أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الغاء عقوبة الاعدام - إبراهيم جركس - مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1















المزيد.....


مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1


إبراهيم جركس

الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 31 - 08:16
المحور: الغاء عقوبة الاعدام
    


في الرابع من يناير عام 1960 مات ألبير كامو في حادث سيارة مأساوي وهو في طريقه إلى باريس بصحبة ناشر كتبه غاستون غاليمار. وكان آنذاك في السابعة والأربعين من عمره. وقد عرف عن كامو أنه فيلسوف العبث إذ تناول موضوع العبث في الكثير من أعماله، ويقال أنه كتب ذات مرة أنّ "الموت بحادث سيارة هو أكثر أشكال الموت عبثية" وهكذا قضى هذا المفكر نحبه بعد مسيرة طويلة من العمل الفكري والفلسفي الجاد الذي يتسم بروح الثورة ونبذ كل ما هو تقليدي وقديم، كلّلها باستحقاقه على جائزة نوبل للآداب عام 1957.
عام 1955 شرع آرثر كوستلر حملة صحفية لإلغاء عقوبة الإعدام في بريطانيا. ولكن مجلس اللوردات حال دون تطبيق ذلك. وفي عام 1957 كتب ألبير كامو مقالته هذه ليضم صوته إلى صوت كوستلر، ويطالب بإلغاء عقوبة الإعدام في فرنسا.
هذه المقابلة أو الحوار بالأحرى قمت بفبركته بعد قراءة مقالة ألبير كامو الرائعة هذه، والتي تسلّط الضوء على ما في هذه العقوبة من شناعة وفظاعة، حيث أنها تقضي على كل ما عملنا لأجله لمئات السنين، وما يميزنا عن باقي الكائنات كبشر.
● سيد كامو، أخبرنا عن تجربتك في سن الطفولة التي كان لها الدور الأكبر في جعلك من أكبر المدافعين عن إلغاء هذه العقوبة الشنيعة، وما هو رأيك من التنفيذ العلني والخفي لأحكام الإعدام؟
■ أ. ك: قبيل حرب 1914 بقليل، حُكِم بالموت في مدينة الجزائر على قاتل ارتكب جريمة مثيرة للاستنكار حقاً (فقد ذبح أسرة من المزارعين مع أطفالها). كان عاملاً زراعياً، وقد قتل تحت سيطرة نوع من هذيان الدم، لكن ممّا زاد في خطورة جرمه كونه قد سرق ضحاياه. أثارت القضية ضجّة عظيمة. وساد اعتقاد عام بأنّ قطع الرأس عقوبة خفيفة بالنسبة لمثل هذا الوحش. هذا ما كان، على ما قيل لي، رأي والدي الذي ثار استنكاراً لقتل الأطفال على الأخص. وإنّ أحد الأشياء النادرة التي أعرفها عنه، على كل حال، أنه أراد أن يشهد تنفيذ الحكم، للمرة الأولى في حياته. ونهض ليلاً ليذهب إلى مكان التنفيذ، وسط جمهرة كبيرة من الشعب. أما ما رآه ذلك الصباح، فلم يروِ لأحدٍ عنه شيئاً. وتروي أمي فقط أنه عاد كالعاصفة، متجهّم الوجه، ورفض أن يتكلّم، ويمدّد لفترة من الزمن على السرير ثم أخذ فجأة يتقيأ. كان قد اكتشف الحقيقة التي تختفي تحت الصيغ الكبيرة التي تقنّع بها. فبدلاً من التفكير بالأطفال المذبوحين، لم يعد بوسعه ألاّ يفكّر بذلك الجسم المختلج الذي ألقي به على لوح خشبي لتقطع عنقه.
لا بدّ لنا من الاعتقاد بأنّ هذا العمل الطقسي هو من الفظاعة بحيث استطاع أن يقهر استنكار رجل بسيط ومستقيم، وبحيث لم يكن للقصاص الذي كان يقدر أن القاتل استحقه مئة مرة من أثر آخر سوى أنه سبّب له التقيؤ.
وحين دفع العقوبة القصوى الرجل الشريف المفروض فيها أنها تحميه من الغثيان، يبدو عندئذً من الصعب الزعم بأنها تهدف، كما كان من المفروض أن تكون وظيفتها، إلى إحلال المزيد من الأمان والنظام في المجتمع. بل إنّ الحقيقة الصارخة تظهر على العكس أنّ هذه العقوبة لا تقلّ وحشية عن الجناية، وأنّ هذه الجريمة الجديدة، بدلاً من أن تغسل الإهانة التي ألحقت بالهيئة الاجتماعية، تزيد في بشاعة الجريمة الأولى، وهذا صحيح جداً بحيث لا يجرؤ أحد على الكلام مباشرةً عن هذا الاحتفال.
وهكذا نقرأ ساعة الإفطار في زاوية من زوايا الصحيفة أنّ المحكوم عليه قد "سدّد دينه للمجتمع"، أو أنه "كفّر"، أو أنّ العدالة أخذت حقها في "الساعة الخامسة". والموظّفون يتكلمون عن المحكوم عليه بطريقة غير مباشرة ولا يدعونه بهذا الاسم، وأحياناً يشيرون إليه باسمه المختصر "م. ب. ع" [أي محكوم عيه بالإعدام]. إنهم لا يكتبون عن العقوبة القصوى، إذا صحّ القول، إلا بصوتٍ خافت.
إنّ بقاء هذا الطقس البدائي لم يكن ممكناً لولا عدم مبالاة الرأي العام أو جهله، هذا الرأي العام الذي لا يعبّر عن رأيه إلا بالجمل الاحتفالية التي لقنها. إنّ الكلمات تفرغ من معناها، حين ينام الخيال. إنّ شعباً أصم يسجّل بلا اكتراث إدانة إنسان. لكن إذا ما أظهرنا الآلة وجعلناه يلمس الخشب والحديد، وأسمعناه صوت الرأس الذي يسقط، فإنّ الخيال الجماهيري، الذي يستيقظ فجأةً، سيستنكر في آنٍ واحد هذه المفردات وهذا التنكيل... إنني لم أستطع أن أرى في عقوبة الموت، طوال سنوات، إلا عذاباً لا تحتمله المخيّلة، وفوضى كسلى يدينها عقلي.... فعقوبة الموت تلطّخ مجتمعنا، وأنصارها لا يستطيعون تبريرها منطقياً.

● ولكن ألا يعتبر أنصار عقوبة الإعدام أنّها عبرة وقصاص، وأنها عقوبة معتمدة منذ مئات السنوات، ولا بدّ منها للتخلص من المجرمين مرة وإلى الأبد؟
■ أ. ك: من المعروف أنّ الحجّة الكبرى لأنصار عقوبة الموت هي عبرة القصاص. فالرؤوس لا تقطع لمعاقبة أصحابها فحسب، بل أيضاً لتخويف من تغريه التجربة بتقليدهم، عن طريق مثال مخيف. إنّ المجتمع لا ينتقم، بل يريد فقط أن يقي نفسه. إنه يشهر الرأس كي يقرأ عليه المرشحون للجريمة مستقبلهم فيتراجعون.
قد تكون هذه الحجة ذات تأثير لو لم نكن مرغمين على أن نلاحظ:
1) إنّ المجتمع نفسه لا يؤمن بالعبرة التي يتكلّم عنها.
2) إنه لم يثبت أنّ عقوبة الموت قد جعلت قاتلاً واحداً، مصمّماً على أن يكون قاتلاً، يعدل عن ذلك، وإنه لمن الثابت بالمقابل أنه لم يعد لها أيّ تأثير، إن لم يكن تأثير إغراء، على آلاف المجرمين.
3) إنها تشكّل، من ناحية أخرى، عبرة كريهة لا يمكن لأحد أن يعرف إلى ما ستؤدي نتائجها.
إنّ المجتمع لا يؤمن بما يقوله. ولو كان يؤمن به حقاً، لأظهر الرؤوس، ولأتبع عمليات التنفيذ بحملة دعائية... لكننا نعرف، على العكس، أنّ عمليات التنفيذ ما عادت تتمّ بشكل علني، بل تجري في باحة السجون أمام عدد قليل من الأخصائيين، وقليل من يعلم ذلك ومتى كان. إنّ هذا التدبير حديث نسبياً... كيف يمكن لجريمة قتل سرية تقترف ليلاً في باحة سجن أن تكون ذات عبرة؟ إنّ أكثر ما يُرجى منها هو إعلام المواطنين دورياً بأنهم سيموتون إذا ما قتلوا. وهذا مستقبل يمكن أن يوعد به أيضاً من لا يقتلون... أمّا اليوم فلا وجود لمثل هذا المشهد، بل كل ما هنالك عقاب يعرفه الجميع عن طريق السمع، وبين الحين والحين نبأ عن تنفيذ حكم إعدام، ولكنه مصاغ بحيث يأتي وقعه مخففاً. فكيف لمرشح لارتكاب الجريمة أن يفكّر، لحظة اقترافه الجرم، بعقوبة يجهد المجتمع في جعلها مجرّدة أكثر فأكثر.

● ولكن ما البديل عنها، وكيف بإمكاننا أن نجعل عبرة للمجرمين أو الذين تسوّل لهم أنفسهم بارتكاب جرائم بحق الناس الآخرين؟
■ أ. ك: إذا كنا نريد حقاً أن يحتفظ [المجتمع] دوماً بهذه العقوبة في ذاكرته، كي توازن في البداية ثمّ تعكس فيما بعد قراره المجنون بالقتل، أفلا ينبغي أن نسعى إلى ترسيخ هذه العقوبة وواقعيتها الرهيبة ترسيخاً عميقاً في جميع الحساسيات، بمختلف وسائل الصورة واللغة؟
وبدلاً من أن نتكلّم بإبهام عن دين سدّده أحدهم ذات صباح إلى المجتمع، ألن تكون عبرةً أنجع إذا ما استفدنا من مثل هذه المناسبة الجميلة لنذكّر كل من تراوده نفسه بتفاصيل ما ينتظره؟ وبدلاً من أن نقول: "إذا قتلت، فسوف تكفّر على المقصلة". أليس من الأفضل أن نقول بغاية العبرة: "إذا قتلت فسوف يلقى بك في السجن طوال شهور أو سنين، ويتقاسمك يأسٌ مضنٍ ورهبة متجدّدة دوماً، إلى أن نتسلّل ذات صباح إلى زنزانتك، وقد خلعنا أحذيتنا كي تكون مفاجأتنا لك أشدّ أثناء نومك الذي سيسحقك بعد قلق الليل. سوف ننقضّ عليك، ونوثق معصميك خلف ظهرك، وتقصّ ياقة قميصك وشعرك بالمقصّ، إذا كان هناك موجب، ورغبةً في المزيد من الإتقان، سوف نربط ذراعيك بوساطة حزام جلدي، حتى ترغم أن تكون محدودباً فتقدّم بالتالي رقبة بارزة كما ينبغي. ثم سوف نحملك، يسندك رجلان من ذراعيك، وقدماك تزحفان إلى الخلف عبر الممرّات. وأخيراً تحت سماء داجية، سوف يمسك بك أحد الجلادين من أسفل بنطالك ويرمي بك أفقياً على لوح خشبي، بينما يثبت آخر رأسك في فجوة، ويسقط ثالث من علوّ مترين وعشرين سنتيمتراً، ساطوراً يزن ستين كيلو سيحزّ عنقك كموسى حلاقة".
ولكي تكون العبرة أنجع أيضاً، ولكي يصبح الخوف الذي ينتج عنها قوة عمياء وقاهرة في داخل كلٍ منا، قوة تكفي للتعويض في اللحظة المناسبة عن الرغبة التي لا تقاوم في القتل، ينبغي أن نذهب إلى أبعد من ذلك أيضاً. فبدلاً من أن يدفعنا طيشنا المتعجرف، المعروف عنّا، إلى الفخر بأننا اخترعنا هذه الوسيلة السريعة والإنسانية لقتل المحكوم عليهم: ينبغي أن ننشر بآلاف النسخ، وندرّس في المدارس والكليات، الشهادات والتقارير الطبية التي تصف حالة الجسم بعد التنفيذ. وسوف نوصي بخاصة بطبع ونشر تقرير حديث قدّمه لأكاديمية الطب الدكتوران بيندولييفر وفورنيه. إنّ هذين الطبيبين الشجاعين اللذين طلب إليهما، لمصلحة العلم، أن يفحصا أجسام المنكّل بهم بعد التنفيذ، قد قدّرا أنّ من واجبهما تلخيص ملاحظاتهما الرهيبة: "إذا استطعنا أن نسمح لأنفسنا بتقديم رأي حول هذا الموضوع، فإنّ مثل هذه المشاهد فظيعة الإيلام. إنّ الدم يخرج من الأوعية بقوة نبض الوداجين المقطوعين، ثم يتخثر. وتتشنّج العضلات، وتتقلّص لييفاتها بطريقة مذهلة. ويتموّج المعي، وينقبض القلب بحركات لامنتظمة، ناقصة، أخّاذة. ويتقلّص الفم في لحظات معيّنة بتعبير اشمئزاز. وصحيح أنّ العينين بلا حراك، في ذلك الرأس المقطوع، متسعتان، لكنهما، لحسن الحظ، لا تنظران. وإذا لم يكن فيهما ذلك الكدر وذلك اللون الحليبي الذي تتلوّن به الجثث، إلا أنهما باتتا لا تتحرّكان. إنّ شفافيتهما حيّة، لكنّ شخوصهما ميّت. وهذا كله قد يدوم دقائق، بل ساعات، لدى أفراد بلا علل: إنّ الموت ليس فورياً... وعلى هذا فإنّ كل عنصر حيوي يظلّ على قيد الحياة بعد قطع الرأس... ولا يبقى للطبيب إلا ذلك الانطباع عن تجربة فظيعة، عن عملية تشريح قاتلة، يتبعها دفن سابق لأوانه".

● حسناً هذا فظيع جداً، ومثير للاشمئزاز.
■ أ. ك: أشكّ في أن يكون هناك كثرة من القرّاء يستطيعون أن يقرؤوا هذا التقرير المروّع دون أن يمتقعوا. نستطيع إذن أن نعتمد على ما فيه من عبرة وعبر قدرته على التخويف. ولا شيء يمنع من أن نضيف إليه تقارير الشهود التي تثبت أيضاً صحّة ملاحظات الطبيبين. يقال، مثلاً، إنّ وجه شارلوت كورداي [فتاة فرنسية أعدمت لأنها اغتالت السياسي مارا في الثورة الفرنسية] قد احمرّ، بعد أن أعدِمت، من صفعة الجلاّد... ولن ندهش عند سماعنا ملاحظات أقرب عهداً. فقد وصف مساعد جلاد، وهو من الأشخاص الذين لا يشتبه في فرط عاطفيتهم وحساسيتهم، ما أرغم على رؤيته على النحو التالي: "إنه مجنون مصاب بنوبة حقيقية من الهذيان العصبي، ذاك الذي ألقينا به تحت الساطور. سرعان ما مات الرأس، لكنّ الجسم وثب، بالمعنى الحرفي لهذه الكلمة، في السلّة وشدّ على الحبال. وبعد عشرين دقيقة، في المقبرة، كان لا يزال يرتجف".
أنا لا أقول بعد كل شيء أن عقوبة الموت ذات عبرة، بل هي تبدو لي، فيما هي عليه، جراحة غليظة تجري في شروط تجرّدها من كلّ ما يمكن أن يكون فيها من عبرة.

● هل يعتقد المنفّذون أنّهم يخيفون الناس بالتهديد بعقوبة يصوّرونها على أنها وديعو وسريعة الزوال؟
■ أ. ك: إنهم لا يخوّفون بذلك الناس الذين يعتبرون مستقيمين، لأنهم نيامٌ في تلك الساعة، ولأنّ العبرة الكبرى لم تعلن لهم، ولأنهم سيأكلون فطائرهم في ساعة الدفن السابق لأوانه، ولأنهم سيطّلعون على عمل العدالة، إذا ما قرؤوا الصحف، من بيانٍ متصنّع الحلاوة سيذوب كالسكّر في ذاكرتهم. ومع ذلك، فإنّ هذه المخلوقات الوديعة تقدّم أكبر نسبةٍ من جرائم القتل. والكثيرون من هؤلاء الناس الشرفاء مجرمون يجهلون أنهم كذلك.
إنّ الدولة تموّه عمليات التنفيذ، وتحيط بالصمت هذه النصوص وهذه الشهادات. إنها لا تؤمن إذن بقيمة العبرة في العقوبة، اللهم إن لم يكن من قبيل التقليد ودون أن تتكلّف مشقة التفكير. إنهم يقتلون المجرم لأنهم يقتلونه منذ قرون، وهم يقتلونه، على كل حال، بالطريقة التي حُدّدَت في أواخر القرن الثامن عشر. وعلى هذا فإنهم سيتبنّون، بعامل الروتين، الحجج التي شاعت منذ قرون، آخذين على عاتقهم مخالفتها بتدابير اقتضاها تطوّر الحساسية العامة... إنّ من يحتسي قهوته وهو يقرأ أنّ العدالة قد انتصرت، سيبصقها فيما لو قرأ أبسط التفاصيل. والنصوص التي ذكرتها قد تظهر بمظهر حسن بعض أساتذة الحقوق الجنائية الذين يعجزون عجزاً واضحاً عن تبرير هذه العقوبة المنافية لروح العصر، فيعزّون أنفسهم بالقول، إنّ إماتة الإنسان دون إيلامه خير من إيلامه دون إماتته.
لذلك، ينبغي القتل علناً أو الاعتراف بأنّ الدولة لا تتمتع بسلطة القتل. وإذا كان المجتمع يبرّر عقوبة الموت بضرورة العبرة، فعليه أن يبرّر نفسه بجعله من الدعاية ضرورية. عليه أن يظهر يدي الجلاد في كل مرّة، وأن يرغم المواطنين من ذوي الشعور المرهف على النظر إليهما، وأن يرغم معهم جميع من كانوا السبب، من بعيد أو قريب، في وجود هذا الجلاد. وإن لم يفعل ذلك، فإنه يعترف بأنه يقتل دون أن يعرف ما يقوله أو ما يفعله، وبأنه يقتل مع معرفته أنّ هذه التمثيليات الكريهة، العاجزة عن تخويف الرأي العام، لا تستطيع شيئاً سوى أن توقظ الجريمة أو أن تزرع البلبلة في المجتمع. ولعلّ المستشار السيد فالكو، وهو قاضٍ بلغ عتبة حياته القضائية، وهو خير من يستطيع أن يعبّر عن هذه الحقيقة في شهادته التي تستحق أن تدرس: "... المرّة الوحيدة التي رفضت فيها تخفيف العقوبة وأصدرت حكمي بإعدام المتهم، طننت أنني سأشهد، رغم موقفي، عملية التنفيذ ببرود أعصاب. وعلى كلٍ، لم يكن المتهم محبباً إلى النفس: فقد عذّب ابنته الصغيرة وألقى بها في النهاية في بئر. حسناً! بعد إعدامه، وطوال أسابيع بل أشهر، رزحت ليالي تحت كابوس هذه الذكرى... لقد اشتركت في الحرب كسائر الناس ورأيت شباباً بريئاً يموت، لكني أستطيع القول أني لم أشعر قط، أمام ذلك المشهد الفظيع، بتبكيت ضمير مثلما شعرت به أمام هذا النوع من الاغتيال الإداري الذي يسمى عقوبة الإعدام".

● ولكن، وبعد كل شيء، لماذا يؤمن المجتمع بهذه العبرة ما دامت لا تمنع الجريمة، وما دان تأثيرها، إن كان له وجود، غير واضح للعيان؟
■ أ. ك: إنّ العقوبة القوى لا تستطيع أولاً أن تخيف من لا يعرف أنه سيقتل، أو من يعقد العزم على القتل في لحظة مفاجئة وينفّذ جريمته تحت سيطرة الحمّى أو الفكرة الثابتة، أو من قد يذهب إلى موعد للتفاهم فيحمل معه سلاحاً ليخيف الخائن أو الخصم ويستعمله مع أنه كان لا يريد ذلك، أو يعتقد أنه لا يريد. وبكلمة واحدة، إنها لا تستطيع أن تخيف الإنسان الذي يجد نفسه ملقىً في الجريمة كما يجد نفسه ملقىً في البؤس، ومعنى ذلك أنها عاجزة في معظم الحالات.
● لكنها هل تخيف ذلك الجنس من المجرمين الذين تزعم أنها تؤثر عليهم والذين يعيشون من الجريمة؟
■ أ. ك: هذا أبعد ما يكون عن الواقع. يقول كوستلر إنه في العصر الذي كان فيه النشالون يعدمون في إنكلترا، كان لصوص آخرون يمارسون مهازلهم بين الجمهور المحتشد حول المشنقة التي يشنق عليها زميلهم... إنّ القدرة التخويفية لا تنال إلا الوجلين الذين لم يخلقوا للجريمة وتعجز عن إخضاع من لا يمكن إخضاعهم.

● ألا يمكن لهذه العقوبة أن تردع المجرمين ولو بنسبة ضئيلة من تنفيذ جرائمهم؟
■ أ. ك: لا نستطيع أن ننكر أنّ البشر يخشون الموت. إنّ الحرمان من الحياة لهو بدون أدنى ريب أقصى عقوبة، ولابد أنه يثير فيهم ذعراً حاسماً. إنّ الخوف من الموت يبرز من أعماق أعماق الكائن المظلمة، ويجتاحه اجتياحاً. وغريزة الحياة حين تهَدّد، تجنّ ذعراً وتتخبّط في أردأ الهواجس. لقد كان هناك إذن أساس من الحقيقة في إيمان المشرّع بأنّ قانونه يستند إلى أغمض نوازع الطبيعة البشرية وأقواها. لكنّ القانون أبسط دوماً من الطبيعة. فهو حين يغامر في خفايا النفس العمياء، ليحاول السيطرة عليها، يجازف أحياناً بأن يكون عاجزاً عن تبسيط التعقيد الذي يريد تنظيمه.
وبالفعل، إذا كان الخوف من الموت أمراً بديهياً، فمن البديهي أيضاً أنّ هذا الخوف، مهما كان كبيراً، لم يكفِ قط لردع الأهواء البشرية. كان "بيكون" على حق إذ قال إنّ الهوى، مهما كان ضعيفاً، يستطيع أن يواجه ويسيطر على الخوف من الموت... إنّ عقوبة الموت تحاول منذ قرون، مع ما يرافقها غالباً من تفنّنات وحشية، أن تجابه الجريمة. لكنّ الجريمة تعاند مع ذلك. لماذا؟ لأنّ الغرائز التي تتصارع في الإنسان ليست، كما يريدها القانون، قوى ثابتة في حالة توازن. إنها قوى متبدّلة تموت طوراً وتنتصر طوراً آخر. وتتغذّى الحياة الفكرية من تصارعها المتتابع، مثلما يتألّف التيار من تذبذبات كهربائية متقاربة بما فيه الكفاية.
إنّ تفاوت هذه القوى يتمّ بشكلٍ عام بسرعةٍ أكبر من أن يسمح لقوة واحدة بالسيطرة على الكائن بأسره. لكن قد يحدث أن تطغى إحدى قوى النفس إلى حدٍ تحتلّ معه مجال الشعور كله، ولا تستطيع أيّ غريزة، وإن كانت غريزة الحياة، أن تكبح عندئذٍ طغيان تلك القوة التي لا تقاوم. ولقد كان ينبغي، كي تكون لعقوبة الموت قدرة تخويفية فعلاً، أن تكون الطبيعة البشرية مختلفة عمّا هي عليه،وأن تكون مستقرّة صافية استقرار القانون وصفاءه. لكنّها ستكون عندئذٍ طبيعة ميتة.

● ولكنها على العكس تماماً، أليس كذلك؟
■ أ. ك: طبعاً إنها ليست كذلك. ولهذا فإنّ القاتل يشعر بنفسه بريئاً حين القتل، مهما بدا هذا غريباً بالنسبة لمن لا يعرف التعقيد البشري أو لم يشعر به في نفسه. إنّ كلّ مجرم يحكم على نفسه بالبراءة قبل صدور الحكم. فهو إن لم يقدّر أنه كان على صواب في عمله، يرى أنّ الظروف تعذره. إنه لا يفكّر ولا يتوقع. وإذا فكّر فليتوقع أنه سيُعذَر كلياً أو جزئياً. فكيف يخشى ما يعتبره بعيد الاحتمال كل البعد. إنه سيخشى الموت بعد إصدار الحكم لا قبل الجريمة. ينبغي إذن ألا يترك القانون، لكي يكون ذا قوّة رادعة، أيّ أملٍ للقاتل، وأن يكون صارماً مسبقاً، وألا يقبل بشكلٍ خاص بأي ظروف مخفّفة.

● ولكن كيف بإمكاننا المطالبة بذلك؟
■ أ. ك: إذا ما جرؤ إنسانٌ على المطالبة بذلك، ينبغي عليه عندئذٍ أن يأخذ بعين الاعتبار مفارقة أخرى من مفارقات الطبيعة البشرية. إنّ غريزة الحياة، وإن كانت أساسية، لا تزيد أهمية عن غريزة أخرى لا يتكلّم عنها علماء النفس المدرسيون: ألا هي غريزة الموت التي تستلزم في بعض الأحيان دمار الذات ودمار الآخرين. ومن المرجّح أنّ شهوة القتل غالباً ما تلازم شهوة الانتحار أو الفناء الذاتي. وهكذا تكون غريزة البقاء مترافقة، بنسب متفاوتة، بغريزة الهدم. إنّ هذه الغريزة الأخيرة تستطيع وحدها أن تفسّر تفسيراً كاملاً شتى الانحرافات، من إدمانٍ على الخمر، أو المخدّر أو غيرهما، التي تقود الإنسان إلى دماره، دون أن يكون على جهلٍ بذلك. إنّ الإنسان يرغب في الحياة، لكن من العبث أن نتصوّر أنّ هذه الرغبة ستسيطر على كلّ أعماله. إنه يرغب أيضاً في ألا يكون شيئاً، إنه يرغب فيما لا مردّ له وفي الموت من أجل الموت. وهكذا يحدث ألا يرغب المجرم في الجريمة فحسب، بل في الشقاء الذي يرافقها أيضاً، حتى _وبخاصةٍ_ حين يكون هذا الشقاء لا حدّ له. وحين تنمو هذه الرغبة وتسيطر، فإنّ تصوّر عملية الإعدام لا يستطيع ردع المجرم فحسب، بل من المرجّح أيضاً أن يزيد في دوار الدّوّامة التي يضيع فيها. إنه يقتل عندئذٍ كي يموت بمعنى ما.
وكلّ ما نستطيع استنتاجه هو ما يلي: لقد كان عقاب الكثير من جرائم غير القتل، طوال قرون، هو الموت، ولم تستطع العقوبة القصوى، المطبّقة مراراً وتكراراً، أن تزيل من الوجود أياً من هذه الجرائم. ومنذ قرون، لم تعد عقوبة الموت تطبّق على هذه الجرائم...
عوقب القتل بالموت طوال قرون، بيد أنّ سلالة قابيل لم تختفِ.
**************************
مختارات من مقالة ألبير كامو: المقصلة.
ترجمة: جورج طرابيشي، دار المدى، دمشق، الطبعة الأولى، 2007.



#إبراهيم_جركس (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة السادسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الخامسة)
- الفلسفة لجميع الناس... (الحلقة الرابعة)
- الفلسفة لجميع الناس...(الحلقة الثالثة)
- الفلسفة لجميع الناس (لحلقة الثانية)
- الفلسفة لجميع الناس (الحلقة الأولى)
- فيروس العقل: ليس مجرد كتاب
- من الإنجيل إلى الإسلام: مقابلة مع كريستوف لوكسنبرغ
- حدذ الرّدّة وحقوق الإنسان... ابن الورّاق
- الإسلام والإرهاب الفكري... ابن الوراق
- الحور العين، وما أدراك ما الحور العين؟!... ابن الورّاق
- العار في الإسلام: نزع حجاب الدموع... ابن الوراق
- تهافت المقال: مقالة محمد علي السلمي أنموذجاً
- الحوار المتمدن... إلى أين؟
- منكر ونكير: ملكان أم شيطانان ساديان؟!!
- هل علم النفس -علم-؟
- الدر المعين في معرفة أحوال الشياطين!!!؟
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الرابعة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثالثة)
- نظرية النشوء والتطور (الحلقة الثانية)


المزيد.....




- الخارجية الفلسطينية: تسييس المساعدات الإنسانية يعمق المجاعة ...
- الأمم المتحدة تندد باستخدام أوكرانيا الألغام المضادة للأفراد ...
- الأمم المتحدة توثق -تقارير مروعة- عن الانتهاكات بولاية الجزي ...
- الأونروا: 80 بالمئة من غزة مناطق عالية الخطورة
- هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست ...
- صربيا: اعتقال 11 شخصاً بعد انهيار سقف محطة للقطار خلف 15 قتي ...
- الأونروا: النظام المدني في غزة دُمر.. ولا ملاذ آمن للسكان
- -الأونروا- تنشر خارطة مفصلة للكارثة الإنسانية في قطاع غزة
- ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر ...
- الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج ...


المزيد.....

- نحو – إعدام! - عقوبة الإعدام / رزكار عقراوي
- حول مطلب إلغاء عقوبة الإعدام في المغرب ورغبة الدولة المغربية ... / محمد الحنفي
- الإعدام جريمة باسم العدالة / عصام سباط
- عقوبة الإعدام في التشريع (التجربة الأردنية) / محمد الطراونة
- عقوبة الإعدام بين الإبقاء و الإلغاء وفقاً لأحكام القانون الد ... / أيمن سلامة
- عقوبة الإعدام والحق في الحياة / أيمن عقيل
- عقوبة الإعدام في الجزائر: الواقع وإستراتيجية الإلغاء -دراسة ... / زبير فاضل
- عقوبة الإعدام في تونس (بين الإبقاء والإلغاء) / رابح الخرايفي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الغاء عقوبة الاعدام - إبراهيم جركس - مع ألبير كامو ضدّ المقصلة 1