حافظ سيف فاضل
الحوار المتمدن-العدد: 886 - 2004 / 7 / 6 - 04:50
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لم اعنون المقالة بـظاهرة التسول, كون التسول اصبح نمط حياة ومهنة ترزق وقد تكون مصدر ثراء!!. والظاهرة تظهر حسب الظروف المتاحة لها وتختفي بحسب درجة مكافحتها او زوال البيئة الحاضنة لها او تجفيف منابعها. ولان حكومة عبد القادر باجمال فشلت في اجتثاث التسول من شوارع واروقة ومساجد العاصمة صنعاء ناهيك عن بقية المدن. واعتقد ان الامر يكمن في ان الحكومة تضع اولويات على جدول اعمالها وترى ان مكافحة التسول يندرج في اسفل قائمة الاولويات الاقل اهمية المتوجب فعلها!!.
تطور التسول واصبح مهنة بعد ان كان ظاهرة مستفحلة في احياء وشوارع واشارات المرور وجوامع العاصمة كما اضحى حالة لاتحتمل ولاتبيض الوجه امام الزوار والاجانب الذين بدورهم يعانون مثل ابناء البلد من شعبطة والحاح وثقالة دم (المطلبين) على انواعهم المختلفة: مطلب مسن, مطلبة مسنة, رجل, امرأة, فتى, فتاة, طفل, طفلة.
وقفت بالسيارة انا وصديق مساء على احدى اشارات المرور في شارع حدة المزدحم وكانت من اشارات وقوف الامد الطويل, وكأن اللون لاحمر (مقلوز) او معمول بالتنسيق مع فوج مطلبي الجولة وشحاتيها مع الكهربائي مركب الاشارات الضوئية والمقاسمة بالنصف.
استهدفنا مطلب وفي رواية اخرى شحات رمقنا من تحت عامود الاشارة, كان يدبي على عكازات بخفة بهلوان السيرك وكان من النوع الاول المسن, اذ دق زجاج النافذة المغلقة بسبب غبار صنعاء بقوة ملفتة وكأنه عسكري جولة او شرطي مرور, قاطعا حديثنا وصارخا بوثوق محصل الضرائب: افتح, افتح. أنزل زميلي زجاج السيارة بأستغراب. فأشار المطلب بأصبعه الى السماء وقال: عزي.. هات. حتى تمتمات الدعاء الى البارئ والمسكنة افلت وغابت من قاموس بعض (المطلبين الجدد) على وزن (المحافظين الجدد) وكأنهم حزب سياسي. فكلمة هات عنت اطلع الرزق المقسوم, مثلها مثل مطلبي المنازل الذين لايعيرون للوقت بال فقد تفاجأ برن جرس المنزل الساعة السادسة صباحا او ساعة القيلولة او في ليلة ممطرة, فاذا بادرت بقول الله كريم, ضاغطا على اعصابك بسبب قلة ذوق الزائر الثقيل, تسمع مالايسر من التذمر وبعض الشتائم من خلال جرس التلفون المنزلي!!. انها عصابات غازية قسمت العاصمة صنعاء وفق مخطط محكم كلًُ عرف مشربة وانتشروا. وحصل ذات مرة اني قلت لمطلبة طفلة من النوع الاخير في احدى الزحمات المرورية بعد ان ناشدتني بلغة البراءة والمسكنة (حسنة لله), اشرت عليها ناصحا ان تذهب الى المدرسة موضحا لها أهمية التعليم عن هذا التسول, فانقلبت الى موجة اسطوانة اخرى, كائلة الذم مركزة نحوي بأصبع اشارة (قلة الادب) في برمجة لغوية متوازية, طيبة حال الاستجداء, وشريرة حال ثنيها عن عملها الموكل لها به من قبل من هم اكبر منها او من يسيرونها في خضم لعبة التسول الكبرى, ولايستبعد ان لهذه اللعبة حيتان او قطط سمان تقف وراء كل موجات الشحاتة البشرية المتدفقة. طبعا كتب ويكتب الكثيرون عن التسول واضراره على المجتمع. واصبح الموضوع بحد ذاته ممل من عنوانه. حتى اني شخصيا اكتب الموضوع وانا ممتلئ ضجر وأفأفة. وكان سبب الكتابة ان شخصا عزيزا قد الح علي بطلب الكتابة حول هذه المهنة الغير شريفة والتي بلغت حدا غير معقول وفاق التصور واصبح غزو المتسولين بالالاف يتكاثر كـ(دراكولا) مصاصي الدماء مع فارق ان مصاصي الدماء يفيقون من توابيتهم في منتصف الليل وعلى تمام استدارة القمر وسطوع ضوئه, بينما الغزاة المتسولون يعملون خارج التوابيت ليلا ونهارا وايام العطل!!. قال لي هذا الشخص العزيز انت تكتب اسبوعيا في صحيفة (22مايو) الرائدة, وقد يكون الكتابة فيها وخاصة عن آفة التسول اجدى بوصولها الى مسامع المسؤلين المعنين, وهي تغني عن الكتابة في صحف المعارضة والتي تعتبر غالبا الكتابة والنقد فيها نكاية او مماحكات سياسية للحكومة والحزب الحاكم مما يفقدها مصادقية الطرح, ودلل على ذلك باحداث صعدة قائلا: ان الامر جلي وواضح للعيان ولاولي الالباب, ان هناك تمرد ومقاومة شديدة منظمة ضد الدولة والقانون والمجتمع, بنفس متطرف لايمت للمجتمع اليمني بصلة, ومع ذلك تميعت صحف المعارضة في تناولها للقضية وانحازت لصوت الويل, ساعية لخلق من الحوثي واتباعه المغرر بهم ابطال قوميين من باب النكاية والمماحكة السياسية للسلطة!!.
ظاهرة التسول وانتقالها من الظاهرة الى المهنة ليست مقتصرة على بلد مثل اليمن بل ان هناك بلدان عربية كثيرة تعاني منها. في دولة مثل الاردن يكافحونها بأساليب مختلفة والمهم في الامر الارادة السياسية الجادة في محاولة اجتثاثها من اسسها وفق برنامج يعني بالاحتياجات الحقيقية للمتسولين دائم غير منقطع ومذيل بقانون جزائي رادع, واهمية توعية المجتمع باضرارها. قام الصحفي حسين العموش الذي يعمل لجريدة الدستور الاردنية بمهمة مبتدعة جيدة, (اتمنى على بعض عناصر المباحث الجنائية الاقتداء به بدل التخزينة) فقد تقمص الصحفي دور شحات لمدة عشرة ايام بالتنسيق مع الجريدة وتم غرزه في مواقع مختلفة طيلة الفترة على بعض اشارات المرور وفي بعض الجوامع والاماكن العامة في العاصمة عمان. وافاد ان الشحاتة مهنة مربحة اذ انه جمع مبلغ (18) دينارا وستون قرشا خلال ثلاث ساعات ونصف, في حين ان مبلغ (5) دينارات اردنية تجمع خلال خمسة ايام. واوعز ذلك الى طيبة الناس والتوجه الخير لديهم. وان اكثر ما آلمه ان رجل طاعن في السن قدم له عشرة قروش قد يكون بحاجة اليها مؤثرا حب فعل الخير. وقال الصحفي ان الملفت للنظر انه خلال ثمانية عشر يوما لم يوجد اي شخص من المعنيين في وزارة التنمية الاجتماعية المتابعين والملاحقين للمتسولين!!. لكن وزير التنمية الاجتماعية رياض ابو كركي اجاب ان الوزارة تقوم بحملة اعلامية مع اتخاذ اجراءات صارمة. منسقة مع وزارة العدل وعمل دراسات لاحتياجات المتسولين الحقيقية اضافة الى محاضرات وندوات وورش عمل ونظرة الدين الاسلامي في ايجابية العمل. واضاف ان هناك اجراءات حجر للمتسولين وجمعهم وتثقيفهم من خلال محاضرات. وانا شخصيا لا اعتقد ان اية من المحاضرات قد تفيد مالم تكون ضمن برنامج عمل متكامل واهمها تلبية احتياجاتهم الضرورية من خلال صندوق الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل وكبار السن, وتقليص نسبة البطالة في المجتمع, والتشدد في الزامية التعليم, حتى لايستغل الاطفال في امتهان التسول وابعادهم عن حقل التعليم. في زمن الجمهورية العربية اليمنية في عطلة العام الدراسي 83/1984 كانت هناك بادرة طيبة تقدمت بها وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل حينها, وهي تشغيل طلبة وتلامذة المدارس في العطلة الصيفية في مختلف وزارات ومؤسسات الدولة. اذ كانت تعلن الوزارة عبر وسائل الاعلام عن امكانية تقدم الطلبة الى وزارتها لتنسيق ايجاد عمل لهم في مدة العطلة الصيفية, ويتم تسليم كل متقدم بطلب رسمي غير ملزم لجهات العمل من الوزارة مخاطبا الوزير او المدير العام المعني بضرورة تشغيل الطلاب كبرنامج حكومي يكسب الخبرة ويشغل الوقت ويستفيد الطالب ماديا ومعنويا في فترة الصيف, وقد حصلت على مثل هذا الطلب في تجربة فريدة رائعة بكل يسر وسهولة للعمل ضمن برنامج العطلة الصيفية في المؤسسة العامة للتجارة الخارجية وكان الراتب الشهري حينها (2500) ريال اضافة الى بعض الحوافز المالية المرتبطة بالعيد وغيره. وكان الريال وقتها له قيمة امام الدولار, تمكنت من جمع رواتب ثلاثة اشهر كفتني صرفة متطلبات العام الدراسي القادم, معفيا والدي من هم وغم صرفة السنة الدراسية وكان بلاشك سعيدا بذلك. ان مثل هذه البرامج والانشطة جيدة يمكنها ان تحد من تسول الاطفال والصبية وان تشغل وقتهم بماهو مفيد ويزيدهم احتكاك وخبره وتفاعل ايجابي مع المجتمع. قال رئيس جمهورية احدى الدول انا لا اريد وزيرا يقول لي ان واحد وواحد يساوي اثنين, لان هذا بديهي انا اريده ان يوجد ارقاما, ويخلق ظروفا غير موجودة, ليستحق وظيفة الوزارة ولقب وزير.
ــــــــــ
* باحث اكاديمي
#حافظ_سيف_فاضل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟