر فيه السائد ضمن الأنظمة الثقافية المهمشة أو المستأصلة بواسطة نوع من التنظيم الخاص بالممكن التفكير فيه وبالخيال اللذين أدخلهما القرآن، ذلك أنه هذا فيما وراء التسفيه الجدالي والتيولوجي . إن المواقف المتخذة إزاء الظاهرة القرآنية واللغات أو الأساليب التي تعبر عنها كانت بالطبع قد تغيرت في كل لحظة من اللحظات الثلاث ، إن الصعوبة بالنسبة لنا اليوم تتركز في مسألة أنه ينبغي علينا أن نخترق بدء من المعرفة المتجمة في الاتقان ، الطبقات الرسوبية للخيال الاسلامي المتشكل خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى من أجل أن نصل الى زمن الوحي ، لا يعرف الوعي الخاضع للتراث مثل هذه الصعوبة أو المشكلة ، إن السيوطي لا يرى أي إزعاج أو إشكال في تأسيس عرضه وأفكاره على سلسلة من المحدثين يضمن صحتها الإجماع السني ، ثم هو يستخدم بثقة كاملة ـ المعرفة الظافرةـ إن زمن الوحي هو الزمن التدشيني لعصر تاريخ كوني موجه هو ذاته نحو مستقبل أخروي، يبقى مع ذلك أن هذا الزمن ذي الجوهر الأسطوري متصور وموصوف على شكل تتابع للأحداث الأرضية المؤرخة والمضبوطة والمستخدمة بصفتها مراجع معيارية تضبط محاكمة تفكير وسلوك كل مؤمن، كما أن جمع وتثبيت المصحف قد سرد بصفته يعبر عن عمليات خارجية نفذت بعناية وأمانة مما يضع مضمون الرسالة نهائيا بمنأى عن عن كل ضياع أو ارتياب واحتجاج ، يقدم الاتقان مادة غزيرة لمن يريد أن يبين كيف أن الفكر الاسلامي المكرس من قبل حراس العقيدة كان قد استخدم عناصر ومواد واساليب وإطارا تأرخيا من أجل نزع الصفة التاريخية عن زمن الوحي وعن زمن جمع وتثبيت المصحف ، إن الأمر يتعلق بعملية جماعية ضخمة كانت قد جيشت الفقهاء والمحدثين ومفسرين وكتبة تاريخ وفقهاء لغة وبلاغيين، في الفترة اللاحقة لزمن الصحابة والتابعين ، وجيشت السلطة الزمانية والخيال الاجتماعي المستوعب والمولد للأساطير والشعائر والصور والحماسة والانتضار والرفض الذي تتغذى منه الى الآن الحماسة التقليدية، هكذا نجد أنفسنا أمام تقليد جبار لممكن التفكير فيه من نوع اسطوري ـ ديني منضغط في تسلسل زمني ضيق ومنفتح في آن معا على قبل وبعد من الأبدية ، ويبدو هذا الممكن التفكير فيه قاسيا وإكراهيا وبالتالي بلا مفكر فيه أكثر اتساعا وأكثر أهمية كلما توغلنا في زمن الاسلامي الى الوراء ، هكذا نجد أن السيوطي لا يذكر ولا يشير الى ابو بكر ابن مجاهد إلا من أجل أن يقول أنه لم يتكلم عن التخفيف في رسالته المسبغة ـ القراءات السبع ـ وهنا نجد أنفسنا بإزاء مثال صارخ على نزع الصفة التاريخية عن المصحف وذلك لأن ابن مجاهد هو بالضبط الرجل المسؤول عن الإصلاح النهائي الذي حصل عام 324 هـ ، والذي وضع حدا لتنافس الفقهاء فيما يخص قراءات القرآن ، إن حلقات الصراع المتتالية التي أدت الى هذا الاصلاح ونتائجه فيما يخص تثبيت النص كانت سوف تتيح لنا لو أننا نعرفها بشكل أفضل أن نواجه مشكلة من أكبر المشاكل التي كان الفكر الإسلامي قد رماها في ساحة اللامفكر فيه ألا وهي ـ تاريخة الخطاب الذي أصبح نصا رسميا مولدا للتعالي.إن المرور من حالة الخطاب القرآني الى التشكيلات الفكرية العديدة للثقافة العربية المرتبطة بحاجات دولة ومجتمع في حالة توسع كان قد حصل بعد أن دفع ثمنه على شكل انقطاعات ابستميولوجية لم تلحظ بعد، ولم توصف بشكل جيد من قبل الدراسات الاسلاميه المعاصرة والقديمة كما فعل السيوطي في تجميع المعارف الواقعية المحسوسة المكتسبة بواسطة تراث من من التبحر والتنقيب دون أن يتساءل عن الشروط العقلية ـ أي طراز العقل الشغال ـ لانتاج المعارف هذه المعارف ، أي دون التساؤل صحتها ، ضمن هذه المعنى يمكن القول إذن بأن هناك فعلا استمرارية ابستميولوجية ما بين العقل الاسلامي والعقل التاريخي للقرن التاسع عشر، إن موقف التقليديين إزاء الأدبيات التفسيرية القديمة والحالية وإزاء مشكلة يعكس استمرارية نظام قديم من اليقينيات يخص طبيعة اللغة ووظائفها ، وخصوصا اللغة العربية . هذه اليقينيات التي تكذبها الألسنيات الحديثة بشدة ، يعتقد أولاء أن المفسر ذي السيادة والأهلية يمكنه ( هنا كما في أمكنة أخرى حيث يحصل تسرب التراث المدرسي ) أن يجد المعنى القانوني الوحيد القابل للأستخدام أخلاقيا وقضائيا تشريعيا في الحياة اليومية للبشر، هذا المعنى الملتصق بكل كلمة وكل تعبير وكل آية من القرآن.
قراءة على قراءة السيوطي لماذا أختار السيوطي وكتابه (الإتقان ) في هذا البحث الذي نطمح من خلاله للكشف عن تلك الأشياء التي لم يفكر فيه داخل القرآن ذاته، وتحولت عبر عمليات الضغط التاريخية والطقوسية الى ما يطلق عليه لالاند المستحيل التفكير فيه ، ثم كيف تحول هذا النمط الفكري عبر عمليات كثيرة من التحوير،الى جدل من نوع خاص أي جدل لا يسعى الى انتاج المعرفة والوعي بها، بقدر ما يهتم بنوعية التمظهر النمطي للمعرفة ، حتى تحول العقل برمته الى دائرة مغلقة يقتات ذاته، ويعيد انتاجها باستمرار ، ولم يعد في مستطاعه أن يتحرك حركة فعالة وفاعلة ، لأن تلك القوى التي هيمنت عليه عبر قرون طويلة وضعته في مساره القسري هذا، وراحت تؤسس لمعرفة خارج العقل، وخارج السياق العام للتاريخ ، نختار الأتقان هنا لأنه ظل يكرس تلك الدوغما النصية والأسلوبية القديمة بعد أن خلع عليها مشروعية جديدة صارمة وضابطة من جهة، ومن جهة أخرى لأنه شكل المرجعية لكل الدراسات الحديثة المتعلقة بالقرآن من كافة الباحثين المعاصرين ، وعلى أية حال لن أنخرط في تحليل تفصيلي لهذا الكتاب ( الإتقان ) المكون من أكثر من (1500) صفحة، وإنما سأكتفي بتفحص عناوين المواد التي شكلته وتحليل البنية العامة للسياق الثقافي التاريخي الذي تشكل في فضائه وذلك لغاية سنصل إليها لاحقا في النسق العام لهذا البحث أو لهذه القراءة المغايرة نوعا ما لما أُعتيد عليه، تتكون مواد الكتاب من 80 مادة أو عنوان هي على النحو التالي : 1ـ المكي والمدني 2 ـ الحضري والسفري 3ـ النهاري واليلي 4 ـ ألسمائي والأرضي 5 ـ الأرضي والسمائي 6 ـ الفراشي والنومي 7 ـ أول ما نزل 8 ـ آخر ما نزل 9 ـ سبب النزول 10 ـ فيما نزل من القرآن على لسان الصحابة. 11 ـ ما تكرر نزوله. 12 ـ ما نأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه. 13 ـ ما نزل مفرقا وما نزل مجمعا 14 ـ ما نزل مشيعا وما نزل مفردا. 15 ـ ما نزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي. 16 ـ في كيفية إنزاله 17 ـ معرفة أسمائه وأسماء سوره 18 ـ جمعه وترتيبه 19 ـ عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه 20 ـ حفاظه ورواته 21 ـ معرفة العالي والنازل من أسانيده 22 المتواتر 23 ـ المشهور 24 ـ الآحاد 25 ـ الشاذ 26 ـ الموضوع 27 ـ المدرج 28 ـ معرفة الوقف والأبتداء. 29 ـ بيان الموصول لفظا المفصول معنى. 30 ـ في الأمالة والفتح وما بينهما 31 ـ في الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب. 32 ـ في المد والقصر. 33 ـ في تخفيف الهمز. 34 ـ في كيفية تحمله. 35 ـ في آداب تلاوته. 36 ـ في معرفة غريبة. 37 ـ فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز. 38 ـ فيما وقع فيه بغير لغة العرب. 39 ـ في معرفة الوجوه والنظائر. 40 ـ في معرفة الأدوات التي يحتاج اليها المفسر 41 ـ في معرفة اعرابه 42 ـ في قواعد مهمة يحتاج الي معرفتها المفسر. 43 ـ في المحكم والمتشابه 44 ـ في مقدمه ومؤخره. 45 ـ في عامه وخاصه. 46 ـ في مجمله ومبنيه. 47 ـ في ناسخه ومنسوخه. 48 ـ في مشكله وموهم الأختلاف والتناقض. 49 ـ في مطلقه ومقيده . 50 ـ في منطوقه ومفهومه 51 ـ ه. 55 ـ في الحصر والأختصاص . 56 ـ في الإيجاز والإطناب. 57 ـ في الخبرفي وجوه مخاطباته 52 ـ في حقيقته ومجازه. 53 ـ في تشبيهه واستعاراته. 54 ـ في كناياته وتعريض والإنشاء. 58 ـ في بديع القرآن. 59 ـ في فواصل الآي. 60 ـ في فواتح السور. 61 ـ في خواتم السور . 62 ـ في مناسبة الآيات والسور. 63 ـ في الآيات المشتبهات. 64 ـ في إعجاز القرآن. 65 ـ في العلوم المستنبطة من القرآن 66 ـ في أمثال القرآن 67 ـ في أقسام القرآن 68 ـ في جدل القرآن . 69 ـ فيما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب. 70 ـ في المبهمات . 71 ـ في أسماء من نزل فيهم القرآن . 72 ـ في فضائل القرآن. 73 ـ في أفضل القرآن وفاضله. 74 ـ في مفردات القرآن . 75 ـ في خواص القرآن. 76 ـ في مرسوم الخط . 77 ـ في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفة والحاجة إليه. 78 ـ في معرفة شروط المفسر وآدابه . 79 ـ في غرائب التفسير . 80 ـ في طبقات المفسرين.
إن هذا الترقيم المطول للعناوين يسمح لنا بأن نسجل العديد من الملاحظات الممكنة التالية، وهي على أية حال تبقى ملاحظات مبدئية ، لأن مسألة تحليل البنية العامة العامة للكتاب على رغم أهمية ذلك تحتاج الى جهد كبير، نتمنى أن نعود له في مقبل الأيام . الإتقان يمثل كل سمات طراز التأليف المدرسي، على الهيئة التي كان قد فرض نفسه عليها لدى الموسوعيون الذين التقطوا المعارف المتراكمة أثناء العصر الكلاسيكي، إن الموسوعيين أنفسهم لم يفعلوا شيئا سوى إنتاج أساليب العرض التي كانت قد استخدمت زمنا طويلا من قبل اختصاصي العلوم المتعلقة بالحالات الفردية ،كالفقهاء المشرعين، وعلماء الكلام والمفسرين والنحويين، إن بنية كتب الغزالي والماوردي والجويني وفخر الرازي ، الخ ... هي ذات دلالة كبرى على هذا الصعيد، إن ما يميز هذه التصنيفات إذا نظرنا اليها عن كثب تكشف عن تنوع المواضيع وطريقة تركيبها وترتيبها، ثم الى المضامين المتفرعة عنها ، أننا امام معرفة مبعثرة ومقسمة بدون جدوى الى أبواب يمكن ارجاعها الى تقسيمات أكثر تلاؤما مع الاختصاصات التي التي رسختها المؤلفات الكلاسيكية الكبرى، هكذا نلاحظ أنه من الممكن إعادة توزيع وترتيب جدول مواد كتاب الأتقان ليس طبقا للتصنيف الحديث للعلوم ، وإنما بما يتوافق مع العلوم العربية الإسلامية ،بالصفة التي عرفها عليها السيوطي أو أتيح له أن يعرفها ، إنني لا أريد أن أعيد تشكيل الكتاب حسب رأيي وإنما أريد تحقيق مقاربة أفضل لنوع من تنظيم ما يمكن معرفته،هذا الشيء الذي تتوقف عليه حتى الآن كل التقديمات التي حظي بها القرآن . مسائل التسلسل الزمني للأحداث ( 1 ـ 8 ـ 11 ـ 13 ـ 15 ـ 47 ) أنماط وطرائق الوحي ( 9 ـ 10 ـ 13 ـ 14 ـ 16 ) الجمع والنقل (17 الى 27 ) التقديم والوصف الشكلي للمصحف (17 ـ 60 ـ 60 ـ 76 ) النظم والوحدات النصية( 13 ـ 15 ـ 28 ـ 35 ـ 59 ـ 61 ) مفردات اللغة ( 36 ـ 39 ) النحو ( 41 ـ 42 ) التحليل المنطقي ( 42ـ 46 ـ 48 ـ 50 ـ 63 ) البلاغة الاسلوبية ( 51 ـ 58 ـ 64 ـ 66 ـ 68 ـ 70 ـ 84 ) التفسير ( 77 ـ 42 ـ 80 ) العلوم المشتقة من القرآن ( 65 ) ملحوظات تاريخية ( 69 ـ 71) قيم تشفعية ( 82 ـ 73 ـ 75 )
نلاحظ هنا اختلال التوازن الذي يبدو واضحا ما بين المكان المخصص للنحو والمفردات من جهة، ثم الإلحاح الذي تحظى به البلاغة والتحليل المنطقي الذي تتطلبه عملية استنباط الأحكام الشرعية في الفقه من جهة أخرى . أما النظم فإنه يجيب على الحاجات العملية للتذكر والحفظ وتلاوة النص . وأما التسلسل الزمني وأنماط الوحي فإن لهما انعكاسا مباشرا على تجديد الشريعة . بكلمة أخرى فإننا نعلم أن تسعة قرون من نشأة وتطور علوم القرآن قد أنتجت مجموعة من المعارف العملية الموظفة في تغذية الشعور بوجود أساس إلهي للقانون الديني، وبالسمة الخارقة للطبيعة لكلام الله، ولشروط نقله، وإعادة إنتاجه، التي لا تمس ولا يعتريها الشك. إن الإتقان يختتم عملا بطيئا من التصفية والإنتخاب وتكثيف المعطيات ووجهات النظر والتحديدات والتوضيحات وأنماط المعارف التي شكلت بالتدريج الخطوط العريضة للقرآن. من بين المعارف التكنيكية التي جيشها التراث المدرسي الذي التقطه السيوطي، يلفت انتباهنا خصوصا مستويات التحليل اللغوي من مفردات وصياغة ونحو ومعنى وبلاغة ونظم. على الرغم من إثارة السيوطي لمسائل التسلسل الزمني ونقل الوحي فإنه من الصعب أن نتكلم عن وجود معرفة تاريخية في كتاب الإتقان . على العكس فإن الدهشة تصيبنا إذ نلاحظ انتصار وجهة نظر لا تاريخية فيما يخص كل المشاكل المطروقة . أريد القول بأن النقاش الخصب المتعلق بظروف الوحي والنقل وانجاز المصحف أو المتعلقة بتطور المفردات المعجمية قد هجر او قلص الى ملحوظات مشتتة، في حين جرى التركيز دائما على الحلول التي تحدد منذ القرن الرابع الهجري العقيدة الإسلامية، لا يكفي القول بأن العلماء المتأخرين كالسيوطي يلتزمون فقط بالنقل الأمين وبالحفاظ على تعاليم العلماء الكلاسيكيين الأساسيين بشكل تربوي وتعليمي، دون أي تغيير أو تحوير، وإنما ينبغي أن نترصد فيما وراء تبعية المقلدين للمجتهدين مسألة ظهور عقل ديني معين يرتكز على الخطاب القرآني ، سوف يحاول هذا العقل الديني جاهدا السيطرة على دلالات هذا الخطاب وذلك بمعونة المعارف التكنيكية المتنوعة والمعمقة قليلا أو كثيرا بحسب المؤلفين والعصور التاريخية. هل يمكن أن نقول بأن العقل الديني الشغال في الخطاب القرآني هو نفسه العقل الذي يستخدمه الحسن البصري والقاضي عبد الجبار أو ابن خلدون ، ثم هنا السيوطي ؟ ما الروابط التي يتعاطاها العقل الديني مع العقول التكنيكية المستخدمة في في القواعد والمنطق والتاريخ والرياضيات ... الخ؟ وهل هناك سيطرة للعقل الأول ـ العقل الديني ـ على الثانية ، أم هناك تأثير لهذه الأخيرة على العقل الأول؟ إحدى السمات الدائمة للعقل الديني تتلخص في أنه يبحث عن بناء متماسك عملي داخل سياج تيولوجيي دون أن يتسائل عن الفرضيات المسبقة والمسلمات واليقينيات التي تجعل ممكنا ممارسة الفاعلية التأملية الأستدلالية ضمن هذا السياج، لذا فإنه يعيش حالة توتر دائم مع العقل العلمي الذي بسبب أنه يشتغل على مواد وضعية يمكن ملاحظتها والقبض عليها، يستطيع بل وينبغي عليه أن يعري كل عملياته وآلياته ،ينبغي هنا أن نزيل غموضا قاتلا للروح لأنه مستغل على صعيد واسع منذ سنوات من قبل الخطابات الأسلامية المعاصرة، ينبغي عدم تحديد الروابط بين العقل الديني والعقل العلمي عن طريق أفضلية وتفوق أحدهما على الآخر ولا عن طريق الموضوعية الوهمية التي تحدد لكل منهما مجالات خاصة به وأدوارا ومسارات خصوصية ، ولا عن طريق المماحكة الجدالية العنيفة التي ميزت الغرب المعلمن، ذلك النقاش المتعلق بالكنيسة والدولة أو الروحي والزمني أو الديني والعلماني ، سوف ننطلق فلسفيا ، من فكرة المعرفة العاطفية الشعورية، المكتسبة والمؤسسة على قاعدة الوعي العاطفي الشعوري . إن كل فرد يتميز بتوازن معين أو بختلال توازن ، ما بين قطبي الوعي العاطفي والوعي العقلي الثقافي ، إن الفيلسوف يتسائل عن مصدر هذين الوعيين ومكانتهما المعرفية، هل ينبغي أن نفكر مع تيار هيدغر قائلين بأن الأنسان يرتقي الى مكانة الكائن بدءا من الكينونة أوالوجود، وأن الكائن هو دائما لأجل الفكر ولأجله وحده؟ وهل نستطيع أن نقول مع ف الكييه بأن القناعة الأساسية للإنسان هي يقين الكائن بالمعنى الأسمي للكلمة ، أي بمعنى آخر الاعتقاد بوجود واقع سابق لروحنا ومستقل عنها ولا يمكن نعته بدقة ولكنه قابل لأن يوجد بلا عبثية وهو محدد على سبيل الأفتراض كمادة او كإله. على العكس من الكيية فإنني سوف أترك هذه المسألة الفلسفية مفتوحة من أجل أن أعود الى هذه الموضوعات الدراسة المحسوسة التي تتمثل بالنصوص الموحى بها في القرآن، مع الوعي الذي أنتجته . نحن نعلم الى أي حد كان القرآن فرض وغذى بقوة الاقتناع الأساسي بوجود كائن سابق لروحنا ومستقل عنها هذا الكائن الموصوف والمذكور بكثافة فيه الى درجة أن الروح المغموسة من كل جهة بصفاة الله وأسمائه وأحكامه، التي نص عليها الله ذاته في لغة عربية واضحة ، مدعوة لأن تتمثل وتعيد إنتاج ما سوف يصبح منذ الآن وصاعدا المعرفة المتعالية، إنه لممتع أن نلاحظ بهذا الصدد أن العقل الديني كان قد التقط في المكان الأول الآيات والسور التي تتمتع بالمضمونات الأنطلوجية الأكثر كثافة والأكثر حسما ، إن العقل الديني إذ يستغل العاطفة المباشرة والقسرية التي تقول بأن الله الواحد الحي الخير يتكلم ويملأ الوجود بحضوره ويحيا في آياته، وإذ يستند على على المعرفة العاطفية التي لا تدحض ولكن التي لا تزال تطرح اشكالا من الناحية الفلسفية ، فإنه ينخرط في مسارات متعددة، نجد في هذه المسارات أن ضغط الخيال الأجتماعي والهلوسات الفردية والمعارف الخاطئة المثبتة من قبل اجماع النفوس الطيبة وقيم الطبقة المسيطرة .. الخ تتغلب على الحدس الأنطلوجي من أجل تبرير أخطائه ودوغمائيته وانهزاميته. يقدم الاتقان دلائل كثيرة على مدى السهولة والانتهازية التي تميز العقل الديني عندما يتحول دون أن يعرف ، إلى عقل أرثوذكسي . إن المؤلف يستشهد، بحسب ممارسة معهودة وقديمة جدا بأحاديث مزورة من أجل توطيد ودعم كلامه، في حين أنه يجهد نفسه في إدانة هذه العملية عند أسلافه، من أجل توطيد سلطته المعرفية، هكذا يتغير رهان المعرفة التكنيكية ـ أقصد نقد الحديث أو علم الحديث ـ فبدلا من أن تستخدم كمجرد ضابط لصحة الأحاديث النبوية التي تشترط هي ذاتها مسألة المنفذ أو الوصول الى الحضور الأنطولوجي التأسيسي ، فإنها تصبح أداة للمزاودة المحاكاتية بين الفقهاء والمدارس المتنافسة، هكذا يستعيد كل مؤلف الحجج ذاتها والنصوص والأسماء المكرسة داخل الأرثوذكسيات الكبرى من سنة وشيعة ..الخ ، إن السيوطي لا ينجو من هذه الممارسة أو هذه الضرورة ، كما أنه لا يلحظ أكثر من غير هذه الأنقطاعات التي يحدثها عقله الأرثوذكسي بالقياس الى العقل الديني الأول كما يتجلى من خلال الآيات الوجودية الكونية للقرآن ، هناك أولا إنقطاع تاريخي ـ الذي لا يحدث بالضرورة انقطاعا روحيا ـ بالقياس الى حياة النبي وأفعاله الحقيقية ، ثم الأنقطاع اللغوي بالقياس الى نظام اللغة العربية كما يتبدى في القرآن ثم هناك الانقطاع الثقافي المتمثل بالتقلص والضيق بالقياس الى الانفتاح الذي يتحلى به الشارحون الكبار كالطبري وفخر الدين الرازي، الذين كان السيوطي استشهد بهما في الاتقان ، وإن كان قد ركز على الأول أكثر من الثاني وذلك بخصوص مسائل صغيرة دائما ، ثم هناك انقطاع عقلي يتمثل بالفقر والضمور بالقياس الى موقف رجل كالجاحظ والتوحيدي وعبد الجبار وابن سينا وبن رشد الخ .. ثم أخيرا هناك انقطاع علمي بالقياس الى الجهد التنظيري لرجل كالجرجاني في عمله الخاص ببلاغة القرآن. هكذا نجد أنفسنا مضطرين لأن نتسائل فيما إذا كان الاتقان وكل الأدبيات المشابهة، التي الفت قبله أو بعده تتيح لنا تكوين أية معرفة بالقرآن ، أم أنها تمثل فقط وبكل بساطة معارف مدرسية لا بد منها لدراسة القرآن ، في كلتا الحالتين نجد أن المناهج والمقاربات والاشكاليات والعلوم والمواقف العقلية المستخدمة في هذه الادبيات، هي إما بالية وإما غير مطابقة وإما غير كافية ، لكي نتيح المجال للتساؤلات الجديدة . لكي نجعل قراءات القرآن التي لم تجرب ولم تحاول حتى الآن ممكنة الوجود، لكي ندمج الظاهرة القرآنية في الحركة الكبرى للبحث العلمي والتأمل الفلسفي ، لابد والحال هذه أن نعمد الى إضاءة الرهانات المعرفية والثقافية والايديولوجية للتوترات الموجودة بين التيارات الفكرية العديدة ، ولا بد أيضا أن نطمح الى تنشيط الفكرالاسلامي المعاصر وذلك بتركيز الانتباه على المشاكل التي كان قد استبعدها والمحرمات التي اقامها والحدود التي خططها، والآفاق التي توقف عن التطلع إليها أو منع وحرم هذا التطلع، وكل هذا بطبيعة الحال تم من خلال فرضه تدريجيا بصفة أنه الحقيقة الوحيدة. أنطلاقا من اللحظة أو الحظات الزمنية التي يوفرها الاتقان ، يمكن أن نحدد ثلاث منعطفت تتزحزح فيها الحدود ما بين لحظة التفكير أي ما هو ممكن التفكير فيه ، ولحظة غير المسموح التفكير فيه ، وما هوغير مفكر فيه، فيما يخص القرآن، لحظة الوحي لحظة جمع المصحف وتثبيته لحظة الزمن المدرسي المسيطر والمهيمن الى غاية هذه اللحظة. قبل أن نسبر كلا من هذه اللحظات الثلاث ، فإنه يلزم التذكير بما تعنيه المصطلحات السابقة ، إن تاريخ الفكر العربي وتاريخ الأدب العربي يترواحان منذ سنوات بين العرض الوصفي والعرض الخطي لأغلب المؤلفين، وبين القفز المهلك لكثيرين نحو التحليل البنيوي والسيميائي ، في كلتا الحالتين يستمر الجميع في اهمال اللجوء الى النقد الاجتماعي وعلم النفس التاريخي، اللذين يساعدان ليس فقط على ربط المنهج الوصفي والمنهج البنيوي ضمن منظور حي ، وإنما على إضهار قارات من الحقيقة التاريخية لم تكتشف بعد ، وكل ذلك ضمن منظور سسيولوجي وانتربيولوجي ، إن للوعي اسطوريا كان أم تاريخيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم فلسفيا أم أخلاقيا أم جماليا أم دينيا الخ ... وللعقل وما هو غير عقلاني وللخيال والخيالي وللحساسية وللطبيعي وما فوق الطبيعي وللدنوي والمقدس ، الخ .. إن لكل ذلك تاريخا لم يدرس قط لذاته ، لأن التيار المسيطر في الفكر الاسلامي الحالي يجهل حتى التمييز بين الوعي الاسطوري والوعي التاريخي وبين العقلاني والخيالي فإنه يستطيع أن يقراء القرآن كما لو كانت أدوات العقل الحديث مطابقة في كل شيء لأدوات العقل الشغال في الخطاب القرآني والمحيط الابستمي للنبي، وبتوجيهنا هذا البحث في هذا الاتجاه نستطيع أن نتتبع انزياح الحدود وتغيرها بين الوعي واللاوعي، وبين العقلاني والخيالي ، وإذن بين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه واللامفكر فيه ـ حسب تعبير لالاند ـ بالنسبة لأمة لغوية ما هو الشىء الذي يمكن إيضاحه والتفكير فيه بمساعدة الجهاز العقلي المتوفر في تلك الفترة، إن هذا التعريف يحدد فورا ما هو مستحيل التفكير فيه وما هو مستحيل إيضاحه في الفترة ذاتها والبيئة الاجتماعية الثقافية ذاتها ، وذلك إما بسبب محدودية النظام المعرفي وطراز العقلانية الخاص بالنظام الاجتماعي الثقافي الموجود، وإما بسبب أن الذات المتكلمة ـ المؤلف ـ كانت قد تمثلت على هيئة رقابة ذاتية الإكراهات المتجسدة بالايديولوجيا المسيطرة ( نجد في هذه الحالة أن الكتاب المنحرفين أو المخربين يستطيعون إذ يخاطروا بأنفسهم ويغامرون بها عندما يردون أن يبرزوا مزايا المستحيل التفكير فيه، وذلك عن طريق اختراقهم للنظام الاجتماعي ـ الثقافي، المبالغ في قيمته والمحروس بشدة من قبل الأمة ) واما أخيرا بسبب أن توتر الفكر يصل الى منطقة ما يستعصي على الوصف والتحديد ومنطقة الكثافة التي لا يمكن سبرها للكائن، كما يفعل ذلك بامتياز الخطاب الشعري والخطاب النبوي. يمكن أن نقد أمثلة عديدة لتوضيح هذا التحليل فمثلا، فيما يخص الخطاب الاجتماعي العربي قبل القرآن ، نجد أن كل ما يتعلق بالوحدانية ـ الايمان بالله الواحد ـ كان لا يزال مستحيل التفكير فيه وهذا ما يفسر لنا من جهة الصفة المخربة للخطاب القرآني لذلك النظام، ومن جهة أخرى المناخ الجدالي والاحتجاج الجذري ضد الصحة الآلهية للرسالة التي أتى بها محمد الذي كان يعتبر آنذاك من قبل أبطال الصراع هداما ومهدما لعقائد الآباء والأسلاف، لم يكن الهدف النهائي للصراع الذي دار خلال عشرين عاما هو مجرد استبدال قوة اجتماعية بأخرى ضمن إطار من المؤسسات ومن النظام المعرفي المقدس، وإنما راح التدمير والقلب يصيب بالدرجة الأولى وبشكل أساسي الممكن التفكير فيه الخاص بمجتمع وبزمن احتقر كل راسماله الرمزي، لمصلحة ممكن التفكير فيه من نوع آخر ، ولمصلحة نظام من العمل التاريخي غير معروف في اللغة العربية حتى ذلك الوقت ـ التوحيد والاسلام ـ إنه لمن الضروري أن نقول بأن الأمر يتعلق بالضبط باللغة العربية ، وذلك لأن اللغة الآرامية والسريانية والعبرية واليونانية كانت تعبر منذ وقت طويل عن نوع من الزلزلة والتدمير مماثل أصاب العوالم الشرق أوسطية القديمة، ( عن طريق اليهودية والمسيحية) لهذا السبب نجد أن بنية الخطاب القرآني ذاتها تعكس خريط القوى الاجتماعية ـ السياسية الموجودة في الساحة، إنها تمثل مرحلة سردية تبدو فيها علاقة الذات بالموضوع ـ أي العلاقة الخاصة بالبحث عن الخلاص ـ مرتبطة كليا بالعلاقة بين المرسل ـ المرسل إليه ( أي الله ثم البشر عبر محمد) إن المرسل هو الفاعل الذي يملك قانونا سلطة كافية لأن تفرض على خصمه إكراهات كان قد قرر أن يجبره على تنفيذها ، إن المصطلحات التي تسفه وتحتقر معارض البحث عن الخلاص ـ أي الكفار ـ المستخدمة في عبارات الكينونة أو الوصف لا تتخذ كل قيمتها السلبية إلا لأنها تعتمد على عبارات الفعل، أي على أنماط متضافرة من مثل السلطة والواجب والمعرفي والارادة ، يضاف الى ذلك أن التركيب السردي والتأملي للعبارات القرآنية مرتبط أيضا بالحياة اليومية للمؤمنين وبعملهم التاريخي الضافر ضد الكفار المعارضين، وبنية الخيال الموجود عند أهل الكتاب ، هنا نجد أن السردية لا تكتفي بالتلاعب بالشخصيات العجائبية والحالات الدرامية والإخراج الأسطوري، لأجل غايات جمالية أو متعلقة بالتسلية والجاذبية، وإنما نجد أنها متولدة عن طريق تاريخ محسوس في الوقت الذي تولد فيه هي ذاتها علم قيم جديد من أجل تاريخ محسوس آخر. إنها تدل على اللامفكر فيه الخاص بالتاريخ السابق وذلك بتحديدها الأطر ووسائل وآفاق نوع من الممكن التفكير فيه غير محدود. لا يمكننا من وجهة نظر تاريخية أن نكتفي بهذا العرض الذي يساهم إذا لم ننتبه للأمر في تقوية التعارض ذي الجوهر التيلوجي ، كان هذا التعارض قد رسخ نهائيا الممكن التفكير فيه اللامحدود الخاص بالقرآن ضد الممكن التفكير فيه الخاطئ والاستعبادي المصحوب بلامفكر فيه ضخم لدى الكفار.هكذا نجد أن ما نكتشفه عندئذ في الخطاب القرآني هو نوع من القدرة على السيطرة على هذه الآليات الى درجة أن آثار المعنى الناتجة كانت قد أثرت ولا تزال على الوعي ذي المشارب اللغوية والثقافية الشديدة التنوع حتى يومنا هذا ، وهذا لا يقلل في شيء من قيمة الممكن التفكير فيه ولا من اتساع المستحيل التفكير فيه ولا من طبيعة اللامفكر فيه السائد ضمن الأنظمة الثقافية المهمشة أو المستأصلة بواسطة نوع من التنظيم الخاص بالممكن التفكير فيه وبالخيال اللذين أدخلهما القرآن، ذلك أنه هذا فيما وراء التسفيه الجدالي والتيولوجي . إن المواقف المتخذة إزاء الظاهرة القرآنية واللغات أو الأساليب التي تعبر عنها كانت بالطبع قد تغيرت في كل لحظة من اللحظات الثلاث ، إن الصعوبة بالنسبة لنا اليوم تتركز في مسألة أنه ينبغي علينا أن نخترق بدء من المعرفة المتجمة في الاتقان ، الطبقات الرسوبية للخيال الاسلامي المتشكل خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى من أجل أن نصل الى زمن الوحي ، لا يعرف الوعي الخاضع للتراث مثل هذه الصعوبة أو المشكلة ، إن السيوطي لا يرى أي إزعاج أو إشكال في تأسيس عرضه وأفكاره على سلسلة من المحدثين يضمن صحتها الإجماع السني ، ثم هو يستخدم بثقة كاملة ـ المعرفة الظافرةـ إن زمن الوحي هو الزمن التدشيني لعصر تاريخ كوني موجه هو ذاته نحو مستقبل أخروي، يبقى مع ذلك أن هذا الزمن ذي الجوهر الأسطوري متصور وموصوف على شكل تتابع للأحداث الأرضية المؤرخة والمضبوطة والمستخدمة بصفتها مراجع معيارية تضبط محاكمة تفكير وسلوك كل مؤمن، كما أن جمع وتثبيت المصحف قد سرد بصفته يعبر عن عمليات خارجية نفذت بعناية وأمانة مما يضع مضمون الرسالة نهائيا بمنأى عن عن كل ضياع أو ارتياب واحتجاج ، يقدم الاتقان مادة غزيرة لمن يريد أن يبين كيف أن الفكر الاسلامي المكرس من قبل حراس العقيدة كان قد استخدم عناصر ومواد واساليب وإطارا تأرخيا من أجل نزع الصفة التاريخية عن زمن الوحي وعن زمن جمع وتثبيت المصحف ، إن الأمر يتعلق بعملية جماعية ضخمة كانت قد جيشت الفقهاء والمحدثين ومفسرين وكتبة تاريخ وفقهاء لغة وبلاغيين، في الفترة اللاحقة لزمن الصحابة والتابعين ، وجيشت السلطة الزمانية والخيال الاجتماعي المستوعب والمولد للأساطير والشعائر والصور والحماسة والانتضار والرفض الذي تتغذى منه الى الآن الحماسة التقليدية، هكذا نجد أنفسنا أمام تقليد جبار لممكن التفكير فيه من نوع اسطوري ـ ديني منضغط في تسلسل زمني ضيق ومنفتح في آن معا على قبل وبعد من الأبدية ، ويبدو هذا الممكن التفكير فيه قاسيا وإكراهيا وبالتالي بلا مفكر فيه أكثر اتساعا وأكثر أهمية كلما توغلنا في زمن الاسلامي الى الوراء ، هكذا نجد أن السيوطي لا يذكر ولا يشير الى ابو بكر ابن مجاهد إلا من أجل أن يقول أنه لم يتكلم عن التخفيف في رسالته المسبغة ـ القراءات السبع ـ وهنا نجد أنفسنا بإزاء مثال صارخ على نزع الصفة التاريخية عن المصحف وذلك لأن ابن مجاهد هو بالضبط الرجل المسؤول عن الإصلاح النهائي الذي حصل عام 324 هـ ، والذي وضع حدا لتنافس الفقهاء فيما يخص قراءات القرآن ، إن حلقات الصراع المتتالية التي أدت الى هذا الاصلاح ونتائجه فيما يخص تثبيت النص كانت سوف تتيح لنا لو أننا نعرفها بشكل أفضل أن نواجه مشكلة من أكبر المشاكل التي كان الفكر الإسلامي قد رماها في ساحة اللامفكر فيه ألا وهي ـ تاريخة الخطاب الذي أصبح نصا رسميا مولدا للتعالي.إن المرور من حالة الخطاب القرآني الى التشكيلات الفكرية العديدة للثقافة العربية المرتبطة بحاجات دولة ومجتمع في حالة توسع كان قد حصل بعد أن دفع ثمنه على شكل انقطاعات ابستميولوجية لم تلحظ بعد، ولم توصف بشكل جيد من قبل الدراسات الاسلاميه المعاصرة والقديمة كما فعل السيوطي في تجميع المعارف الواقعية المحسوسة المكتسبة بواسطة تراث من من التبحر والتنقيب دون أن يتساءل عن الشروط العقلية ـ أي طراز العقل الشغال ـ لانتاج المعارف هذه المعارف ، أي دون التساؤل صحتها ، ضمن هذه المعنى يمكن القول إذن بأن هناك فعلا استمرارية ابستميولوجية ما بين العقل الاسلامي والعقل التاريخي للقرن التاسع عشر، إن موقف التقليديين إزاء الأدبيات التفسيرية القديمة والحالية وإزاء مشكلة يعكس استمرارية نظام قديم من اليقينيات يخص طبيعة اللغة ووظائفها ، وخصوصا اللغة العربية . هذه اليقينيات التي تكذبها الألسنيات الحديثة بشدة ، يعتقد أولاء أن المفسر ذي السيادة والأهلية يمكنه ( هنا كما في أمكنة أخرى حيث يحصل تسرب التراث المدرسي ) أن يجد المعنى القانوني الوحيد القابل للأستخدام أخلاقيا وقضائيا تشريعيا في الحياة اليومية للبشر، هذا المعنى الملتصق بكل كلمة وكل تعبير وكل آية من القرآن.
قراءة على قراءة السيوطي لماذا أختار السيوطي وكتابه (الإتقان ) في هذا البحث الذي نطمح من خلاله للكشف عن تلك الأشياء التي لم يفكر فيه داخل القرآن ذاته، وتحولت عبر عمليات الضغط التاريخية والطقوسية الى ما يطلق عليه لالاند المستحيل التفكير فيه ، ثم كيف تحول هذا النمط الفكري عبر عمليات كثيرة من التحوير،الى جدل من نوع خاص أي جدل لا يسعى الى انتاج المعرفة والوعي بها، بقدر ما يهتم بنوعية التمظهر النمطي للمعرفة ، حتى تحول العقل برمته الى دائرة مغلقة يقتات ذاته، ويعيد انتاجها باستمرار ، ولم يعد في مستطاعه أن يتحرك حركة فعالة وفاعلة ، لأن تلك القوى التي هيمنت عليه عبر قرون طويلة وضعته في مساره القسري هذا، وراحت تؤسس لمعرفة خارج العقل، وخارج السياق العام للتاريخ ، نختار الأتقان هنا لأنه ظل يكرس تلك الدوغما النصية والأسلوبية القديمة بعد أن خلع عليها مشروعية جديدة صارمة وضابطة من جهة، ومن جهة أخرى لأنه شكل المرجعية لكل الدراسات الحديثة المتعلقة بالقرآن من كافة الباحثين المعاصرين ، وعلى أية حال لن أنخرط في تحليل تفصيلي لهذا الكتاب ( الإتقان ) المكون من أكثر من (1500) صفحة، وإنما سأكتفي بتفحص عناوين المواد التي شكلته وتحليل البنية العامة للسياق الثقافي التاريخي الذي تشكل في فضائه وذلك لغاية سنصل إليها لاحقا في النسق العام لهذا البحث أو لهذه القراءة المغايرة نوعا ما لما أُعتيد عليه، تتكون مواد الكتاب من 80 مادة أو عنوان هي على النحو التالي : 1ـ المكي والمدني 2 ـ الحضري والسفري 3ـ النهاري واليلي 4 ـ ألسمائي والأرضي 5 ـ الأرضي والسمائي 6 ـ الفراشي والنومي 7 ـ أول ما نزل 8 ـ آخر ما نزل 9 ـ سبب النزول 10 ـ فيما نزل من القرآن على لسان الصحابة. 11 ـ ما تكرر نزوله. 12 ـ ما نأخر حكمه عن نزوله، وما تأخر نزوله عن حكمه. 13 ـ ما نزل مفرقا وما نزل مجمعا 14 ـ ما نزل مشيعا وما نزل مفردا. 15 ـ ما نزل منه على بعض الأنبياء وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي. 16 ـ في كيفية إنزاله 17 ـ معرفة أسمائه وأسماء سوره 18 ـ جمعه وترتيبه 19 ـ عدد سوره وآياته وكلماته وحروفه 20 ـ حفاظه ورواته 21 ـ معرفة العالي والنازل من أسانيده 22 المتواتر 23 ـ المشهور 24 ـ الآحاد 25 ـ الشاذ 26 ـ الموضوع 27 ـ المدرج 28 ـ معرفة الوقف والأبتداء. 29 ـ بيان الموصول لفظا المفصول معنى. 30 ـ في الأمالة والفتح وما بينهما 31 ـ في الإدغام والإظهار والإخفاء والإقلاب. 32 ـ في المد والقصر. 33 ـ في تخفيف الهمز. 34 ـ في كيفية تحمله. 35 ـ في آداب تلاوته. 36 ـ في معرفة غريبة. 37 ـ فيما وقع فيه بغير لغة الحجاز. 38 ـ فيما وقع فيه بغير لغة العرب. 39 ـ في معرفة الوجوه والنظائر. 40 ـ في معرفة الأدوات التي يحتاج اليها المفسر 41 ـ في معرفة اعرابه 42 ـ في قواعد مهمة يحتاج الي معرفتها المفسر. 43 ـ في المحكم والمتشابه 44 ـ في مقدمه ومؤخره. 45 ـ في عامه وخاصه. 46 ـ في مجمله ومبنيه. 47 ـ في ناسخه ومنسوخه. 48 ـ في مشكله وموهم الأختلاف والتناقض. 49 ـ في مطلقه ومقيده . 50 ـ في منطوقه ومفهومه 51 ـ ه. 55 ـ في الحصر والأختصاص . 56 ـ في الإيجاز والإطناب. 57 ـ في الخبرفي وجوه مخاطباته 52 ـ في حقيقته ومجازه. 53 ـ في تشبيهه واستعاراته. 54 ـ في كناياته وتعريض والإنشاء. 58 ـ في بديع القرآن. 59 ـ في فواصل الآي. 60 ـ في فواتح السور. 61 ـ في خواتم السور . 62 ـ في مناسبة الآيات والسور. 63 ـ في الآيات المشتبهات. 64 ـ في إعجاز القرآن. 65 ـ في العلوم المستنبطة من القرآن 66 ـ في أمثال القرآن 67 ـ في أقسام القرآن 68 ـ في جدل القرآن . 69 ـ فيما وقع في القرآن من الأسماء والكنى والألقاب. 70 ـ في المبهمات . 71 ـ في أسماء من نزل فيهم القرآن . 72 ـ في فضائل القرآن. 73 ـ في أفضل القرآن وفاضله. 74 ـ في مفردات القرآن . 75 ـ في خواص القرآن. 76 ـ في مرسوم الخط . 77 ـ في معرفة تفسيره وتأويله وبيان شرفة والحاجة إليه. 78 ـ في معرفة شروط المفسر وآدابه . 79 ـ في غرائب التفسير . 80 ـ في طبقات المفسرين.
إن هذا الترقيم المطول للعناوين يسمح لنا بأن نسجل العديد من الملاحظات الممكنة التالية، وهي على أية حال تبقى ملاحظات مبدئية ، لأن مسألة تحليل البنية العامة العامة للكتاب على رغم أهمية ذلك تحتاج الى جهد كبير، نتمنى أن نعود له في مقبل الأيام . الإتقان يمثل كل سمات طراز التأليف المدرسي، على الهيئة التي كان قد فرض نفسه عليها لدى الموسوعيون الذين التقطوا المعارف المتراكمة أثناء العصر الكلاسيكي، إن الموسوعيين أنفسهم لم يفعلوا شيئا سوى إنتاج أساليب العرض التي كانت قد استخدمت زمنا طويلا من قبل اختصاصي العلوم المتعلقة بالحالات الفردية ،كالفقهاء المشرعين، وعلماء الكلام والمفسرين والنحويين، إن بنية كتب الغزالي والماوردي والجويني وفخر الرازي ، الخ ... هي ذات دلالة كبرى على هذا الصعيد، إن ما يميز هذه التصنيفات إذا نظرنا اليها عن كثب تكشف عن تنوع المواضيع وطريقة تركيبها وترتيبها، ثم الى المضامين المتفرعة عنها ، أننا امام معرفة مبعثرة ومقسمة بدون جدوى الى أبواب يمكن ارجاعها الى تقسيمات أكثر تلاؤما مع الاختصاصات التي التي رسختها المؤلفات الكلاسيكية الكبرى، هكذا نلاحظ أنه من الممكن إعادة توزيع وترتيب جدول مواد كتاب الأتقان ليس طبقا للتصنيف الحديث للعلوم ، وإنما بما يتوافق مع العلوم العربية الإسلامية ،بالصفة التي عرفها عليها السيوطي أو أتيح له أن يعرفها ، إنني لا أريد أن أعيد تشكيل الكتاب حسب رأيي وإنما أريد تحقيق مقاربة أفضل لنوع من تنظيم ما يمكن معرفته،هذا الشيء الذي تتوقف عليه حتى الآن كل التقديمات التي حظي بها القرآن . مسائل التسلسل الزمني للأحداث ( 1 ـ 8 ـ 11 ـ 13 ـ 15 ـ 47 ) أنماط وطرائق الوحي ( 9 ـ 10 ـ 13 ـ 14 ـ 16 ) الجمع والنقل (17 الى 27 ) التقديم والوصف الشكلي للمصحف (17 ـ 60 ـ 60 ـ 76 ) النظم والوحدات النصية( 13 ـ 15 ـ 28 ـ 35 ـ 59 ـ 61 ) مفردات اللغة ( 36 ـ 39 ) النحو ( 41 ـ 42 ) التحليل المنطقي ( 42ـ 46 ـ 48 ـ 50 ـ 63 ) البلاغة الاسلوبية ( 51 ـ 58 ـ 64 ـ 66 ـ 68 ـ 70 ـ 84 ) التفسير ( 77 ـ 42 ـ 80 ) العلوم المشتقة من القرآن ( 65 ) ملحوظات تاريخية ( 69 ـ 71) قيم تشفعية ( 82 ـ 73 ـ 75 )
نلاحظ هنا اختلال التوازن الذي يبدو واضحا ما بين المكان المخصص للنحو والمفردات من جهة، ثم الإلحاح الذي تحظى به البلاغة والتحليل المنطقي الذي تتطلبه عملية استنباط الأحكام الشرعية في الفقه من جهة أخرى . أما النظم فإنه يجيب على الحاجات العملية للتذكر والحفظ وتلاوة النص . وأما التسلسل الزمني وأنماط الوحي فإن لهما انعكاسا مباشرا على تجديد الشريعة . بكلمة أخرى فإننا نعلم أن تسعة قرون من نشأة وتطور علوم القرآن قد أنتجت مجموعة من المعارف العملية الموظفة في تغذية الشعور بوجود أساس إلهي للقانون الديني، وبالسمة الخارقة للطبيعة لكلام الله، ولشروط نقله، وإعادة إنتاجه، التي لا تمس ولا يعتريها الشك. إن الإتقان يختتم عملا بطيئا من التصفية والإنتخاب وتكثيف المعطيات ووجهات النظر والتحديدات والتوضيحات وأنماط المعارف التي شكلت بالتدريج الخطوط العريضة للقرآن. من بين المعارف التكنيكية التي جيشها التراث المدرسي الذي التقطه السيوطي، يلفت انتباهنا خصوصا مستويات التحليل اللغوي من مفردات وصياغة ونحو ومعنى وبلاغة ونظم. على الرغم من إثارة السيوطي لمسائل التسلسل الزمني ونقل الوحي فإنه من الصعب أن نتكلم عن وجود معرفة تاريخية في كتاب الإتقان . على العكس فإن الدهشة تصيبنا إذ نلاحظ انتصار وجهة نظر لا تاريخية فيما يخص كل المشاكل المطروقة . أريد القول بأن النقاش الخصب المتعلق بظروف الوحي والنقل وانجاز المصحف أو المتعلقة بتطور المفردات المعجمية قد هجر او قلص الى ملحوظات مشتتة، في حين جرى التركيز دائما على الحلول التي تحدد منذ القرن الرابع الهجري العقيدة الإسلامية، لا يكفي القول بأن العلماء المتأخرين كالسيوطي يلتزمون فقط بالنقل الأمين وبالحفاظ على تعاليم العلماء الكلاسيكيين الأساسيين بشكل تربوي وتعليمي، دون أي تغيير أو تحوير، وإنما ينبغي أن نترصد فيما وراء تبعية المقلدين للمجتهدين مسألة ظهور عقل ديني معين يرتكز على الخطاب القرآني ، سوف يحاول هذا العقل الديني جاهدا السيطرة على دلالات هذا الخطاب وذلك بمعونة المعارف التكنيكية المتنوعة والمعمقة قليلا أو كثيرا بحسب المؤلفين والعصور التاريخية. هل يمكن أن نقول بأن العقل الديني الشغال في الخطاب القرآني هو نفسه العقل الذي يستخدمه الحسن البصري والقاضي عبد الجبار أو ابن خلدون ، ثم هنا السيوطي ؟ ما الروابط التي يتعاطاها العقل الديني مع العقول التكنيكية المستخدمة في في القواعد والمنطق والتاريخ والرياضيات ... الخ؟ وهل هناك سيطرة للعقل الأول ـ العقل الديني ـ على الثانية ، أم هناك تأثير لهذه الأخيرة على العقل الأول؟ إحدى السمات الدائمة للعقل الديني تتلخص في أنه يبحث عن بناء متماسك عملي داخل سياج تيولوجيي دون أن يتسائل عن الفرضيات المسبقة والمسلمات واليقينيات التي تجعل ممكنا ممارسة الفاعلية التأملية الأستدلالية ضمن هذا السياج، لذا فإنه يعيش حالة توتر دائم مع العقل العلمي الذي بسبب أنه يشتغل على مواد وضعية يمكن ملاحظتها والقبض عليها، يستطيع بل وينبغي عليه أن يعري كل عملياته وآلياته ،ينبغي هنا أن نزيل غموضا قاتلا للروح لأنه مستغل على صعيد واسع منذ سنوات من قبل الخطابات الأسلامية المعاصرة، ينبغي عدم تحديد الروابط بين العقل الديني والعقل العلمي عن طريق أفضلية وتفوق أحدهما على الآخر ولا عن طريق الموضوعية الوهمية التي تحدد لكل منهما مجالات خاصة به وأدوارا ومسارات خصوصية ، ولا عن طريق المماحكة الجدالية العنيفة التي ميزت الغرب المعلمن، ذلك النقاش المتعلق بالكنيسة والدولة أو الروحي والزمني أو الديني والعلماني ، سوف ننطلق فلسفيا ، من فكرة المعرفة العاطفية الشعورية، المكتسبة والمؤسسة على قاعدة الوعي العاطفي الشعوري . إن كل فرد يتميز بتوازن معين أو بختلال توازن ، ما بين قطبي الوعي العاطفي والوعي العقلي الثقافي ، إن الفيلسوف يتسائل عن مصدر هذين الوعيين ومكانتهما المعرفية، هل ينبغي أن نفكر مع تيار هيدغر قائلين بأن الأنسان يرتقي الى مكانة الكائن بدءا من الكينونة أوالوجود، وأن الكائن هو دائما لأجل الفكر ولأجله وحده؟ وهل نستطيع أن نقول مع ف الكييه بأن القناعة الأساسية للإنسان هي يقين الكائن بالمعنى الأسمي للكلمة ، أي بمعنى آخر الاعتقاد بوجود واقع سابق لروحنا ومستقل عنها ولا يمكن نعته بدقة ولكنه قابل لأن يوجد بلا عبثية وهو محدد على سبيل الأفتراض كمادة او كإله. على العكس من الكيية فإنني سوف أترك هذه المسألة الفلسفية مفتوحة من أجل أن أعود الى هذه الموضوعات الدراسة المحسوسة التي تتمثل بالنصوص الموحى بها في القرآن، مع الوعي الذي أنتجته . نحن نعلم الى أي حد كان القرآن فرض وغذى بقوة الاقتناع الأساسي بوجود كائن سابق لروحنا ومستقل عنها هذا الكائن الموصوف والمذكور بكثافة فيه الى درجة أن الروح المغموسة من كل جهة بصفاة الله وأسمائه وأحكامه، التي نص عليها الله ذاته في لغة عربية واضحة ، مدعوة لأن تتمثل وتعيد إنتاج ما سوف يصبح منذ الآن وصاعدا المعرفة المتعالية، إنه لممتع أن نلاحظ بهذا الصدد أن العقل الديني كان قد التقط في المكان الأول الآيات والسور التي تتمتع بالمضمونات الأنطلوجية الأكثر كثافة والأكثر حسما ، إن العقل الديني إذ يستغل العاطفة المباشرة والقسرية التي تقول بأن الله الواحد الحي الخير يتكلم ويملأ الوجود بحضوره ويحيا في آياته، وإذ يستند على على المعرفة العاطفية التي لا تدحض ولكن التي لا تزال تطرح اشكالا من الناحية الفلسفية ، فإنه ينخرط في مسارات متعددة، نجد في هذه المسارات أن ضغط الخيال الأجتماعي والهلوسات الفردية والمعارف الخاطئة المثبتة من قبل اجماع النفوس الطيبة وقيم الطبقة المسيطرة .. الخ تتغلب على الحدس الأنطلوجي من أجل تبرير أخطائه ودوغمائيته وانهزاميته. يقدم الاتقان دلائل كثيرة على مدى السهولة والانتهازية التي تميز العقل الديني عندما يتحول دون أن يعرف ، إلى عقل أرثوذكسي . إن المؤلف يستشهد، بحسب ممارسة معهودة وقديمة جدا بأحاديث مزورة من أجل توطيد ودعم كلامه، في حين أنه يجهد نفسه في إدانة هذه العملية عند أسلافه، من أجل توطيد سلطته المعرفية، هكذا يتغير رهان المعرفة التكنيكية ـ أقصد نقد الحديث أو علم الحديث ـ فبدلا من أن تستخدم كمجرد ضابط لصحة الأحاديث النبوية التي تشترط هي ذاتها مسألة المنفذ أو الوصول الى الحضور الأنطولوجي التأسيسي ، فإنها تصبح أداة للمزاودة المحاكاتية بين الفقهاء والمدارس المتنافسة، هكذا يستعيد كل مؤلف الحجج ذاتها والنصوص والأسماء المكرسة داخل الأرثوذكسيات الكبرى من سنة وشيعة ..الخ ، إن السيوطي لا ينجو من هذه الممارسة أو هذه الضرورة ، كما أنه لا يلحظ أكثر من غير هذه الأنقطاعات التي يحدثها عقله الأرثوذكسي بالقياس الى العقل الديني الأول كما يتجلى من خلال الآيات الوجودية الكونية للقرآن ، هناك أولا إنقطاع تاريخي ـ الذي لا يحدث بالضرورة انقطاعا روحيا ـ بالقياس الى حياة النبي وأفعاله الحقيقية ، ثم الأنقطاع اللغوي بالقياس الى نظام اللغة العربية كما يتبدى في القرآن ثم هناك الانقطاع الثقافي المتمثل بالتقلص والضيق بالقياس الى الانفتاح الذي يتحلى به الشارحون الكبار كالطبري وفخر الدين الرازي، الذين كان السيوطي استشهد بهما في الاتقان ، وإن كان قد ركز على الأول أكثر من الثاني وذلك بخصوص مسائل صغيرة دائما ، ثم هناك انقطاع عقلي يتمثل بالفقر والضمور بالقياس الى موقف رجل كالجاحظ والتوحيدي وعبد الجبار وابن سينا وبن رشد الخ .. ثم أخيرا هناك انقطاع علمي بالقياس الى الجهد التنظيري لرجل كالجرجاني في عمله الخاص ببلاغة القرآن. هكذا نجد أنفسنا مضطرين لأن نتسائل فيما إذا كان الاتقان وكل الأدبيات المشابهة، التي الفت قبله أو بعده تتيح لنا تكوين أية معرفة بالقرآن ، أم أنها تمثل فقط وبكل بساطة معارف مدرسية لا بد منها لدراسة القرآن ، في كلتا الحالتين نجد أن المناهج والمقاربات والاشكاليات والعلوم والمواقف العقلية المستخدمة في هذه الادبيات، هي إما بالية وإما غير مطابقة وإما غير كافية ، لكي نتيح المجال للتساؤلات الجديدة . لكي نجعل قراءات القرآن التي لم تجرب ولم تحاول حتى الآن ممكنة الوجود، لكي ندمج الظاهرة القرآنية في الحركة الكبرى للبحث العلمي والتأمل الفلسفي ، لابد والحال هذه أن نعمد الى إضاءة الرهانات المعرفية والثقافية والايديولوجية للتوترات الموجودة بين التيارات الفكرية العديدة ، ولا بد أيضا أن نطمح الى تنشيط الفكرالاسلامي المعاصر وذلك بتركيز الانتباه على المشاكل التي كان قد استبعدها والمحرمات التي اقامها والحدود التي خططها، والآفاق التي توقف عن التطلع إليها أو منع وحرم هذا التطلع، وكل هذا بطبيعة الحال تم من خلال فرضه تدريجيا بصفة أنه الحقيقة الوحيدة. أنطلاقا من اللحظة أو الحظات الزمنية التي يوفرها الاتقان ، يمكن أن نحدد ثلاث منعطفت تتزحزح فيها الحدود ما بين لحظة التفكير أي ما هو ممكن التفكير فيه ، ولحظة غير المسموح التفكير فيه ، وما هوغير مفكر فيه، فيما يخص القرآن، لحظة الوحي لحظة جمع المصحف وتثبيته لحظة الزمن المدرسي المسيطر والمهيمن الى غاية هذه اللحظة. قبل أن نسبر كلا من هذه اللحظات الثلاث ، فإنه يلزم التذكير بما تعنيه المصطلحات السابقة ، إن تاريخ الفكر العربي وتاريخ الأدب العربي يترواحان منذ سنوات بين العرض الوصفي والعرض الخطي لأغلب المؤلفين، وبين القفز المهلك لكثيرين نحو التحليل البنيوي والسيميائي ، في كلتا الحالتين يستمر الجميع في اهمال اللجوء الى النقد الاجتماعي وعلم النفس التاريخي، اللذين يساعدان ليس فقط على ربط المنهج الوصفي والمنهج البنيوي ضمن منظور حي ، وإنما على إضهار قارات من الحقيقة التاريخية لم تكتشف بعد ، وكل ذلك ضمن منظور سسيولوجي وانتربيولوجي ، إن للوعي اسطوريا كان أم تاريخيا أم اجتماعيا أم اقتصاديا أم سياسيا أم فلسفيا أم أخلاقيا أم جماليا أم دينيا الخ ... وللعقل وما هو غير عقلاني وللخيال والخيالي وللحساسية وللطبيعي وما فوق الطبيعي وللدنوي والمقدس ، الخ .. إن لكل ذلك تاريخا لم يدرس قط لذاته ، لأن التيار المسيطر في الفكر الاسلامي الحالي يجهل حتى التمييز بين الوعي الاسطوري والوعي التاريخي وبين العقلاني والخيالي فإنه يستطيع أن يقراء القرآن كما لو كانت أدوات العقل الحديث مطابقة في كل شيء لأدوات العقل الشغال في الخطاب القرآني والمحيط الابستمي للنبي، وبتوجيهنا هذا البحث في هذا الاتجاه نستطيع أن نتتبع انزياح الحدود وتغيرها بين الوعي واللاوعي، وبين العقلاني والخيالي ، وإذن بين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه واللامفكر فيه ـ حسب تعبير لالاند ـ بالنسبة لأمة لغوية ما هو الشىء الذي يمكن إيضاحه والتفكير فيه بمساعدة الجهاز العقلي المتوفر في تلك الفترة، إن هذا التعريف يحدد فورا ما هو مستحيل التفكير فيه وما هو مستحيل إيضاحه في الفترة ذاتها والبيئة الاجتماعية الثقافية ذاتها ، وذلك إما بسبب محدودية النظام المعرفي وطراز العقلانية الخاص بالنظام الاجتماعي الثقافي الموجود، وإما بسبب أن الذات المتكلمة ـ المؤلف ـ كانت قد تمثلت على هيئة رقابة ذاتية الإكراهات المتجسدة بالايديولوجيا المسيطرة ( نجد في هذه الحالة أن الكتاب المنحرفين أو المخربين يستطيعون إذ يخاطروا بأنفسهم ويغامرون بها عندما يردون أن يبرزوا مزايا المستحيل التفكير فيه، وذلك عن طريق اختراقهم للنظام الاجتماعي ـ الثقافي، المبالغ في قيمته والمحروس بشدة من قبل الأمة ) واما أخيرا بسبب أن توتر الفكر يصل الى منطقة ما يستعصي على الوصف والتحديد ومنطقة الكثافة التي لا يمكن سبرها للكائن، كما يفعل ذلك بامتياز الخطاب الشعري والخطاب النبوي. يمكن أن نقد أمثلة عديدة لتوضيح هذا التحليل فمثلا، فيما يخص الخطاب الاجتماعي العربي قبل القرآن ، نجد أن كل ما يتعلق بالوحدانية ـ الايمان بالله الواحد ـ كان لا يزال مستحيل التفكير فيه وهذا ما يفسر لنا من جهة الصفة المخربة للخطاب القرآني لذلك النظام، ومن جهة أخرى المناخ الجدالي والاحتجاج الجذري ضد الصحة الآلهية للرسالة التي أتى بها محمد الذي كان يعتبر آنذاك من قبل أبطال الصراع هداما ومهدما لعقائد الآباء والأسلاف، لم يكن الهدف النهائي للصراع الذي دار خلال عشرين عاما هو مجرد استبدال قوة اجتماعية بأخرى ضمن إطار من المؤسسات ومن النظام المعرفي المقدس، وإنما راح التدمير والقلب يصيب بالدرجة الأولى وبشكل أساسي الممكن التفكير فيه الخاص بمجتمع وبزمن احتقر كل راسماله الرمزي، لمصلحة ممكن التفكير فيه من نوع آخر ، ولمصلحة نظام من العمل التاريخي غير معروف في اللغة العربية حتى ذلك الوقت ـ التوحيد والاسلام ـ إنه لمن الضروري أن نقول بأن الأمر يتعلق بالضبط باللغة العربية ، وذلك لأن اللغة الآرامية والسريانية والعبرية واليونانية كانت تعبر منذ وقت طويل عن نوع من الزلزلة والتدمير مماثل أصاب العوالم الشرق أوسطية القديمة، ( عن طريق اليهودية والمسيحية) لهذا السبب نجد أن بنية الخطاب القرآني ذاتها تعكس خريط القوى الاجتماعية ـ السياسية الموجودة في الساحة، إنها تمثل مرحلة سردية تبدو فيها علاقة الذات بالموضوع ـ أي العلاقة الخاصة بالبحث عن الخلاص ـ مرتبطة كليا بالعلاقة بين المرسل ـ المرسل إليه ( أي الله ثم البشر عبر محمد) إن المرسل هو الفاعل الذي يملك قانونا سلطة كافية لأن تفرض على خصمه إكراهات كان قد قرر أن يجبره على تنفيذها ، إن المصطلحات التي تسفه وتحتقر معارض البحث عن الخلاص ـ أي الكفار ـ المستخدمة في عبارات الكينونة أو الوصف لا تتخذ كل قيمتها السلبية إلا لأنها تعتمد على عبارات الفعل، أي على أنماط متضافرة من مثل السلطة والواجب والمعرفي والارادة ، يضاف الى ذلك أن التركيب السردي والتأملي للعبارات القرآنية مرتبط أيضا بالحياة اليومية للمؤمنين وبعملهم التاريخي الضافر ضد الكفار المعارضين، وبنية الخيال الموجود عند أهل الكتاب ، هنا نجد أن السردية لا تكتفي بالتلاعب بالشخصيات العجائبية والحالات الدرامية والإخراج الأسطوري، لأجل غايات جمالية أو متعلقة بالتسلية والجاذبية، وإنما نجد أنها متولدة عن طريق تاريخ محسوس في الوقت الذي تولد فيه هي ذاتها علم قيم جديد من أجل تاريخ محسوس آخر. إنها تدل على اللامفكر فيه الخاص بالتاريخ السابق وذلك بتحديدها الأطر ووسائل وآفاق نوع من الممكن التفكير فيه غير محدود. لا يمكننا من وجهة نظر تاريخية أن نكتفي بهذا العرض الذي يساهم إذا لم ننتبه للأمر في تقوية التعارض ذي الجوهر التيلوجي ، كان هذا التعارض قد رسخ نهائيا الممكن التفكير فيه اللامحدود الخاص بالقرآن ضد الممكن التفكير فيه الخاطئ والاستعبادي المصحوب بلامفكر فيه ضخم لدى الكفار.هكذا نجد أن ما نكتشفه عندئذ في الخطاب القرآني هو نوع من القدرة على السيطرة على هذه الآليات الى درجة أن آثار المعنى الناتجة كانت قد أثرت ولا تزال على الوعي ذي المشارب اللغوية والثقافية الشديدة التنوع حتى يومنا هذا ، وهذا لا يقلل في شيء من قيمة الممكن التفكير فيه ولا من اتساع المستحيل التفكير فيه ولا من طبيعة اللامفكر فيه السائد ضمن الأنظمة الثقافية المهمشة أو المستأصلة بواسطة نوع من التنظيم الخاص بالممكن التفكير فيه وبالخيال اللذين أدخلهما القرآن، ذلك أنه هذا فيما وراء التسفيه الجدالي والتيولوجي . إن المواقف المتخذة إزاء الظاهرة القرآنية واللغات أو الأساليب التي تعبر عنها كانت بالطبع قد تغيرت في كل لحظة من اللحظات الثلاث ، إن الصعوبة بالنسبة لنا اليوم تتركز في مسألة أنه ينبغي علينا أن نخترق بدء من المعرفة المتجمة في الاتقان ، الطبقات الرسوبية للخيال الاسلامي المتشكل خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى من أجل أن نصل الى زمن الوحي ، لا يعرف الوعي الخاضع للتراث مثل هذه الصعوبة أو المشكلة ، إن السيوطي لا يرى أي إزعاج أو إشكال في تأسيس عرضه وأفكاره على سلسلة من المحدثين يضمن صحتها الإجماع السني ، ثم هو يستخدم بثقة كاملة ـ المعرفة الظافرةـ إن زمن الوحي هو الزمن التدشيني لعصر تاريخ كوني موجه هو ذاته نحو مستقبل أخروي، يبقى مع ذلك أن هذا الزمن ذي الجوهر الأسطوري متصور وموصوف على شكل تتابع للأحداث الأرضية المؤرخة والمضبوطة والمستخدمة بصفتها مراجع معيارية تضبط محاكمة تفكير وسلوك كل مؤمن، كما أن جمع وتثبيت المصحف قد سرد بصفته يعبر عن عمليات خارجية نفذت بعناية وأمانة مما يضع مضمون الرسالة نهائيا بمنأى عن عن كل ضياع أو ارتياب واحتجاج ، يقدم الاتقان مادة غزيرة لمن يريد أن يبين كيف أن الفكر الاسلامي المكرس من قبل حراس العقيدة كان قد استخدم عناصر ومواد واساليب وإطارا تأرخيا من أجل نزع الصفة التاريخية عن زمن الوحي وعن زمن جمع وتثبيت المصحف ، إن الأمر يتعلق بعملية جماعية ضخمة كانت قد جيشت الفقهاء والمحدثين ومفسرين وكتبة تاريخ وفقهاء لغة وبلاغيين، في الفترة اللاحقة لزمن الصحابة والتابعين ، وجيشت السلطة الزمانية والخيال الاجتماعي المستوعب والمولد للأساطير والشعائر والصور والحماسة والانتضار والرفض الذي تتغذى منه الى الآن الحماسة التقليدية، هكذا نجد أنفسنا أمام تقليد جبار لممكن التفكير فيه من نوع اسطوري ـ ديني منضغط في تسلسل زمني ضيق ومنفتح في آن معا على قبل وبعد من الأبدية ، ويبدو هذا الممكن التفكير فيه قاسيا وإكراهيا وبالتالي بلا مفكر فيه أكثر اتساعا وأكثر أهمية كلما توغلنا في زمن الاسلامي الى الوراء ، هكذا نجد أن السيوطي لا يذكر ولا يشير الى ابو بكر ابن مجاهد إلا من أجل أن يقول أنه لم يتكلم عن التخفيف في رسالته المسبغة ـ القراءات السبع ـ وهنا نجد أنفسنا بإزاء مثال صارخ على نزع الصفة التاريخية عن المصحف وذلك لأن ابن مجاهد هو بالضبط الرجل المسؤول عن الإصلاح النهائي الذي حصل عام 324 هـ ، والذي وضع حدا لتنافس الفقهاء فيما يخص قراءات القرآن ، إن حلقات الصراع المتتالية التي أدت الى هذا الاصلاح ونتائجه فيما يخص تثبيت النص كانت سوف تتيح لنا لو أننا نعرفها بشكل أفضل أن نواجه مشكلة من أكبر المشاكل التي كان الفكر الإسلامي قد رماها في ساحة اللامفكر فيه ألا وهي ـ تاريخة الخطاب الذي أصبح نصا رسميا مولدا للتعالي.إن المرور من حالة الخطاب القرآني الى التشكيلات الفكرية العديدة للثقافة العربية المرتبطة بحاجات دولة ومجتمع في حالة توسع كان قد حصل بعد أن دفع ثمنه على شكل انقطاعات ابستميولوجية لم تلحظ بعد، ولم توصف بشكل جيد من قبل الدراسات الاسلاميه المعاصرة والقديمة كما فعل السيوطي في تجميع المعارف الواقعية المحسوسة المكتسبة بواسطة تراث من من التبحر والتنقيب دون أن يتساءل عن الشروط العقلية ـ أي طراز العقل الشغال ـ لانتاج المعارف هذه المعارف ، أي دون التساؤل صحتها ، ضمن هذه المعنى يمكن القول إذن بأن هناك فعلا استمرارية ابستميولوجية ما بين العقل الاسلامي والعقل التاريخي للقرن التاسع عشر، إن موقف التقليديين إزاء الأدبيات التفسيرية القديمة والحالية وإزاء مشكلة يعكس استمرارية نظام قديم من اليقينيات يخص طبيعة اللغة ووظائفها ، وخصوصا اللغة العربية . هذه اليقينيات التي تكذبها الألسنيات الحديثة بشدة ، يعتقد أولاء أن المفسر ذي السيادة والأهلية يمكنه ( هنا كما في أمكنة أخرى حيث يحصل تسرب التراث المدرسي ) أن يجد المعنى القانوني الوحيد القابل للأستخدام أخلاقيا وقضائيا تشريعيا في الحياة اليومية للبشر، هذا المعنى الملتصق بكل كلمة وكل تعبير وكل آية من القرآن.
#تيسير_العفيشات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|