|
المثقفون والعمدة
أحمد محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 883 - 2004 / 7 / 3 - 05:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
منذ سنوات ، وأنا ألاحظ دائما فى الندوات والمحاضرات العامة ، الحرص الشديد فى استهلال الندوة او المحاضرة بالتأكيد على أنها ذات طبيعة ثقافية ، ولا دخل لها بالسياسة ( ونقصد بالسياسة طريقة إدارة شئون الوطن على كافة المستويات) ، نفس الملاحظة فى الإصدارات الجديدة من الصحف والمجلات الثقافية التى تحرص ايضا فى عددها الأول أن تنفى ارتباطها بأى اتجاه سياسى وتتبرأ من الكلام فى السياسة ، وتتعالى بحجة أن قضيتها هى الثقافة والفن والفكر والأدب ، حتى فى الجامعة هناك تعليمات غير مكتوبة ومتفق عليها ضمنيا بعدم الكلام فى السياسة، وكأن التفكير والكلام فى أحوال سياسة الوطن وصمة عار ، وكأن المشاركة السياسية وهى سمة المجتمع الديمقراطى الذى يكتبون عنه فى المطبوعات الثقافية ، ويدرسونه فى الجامعة نوعا من الجرب ، وبعد ذلك يزعم المثقفون أن مطبوعاتهم ومحاضراتهم وكتاباتهم تدعو للتفكير والإبداع وتحسين طريقة حياة الناس كيف !؟ منتهى التناقض كيف يدعون لإقامة مجتمع ديمقراطى وهم يأخذون هذا الموقف المتأفف الخائف من الكلام فى السياسة ! معنى ذلك أن القائمين على تلك المطبوعات وغيرهم من المثقفين لا يؤمنون بما يتحدثون ويكتبون عنه ، بل أن منهم من يقرر أن البداية فى الثقافة ! كيف ..؟ كيف نأتى بشخص نسجنه بأشكال كثيرة ونجعله بالكاد يأكل ويشرب ، وبالكاد يسكن وينام ، وبالكاد يتنفس ، وبالكاد يعلن رأيه تحت شروط وقيود ، ونقول له : فكر.. ابدع... اخترع ...اكتشف ...اعمل ...شارك فى الحضارة كيف ؟! وكيف يكون هناك تفكير وإبداع ، وطريقة حياة حضارية بدون توفير مناخ الحرية ؟! وهذا معناها ببساطة مجتمع ديمقراطى وأحزاب سياسية، وتداول سلطة . وأخطر ما يُصاب به المجتمع ان تكون النخبة الثقافية متخاذلة، أو خنوعة، أو وصولية في الدرجة الأولي، أو واقعة تحت تصور خاطئ بأن بعض السياسات التعسفية هى نوعا من الحكمة والعقلانية من اجل التأديب و الاستقرار . البداية تكون فى السياسة ، والسعى للتغيير بنية خالصه للوطن هو الذى ينشئ ثقافة جديدة لمجتمع جديد . وأمامنا أمثلة للمبدعين ومفكرين مثل الشيخ على عبد الرازق وطه حسين ولويس عوض و نجيب محفوظ وفرج فودة وزكى نجيب محمود ويوسف ادريس ونصر ابو زيد وسعيد عشماوى ، نوال السعداوى وغيرهم .....وماذا حدث لهم اتهموا بالكفر والزندقة بدرجات متفاوتة ، لأنهم مارسوا التفكير والإبداع فى مناخ سياسى واجتماعى يحارب ويحجر على الإبداع والحرية . وإذا كانت القدوة الفكرية فى البلد تتجنب وتخاف وتتأفف من الكلام فى السياسة، ثم يطالبون الشعب بمحاربة السلبية والمشاركة السياسية كيف !؟ ولا نطالب المثقف بديهياً أن يكون عدواً للسلطة ونقيضاً لها ، وفى نفس الوقت لا يجب ان يجبر المثقف علي العيش تحت مظلة الحكّام ويردّد ببغاوياً ما يقال له؟ ان فشل السياسات يضع علي المثقفين مسؤولية تقديم التحليلات والمؤشرات الي التصحيح العادل، بدلا من الانضمام الي جوقة المصفقين المتملقين الذين يظهرون فى الاحتفالات الرسمية بحضورهم اللزج وموافقتهم الصفيقة علي كل شيء. وإذا كانت الأحزاب الحالية كلها سلبيات كما يقولون ولهم الحق فى ذلك ، فالفرصة كانت ومازالت سانحة أمامهم لتكوين ما يحلو لهم من أحزاب أو جماعات ضغط لا يتأففوا منها ، بل كان عليهم أن يدرسوا سلبيات الأحزاب ويكتشفوا أن التعددية الحزبية المقيدة هى من أهم الأسباب المباشرة فى ضعف فعالية الأحزاب الحالية . والمعطيات السابقة كانت كافيه لتحفيز المثقفين على توظيف الثقافة فى الضغط المعنوى لفك قيود النشاط السياسى بدلا من التظاهر بالترفع والتعالى على الظاهرة السياسية ، وفى حقيقة الأمر هو خوفا من غضب السلطة ، وسعيا وراء مصالح محسوبه ! ان المسئولين عن تلك المطبوعات ، والمثقفين ملكيين اكثر من الملك نفسه ، و يعتقدون انهم بتأففهم من السياسة فى مطبوعاتهم ومجالسهم يحصلوا على رضا السلطة ويمسكون العصا من الوسط ، حتى إذا تولى تجار الدين أمور الحكم يكون ردهم جاهز إحنا بتوع الثقافة وهم بتوع السياسة ! وهل الخلاف مع السلطة عيب أو وصمة عار؟! فكلنا نسعى لصالح الوطن ، سهل جدا التأفف والتعالى والترفع عن المشاركة السياسية والتشدق بالمصطلحات الكبيرة كسبوبة للعيش ، لكن الصعب ، أن تمارس ما تقوله ، وان تشارك الناس مشاكلهم لتعبر عنهم ، وهنا يحضرنى مقال للدكتور طاهر مكى فى أدب ونقد عدد فبراير 1984 ، يقول فيه أن بقاء المثقف خارج ساحة الأحزاب بعيدا عن المشاركة فى أقربها إلى فكرة تحت أى حجة نوعا من الهروب والانتهازية ، حيث يؤثرون الوقوف بالأبواب فى انتظار لقمة ، قد تكون منصبا ، أو مهمة ، أو حتى رحلة سياحية خارج الوطن ، أو حتى داخلها باسم الثقافة وتحت رايتها . ونضيف قد يكون أيضا فى انتظار لقمة ملوثة بالنفط وخاصة النخبة فيهم التى فضلت التزاحم على موائد الرحمن الخليجية . وهناك مشهد متكرر للمثقفين المتأففين ، لكم أن تتابعوا المشهد الذى قدمته روزا اليوسف فى عدد 13- 1- 1997 ، حيث كتب الأستاذ وائل عبد الفتاح تحت عنوان كيف تصبح أميرا للشعر العربى ؟ وحكى فيه تفاصيل حكاية الأمير الخليجى الذى رغب فى أن يعلن عن نفسه كشاعر كبير بفلوسه ، فتوجه إلى عاصمة الثقافة العربية القاهرة وحجز قاعة فخمه فاخرة عشر نجوم فى فندق ماريوت ، وجمع فيها النقاد والكتاب والفنانين المصريين طبعا، وتقدمهم وزيرى الثقافة والسياحة المصرية ، ورئيس هيئة الكتاب وغيرهم من نجوم الصحافة والأعلام والفن ، وجلس الجميع ينتظرون الأمير الذى تأخر عن ميعاد اللقاء ، ووصل بعد نصف ساعة من انتظار هذا الحشد من المثقفين المصريين له ، طبعا الأمير وصل القاهرة فى طائرة خاصة ، ولن أعيد لك التفاصيل التى نشرتها روزا اليوسف ولكنك إذا تأملت فى الصور التى نشرت سوف تجد أسماء المثقفين إياها، التى تجدها فى كل مائدة ، وواحد كبير فيهم يملك عمود ملاكى يومى كتب عن الأمير الشاعر كأنه اكتشاف القرن الحادى والعشرين ، وآخر لديه أيضا مساحة يومية كتب تحت عنوان فكرة عبقرية يمدح فيها المسئول الخليجى ، وإذا تأملت فى صورة الأمير ، وهو يدخل القاعة متأخرا ، وحوله حراسه ، ويصفق له الوزير والخفير أو تعمقت فى صورته المتجهمة ، وهو يلقى شعره باللهجة الخليجية على النخبة المثقفة المصرية ستلاحظ فورا انه الكفيل وأمامه الشغيله يصفقون ! و ستجد الإجابة واضحة عن دوافع تجنب وتعالى المثقفين عن الكلام فى السياسة ، وإذا كان هؤلاء يتزاحمون على موائد الرحمن الخليجية ، فهناك أيضا من يتزاحم على موائد الرحمن للرجال الأعمال الجدد ، ومنذ سنوات كانت هناك موائد شركات توظيف الأموال ، وايضا موائد التطبيع مع إسرائيل ، ولعل تفاصيل المهرولين إلى مؤتمر كوبنهاجن وغيرها من ندوات التطبيع منذ سنوات تعطى صورة أوضح لدوافع تجنب المثقفين الكلام فى أزمة السياسات المصرية ، فالمكاسب مضمونة! وهى افضل من نقد طريقة إدارة هذا الوطن ، لأن العواقب وخيمة ! وهناك مشهد آخر متكرر فى الصحف المصرية خاصة الأهرام تلك الجريدة الوقورة ، حيث تجد مثقفون كبار مخصص لهم مساحات أسبوعية دائمة فى صفحة قضايا واراء ، وكل مقالاتهم مدح ونفاق فى السلطة لدرجة الشعور بالقرف والقىء عند قراءتها ، والعجيب واحد فيهم اسمه مرتبط بزفارة السمك ، بلطى أو مرجان ، والمصيبة انه من الهيئة القضائية ! والغريب أن تلك النخبة من المثقفين يكتبون وهم محقون فى ذلك أن الثقافة سياسة والفن سياسة بل كل شىء سياسة من البداية إلى النهاية سياسة ، وطالما هى سياسة لابد من موقف معلن . ولعل السؤال الذى طرحته فريدة النقاش فى إحدى مقالاتها نستدعيه الآن ونتساءل معها متى يخرج المثقفون المصريون من كهف أفلاطون وبلاط السلطة وجَحر الخوف !؟. والى متى ينظرون إلى الاتجاه الآخر ؟ وإذا كان نتاج العملية الثقافية يظهر فى اسلوب حياتنا فى الحديث والحوار والتعامل مع أنفسنا ومع الآخرين ، ومع المجتمع والوطن ، و أن نعرف كيف نحيا ! فأن محصلة العملية الثقافية فى مصر منذ عشرين عاما سواء كانت ابداعا او فكرا او فنا ، واضحة وضوح الشمس فى سلوكيات حياتنا اليومية من تناحة ، ورياء ، وتحايل ، وكذب ، ودروشة والتمسك بمظهر الدين وعنف وبلطجة والفاظ سوقية بذيئة ، وسيمفونيات من الشتائم تسمعها فى الشارع والمدرسة والبيت !! فالسلوك المتحضر اختفى تماما من حياتنا نتيجة غياب ثقافة حقيقية ، وسيطرة الثقافة الزائفة ، ثقافة الندوات والإحصاءات المغلوطة المطلقة وثقافة الصالونات ، والإثارة ، والمشهيات، ومؤتمرات المداهنة و المهرجانات والمستشارين والخبراء والرطانة … الخ . وهنا يجب أن نذكر ونسجل ما قاله أدوارد سعيد متأثرا بمقولات السوسيولوجى الأمريكى س .رايت ميلز ومقولات انطونيو جراميشى " لا يوجد فى الوجود شىء اسمه مثقف خاص منعزل ، فمنذ أن تدون الكلمات وتنشرها تجد نفسك قد دخلت الميدان العام ، وان المثقفين المستقلين يواجهون إحساس بالعجز بفعل موقعهم الهامشى ، وإذا لم يقف المفكر إلى جانب قيمة الحقيقة فى الصراع السياسى فلن يسعه أن يتعاطى تعاطيا مسئولا مع كامل التجربة، فالسياسة فى كل زاوية ولا مهرب منها إلى فن خالص أو فكر خالص أو وصولا إلى مملكة الموضوعية المتبحرة أو النظرية المتعالية " (جريدة الشرق الأوسط 26 -6-93) . ونذكر ايضا بأن الإصلاح السياسى وما يعنى ذلك من ديمقراطية وتعدد حزبي وتداول سلطة هو أساس التنمية الثقافية ، ولكننا ، مازالنا نعيش بعقول حضارة الزراعة ، ذات السلوكيات الريفية التى تضبط وتحبس وتسجن كل من يتغنى بكلام ضد العمدة ، وبعد كل ذلك نقول أننا مستعدون للقرن الحادى والعشرين كيف ونحن نملك عقول ضد المستقبل ؟!.
#أحمد_محمد_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرية الأكاديمية وأسلمه المعرفة
-
الإرهاب و وسائل الإعلام
-
فى بلاد الكفيل
-
المرأة المصرية فى عباءة الكفيل الوهابى
المزيد.....
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
-
بن كيران: دور الإسلاميين ليس طلب السلطة وطوفان الأقصى هدية م
...
-
مواقفه من الإسلام تثير الجدل.. من هو مسؤول مكافحة الإرهاب بإ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|