حالــة رثــة!
في الاول والثاني من شهر تموز 2002، عقد مؤتمر حزب العمل الذي افترض ان يحدد طريق هذا الحزب السياسي بعد ان تحول الى شريك متوسط الحجم في ائتلاف حكومي برئاسة شارون، وعلى خلفية جوقة اعلامية تنعي الحزب وتعلن انهاء مهمته التاريخية، ولا تتحمس الا للتنافس على زعامة الحزب بين قياداته. ورفض المؤتمر التصويت على مغادرة حكومة الوحدة مع الليكود، كما رفض عمليا خيار الإنفصال عن الضفة والقطاع من طرف واحد.
وازاء هذه الحالة الرثة بدا توديع البروفسور المؤرخ شلومو بن عامي بالتصفيق والاحترام مزيفاً ومصطنعاً، اذ ظهر كأن الحزب الغارق بالانتهازية والتائه بين الطروحات السياسية يشتاق الى نغمة اشتراكية ديموقراطية والى من يوبخه. لقد انفطر قلبه للحظات عند سماع التوبيخ الذي يذكره بحالته المريعة ليعود بعدها الى الواقع المر، واقع ممارسة الانتهازية الحزبية داخلياً والمشاركة في قمع واضطهاد الشعب الفلسطيني كأهم شريك لشارون في هذا السياق.
وكما كان وداع شلومو بن عامي مزيفاً كذلك كانت مبدئية الرجل الداعي الى الانسحاب من حكومة شارون لسبب وحيد هو عدم قدرته على المنافسة داخل هذا الحزب طالما كان شريكاً لحكومة شارون. يتحمل هذا المؤرخ المسؤولية مع باراك عن الاعلان التاريخي انه لا يتوفر شريك فلسطيني لاسرائيل في "عملية السلام"، بحيث استنتج باراك منه ضرورة التمسك بحكومة وحدة وطنية اسرائيلية تواجه التحدي الفلسطيني بقوة السلاح والقمع والاحتلال، في حين استنتج بن عامي ضرورة البحث عن حل دولي مفروض من الخارج.
والشيطان وحده يعلم ماذا يعني هذا الاستنتاج خاصة بعد ان صرح جورج بوش، وصارح العرب وحزب العمل، "برؤيته" التي طال انتظارهم لها.
من المبكر نعي حزب العمل. فهو حزب يمثل قطاعاً اجتماعياً موجوداً، كما يمثل مزاجاً سياسياً مختلفاً عن مزاج الليكود والاحزاب الدينية. ولكن قوته في هذه المرحلة تتطابق بشكل يكاد يكون كاملاً مع الحد الادنى من الشرائح الاجتماعية التي تلتف حوله والتي لا تكفي حتى من الناحية الديموغرافية المحضة لتبرر كيانه كحزب اسرائيلي كبير.
لقد فقد حزب العمل مشروعه السياسي في كامب ديفيد لأنه حاول باعتراف باراك في مقابلته النادرة مع دان مارغليت (التلفزيون الاسرائيلي، يوم 2-7-02): اولا ان يخدع الفلسطينيين في كامب ديفيد. لقد اعترف باراك في المقابلة انه قبل بافكار كلينتون "فقط كأساس للمفاوضات". اي ان باراك افترض انه اذا قبل الفلسطينيون تلك الافكار سوف يوضع اساساً جديداً للتفاوض وليس للأتفاق، وهكذا لم يسمع احد ما الذي اقترحه باراك في كامب ديفيد لأنه لم يقترح شيئاً.
كما خسر حزب العمل ثانيا لأنه، كما قال باراك في المقابلة نفسها، حاول ان يثبت للعالم ان الفلسطينيين لا يريدون السلام. وقد بدا باراك فرحا جذلا قانعا بذاته عندما قام بتكرار ما قاله عنه الفلسطينيون، على حد تعبيره، انه اخطرمن نتنياهو لأنه يتكلم بشكل ناعم والعالم معه ومع ذلك لا يتنازل في المفاوضات.
فهل ربح حزب العمل عندما اثبت للعالم ان الفلسطينيين "يرفضون اليد الممدودة للسلام". لقد نجح حزب العمل عندما اثبت ذلك بطريق الخداع للعالم وللاسرائيليين، ولذلك ايضاً خسر الحزب في المجتمع الاسرائيلي نفسه. فقد بنى تميزه عن الليكود منذ مرحلة شامير على انه مستعد للتفاوض مع الفلسطينيين على حل وسط تاريخي يتجاوز الحكم الذاتي الذي اقترحه بيغن وعلى مساحة اكبر من التي اقترحها يغئال الون، ومع م.ت.ف كشريك تفاوضي وليس مع الاردن. لقد افشل باراك هذا المشروع السياسي، وتبعه حزب العمل كله لأنه اراد ان يضع الشعب الفلسطيني كل اوراقه على طاولة المفاوضات مقابل اي تقدم في صياغة الحل الدائم، ولم يكن مستعداً اطلاقاً للتقدم بشكل تدريجي او بمراحل انتقالية قبل ان يقبل الفلسطينيون بالاملاءات الاسرائيلية (وهي اقل بكثير من افكار كلينتون) فيما يتعلق بالحل الدائم. فماذا حصل في النهاية؟ لقد اطلق حزب العمل النار برجله في كامب ديفيد من اجل عدم التقدم، وكانت النتيجة ان انضم الى حكومة بقيادة شارون تبحث عن شريك فلسطيني او تحاول ان تخلق شريكا فلسطينيا لمرحلة انتقالية طويلة المدى.
بعد ان خسر حزب العمل قواعده الاجتماعية القديمة التي تمثلت بالطبقة العاملة الاسرائيلية الواسعة نسبياً والمنظمة في الهستدروت، وقطاعات الإستيطان الزراعي المتداخلة و المتشابكة مع قيادة الجيش في الماضي والمنقرضة تدريجيا بفعل تغير طبيعة الاقتصاد الاسرائيلي، وبعد ان تضررالحزب سياسيا وانتخابيا من لبرلة المجتمع بإزدياد قوة اليهود الشرقيين السياسية وانتشار سياسات الهوية التي تشمل تأكيد الذات ضد تاريخ حزب العمل بمجمله، حاول الحزب من اجل العودة لاحتلال السلطة ان يرتكز الى اسس وقواعد جديدة.
وكان من الطبيعي ان يبحث عن ركائز جديدة لها علاقة بالبنية الاجتماعية المتشكلة وذلك بتوثيق العلاقة مع الطبقة الوسطى الاخذة بالاتساع، وبترسيخ ونشر الثقافة المدنية التي تشرعن الاستناد الى الصوت العربي في دولة اليهود دون منح المساواة الكاملة للعرب، وبالتأكيد على العلاقة بين الرخاء الاقتصادي "وعملية السلام" الامر الذي قد يكسبه قطاعات من المجتمع تتجاوز قاعدته الاجتماعية الضيقة، وبالاستناد الى التحالف المطلق مع الولايات المتحدة الامريكية، وهو الحزب الاكثر تفهماً للمصالح الامريكية والاستراتيجيات الامريكية، خاصة اذا ما قورن باليمين.
لقد وصل باراك الى السلطة عائماً على هذه الموجات البيانية التي ترسم العلاقة بين الاقتصاد والسياسة، خاصة بعد فترة نتنياهو التي شوقت الناس لفترة رابين.
ولكن حزب العمل حال وصوله الى السلطة للمرة الثانية بعد ازمته الطويلة منذ الانقلاب الليكودي الاول عام 1977، تخلى منجرا وراء خدع باراك وقصر نظره عن احلام وامال الطبقة الوسطى المتعلقة باصلاح العلاقة بين الدين والدولة. كما ردعه تحريض اليمين عن تطوير التحالف مع الصوت العربي بشروطه هو والتي أدت الى عملية اسرلة خطيرة لعرب الداخل بانت نتائجها على مستوى أزمة الهوية العربية في مرحلة رابين.
وبلغت خيانة حزب العمل ذروتها في مواجهة احتجاج المواطنين العرب بالحديد والنار في اكتوبر2000 مع بداية انتفاضة القدس والاقصى. وقد خسر حزب العمل "عملية السلام" والرخاء الاقتصادي الذي رافقها ليرتد الاقتصاد بشكل كامل وبزاوية حادة نحو الجمود والبطالة وانخفاض معدلات النمو وتوقف الاستثمارات. واخيراً خسر حزب العمل عندما تحولت الادارة الامريكية بعد 11 ايلول لتبني خطاب اليمين الاسرائيلي على مستوى المنطقة كلها، وتحديداً على مستوى الصراع مع الفلسطينيين "ومكافحة الارهاب". وقد اغلق خطاب جورج بوش الباب نهائياً على محاولة حزب العمل العودة الى الحكم على اساس التحالف مع سياسات الولايات المتحدة الفلسطينية. لقد احتضن هذا الخطاب لغة اليمين الاسرائيلي واحتضنته. ولم يفرح لهذا الخطاب من حزب العمل الا باراك الذي خسر السلطة لشارون، وشعر الاخرون بالحرج الشديد ازاء هذا الخطاب. لأنه برر لشارون كل ما يقوم به.
ولكن ما الذي يقوم به شارون؟ انه بالضبط ما ينفذه وزير امنه زعيم حزب العمل بن العيزر، فلماذا الحرج اذن؟ لانه في اثناء تنفيذ قادة حزب العمل مهام حكومة شارون على مستوى الامن والخارجية يتطلع هؤلاء الى الولايات المتحدة منتظرين المدد على شكل ملاحظات نقدية أمريكية على اداء شارون توفر عليهم عناء مواجهته وتجعل بامكانهم "معاتبة" شارون لان عليه حتى اثناء "مواجهة الارهاب" وحتى اثناء "الوضع الامني الصعب" ان يطرح خيارات سياسية. ويبرر حزب العمل الخجول في ظروف الهستيريا القومية ضرورة طرح الخيارات السياسية بتوفير الحرج على اسرائيل دولياً. وجاء بوش ليقول لليمين الاسرائيلي: صحيح ان الحل الدائم في النهاية هو حل الدولتين ولكن لا حرج عليهم، ولا هم يحزنون. والحزين الوحيد هو حزب العمل، لأن خطاب بوش قد وهب شارون شيكاً مفتوحاً من التبريرات. وبقي ان ينتظر حزب العمل تلبية الفلسطينيين شروط بوش واستمرار شارون بالتعنت رغم تلبيتها، لكي ينشأ سوء التفاهم المنتظر بين امريكا واليمين الاسرائيلي. تذكر هذه الاستراتيجيات البائسة بالاستراتيجيات الفلسطينية خاصة لدى اولئك الذين ينتظرون رضى امريكا، او اولئك الذين ينتظرون ان تزعمهم امريكا.
وفي هذه الاثناء علينا ان نعود الى المفاهيم الحزبية والانتهازية الضيقة لفهم سياسة حزب العمل. سوف يترك حزب العمل الحكومة حالما يحسم بن اليعزر مسألة رئاسة القائمة الانتخابية لصالحه ضد حاييم رامون. وهو لا يستطيع حسم الصراع بشكل مؤكد الا بوجود الحزب في الحكومة ووجوده هو كوزير. فمن غير المعقول ان تحسم المعركة ضد المنادين بالخروج من الحكومة اذا طبق مطلبهم وخرج من الحكومة. ولكن بعد ان تحسم قضية التنافس على زعامة الحزب في نهاية العام الحالي قد يستقيل الحزب من الحكومة في بداية العام القادم بغرض "التميز" عن الليكود وخوض معركة الانتخابات ضده. وهذه اعتبارات رثة تصلح لوضع سياسة رثة في ظروف احتلال وحشي مستبد للمدن والقرى الفلسطينية وفي ظروف طوارئ على مستوى الحياة السياسية والاقتصادية باتت تؤدي الى هيمنة خطاب اليمين الاسرائيلي المتطرف على الحياة العامة .
*عضو في البرلمان الإسرائيلي "الكنيست" ورئيس التجمع الوطني الديمقراطي- الناصرة.