|
المسألة الأميركية في النقاش السوري
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 882 - 2004 / 7 / 2 - 07:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
يكاد يجزم المرء أن الموضوع الأكثر تداولا والأشد إثارة للانفعال في مناقشات السوريين المهتمين بالشؤون العامة هو الموضوع الأميركي، أي الموقف من جملة السياسات والخطط والمشاريع الأميركية في "الشرق الأوسط". ويشير هذا الحضور المتزايد لما نسميه المسألة الأميركية إلى أن المؤثر الأميركي أمسى بالفعل شأنا داخليا سوريا (بصورة مفارقة، هذا هو مغزى توكيد متفاوت النبرة والمرجعية على أن التغيير لا يأتي إلا من الخارج). تطرح المسألة بصيغ مختلفة: هل يريد الأميركيون تغيير الأنظمة العربية جديا؟ وهل هم جادون في دفع التغيير او الإصلاح باتجاه ديمقراطي؟ هل للسوريين مصلحة في الضغوط والعقوبات الأميركية على نظام حكمهم؟ وتتوزع المواقف قطبيا بين من يرون أن إصلاح أنظمتنا بات مصلحة اميركية بعد 11 ايلول وأن أميركا نصيرة الديمقراطية الدائمة، وبين من يرى أن الهدف الأميركي من وراء الكلام على الإصلاح والديمقراطية هو المزيد من إخضاع النظم العربية للأجندة الأميركية، وأن أميركا مستعدة للتضحية بقضايا حقوق الإنسان والديمقراطية مقابل ثمن سياسي. ومن الطبيعي أن يقيم الأولون الأداء الأميركي في العراق تقييما إيجابيا فيما يميل الأخيرون إلى منحه درجات متدنية. واللافت في الواقع أن السؤال الثالث أعلاه، السؤال السوري، لا يقوم بدور مهم في السجال. بالنتيجة أضحت الولايات المتحدة وسياستها موضوعا خلافيا في أوساط النخبة السورية، ما يشير إلى تفكك إجماع مديد على عداء عميق للسياسة والدولة الأميركية. وتذكر حدة النقاش وحمياه بالهوى العنيف الذي كانت تتلون به النقاشات حول الاتحاد السوفييتي حتى قرابة عقدين خليا من السنين. فكأن أميركا وسياساتها وخططها وقوتها مجرد منبع جديد للعزم في سجال عقائدي قديم. وما يقوي الشعور بسبق الرؤية déjà vu) حسب التعبير الفرنسي) هو أن أكثر الأميركانيين السوريين اليوم هم من سوفياتيي الأمس. فليس في سوريا اميركيو هوى قدماء.
العقيدة الأميركانية من أجل تقديم مثال على النزعة الأميركانية نورد ما قاله سجين شيوعي سابق في تدخل له في منتدى جمال الأتاسي في 18 نيسان الماضي: "أعتقد أن الإصلاح في المنطقة لن يكون إلا من الخارج لأن الأزمة لدينا ليست أزمة سياسية فقط وليست أزمة ثقافية فقط وإنما أزمة مجتمعية بالكامل". ولا يترك كلام السجين السياسي السابق لبسا في المقصود بالخارج: "هل لديكم مشروع آخر غير المشروع الأميركي الآن"؟ ويرى أن ثقافتنا الحاضرة هي "ثقافة القتل" و"ثقافة الكره" و"التفريق بين العربي والعجمي"، وأن "عجزنا الذاتي يدفعنا إلى اختراع أعداء وهميين" ويجعلنا نظن أن "العالم كله يتآمر علينا"، الأمر الذي ربما يفسر "علاقة المنطقة المتوترة بالعالم كله وليس بأميركا وإسرائيل" وحدهما. ولا ينسى أن ينصح مستمعيه (قرابة مئتين من خلفيات يسارية وقومية عربية) بالكف عن "ترديد قصائد عفا عليها الزمن والبكاء على الأطلال". والهيكلة العامة لمقاربة المتكلم ثقافية (أصولية، ثقافة قتل...) وليست سياسية (دكتاتورية...)، وهو يقارب الديمقراطية ذاتها وحقوق الإنسان من زاوية كونهما "قيمتان عالميتان". فسجاله موجه ضد الخصوصوية اكثر مما ضد الدكتاتورية، وهو يصدر عن نوع من العموموية الجاهزة وريثة المادية التاريخية. هذه عينة نموذجية عن الخطاب الأميركاني السوري. فالمزج بين الاصولية والدكتاتورية، والتنقل بين تشخيص ثقافي وآخر سياسي، ومواصلة التقليد اللينيني الخاص بنقل الوعي من الخارج عبر التركيز على خارجية الإصلاح، ثم النبرة النضالية المتيقنة من صوابها الذاتي … سمات مميزة للعقيدة الأميركانية: "اميركا هي الحل" (على غرار ما قيل يوما: "الاشتراكية هي الحل"، وفي يوم تال: "الإسلام هو الحل"). هذا الطابع الاعتقادي يجعل منها مجرد تناسخ للعقيدة الشيوعية الموالية للسوفييت بتعصبها واستسلامها للهوى وانتحالها قيم العلم وانفتاح الذهن وهجائها لـ"القصائد التي عفا عليها الزمن" ونرجح أن تحول الأميركانية السريع إلى عقيدة يعكس ضيق قاعدتها الاجتماعية من جهة، وفقرها الفكري وضحالتها النظرية من جهة أخرى. لكنه يأتي بالطبع على أرضية ثقافتنا المعاصرة التي أظهرت على الدوام ضعفا خطيرا حيال كل أنواع العقائد والدعاة العقائديين، بما فيها العقيدة المعادية عداء مطلقا لأميركا.
أصول المسالة الأميركية بيد ان ما يستحق الاهتمام ليس مضمون العقيدة الأميركانية بل بالأحرى تحليل المسألة الأميركية ومحاولة كشف شروط إمكانها. ونقتصر هنا على الشروط السياسية والاجتماعية تاركين الأصول الفكرية للأميركانية لتناول مستقل. لحظة وقعت هجمات 11 ايلول 2001 في الولايات المتحدة كانت أجهزة الأمن السورية تهيئ نفسها لاعتقال آخر اثنين من معتقلي ربيع دمشق العشرة. قد يكون التواقت عارضا غير أن دلالته مهمة. فقد تزامن إجهاض الأجواء الإيجابية النسبية التي ميزت العام الأول من من عهد ما بعد 10 حزيران 2000 مع بدء ما سيتبين انه تغير عميق في البيئة الدولية والإقليمية أخذت رياحه تهب على سوريا ذاتها بعد وقت قصير. كان العالم يتحرك حين انتصر الجمود في سوريا، وكان يتغير بعنف حين عاد "استقرار" يختزن درجة هائلة من العنف يخيم على الأجواء السورية. السنوات الثلاث المنصرمة هي سنوات الركود السياسي والجمود الاقتصادي واشتداد فجور الفساد وسيطرته على الدولة. وهي أيضا سنوات اعتقال وقمع يصمد للمقارنة مع ما جرى في السنوات الاربعة الأولى من سلطة الرئيس حافظ الأسد، ويتفوق. وهي سنوات عودة مناخات القطيعة وعدم الثقة بين نخبة السلطة وبين قطاعات تتسع من السوريين. في الوقت نفسه لم تستطع ما اصطلحنا على تسميتها بالحركة الديمقراطية السورية تحقيق اختراق سياسي مهم. فلا هي انتزعت مساحة حرة وآمنة للعمل العام، ولا هي نجحت في التواصل مع فئات أوسع من المجتمع السوري. وهي فوق ذلك عرضة للنهش من وقت لآخر من قبل أجهزة السلطة على شكل اعتقالات عشوائية واتهامات ملفقة ومحاكمات صورية واشكال مختلفة من التضييق، دون أن تتمكن من تطوير صيغ احتجاج فعالة. وهو ما ينعكس عليها بصورة متزايدة ضعفا وتفككا. يمتزج في الحال السورية اليوم انغلاق سياسي يزداد إحكاما مع ضعف وشلل في الحراك المعارض. وفي ظل هذا الوضع يبدو أن الحزب الذي ينمو ويتوسع أكثر من غيره هو "الحزب الأميركاني"، الرهان على أن "أميركا هي الحل" . وقد يرصد المرء درجة من تماثل الدوافع بين اللجوء السياسي لقطاعات من السوريين إلى الله (نمو الحزب الإسلامي) في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين، واللجوء المناظر اليوم إلى الأميركيين. ولا شك بالطبع أن إسوة مصير نظام صدام البعثي والجار والشبيه هي شرط إمكان ثالث للمسألة الأميركية وللأميركانية السورية.
أميركانيات متعددة وفقا لاختلاف صورة أميركا ودورها المفترض يمكن بين نوعين او ثلاثة من الأميركانية. ثمة أولا الأميركانية الشعبية التي تقول: فليأت بوش أو الشيطان لكي نتخلص من هؤلاء الكذا وكيت. هذه الأميركانية سياسية (وليست ثقافية) الدوافع، وقد تحول سند هذه الرغبة بالخلاص إلى اميركا في نوع من إغلاظ الموقف من السلطة الموصوفة بأنها كذا وكيت، وكذلك تعبيرا عن إدراك شعبي بأن أميركا قوة واقعية قادرة على التخليص. الأميركانية الشعبية احتجاجية ترفض شيئا أكثر مما تدعو لأميركا، لكنها تسند رفضها إلى القوة الاقدر على ترجمة رغبتها بالخلاص إلى واقع. أميركا هنا ابغض الملاذ. أما الأميركانية العليا أو العالمة فتسند دعاويها إلى كوكتيل نظري مميز: نظرية حول التاريخ والحضارة والتقدم(مادية تاريخية)، ونظرية حول وحدة العالم وتحوله إلى "قرية صغيرة"، ونظرية ثالثة حول تجانس داخلنا التام وعقمه سواء أسندت التجانس والعقم إلى النظم الحاكمة الدكتاتورية أو إلى الإسلام أو الثقافة العربية، ونظرية رابعة حول سجل اميركا الإيجابي في القضاء على الدكتاتوريات والدفع نحو الديمقراطية. وهذا الصنف من الأميركانية هو الذي تصدر عنه العينة التي تناولناها أعلاه وهو الذي يستحق ان يوصف بالأميركانية العقائدية. وما نجده هنا هو تركيب من صورة اميركا المحررة وأميركا قاطرة التاريخ. الصنف الثالث من الأميركانية هو الأميركانية الاقتصادية. الأمر يتعلق هنا بطبقة من الأثرياء الذين "لا وطن لهم" والذي يرجح أن تتعزز مصالحهم بدلا من أن تتضرر بالالتحاق بالأميركيين. وهؤلاء هو الذين يتمنون طي صفحة الصراع العربي الإسرائيلي فورا ويتلهفون للانفتاح والخصخصة. والأرجح أن مركز ثقل أميركانيي هذا الصنف يقع في أوساط جيل الابناء (بين الثلاثين واربعين من اعمارهم) من طبقة السلطة، الجيل الذي يدخل الان السوق ويودع الكتلة الأكبر من ارصدته في المصارف الأجنبية ويدعو للإصلاح الاقتصادي. غير أن هذا الصنف يختلف عن سابقيه في كونه اوثق صلة بالمرحلة الراهنة من تطور نظام الحزب الواحد (بلوغ جيل الأبناء سن التجارة والمطالبة بـ"الانفتاح") منه بتفاعل التعفن الداخلي والاقتحامية الأميركية. وتختلف القاعدة الاجتماعية للأميركانية اختلافا بينا حسب نوعها. فبينما هي طبقة رجال الأعمال الجدد الذين بات الاقتصاد الأوامري البيروقراطي يقيد مشاريعهم في حالة الأميركانية الاقتصادية، فإنها في حالة الأميركانية الشعبية جمهور مديني من الطبقات الدنيا التي يرجح الا "تخسر شيئا غير اغلالها"، أما الأميركانية العالمة فهي مذهب مجموعات متفاوتة الأصول تشترك في الخشية من الأصولية. ويحتل نشطاء أكراد موقعا مميزا ضمن هذا الصنف بالنظر إلى أن مصدر قلقهم ليس الأصولية الإسلامية بل العروبية المطلقة من النموذج البعثي. في ختام هذا المقال التخطيطي قد نشير إلى أن الشرط الأعمق للأميركانية بكل تنويعاتها هو الشعور العميق بالانسداد السياسي والاجتماعي والحضاري. وكلما أزمن هذا الانسداد ضعفت فكرة التغيير المحلي أكثر، وتداعت معنوياتنا أكثر، واشتد ساعد الأميركانية وحجتها أكثر واكثر.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الحياة والزمن في السجن - إلى روح الصديق المرحوم هيثم الخو
...
-
ماذا فعلتم بجمعيات الأكراد؟
-
المثقفون وقضية امتهان الإنسان
-
حول مفهوم اليسار الديمقراطي وسياسته
-
غاية الإصلاح: إبدال نظمنا الكاملة بنظم ناقصة
-
أوربا تخطئ بإضعاف سوريا
-
حزيران 1967 وما بعده تفاعلات الحرب والسلطة
-
أخطاء تطبيق في الماضي وانتخابات حرة في ...المستقبل
-
اضمن طريق للديمقراطية في العالم العربي -تغيير النظام- في ...
...
-
عرض كتاب -صور محطمة: نهضة حركة تحطيم الأيقونات النضالية في س
...
-
زمن المقالة وأزمة الثقافة
-
ما بعد القامشلي الشأن الكردي والنظام السياسي في سوريا
-
أسامة بن لادن، هيغل، وما بعد الحداثة
-
اعتقال طلاب الجامعة سياسة العزل السياسي والجيلي
-
بين عهدين: قضايا تحليل الانتقال السوري
-
-العقد الاجتماعي- البعثي وتناقضاته
-
نظام الاستثناء الشرق أوسطي
-
ثلاثة برامج قتل وفكرة عزلاء
-
اضطرابات الجزيرة ضرورة تجديد التفاهم الوطني السوري
-
سوريا أمام المنعطف مــن هنا إلى أيــــن؟
المزيد.....
-
روسيا أخطرت أمريكا -قبل 30 دقيقة- بإطلاق صاروخ MIRV على أوكر
...
-
تسبح فيه التماسيح.. شاهد مغامرًا سعوديًا يُجدّف في رابع أطول
...
-
ما هو الصاروخ الباليستي العابر للقارات وما هو أقصى مدى يمكن
...
-
ظل يصرخ طلبًا للمساعدة.. لحظة رصد وإنقاذ مروحية لرجل متشبث ب
...
-
-الغارديان-: استخدام روسيا صاروخ -أوريشنيك- تهديد مباشر من ب
...
-
أغلى موزة في العالم.. بيعت بأكثر من ستة ملايين دولار في مزاد
...
-
البنتاغون: صاروخ -أوريشنيك- صنف جديد من القدرات القاتلة التي
...
-
موسكو.. -رحلات في المترو- يطلق مسارات جديدة
-
-شجيرة البندق-.. ما مواصفات أحدث صاروخ باليستي روسي؟ (فيديو)
...
-
ماذا قال العرب في صاروخ بوتين الجديد؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|