أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - صائب خليل - الجيش الصغير والحلم القديم بالسلام















المزيد.....

الجيش الصغير والحلم القديم بالسلام


صائب خليل

الحوار المتمدن-العدد: 884 - 2004 / 7 / 4 - 06:21
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


عرفت لطيف في جامعة الموصل. كان يروي القصص عن طفولته في قريته (الكروية) في جلولاء, عن اللعب واللهو والضحك, وعن الفقر ايضا, حيث كان من يرتدي "لباسا" من الصبيان, موضع اعجاب وحسد الاخرين.
كلما اصاب الهم احدنا, كان لطيف يقول: "انظر الى الامر بعد 5 الاف سنة..اليس الامر تافها؟". " لم خمسة الاف بالذات؟ الا يكفي الف؟" "لا ادري..خمسة الاف احلى!" "انها تغوش التفاصيل لتجعلك ترى الصورة الكبيرة."

وهكذا قضينا سنينا نقرأ ونفكر ونتحدث ونغني نشازا ونتأمر على العالم ونحبه حبا شديدا. كم من ليلة حالكة "خطينا" بها الكيلومترات السبعة من "الدواسة" الى اقسامنا الداخلية , فنختار طريق الجسر الجديد مرة, والقديم مرات, مارين بعصابات من الكلاب تعوي في ازقة الموصل القديمة ثم بالحقول الممتدة بين "الغابات" و"المجموعة" حتى نصل فراشنا منهكين من المشي والكلام والضحك.
لم تمنع شحة المال لطيف من الاستجابة لنزواته كلما سمح الظرف, او حتى ان لم يسمح. ففي مرة عاد لطيف وقد حمل كيتارين اشتراهما لي وله من اورزدي! ثم عاد بعد اشهر من قريته وهو يحمل عودا اشتراه بمبلغ خيالي هو 30 دينارا! وهل سيذكر احد مبلغ "30 دينار" بعد خمسة الاف سنة؟

تزوج لطيف وصار عنده ما كان يسميه "جيشه الصغير" الذي وصل عدده اخيرا الى 8 اطفال وامهم.

لم يكن سهلا على لطيف ان يعيل "جيشه" في ثمانينات الحرب وتسعينات الجوع في العراق. وحاول الزراعة والتجارة والصناعة فلم ينجح, فلم يكن له عقل "رجل اعمال". كتبت له اشاغبه : "لطيف...ان لم تخسر انت في التجارة فمن يخسر؟". فبعد ان صرف ما لديه وما استدانه ليجمع اجزاء مكائن لصنع الحلويات في بيته, مستخدما "جيشه" كعمال, اكتشف ان كلفة المواد تزيد عن سعر المنتوج, وان الاخرين ينجحون لانهم يستخدمون اصباغا رخيصة خطرة تحتوي مركبات الزئبق تستعمل عادة للملابس, فلعن التجارة والتجار وابتلع خسارته وترك مكائنه الى يومنا هذا مركونة في بيته.

حصل لطيف على ايفاد الى بلجيكا ضمن مجموعة من مهندسي الكهرباء, فجاءني الى هولندا محمل بكمية هائلة من التمر الذي ارسلته لي امي, لانه تورط وقال لها ساحمل لك ما تشائين الى صائب! لكنه لم يأت بالتمر وحده. عندما صرنا لوحدنا قدم لي كتابا ضخما اسود, قال لي "هذا امانة..لاتخبر احدا به. اريدك ان توصله الى سفارة الكويت". الكتاب كان قد سرق من الكويت فترة غزو صدام, واراد لطيف ان يكون رمزا لاعتذار الشعب العراقي الى الكويتيين ورفضه اخلاقية السلب والنهب.

عندما زال الدكتاتور, سارع لطيف لينتظم في حزب جديد يدعوا للديمقراطية وراح يعمل ليل نهار في تأمين الكهرباء من خلال عمله كمدير لتوزيع كهرباء ديالى. ومهما كانت الاخبار سيئة في الاذاعات, كنت اسمح من تلفونه تفاؤلا لاحدود له. بعقوبة ليست مدينة سهلة على الاطلاق, خاصة على مثل لطيف, فكاد يقتل مرة وهو يحاول انقاذ جريحا من موظفيه في تبادل لاطلاق نار.
حين زرت بغداد في نيسان الدموي الذي مضى, ذهبت اليه في بعقوبة ففاجأني ان طلب مني ان احدث موظفيه عن الديمقراطية! لم تنفع اعتذاراتي واعذاري. قال: "كل ما ستقول لنا مفيد..لقد عشت في اوربا وتجربتك مهمة. تعال لاتخف", وكانت فعلا محادثة حلوة ومفيدة.
بعد الغداء شاكست اماليد في نقاش عن الحجاب, وهزبر عن الحاسبات والمستقبل, ثم رحت التقط اصور للجميع, مرة بعلمهم ومرة بدونه.
في المساء اخبرتني اغاريد سرا ان اليوم عيد ميلاد والدها وانهم يحضرون له احتفالا بسيطا. كانت اغاريد قد عادت صباح نفس اليوم من مؤتمر للشباب العالمي في بريطانيا, وكان ذلك انجازا رائعا لفتاة في السابعة عشر من مدينة محافظة مثل بعقوبة. حين فاجأنا لطيف بمؤامرتنا نزلت الدموع من عينيه كطفل صغير, ثم قام وعاد ومعه ديوان ممزق للسياب ليقرأ لنا قصيدة عن الوطن. وحين اقترحت مداعبا ان يستغل كل واحد الفرصة ليقول للطيف رأيه الصريح به, تحدثت بناته واولاده عنه بحب شديد يملؤه الفخر. كنت اراقب القلق الشديد في عيونهم السوداء وهم ينظرون الى ابيهم. فحياته على كف عفريت, وهو لن يتراجع. كان القلق يسودنا جميعا على هذا الانسان الرائع. فكرت: ترى اي كارثة ستنزل على هذا "الجيش الصغير" ان حدث له مكروه!
لم يكن قلقنا بلا اساس, فقبل اسابيع فقط, كان لطيف مع حارس له في الطريق بين بعقوبة وبغداد ليلا, اذ توقفت فجأة السيارة التي امامهم ونزل منها مسلحان صارا يمطران سيارته بالرصاص. ضغط لطيف دواسة البنزين لكن السيارة لم تسر اكثر من مئة متر وانحدرت الى ساقية جنب الطريق فنزل منها وحارسه. كان مهاجماه تحت ضوء مصباح الطريق ولطيف وصاحبه في الظلام فقال الحارس: "انقتلهما؟" قال لطيف "لا..اتركهما".
عاد لطيف ليعقد مؤتمرا صغيرا في اليوم التالي, وكان قد اصيب اصابة خفيفة في ظهره. قال انه يأمل ان يكون لدى من حاول قتله الشجاعة يوما ليأتي ويقول له السبب وجها لوجه. وحين سئل لم لم تقتلهما فهما مجرمان قال "لكي لااصير قاتلا". الا تنتمي الى الشعراء؟ فماذا انت فاعل قرب السياسيين في زمن العنف يا لطيف؟

تجولنا في شوارع بعقوبة. كان يريد الاطمئنان على ان مصابيح الشوارع التي وضعها عماله تعمل كلها. زارها واحدا واحد, فقد كان يعرف مكان كل مصباح! ذهبنا بعد ذلك الى النادي الثقافي و نادي الصم والبكم, مجموعة رائعة الحيوية واللطف من الرجال, واخيرا نادي بعقوبة للشطرنج. في كل من هذه الاماكن كان لطيف يتابع ويسأل عن مشاريع واعمال وغيرها. في البيت عرض علي شريط فيديو يشارك فيه في برنامج لتلفزيون ديالى المحلي, فتحدث للناس كيف تنتج الكهرباء وحثهم على عدم ترك المصابيح مضاءة حين لايحتاجونها. قال لي والالم يعتصره, ان مقدمة البرنامج, التي وصفها بالشابة الرائعة الشجاعة قد قتلت في حادث ارهابي. اقترحت عليه ان يسعى لانتاج فلم وثائقي عنها فسعد بالفكرة.
بقينا نتحدث عن السياسة في العراق والخارج, حتى اجبره الارهاق والنعاس على النوم.

غيلان الذي كان قد فاز لتوه ببطولة العراق لدون 16 عاما كان يجلس جانبا بصمت وينظر بعيدا, وما ان ذهب والده حتى اخرج ساعة شطرنج جلبها من النادي وهو يبتسم. بقينا نلعب الشطرنج الى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل. فاز بمعظم الادوار, لكني لم اتركه يخرج سالما هو الاخر.

عدت الى هولندا, وها انا اقرأ الخبر المريع عن مقتل عائلة مدير كهرباء بعقوبة. اتصلت ببغداد فأكدوا لي انه شخص اخر, لكن لطيف اتصل بي بنفسه صباح اليوم التالي ليقول لي انها فعلا عائلته! اية فظاعة!
كان قد ارسل بناته الخمسة وولده الاصغر يوسف مع امهم الى بغداد وقبل ان تغادر السيارة بعقوبة ضربتها دبابة امريكية, بصلية من رصاص فاشعلت فيها النار, دون ان يعرف احد السبب. وحين حاول احد المواطنين فتح باب السيارة ليخرج من فيها من النار المشتعلة, قتلوه هو الاخر. لم ينج احد منهم, ولا ابن عمهم الذي كان يقود السيارة. جميع مصادر الانباء اذاعت الخبر على ان العائلة قتلت من قبل "مجهولين"! لم يقع للطيف ما كان يخشى احبته عليه منه, بل جاء القدر معكوسا.

تمزق "جيشك الصغير" يا لطيف...مزقه "الجيش الكبير"!

لطيف مازال يقول انه قوي وانه يريد ان يجعل من اطفاله الذين ذهبوا وامهم, رمزا وفداءا للسلام في العراق والعالم, وهو يطلب المساعدة والافكار لتنفيذ ذلك. قال لي انه تحدث بذلك مع هزبر وغيلان وكانوا جميعا متحمسين للفكرة. قال لي انه تراهن مع غيلان ايهما سيقاوم الانهيار اطول من الاخر!

من اين اتيت بكل تلك القوة يا لطيف؟ العلك تنظر مرة اخرى من خلال الافك الخمس من السنين؟ اصدفة ان قبل خمسة الاف سنة ايضا, رسم انسان مبدع اول الحروف, عند اقدام جبل حمرين, حيث تنام قريتك "الكروية" اليوم بسلام تحت المياه. اخطر لذلك المبدع ان الحضارة التي بدأها ستبقى تصارع العنف خمسة الاف سنة, وما تزال؟ لست ادري..لكنه بلا شك كان متفائلا مثل تفاؤلك, وحالما مثل حلمك بالسلام.

---------------------------------------------------------------------------------
* صائب خليل: صحفي عراقي هولندي يعيش في هولندا ([email protected] )
** ملاحظة: وصل لطيف هذا اليوم (30 حزيران) بطاقة كانت اناهيد قد ارسلتها له قبل مقتلها, تهنئه بيوم الاب!




#صائب_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عراقي ارهابي ام عراقي عميل؟
- مداح القمر
- العراق يعبر الشارع الخطر
- لحظة ايها الملائكة
- الانتخابات الاوربية في هولندا: نصر لليسار وهزيمة للحكومة وعد ...
- الهدية الرئاسية
- منطق النمل: غضب عراقي في البرلمان الهولندي
- القراءة الطائفية
- بحثا عن - التكنوقراط
- كلام الملوك
- الثأر...الثأر...لدماء كربلاء والكاظمية!
- 188: احترام لمرونة الشريعة


المزيد.....




- رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق ...
- محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا ...
- ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة، ...
- الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا ...
- قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك ...
- روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
- بيع لحوم الحمير في ليبيا
- توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب ...
- بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
- هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - صائب خليل - الجيش الصغير والحلم القديم بالسلام