|
ماركس وأنجلس: صداقة في نور الفكر والحياة
سعد محمد رحيم
الحوار المتمدن-العدد: 2914 - 2010 / 2 / 11 - 20:28
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بعد سنتين من ولادة ماركس ( 1818 ) ولد في بارمن الألمانية فردريك أنجلس ( 28 نوفمبر 1820 ) في أسرة غنية، محافظة أرثوذكسية. ولم يُكمل دراسته في كلية إيبرفيلد، فتركها قبل سنة واحدة من تخرّجه لينخرط في الحياة العملية. ومثل ماركس رغب أنجلس أن يكون شاعراً لكنه اكتشف مبكراً، أيضاً، أنه يفتقر إلى الموهبة التي هي الشرط الأولي ليكون أي امرئ شاعراً عظيماً. وكان فيه، في هذه المرحلة، بعض الطيش؛ يُكثر من الشراب، مع انشداد للحياة ومتعها الحسية. غير أن هذا الأمر لم يستغرقه كلياً. فقد كان حريصاً على الاغتراف من منابع الأدب والثقافة. ميالاً إلى الروح الجديدة في الأدب بممثليها بيك وغرون ولينو وإيمرمان وبلاتن وبورن وهاينه وغتزكوف. وله في رسائله تعليقات طريفة بهذا المضمار. تحدر أنجلس من بيئة ذات تقوى دينية، وتشرب في طفولته تقاليد الأرثوذكسية ومعتقداتها. غير أنه سرعان ما دخل في صراع مع نفسه حينما بدأت الشكوك تساوره بوقوعه مثل أبناء جيله تحت وطأة التأثير الفكري الساحق لهيغل. رافضاً، وبحسب تعبيره، النزول من القمم المغطاة بالثلج بروعة شمس الصباح إلى وهاد الأرثوذكسية الضبابية. وانفصاله عن الكنيسة أدى به كما يؤكد فرانز مهرنغ إلى الهرطقة السياسية: "لا أتوقع شيئاً جيداً من أمير إلاّ ذاك الذي شجت ضربات الشعب رأسه وتحطمت نوافذ قصره بالثورة". هذا ما يقوله تعقيباً على خطاب أحدهم في مدح ملك بروسيا. وشرع يدبج المقالات ويرسلها إلى مجلتي ( دويتشه ياربشر ) و ( راينخه تزايتونغ ). ولكي لا يغيظ عائلته المحافظة اتخذ اسماً مستعاراً هو ( فردريك أوزوالد ). ونشر كراساً من خمس وخمسين صفحة ( لم يحمل اسم مؤلفه ) ضد شيلنغ الذي عمل على طرد الفلسفة الهيغلية من جامعة برلين. وكتب روغه في مدح الكرّاس الذي ظنه من تأليف باكونين قائلاً: "إن هذا الشاب يتفوق على كل الحمير المسنين في برلين". أنهى أنجلس خدمته العسكرية في أيلول 1842 وسافر إلى إنكلترا ليشغل وظيفة كاتب في شركة غزل ( إيرمين وأنجلس ) حيث كان والده شريكاً في ملكيتها. وفي طريقه مرّ بكولون والتقى بشكل سريع كارل ماركس في مكتب تحرير مجلة ( راينيخه تزايتونغ ). ولم تترك هذه المقابلة انطباعاً قوياً لدى أي منهما عن الآخر. إن لم نقل أن كلاً منهما لم يرتح إلى صاحبه نتيجة آراء مسبقة مستقاة من الآخرين. في انكلترا، وبحكم مهنته، وطوال واحد وعشرين شهراً لاحظ أنجلس مدى تطور الصناعة الإنكليزية، وظهور طبقات جديدة واستفحال التناقضات الطبقية. وكذلك أدرك أن المباحث التاريخية لا تعطي أهمية تُذكر للعامل الاقتصادي على الرغم من أنه العامل التاريخي الرئيس في العالم الحديث.. وإن التناقضات الطبقية العدائية "نشأت كلية نتيجة تطور الصناعة الكبيرة. وهي تمثل أساس تطور الأحزاب السياسية والصراعات السياسية، وبالتالي تمثل أساس التاريخ السياسي كله". وإذ نشر ماركس في ( دويتشة ياربشر ) مقالته في نقد القانون فإن أنجلس نشر مقالة في نقد الاقتصاد الوطني، سيصفها ماركس بأنها "من هيكل تخطيطي لامع". وبذا سبق أنجلس ماركس في الالتفات إلى الشأن الاقتصادي مبدياً ملاحظات ذكية حملت "بذور الشيوعية العلمية في الحقل الاقتصادي". ومقالات أنجلس هي التي قادت ماركس، بعدئذ، إلى الانغماس في دراسة الاقتصاد السياسي، والتوصل إلى اكتشافاته العبقرية في ذلك الحقل. وكان أنجلس متواضعاً جداً، يبخس من قيمته ويعلي من قيمة ماركس.. يقول: "ماركس كان أعظم منّا جميعاً، كان يرى أبعد منا وأكثر منا وأسرع منا". وبطبيعة الحال هذا بعد أن يلتقيا ثانية في باريس ( أيلول 1844 ) ويبدآن عملهما الفكري المشترك. ولا ريب أن كلاً من الشابين أثر على الآخر بعمق وقوة. ويبقى السؤال: ماذا لو لم يعرف أحدهما الآخر، أو أن أحدهما لم يكن موجوداً قط؟ هل كان بإمكان أنجلس التوصل استناداً إلى المقدمات التي وضعها إلى تلك المنظومة الفكرية التي صمّمها ماركس فيما بعد؟ أو هل كان لماركس أن يقع على تلك المقدمات، وأيضاً، فيما بعد من غير معونة أحد؟ وماذا كان يمكن أن تكون مصائر الفكر الاقتصادي والسياسي واتجاهات التاريخ إذا افترضنا عدم حصول علاقة الصداقة بين ماركس وأنجلس؟. وإذ يتحدث معظم مؤرخي الفكر الماركسي عن التأثير المؤكد لأنجلس على ماركس ودفعه إلى المناطق المبدعة، إنْ كان من طريق التعزيز النظري أو الدعم المعنوي والمادي، فإن هناك من يرى أن أنجلس حرّف ماركس عن مساره الأولي الذي كان يمكن أن يكون مثمراً أكثر ( من غير إشعاعات أنجلس الفكرية الملهمة ). وها هو جان بول سارتر يطلق على لقاء الشابين بالمشؤوم في كتابه ( المادية والثورة ). لأن ماركس، قبل ذلك اللقاء، كان يمضي باتجاه تأكيد النزعة الإنسانية لنضال العمال الذين كما يقول سارتر: "لم يطالبوا فقط بكسب زيادة بعض الدراهم ولكن كانت مطالبتهم رمزاً مجسّماً في اقتضاء أن يكونوا بشراً وآدميين. وآدميون تعني حريات تملك ناصية مصيرها". فضلاً عن ضرورة اقتران الذاتية مع وجود العالم في واقعية الرجل الثوري إلى الحد الذي "لا يمكن تصوّر ذاتية خارج العالم، ولا عالم بغير إيضاح الجهد الذاتي". وعلى حد تعبير سارتر "إن هذه كانت وجهة نظر ماركس سنة 1844، قبل لقائه المشؤوم مع أنجلس". أي أن البعد الوجودي، بحسب سارتر، قد غاب عن فكر ماركس في اللحظة التي انقاد فيها بهوس إلى تخريجات أنجلس المذهلة لينطلق منها، بعد مدة قصيرة، إلى بناء منظومته النظرية. وإذن فسارتر بفكره الوجودي لم ينظر بعين الرضا إلى المنهج المادي الديالكتيكي والنظرية المادية التاريخية مثلما أنضجهما ماركس برفقة أنجلس طوال العقود التالية. وبعيداً عن تخيل افتراضات واحتمالات لم تحصل في سياق الزمان والتاريخ فإن من الإنصاف الإشارة إلى حقيقة أن ماركس لم يكن مراهقاً فكرياً وسياسياً ضيق الفكر وفج العقل ومائع العاطفة ليستدرجه أنجلس إلى حيث يرغب. بل إنه اقتنع تماماً بصحة القواعد النظرية التي أرساها رفيقه في مقالاته الأولى، ليغنيها ويطورها هو ( ماركس ). وأن الاثنين شيدا صرحاً منهجياً ونظرياً عملاقاً ما زال يلهم العقول ويؤثر فيها على الرغم من إخفاقات عشرات التجارب التي تبنت الماركسية وادعت ملكيتها وتمثيلها، هنا وهناك، في القرن العشرين. عرض أنجلس الظروف اللا إنسانية المأساوية التي كان العمال يعيشونها في ظل الرأسمالية في كتاب ( حالة الطبقة العاملة في إنكلترا )الذي نشر في ليبزغ في العام 1845 واصفاً هذا الكتاب بعد عشرين سنة بأن موضوعاته تنطوي على العلامات التي يحملها أصل الاشتراكية الحديثة من واحد من أجدادنا هو الفلسفة الألمانية الكلاسيكية". وفيه يفصح المؤلف الشاب عن مقدرته على فهم روح نمط الإنتاج الرأسمالي، مفسراً "صعود البرجوازية وكذلك انحطاطها، وتعاسة البروليتاريا وكذلك خلاصها". وكيف أن الصناعة الكبيرة التي خلقت البروليتاريا "تتطور بفعل الجدل التاريخي الذي يبين قوانينه بالتفصيل، إلى حد أنها تطيح بخالقتها ( البرجوازية )". ويذهب فرانز مهرنغ إلى حد القول بأن أنجلس المتمكن من الجدل الهيغلي قد أوقف في كتابه الآنف الذكر ذلك الجدل على قدميه بدلاً من أن يتركه واقفاً على رأسه. راح أنجلس يحث ماركس على إتمام بحوثه في حقل الاقتصاد السياسي ونقده.. يقول في رسالة لماركس: "إنه عملك الاقتصادي، حتى ولو لم تكن راضياً عنه تماماً. فهذا ليس أمراً هاماً. إن عقول الناس ناضجة الآن وعلينا أن نطرق الحديد قبل أن يبرد.. الوقت يمر بسرعة... اعمل مثلما أعمل: حدد موعداً للانتهاء من العمل، ثم اعمل على طباعته بأسرع ما يمكن". وحين طُرد ماركس من باريس كتب إليه أنجلس "لنقتسم بيننا بطريقة شيوعية كل النفقات الإضافية التي كان عليك أن تتكبدها". وأنجز الصديقان أول عمل مشترك لهما هو ( نقد النقد النقدي ) أو ( العائلة المقدسة ) مثلما ارتأى ناشرهما أن يكون العنوان، والذي ينطوي على نوع من السخرية من الأخوة باور ( برونو وإدغار واغبرت ) ومن يشايعهم في طروحاتهم في صحيفة ( الغماينة ليتراتور تزايتونغ ). إذ عدّ أنجلس ما آلت إليه الهيغلية في تلك الصحيفة مجرد سخافة. وهنا صاغ ماركس للمرة الأولى "تقويماً تاريخياً وفلسفياً للفلسفة الهيغلية، جرى تطويره لاحقاً في كتابهما المشترك الثاني؛ ( الإيديولوجية الألمانية ) وقد أثبت ذلك انه مثمر للأطوار الأخيرة من تطور ماركس، حيث تقويمه لفيورباخ. وبالتالي تقويمه لنقد فيورباخ لهيغل"، كما يقول يندريش زلني في كتابه ( منطق ماركس ). وقد دافع ماركس عن الثورة الفرنسية التي كان يحقِّرها باور فيما دافع أنجلس عن التاريخ الإنكليزي. غير أن الكتاب، في النهاية كان في معظمه من تأليف ماركس الذي كتب منه ثلاثمائة صفحة، فيما لم تتعد مساهمة أنجلس فيه العشرين صفحة. كان ماركس في بروكسل ربيع 1845 حين وصلها أنجلس. وسافر الصديقان إلى إنكلترا ليمكثا هناك ستة أسابيع منكبين على الدراسة، ولمّا عادا قررا تصفية حسابهما مع "ضميرهما الفلسفي السابق" بنقد الفلسفة ما بعد الهيغلية وممثليها فيورباخ وبرونو باور وشتيرنر، وكذلك الاشتراكية الألمانية. وكانت الحصيلة كتاب ( الإيديولوجية الإلمانية ) بمجلدين وثمانمائة صفحة. كان الكتاب سجالياً، جافاً نوعاً ما في أغلب فصوله، وفيه إسهاب لا مسوّغ له أحياناً. لكنه في النهاية ينبئ عمّا يمكن لهذين المفكرين الشابين أن يفعلاه في ميدان الفلسفة والفكر الاقتصادي بعد سنوات قليلة. استأنف الصديقان شن هجماتهما المشتركة ضد المفكرين البرجوازيين والاشتراكيين الطوباويين والديماغوجيين ومن يُدعون بأصحاب الاشتراكية الحقة. وكانت الجماعة الشيوعية تنمو من حولهما في بروكسل في حدود العام 1847. وكان من أصدقائهما المقربين في هذه المرحلة من حياتهما فيلهم وولف الكاتب بالأسلوب الشعبي والذي توفي مبكراً. وكان هناك فردينناند وولف، وارنست درونكه الذي حكم عليه بالسجن سنتين بتهمة طعن الذات الملكية، والشاعر جورج ويرث، الذي لم يعمِّر طويلاً هو الآخر. وأقام ماركس وأنجلس علاقات جيدة مع المشتركين في ثورة 1830 في بلجيكا. وكان لهما أصدقاء في كولون. وكانت لهما اتصالات مع الحزب الاشتراكي الديمقراطي في باريس. وانضما إلى ( رابطة العادلين ) والتي سميت بالعصبة الشيوعية، حيث عقدت مؤتمراً صيف 1847 معيدة تنظيم نفسها في خلايا وحلقات وقيادة وسلطة مركزية ومؤتمر، معلنة أن هدفها: "هو الإطاحة بالبرجوازية وإقامة حكم البروليتاريا، وإلغاء المجتمع القديم الذي يقوم على تناقضات طبقية. وبناء مجتمع اشتراكي جديد لا طبقات فيه، ولا ملكية فردية". وبناء على طلب الرابطة وضع ماركس وأنجلس بياناً للمؤتمر. ويكتب أنجلس لماركس يقترح عليه التخلي عن الشكل التعليمي في الكتابة وتسمية ما يكتبانه بـ ( البيان الشيوعي )، إذ ليس القصد تحريض العمال على الثورة وحسب، بل إعطاء شكل علمي رصين لنص تقدّم عبره الطبقة العاملة نفسها إلى العالم. ثم في العام 1872، وفي مقدمة لطبعة جديدة من البيان ( الشيوعي ) سيعترف الكاتبان بأن أجزاءً منه بحاجة إلى إعادة نظر وتصحيح. غير أن المبادئ التي تضمنها أثبتت صحتها بشكل عام. وكما يحددان "فالقسم الأول من البيان يرسم المبادئ الأساسية للصراع ( بين البروليتاريا والبرجوازية ) بوضوح لا مثيل له. بينما يعالج القسم الثاني الأفكار الأساسية للشيوعية العلمية الحديثة". فيما ينتقد القسم الثالث الأدب الاشتراكي والشيوعي في حينه. وأخيراً تضمن القسم الرابع نبوءة تتعلق بتطور ألمانيا. وفي الذكرى التسعين لصدور البيان يصفه ليون تروتسكي بأنه "أكثر بيانات الأدب العالمي عبقرية، بطراوته لحد الآن.. تبدو أقسامه الرئيسة وكأنها كُتبت أمس.. حقاً أحسن الكاتبان الشابان ( كان عمر ماركس 29 سنة وعمر أنجلس 27 سنة ) النظر إلى المستقبل على نحو لم ينظر به أحد قبلهما، وربما حتى بعدهما". في حمّى ثورات 1848 الأوروبية حاول أنجلس الحصول على مبلغ من والده لإصدار صحيفة. وفي لحظة يأس كتب لماركس: "لن نستطيع الحصول على شيء من والدي الشيخ... ولعله سيرسل لنا ألف طلقة لينهينا بدلاً من أن يرسل لنا ألف تالر ليساعدنا". غير أنه نجح في كسب ما يكفي نسبياً من خلال تعويم أربعة عشر سهماً من أسهمه فصدر في الأول من حزيران 1848 العدد الأول من ( نيو راينيخه تزايتونغ ) بإعلان أن ماركس هو رئيس التحرير فيما أنجلس وويرث والأخوان وولف أعضاء في هيئة التحرير. وبعد فشل الانتفاضات العمالية الأوربية التي كان لهما دور كبير فيها وجدا نفسيهما منفيين في لندن، وأصدرا هناك أول عدد من الصحيفة عينها في الأول من كانون الثاني 1850، إلاّ أن المشروع برمته كان معرّضاً للدمار لأسباب مالية. وعملا على إعادة تأسيس العصبة الشيوعية، وتأسيس جمعية لمساعدة اللاجئين الألمان. وكانا يتوقعان في هذه المرحلة حرباً عالمية قريبة وثورات بروليتارية لا تبقي ولا تذر. ولم تقع أي من هذين الحدثين المحتملين كما كانا يأملان. وتعرضت العصبة الشيوعية إلى انشقاق خطير. وراح الصديقان يشعران بخيبة أمل. وقد كتب أنجلس لماركس في شباط 1851 رسالة غاضبة: "يستطيع المرء أن يعي أكثر فأكثر أن المنفى مؤسسة لابد أن يصبح المرء فيها أحمق وحماراً ووغداً حقيراً إلاّ إذا أنسحب منها كلية وقنع بأن يكون مستقلاً لا يتعب رأسه حتى بما يُدعى الحزب الثوري". وهنا، مع احتدام صراعاته مع خصومه، بدأت مصاعب ماركس المالية.. كتب لأنجلس في 8 أيلول 1852: "زوجتي مريضة... وييني الصغيرة مريضة أيضاً... لقد عشنا ثمانية أو عشرة أيام على الخبز والبطاطا وحدهما. أما الآن فقد لا نستطيع أن نحصل حتى على ذلك... إننا مدينون للخباز ولبائع الحليب وللبقال ولبائع الخضار واللحام. فكيف بحق الأرض أستطيع أن أسوي هذا المأزق الشيطاني؟". وحينما أنهى ماركس كتابه ( نقد الاقتصاد السياسي ) لم يكن يملك نقوداً كافية لإرسال المخطوطة إلى الناشر فكتب إلى أنجلس: "لا أعتقد أن أحداً سبق أن كتب عن النقود وعانى إلى هذا الحد من الافتقار إليها. فمعظم من كتبوا في الموضوع كانوا يحتفظون معه بأطيب العلاقات". كان الفقر وسوء الحظ وتعاسات المنفى عوامل إعاقة لمشروع ماركس الفكري. وقد واجه ذلك بصلابة شخصية، وبقدرته على الصبر، وتحمل الشدائد، وتجنب الوقوع في وهدة اليأس. بيد أن هناك حقيقة مضافة.. يقول فرانز مهرنغ: "لا يعود انتصار حياة ماركس إلى قدراته البالغة فقط. فقد كان لابد أن ينهار في نضاله بشكل أو آخر، لولا الصديق الذي وجده في أنجلس. ذلك الصديق الذي بدأنا نفهم إخلاصه وتضحيته بعد أن نُشرت مراسلات الصديقين... لم يكن لصداقتهما مثيل في التاريخ". لم يكونا متماثلين تماماً، ولاسيما في طبيعة سلوكهما. كان لأنجلس أهواءه البرجوازية، وبقي أعزب يعيش مع فتاة أيرلندية، أحبها، تُدعى ماري بيريز. وكان يبحث عن المسرات، يختلط مع الطبقة العليا للمجتمع الفكتوري، يشارك في النوادي وإقامة الحفلات والولائم، ويشترك في نزهات صيد الثعالب، وله مكانة محترمة في بورصة مانشستر، وحاذق في أعمال التجارة والإدارة. وظل يعمل تسعة عشر عاماً في وظائف يكرهها لا لشيء إلاّ للحصول على أموال إضافية يستطيع بها مساعدة ماركس وعائلته.. لقد نذر أنجلس نفسه لدعم صديق عمره إيماناً منه بعبقرية ذلك الصديق. وقد ضحّى بأوقات وفيرة، وفرص لا تُحصى كان يمكن إذا ما استثمرها بشكل آخر أن يبدع أعمالاً فكرية لم يتيسر له إتمامها بسبب روح الإيثار التي يتحلى بها، لا غير. "لم يكدح أنجلس من أجل صديقه في المكتب والبورصة خلال النهار فحسب. بل كان كذلك يضحي بالجزء الأكبر من وقت فراغه، إذ يعمل في المساء، وفي أحيان كثيرة حتى وقت متأخر من الليل. فكان في البدء يفعل ذلك كي يترجم رسائل ماركس إلى ( نيويورك تربيون ) لأن ماركس لم يكن حينذاك متمكناً من اللغة الإنكليزية كفاية، ولمّا بطل هذا السبب استمر أنجلس مع ذلك في تعاونه الصامت". والصكوك التي استمر يبعثها لماركس أنقذت الأخير من الضياع. وكانت زيارات أنجلس لبيت ماركس مصدر فرح لبناته الثلاث وقد أحببن أسلوب صديق العائلة، ذاك، في معاملته إياهن. وفي الأحوال كلها، لابد من التأكيد أنه كان لأنجلس مواهب فكرية ثرية، فذة ومستقلة شكّلت منبعاً آخر مجاوراً لمنبع ماركس. والمنبعان كانا يصدران من الأعماق الجوفية نفسها، ويصبان في نهر الفكر الماركسي العظيم. وفي النهاية صفّى أنجلس عمله مع شريكه في التجارة موفراً مبلغاً كافياً من المال لماركس ليخرجه من محنته المستديمة بقية السنوات التالية. شغف أنجلس بدراسة العلوم العسكرية والتاريخ العسكري، ولهذا لُقِّب بالجنرال. كما أهتم بالعلوم الطبيعية من غير اكتشافات لافتة بهذا الشأن. إلى جانب غوصه في دراسة التاريخ العام من وجهة نظر المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية. وكانت حصيلة أبحاثه بهذا الصدد كتابه الذائع الصيت ( أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة ). فضلاً عن دراسة اللغات وعلم الآثار فكانت ثقافته موسوعية ذات مصادر متعددة. أما أسلوبه فكان واضحاً، ينفذ مباشرة إلى الأعماق، وحاداً أحياناً، وساخراً في كثير من الأحيان.. يقول عنه كاتب سيرته ترسترام هنت في كتابه المعنون ( قائد ماركس: الحياة الثرية لفردريك أنجلس )، وربما بشيء من المبالغة: "هذا المحب الكبير للحياة الجيدة. المدافع بحماسة عن الحياة الفردية، والمؤمن المتحمس بدور الأدب والثقافة والفن والموسيقى كمنتدى عام للنقاش، لم يكن سيوافق على شيوعية القرن العشرين.. إن جميع الستالينيين يدّعون أبوته، على الرغم أنه كان، بكلمات أخرى، من ذلك النوع من الرجال الذي كان ستالين سيرميه بالرصاص". في مطلع كانون الثاني 1866 بدأ ماركس كتابة عمل عمره الكبير ( رأس المال ). وفي آذار 1867 أنهى المجلد الأول ليصدر في السنة ذاتها. وذلك في ظروف صعبة عانى خلالها من المرض والفاقة والديون. ولذا لم يفرغ كلياً من إنهاء المجلدين الثاني والثالث حتى وفاته في 1883. وكان على صديقه أنجلس أن يتكفل بالمهمة الصعبة وهي إعداد المجلدين المذكورين من بين مئات الصفحات التي تركها ماركس، فنشر المجلد الثاني في عام 1885 والثالث في عام 1894. إذ كان العمل غير منته بالمقاييس كلها. ويتكون من هوامش وملاحظات واستطرادات ومقاطع طويلة وأخرى قصيرة مبعثرة. مرة واحدة استاء أنجلس من الإنفاق غير الضروري لماركس لأنه كان حينها هو الآخر يعاني من شح في موارده المالية. ومرة واحدة انزعج أنجلس من ماركس ( الذي كانت له من الهموم ما تكفيه ) لأن الأخير لم يواسه، كما كان يأمل وينتظر، حين ماتت عشيقته ماري بيريز. ولعل هاتان الواقعتان هما الوحيدتان اللتان أشرتا شيئاً من الجفاء العابر، والمؤقت، في علاقة إنسانية راسخة ممتدة طوال ما يقرب من الأربعين سنة. كان الصديقان على تماس مباشر مع أحداث عصرهما إذ أديا أدواراً لا يمكن تناسيها وإغفالها في خضم المؤتمرات العمالية المحلية والأممية وصراعات النقابات مع أرباب العمل البرجوازيين. وكانت لهما آراؤهما المكتوبة والمنشورة في معظم ما كان يحصل من ثورات وحروب وتحولات في مجالات السياسة والاقتصاد في أوروبا والعالم. وفي العقد الأخير من حياة ماركس اشتدت عليه وطأة المرض. أو يمكن القول أنه كان يمضي ببطء مؤلم نحو موته. وهذا يفسر، إلى حد بعيد، عدم تمكنه من إنجاز أعمال كبيرة خلال هذه المدة. حيث كان يضطر إلى ترك العمل لفترات طويلة. فكانت معنوياته تهبط، ورغبته في الكتابة تفتر. إن سنوات النضال السياسي وظروف النفي وتعاساته، وصعوبات وضعه المالي، وإرهاق ذهنه بالقراءة والكتابة لساعات طويلة من كل يوم، جعلته يدفع ضريبة باهظة، مقابل ذلك، من رصيد جسده الذي كان قوياً في أيام شبابه. وفي 2 كانون الأول 1881 توفيت زوجته جيني فقال أنجلس بنبرة حزينة معلِّقاً: "لقد مات المغربي أيضاً". ويقصد بالمغربي ماركس. ومن ثم نزلت عليه واقعة وفاة ابنته ييني في 11 كانون الثاني 1883 كالصاعقة. وكان يجلس على كرسي مريح في 14 آذار 1883 حين أغمض عينيه للمرة الأخيرة بهدوء. وعلى قبره ساعة دُفن ألقى أنجلس خطاباً قصيراً جاء فيه: "كما اكتشف داروين قانون التطور في الطبيعة العضوية، كذلك اكتشف ماركس قانون التطور في التاريخ الإنساني. تلك الحقيقة البسيطة التي كانت مخفية تحت أكوام من الإيديولوجيات... سيعيش اسمه عبر القرون، وكذلك سيعيش عمله". وتوفي أنجلس في لندن في 5 آب 1895 فكتب فلاديمير لينين مقالاً تقريضياً في رثائه بدأها بهذه الكلمات المعبِّرة: "أي مشعل للفكر قد انطفأ.. أي قلب توقف عن الخفقان". ومما ورد في ذلك المقال: "بعد وفاة ماركس أصبح أنجلس وحده المستشار والمرشد للاشتراكيين الأوروبيين. وإليه كان يأتي لطلب النصائح والإرشادات الاشتراكيون الألمان الذين لم تنفك قوتهم تنمو نموا سريعا رغم الاضطهادات الحكومية و كذلك ممثلو البلدان المتأخرة: الأسبانيون والرومانيون والروس الذين كان عليهم أن ينتصروا ويزنوا خطاهم الأولى. فقد كانوا جميعا ينهلون من الينبوع الدفاق، ينبوع معارف الشيخ أنجلس وتجربته". المصادر: 1ـ كتاب ( كارل ماركس ) تأليف فرانز مهرنغ. 2ـ كتاب ( منطق ماركس ) يندريش زلني.. ترجمة: ثامر الصفار. 3ـ مقال ( فردريك أنجلس.. حياته وآثاره ) فلاديمير لينين. 4ـ مقال ( أنجلس الثري المحب للحياة ) ترجمة ابتسام عبد الله.. المدى 2/9/200
#سعد_محمد_رحيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ماركس صديقاً
-
مصادر ماركس
-
مكنسة الجنة رواية ضد سياسية في سريالية عراقية خالصة
-
يوميات القراءة لألبرتو مانغويل: انطباعات قارئ
-
أطلقوا سراح المعلومات
-
قيامة العنف
-
-خيال ساخن- في خريطة السرد المصري
-
في -ثغرها على منديل- تحسين كرمياني يحتفي بالحب
-
أسماؤنا
-
نحو استشراف مستقبل ثقافتنا
-
بعقوبة التسعينيات: ثقافة تعاند حصاراً مركّباً
-
حس الواقع
-
الولع بالقراءة: مع آلبرتو مانغويل في -تاريخ القراءة-
-
في استهلاك المصطلحات السياسية
-
القارئ مترجماً
-
شذرتا الحداثة ومأزق تحديث الدولة العربية
-
حداثة المثقف.. تحديث الدولة
-
سيرك الإعلام ومهرِّجوه
-
ذلك الانهيار في عالم الأمس لستيفان تسفايج
-
المثقف وشبكة علاقات السلطة؛ 3 موقع المثقف ووظيفته
المزيد.....
-
إيران تعلن البدء بتشغيل أجهزة الطرد المركزي
-
مراسلنا في لبنان: سلسلة غارات عنيفة على ضاحية بيروت الجنوبية
...
-
بعد التهديدات الإسرائيلية.. قرارت لجامعة الدول العربية دعما
...
-
سيناتور أمريكي: كييف لا تنوي مهاجمة موسكو وسانت بطرسبرغ بصوا
...
-
مايك والتز: إدارة ترامب ستنخرط في مفاوضات تسوية الأزمة الأوك
...
-
خبير عسكري يوضح احتمال تزويد واشنطن لكييف بمنظومة -ثاد- المض
...
-
-إطلاق الصواريخ وآثار الدمار-.. -حزب الله- يعرض مشاهد استهدا
...
-
بيل كلينتون يكسر جدار الصمت بشأن تقارير شغلت الرأي العام الأ
...
-
وجهة نظر: الرئيس ترامب والمخاوف التي يثيرها في بكين
-
إسرائيل تشن غارتين في ضاحية بيروت وحزب الله يستهدفها بعشرات
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|