|
ماذا فعلنا بهذا البلد
ناهد بدوي
الحوار المتمدن-العدد: 886 - 2004 / 7 / 6 - 05:15
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ماذا فعلنا بهذا البلد "سورية بعيون فرنسية" ناهد بدوية كل شيء هنا له نكهة طيبة، الخضار، الفريز، البرتقال، الهواء... كل شيء هنا له طعم ورائحة عطرة لا نمتلكها في بلادنا. عندما أعود إلى فرنسا سأقول لأصدقائي: إن لسورية رائحة تشبه رائحة ماء الورد. بلدك جميل يا ناهد والناس عندكم رائعون بحفاوتهم وحرارتهم ودفء استقبالهم. إنها أجمل رحلة نقوم بها في عمرنا. لقد زرت بلادا عديدة بحكم عملي بالإضافة إلى رحلاتي السياحية ولكني لم أر بلدا يجمع بين الحداثة والعراقة على هذا النحو الفريد مثل سورية. ولم أر شعبا مضيافا ودافئا مثل السوريين. عندما كان يحيطني ضيوفي الفرنسيون بهذه الجمل وغيرها في كل مكان وفي كل مناسبة كانت الدموع تنهمر من عيني ولم أكن أعرف لماذا؟؟ هل هي دموع الفرح والفخر لأني أعيش بهذا البلد الذي أعجب الفرنسيين؟ أم إنها دموع حزن وقهر لهذا الفارق بين شعوري بالاختناق في هذا البلد، وبين شعورهم بالفرح والسعادة عندنا!؟. عندما كنت في فرنسا وأشتاق لبلدي وأرنو باتجاه الجنوب كنت أصطدم دائما بصورة الضباب الأسود الكثيف الذي يغطي المنطقة بكاملها. وعندما كنت أدعو الأصدقاء الفرنسيين الذين لم يسبق لهم زيارة سورية إلى زيارتها، كانت تعتريهم الدهشة والاستغراب لهذه الدعوة!! إذ هل يعقل أن يدعى أحدا إلى بلد في منطقة متوترة لا يمر ذكرها إلا عبر أخبار الحرب مع إسرائيل أو أنها على حدود العراق وأخبار أسلحة الدمار الشامل!!! هذا من جهة ومن جهة أخرى فهم لا يعرفون عن معالمها الداخلية وناسها سوى الإرهاب والسجون وانتهاكات مستمرة لحقوق الإنسان. عندما كنت أقول لصديقتي تعالي زوري تدمر وآثارها العريقة كانت تجيب لا لا أريد زيارة تدمر، تدمر هي أبشع سجن سمعت عنه في حياتي. وأقول لها تعالي زوري معلولا ذات الصخور الرائعة والبلد الوحيد الذي مازال سكانه يتكلمون اللغة الآرامية، لغة المسيح، حتى الآن. وجارتها صيدنايا وديرها الشهير. فتجيبني: صيدنايا نعم أسمع بصيدنايا هو سجن سياسي كبير أليس كذلك؟. عجبا هل تدعوني لأزور سجن صيدنايا السياسي!؟ نعم هكذا تحولت سورية من بلد تعبق منه رائحة التاريخ، الذي قال عنه مدير متحف اللوفر "كل انسان في العالم له وطنان، سورية ووطنه الأصلي". إلى بلد لم يعد وطنا حتى للسوريين. والغريب أنني عندما كنت أسمع هذا الكلام عن سورية كنت أخجل وأشعر بالعار يلفني. وهو شعور جديد لم أعتده من قبل. فعندما أكون في سورية أشعر بالغضب والاعتراض على مايحصل أشعر بالقهر وربما بالعجز ولكن أن أشعر بالخجل فهذا كان شعوراً جديداً، كأننا أمام الغرباء لا نستطيع الدفاع عن حقيقة "هم أرادوا لها ذلك" أو "هم فعلوا ذلك" و تجد نفسك مسؤولا شئت أم أبيت عما يحصل في بلدك!! أنت جزء منه وبالتالي عليك مسؤولية هذا الجزء مما حصل وما يحصل. نعم كنت أشعر بالخجل من تفاصيل كثيرة كنا نُسأل عنها. ولكني، وكنوع من الدفاع عن النفس كنت أحيانا أتجاوز هذا الشعور وأقول أنتم أيضا مسؤولون عما حصل وما يحصل في بلادنا، فقد صدّرتم إلينا مشكلتكم مع اليهود. وبلادنا كانت متعايشة معهم جيداً، إلى درجة لا تستطيعون حتى مجرد تخيلها. صدّرتم لنا مشكلتكم فاستوطنت الحرب في منطقتنا. وابتلعت جيوشنا جلّ مواردنا، وتغولت هذه الجيوش حتى التهمت مجتمعاتنا نفسها، وصار استمرار التوتر في المنطقة مصدر لاستمرار أنظمتنا. نعم أنتم مسؤولون أيضاً وعليكم، أنتم الشعوب الأوروبية التكفير عن خطايا دولكم تجاهنا! ولكن هذا كله لم يساعدني على التخلص من شعور الخجل والمسؤولية اللذان كانا يغمراني كلما دار الكلام عن سورية. نعم هكذا هي صورة سورية حرب وتوتر وإرهاب، سجون ومعتقلات. أما سورية التاريخ العريق والشعب المضياف والتنوع الجغرافي من صحراء وجبال خضراء وجبال جرداء وساحل متنوع. سورية التنوع والتعايش الديني الفريد في العالم كله. هذا التعايش الذي لم تستطعه أوروبا في الماضي. ولا يستطيع الغرب استيعاب أننا نعيشه في الوقت الحاضر. وما تعامل أمريكا مع العراقيين على أنهم سنة وشيعة إلا دليل على ذلك . كل ذلك غطاه ستار سميك وضاغط على الأنفاس حتى التعب. عندما جاء أصدقائي الفرنسيون إلى سورية بعد تجاوز عتبة حاجز الخوف بسبب توطد العلاقة بيننا. وبعد تجاوز كل تحذيرات أصدقائهم من خطورة هذه الزيارة. جاؤوا إلى سورية يتحملون المخاطر في سبيل رؤية أصدقائهم. نعم أصبح السفر إلى سورية يعتبر مغامرة غير محمودة العواقب. جاء أصدقائي الفرنسيون لزيارتنا في سوريا وبدأت بالنسبة لي رحلة إعادة اكتشاف بلدي بعيون أخرى، بعيون فرنسية. في اليوم الأول ركبنا سيارة أجرة معا وذهبنا إلى مركز دمشق الحديث لتبديل النقود. فرحت بسبب وجود مكان رسمي لتبديل النقود وليس السوق السوداء كما في السابق. في الطريق من المنزل إلى البنك كان الطريق جميلا فقد كانت الغوطة على يسارنا وأبنية وحدائق خضراء على يميننا. والسيارة تسير بسلاسة على اوتوستراد ركن الدين الذي طالما أحببته, ولكني أحببته أكثر في تلك اللحظة وشعرت بالفخر. ولكن ما أن اقتربنا من مركز المدينة والزحام حتى استيقظت من افتخاري على صراخ ضيفتي فرأيت سيارة تنعطف فجأة إلى اليمين باتجاه سيارتنا ولكنها مرت بسلام. دهشت لصراخها فهذا شيء عادي جدا عندنا وتعودنا على حدوثه في كل لحظة ونظنه من أصول قيادة السيارات!! ثم سألني ضيفي لماذا يزمّرون؟ ماذا حصل؟ دهشت مرة أخرى، إن زعيق السيارات شيء عادي جدا ولا يدل على أن حدثا جللا قد وقع. وأجبته بأن الشعب السوري اجتماعي جدا لذلك فهم يدردشون مع بعضهم عبر الزمامير!! وبعدها صرت كلما وُجدت في مركز المدينة ينتابني صداع من الزمامير وأحقد على ضيوفي لأني تنبهت كم هي مزعجة!! وصلنا إلى البنك وقمنا بما نريد وتمشينا في الصالحية ووصلنا إلى ساحة عرنوس، أعجبهم كل شيء وقالوا لم نكن نتوقع أن سورية بهذه الحداثة. جلسنا على مقهى رصيف يشبه مقاهي الرصيف الباريسية. وكان صاحب المقهى لطيفا ومضيافا. عدنا إلى المنزل وأنا أشعر بأن الجولة الأولى لمصلحة بلادي وكنت سعيدة جدا. لأنهم، فيما عدا فوضى المرور وصراخ الزمامير، كانوا سعداء جداً. في المساء لم يكونوا سعداء وحسب بل بدأ السحر يتملك روحهم. فقد ذهبنا إلى دمشق القديمة وأعدت أنا معهم اكتشاف سحر وعبق قلعة دمشق وسوق الحميدية والأسواق المتفرعة عنه والجامع الأموي. ولأول مرة أحضر سهرة للحكواتي في مقهى النوفرة. في اليوم التالي ذهبنا إلى معلولا وصيدنايا والشيروبيم.وكان السحر يزداد ويتعمق. وفي كل مرة نكون مجموعة كبيرة من الأصدقاء الذين يتسابقون على دعوتهم والاحتفاء بهم. وفي وسط عائلتي تحلق حولهم الأطفال والمراهقون والكبار يسألونهم: هل أعجبتكم بلادنا؟ ويفرحون حين يجيبونهم بكل صدق: نعم لقد أعجبتنا جدا. وقد أعجبنا أكثر أنتم السوريين. في مدينة أوغاريت التي تعود إلى أكثر من ألف سنة قبل الميلاد دهش الأصدقاء من تقنية العمران فيها. وقد كان تعليق صديقتي عندما رأت تمديدات المجاري الصحية القديمة: " يبدو أننا لم نخترع أشياء كثيرة بعدكم". في قلعة الحصن لم يفتنهم سحر القلعة وجمال إطلالتها فحسب، وانما كانت السياحة هناك في عيون البشر. كان اليوم يوم جمعة وكانت القلعة مليئة برحلات المدارس الربيعية. وكل مجموعة كانوا يمرون بها يتسابق أفرادها على تحيتهم، و يطلبون التقاط الصور معهم. وكانت المراهقات محجبات وغير محجبات يتسابقن على الترحيب بهم والدردشة معهم بما يعرفن من كلمات فرنسية وإنكليزية بعفوية متدفقة وساحرة. وكن يدعونهن إلى بيوتهن بكل صدق وحفاوة. الأطفال والمراهقون هم ضمير أي مجتمع بشري وهم يحملون المشاعر والذاكرة الجمعية وخصائص الشعوب ما قبل مرحلة الأدلجة واختيار المواقف المختلفة. وقد تبين لي أن حب الأوربيين متغلغل في خلايا السوريين وجيناتهم وكأن شيء ما في الأسطورة القديمة صحيح، تلك الأسطورة القائلة بأن أوروبا هي بنت سوريا. السوريون يتعاملون مع الأوربيين بحب والأوربيون يشعرون بالحب والانتماء إلى هذا البلد. الأوربيون الذين أتيح لهم العيش في هذا البلد وملامسة روحه، لا كسواح يرونه من الخارج، رغم أنهم أيضا يشعرون بعبق ما خاص. وهذا ما كنت ألمسه دائما عند احتكاكي مع المجموعات السياحية التي كنت أصادفها في مقهى النوفرة. ذات مرة قالت لي صديقة سورية تعيش في فرنسا إنها تعرف مخرجا سينمائيا فرنسيا يعشق سوريا، ويريد إخراج فيلمه الجديد فيها عله يصل إلى سر عشقه الكبير لهذا البلد!! حينها أيضا، دون أن ندري ذرفنا دموعا مرّة، أنا وتلك الصديقة.
#ناهد_بدوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
العاصفة رفع قانون الطوارئ في حالة الطوارئ فقط!!!
-
الباب الأخير
-
المرسوم رقم 6 نكث صريح للعقد مع طلاب الهندسة
-
عبد الرحمن منيف أيها الشرق الأوسط وداعاً
-
هنيئا لك أيتها المرأة المحجبة في فرنسا
-
لنغفر ليوسف إدريس قسوته علينا
-
الجدار العازل في فلسطين في عصر انهيار الجدران!!؟
-
منبر يساري حر في زمن ندرت فيه المنابر اليسارية الحرة والمنفت
...
-
اعتذار من نزار قباني
-
سياحة في العيون الحرة
-
الخيارات الاقتصادية في سورية والحركة النقابية الحقيقية
-
المنطقة العربية بين مطرقة املاءات دافوس وسندان التأخر والركو
...
-
الديمقراطية حاجة موضوعية في بلادنا مخاطر للاحتلال الأمريكي ع
...
-
الشباب ضمير البشرية في مناهضة العولمة والحرب
-
هل يرى السوريون ضرورة مناهضة العولمة ؟
المزيد.....
-
روبرت كينيدي في تصريحات سابقة: ترامب يشبه هتلر لكن بدون خطة.
...
-
مجلس محافظي وكالة الطاقة الذرية يصدر قرارا ضد إيران
-
مشروع قرار في مجلس الشيوخ الأمريكي لتعليق مبيعات الأسلحة للإ
...
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|