طارق الهاشم
الحوار المتمدن-العدد: 2912 - 2010 / 2 / 9 - 17:41
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في عمله المعنون (الرغبة الأخيرة للسيد المسيح) يقدم كزانتزاكيس مسيحاً يعذبه الصراع بين ما هو الهي في طبيعته وروحه البشرية, التي تتعرض للاغواء من قبل الشيطان بالمتع الأرضية الطيبة والحياة الهانئة ولا ينقذها من الركون الي الدعه إلا اللقاء مع يهوذا الاسخريوطي صاحب الناسوت الأقرب للكمال فتعود قوية وقادرة على تقبل عار الصليب ليس من أجل الفداء وانما من أجل كمال الانسان.
تبدأ الرواية بمشهد يسوع الناصري: النجار الذي يصنع الصلبان االرومانية التي يعذب عليها الثوار اليهود ضد حكم روما ويستحق لذلك لعنات سكان مدينته الصغيرة , ومع تقدم الرواية نكتشف شيئاَ فشيئاً أن ما هو الهي في يسوع قد أحال حياته الأرضية إلى جحيم : عجز الأب يوسف , نوبات الاغماء التي تعتريه بالاضافة إلى الكوابيس الدائمة ونلحظ عذابات مريم : الأم التي لا نرغب في أكثر من ابن عادي بزوجه واطفال وحياة هانئة لا تعكرها المعجزات وعلى النقيض فإن كل سكان الناصرة يرغبون في المسايا المخلص الذي سيقود الشعب للخلاص من الحكم الأجنبي ويعيد مجد سليمان حاكم أورشليم مدينة السلام. ويعتقد كثيرون أن يسوع ربما من بين كثيرين مفترضين سيكون هو المسايا ولكنهم يحقدون عليه بسبب عمله المشين في صنع الصلبان, وفي الوقت الذي يكف فيه يسوع عن مقاومة ما هو الهي في داخله وينطلق للدعوة بالمحبة في أرض فلسطين فإن الزيلوت وهم الجماعة السرية المقاومة للرومان يكلفون أحد زعمائهم المدعو يهوذا بالقضاء عليه ويلتقى الاثنان في غرفة للمبيت في كنيس: حيث يفاجأ يهوذا بالتطور الغريب ويغالبه الشك في كون يسوع هو المخلص الذي تبشر به التوراة فيقرر الانتظار وعدم التسرع - ولكنه يبلغ الناصري بوضوح بأنه سيقتله إن تبين أنه ليس المسيح ويلازمه كظله فارضا سلطة واضحة كرجل لا يقبل انصاف الحلول مميزا نفسه عن باقي الاتباع الرخوين الذين تراودهم أحلام المجد ولا يرون في دعوة المسيح إلا ما هو رائع - سيكون ملكا وسنكون قواده ووزرائه :يقول أحد الحواريين في حلم يقظة مسموع.
تتناول الرواية لذلك موقف الناس العاديين من دعوة يسوع – زبدي التاجر وصاحب الأرض الذي يرى أنه يفقد ابنيه وزوجته العجوز لصالح الدعوة الجديدة والذي لا ينفك يبدأ كلامه باثنين زائد اثنين يساوي أربعة وهو لا يكره الرومان لأنهم يحافظون على النظام ويمنعون الغوغاء من السطو على ممتلكاته. وسمعان القيرواني صاحب الخمارة في القدس الذي يشتبك مع الغوغاءالراغبين في صلب يسوع لمجرد أن الحواريين كانوا زبائنه -هويعتقد أن الرجل يجب أن يدافع عن معارفه- ويعود للخمارة ليجد الحواريين مختبئين خلف براميل الخمر فيطردهم معتبرا أنهم قصروا في واجبات الصداقة . تمتلئ الرواية كذلك بالعديد من الشخصيات التي يعرفها كل قارئ للكتاب المقدس بدءاً بالتلاميذ ومريم ومرثا أختا الرجل الذي يقيمه يسوع من الأموات والمجدلية المرأة الخاطئة ابنة الرباي التقي وهي في نفس الوقت ابنة عم يسوع. واسر التلاميذ والناس الذين قابلوهم في الطريق في اعادة سرد لكثير من احداث العهد الجديد ولكن برؤية مختلفة.
لمن يعرف المؤلف فإن هذا العمل هو أكثر أعماله حيوية واصالة وهو بالتأكيد أفضل بكثير من روايته الشهيرة زوربا – ويكاد يظهر نفس كزانتزاكيس الناري في كل شخصيات الرواية ولكننا نلاحظ أن الشخص الأكثر قرباً من المؤلف هو يهوذا حيث يحمل الكثير من ملامح والد المؤلف وجده اللذين حاربا ضد الحكم التركي لكريت حتى حازت الاستقلال.
ويمكن النظر لحياة المؤلف نفسه في شخص يسوع الذي يصارع الالهي داخله وفي النهاية يستسلم للمشئية - ولكنها نهاية زائفة لأنه سيكون مضطراً بعدها لاستكمال بشريته هو لتحقيق الخلاص. الجو العام لفلسطين في الرواية مشابه لذلك الذي غمر كريت أثناء حرب الاستقلال عن الحكم التركي في منتصف القرن التاسع عشر- الاضطراب المدني والجمعيات السرية, مظاهر الشجاعة وخيانة الزعماء وكذا سطوة المحتل وانتصاره النفسي على الشعب البسيط والايمان بالحرية متقاطعا مع الرغبة في العيش بسلام.
في الفصل الأخير من الرواية وعندما يصرخ المصلوب "ايلي ايلي" يبدا عمل الشيطان الملازم للرب. حيث يحس يسوع بالتحرر من الصليب ويذهب مع الشيطان بعيدا من القدس إلى قرية صغيرة حيث يتزوج الاختين مريم ومرتا ويعيش متع الحياة الهانئة: العمل في ورشته حيث يصنع الطاولات والمهود, العودة متعبا للمنزل لحضن الزوجات, رائحة أطفاله الصغار, فرحة ولادة ابنه البكر وممازحات الأسرة حول مائدة الطعام والاسترخاء - بعد أن بدأ الشيب يحيل رأسه إلى اللون الفضي - تحت شمس االصباح ومراقبة الأبناء البارين عائدين أو ذاهبين إلى أعمالهم محاطا بالعطف البشري وذلك الشعور الدافئ الذي يذيب قلوب أشد الرجال تصميماً - الجنة التي تبرع النساء في خلقها هنا وعلى الأرض, جنة الرضا والقناعة.
في جنته الأرضية حيث الاغواء الحقيقي للنفس لا ينغص على يسوع إلا بعض المارين من وقت لآخر: شاؤول الطرسوسي الذي يخلق مسيحا من خياله سيحكم به العالم يفاجأ بوجود المسيح هانئا على الأرض ولكنه يعلن باحتقار أن الأمر لا يهمه .لأن الناس ستعبد مسيحه الذي خلقه هو- ولن يسمح لنجار بأن يفسد عليه خططه. التلاميذ الذين صاروا شيوخا محنيي الظهر ممتلئين بالخوف والتفاهة لن يستطيعوا ايضا اثناء يسوع عن جنته الأرضية - وحده يهوذا صاحب النفس القلقة الكاملة كمالا بشريا ينجح في اخراج المسيح من وهدة جنة القناعة واجباره على استكمال ما بدااه معا - اتفقا على أن يسلم يهوذا, يسوع إلى الصلب فاسحا الطريق لمجده بالاكتمال ومتحملا لعنة المؤمنين الأبدية بعد ذلك حتى نهاية الأيام .وعندما يقرر المسيح العودة بشرياً كاملا إلى الصليب يخنس الشيطان وتكتمل الصرخة "لم شبقتني".
هذا العمل مكتوب بقلق شديد كما هي أعمال كزانتزاكيس الاخرى وبخاصة "تقرير إلى جريكو" وقد اعتبرت الكنيسة هذا العمل هرطقة معاصرة ولمن لم يطلع على المسيحية بعمق لا ينصح بقرائة هذا الكتاب إذ إنه سيكون مشوشاً جدا إذ أن رؤية المؤلف لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة بين الناسوت واللاهوت تخالف جدا الرؤية المسيحية التقليدية مما جعل الكنيسة تتصدى لنشر الكتاب ولاحقا لتحويله إلى فيلم سينمائي ويمضي كزانتزاكيس بعيدا في الصراع الداخلي مستلهما جزئيا تقاليد الرهبان الارثوذوكس الاغريق ولكنه يعلن بدون مواربه عدم حوجة الإنسان إلى مخلص لأن النفس البشرية قادرة على ايجاد خلاصها دائما. الكتاب ذو قدرة تبشيرية قوية جداً وينصح بقرائته بانتباه إلى محاولات المؤلف خلق لاهوت جديد تماما متعارض مع عقيدة الفداء.
#طارق_الهاشم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟