علي شفيق الصالح
الحوار المتمدن-العدد: 2903 - 2010 / 1 / 30 - 07:35
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
هذا العدل الذي نريده كورثة أولى الشرائع والحضارات
الدكتور علي شفيق الصالح
العدل أساس الملك, وهو من أهم القيم في المجتمعات البشرية, وأن القضاء على الظلم من أهم وسائل وقف العنف, ولهذا يحرص النواب في البلدان المتقدمة على أن يكون العدل من أولويات برامجهم الإنتخابية. ومن حق ورثة أُولى الحضارات والشرائع المدونة في العالم ورواد الفقه والقضاء, المطالبة برفع راية العدل في بلدانهم. ونعرض هنا أهم ما نريده من النواب والإصلاحيين ورجال القانون لتحقيق هذا الأمل.
وقبل كل شيء أننا لا ننكر جهود الذين يعملون بإخلاص لتحقيق العدل تحت ثقل التركات الناتجة عن الكوارث في اغلب الدول النامية التي أدت الى اضطراب القوانين والعدالة. وإذا وجدَ البعض بأن مطالبنا طموحةٌ فلإن لنا أمجاداً في التشريع نأمل إستعادتها, وكما يقول المتنبي: "على قَدرِ أَهل العزمِ تأتي العزائمُ".
وفي البداية نأمل وضع قوانين وإنشاء محاكم تحفظ حقوق المواطنين, وتعطي كل ذي حق حقه, وتمنح الفرص المناسبة للجميع, وتضمن لنا حرية التعبير في اطار القانون, حيث لا توجد حرية بدون قانون. ونريد سيادة القانون بحيث يكون القانون فوق الجميع سلطة كانت أم فرداً. ومن المفيد في هذه المرحلة سن قوانين جيدة تعيد إحساس مجتمعنا بالعدالة والمساواة واحتواء العصبيات والتخلف والعنف, وبالتالي اتاحة الفرصة للإنتعاش الحضاري وارتقاء القيم الإجتماعية, فأن القوانين الجيدة تؤدي الى خلق قوانين أفضل، والقوانين السيئة تؤدي إلى قوانين أسوأ كما يقول الفيلسوف جان جاك روسو.
نريد قوانين شفافة
ونأمل وضع قوانين شفافة واضحة التعبير بدون صياغات معقدة يصعب علينا حل طلاسمها, ونريد إستعمال لغة مبسطة يستطيع الأنسان العادي فهمها لأن فهم القوانين قد أصبح عندنا حكراً للمحامين. كما نريد نشر القوانين بكل الوسائل, وإستخدام الترتيب الفني الحديث للقوانين والأساليب التكنولوجية المتطورة في الفهرسة, حيث أن العثور على النصوص القانونية والأحكام القضائية يحتاج حالياً الى جهد كبير ووقت طويل.
كما نأمل وضع أليات إرشاد وإجراءات وقائية احترازية لدى المحافظات والإدارات الحكومية ذات العلاقة المباشرة بمصالح الناس, كدوائر التسجيل العقاري, والأحوال المدنية, وكتاب العدل, والمحاكم, للإجابة عن استفساراتنا وتزويدنا بالنصائح والإرشادات المجانية وما نحفظ به حقوقنا قبل أن نقع بالخطأ ويأتي يوماً لا يرحمنا فيه أحد, وتطبق علينا قاعدة " الجهل بالقانون ليس بعذر" بمعناها الحرفي الضيق حتى لو كان الجهل من النوع الذي يتعذر علينا الإحتراز منه عادة.
ونريد في المقابل أن يسعى كل مواطن الى معرفة القوانين التي تصدرفي البلاد واحترام هذه القوانين, ونريد النص على أن يكون ذلك في مقدمة واجبات المواطن.
ثم نأمل أن ينصف القضاء ضُعفنا وجهل البسطاء منا, ويراعي ظروفنا عندما تتضح له حسن نوايانا, لأنه حاشى أن يكون القضاء العادل آلةً بلا مشاعر، وقد حثت جميع الشرائع على " حسن النية " في التعامل بالبيع والشراء والدَيّن, لأجل إستمرار الأُلفة والإخاء. ويعلم رجال القضاء عندنا بأن " طريق المحاكم معبدة بحسن النيات ", لإن أصحاب هذه النيات هم الذين يكونوا في الغالب ضحيةً لضعاف النفوس.
مساعدة القضاء للضعفاء
كما نأمل وضع آليات وبدائل في القضاء تنصف الناس البسطاء في حالة أن يتعذر عليهم توفير أدلة تثبت حقوقهم, خاصة عندما يرجح الظاهر تعرضهم للظلم, حيث نرى يوميا عشرات الناس البسطاء يقعون ضحايا ظلم لجهلهم القانون غصباً عنهم, ويتورطون بإمور تجرهم لعقوبات تصل أحياناً حد المآسي ولا يجدون من ينصفهم, وقديماً قيل أن الجاهل عدو نفسه. وهكذا نرى المواطن عندنا مظلوم لجهله بالقانون ومظلوم لعدم إنصافنا له.
سرعة المحاكمات ومشاركة المجتمع في القوانين
ونريد محاكم قادرة على عدم إطالة النظر في قضايا الناس تحت أي ظرف كان وحسمها بزمن مناسب, ونحن نعلم أن السبب في ظاهرة تكدس القضايا يعود في الغالب الى قلة عدد رجال القضاء وتعقد الإجراءات, حيث يستغرق نظر الدعوى أحياناً أشهر طويلة وسنوات يتأخر فيها إظهار الحقيقة وتضيع معها بهجة العدالة ومذاقها, وقد صحت المقولة الشهيرة في القانون الإنجليزي: " البطء في التقاضي إنكار للعدالة " (Justice
delayed, Justice denied )
ونحن نريد حلاً لمشكلة تزاحم القضايا في المحاكم, علماً بأن المواثيق الحديثة لحقوق الإنسان قد نصت على حق المتقاضين أن تنظر المحاكم في دعواهم خلال فترة معقولة ( كالمادة السادسة من الأتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان ), ونعلم أنه قد ورد ما يشابه ذلك في دساتير العديد من دول العالم, ومنها الدستور المصري لسنة 1971, الذي نص على أن تكفل الدولة سرعة الفصل في القضايا ( المادة 67 ) . ونحن نرى كحل للمشكلة, إنشاء محاكم متخصصة ولجان قضائية للفصل في بعض أنواع المنازعات البسيطة, كما هو حاصل في إنجلترا منذ عدة سنوات, بحيث يوجد حالياً ما يزيد على 50 نوعاً من هذه الهيئات تنظر أكثر من مليون قضية سنوياً, تحت رقابة المحاكم العليا لأجل ضمان وحدة القضاء.
ونحن نريد قوانين منصفة وقابلة للتنفيذ تخرج من رحم المجتمع بحيث نساهم كلنا, كنواب وأصحاب إختصاص وعامة الناس, في وضعها ولا تكون وسيلة لمنفعة الدولة أو جماعة في الحكم, ونحن نذكر كيف أن شريعة حمورابي, التي وضعت قبل أربعة آلاف سنة, ليس في أحكامها البالغة 282 مادة ولا واحدة مخصصة لحماية الدولة والحكام! , بل أن كل موادها وضعت لمنفعة أفراد المجتمع.
وإذا ما وجدنا بأن الكثير من المواطنين في البلدان المتقدمة على إستعداد للإلتزام بالقانون فذلك لأنهم يساهمون في صناعته ويرون فيه فائدة لهم جميعاً, فضلاً عن خوفهم من العقوبات الرادعة. والأمثلة كثيرة على ذلك, منها قبول المواطن منع قيادة السيارات في حالة تعاطي الكحول, وقبول العقوبات التي قد تصل في هذه الحالة الى حد مصادرة المركبة وسحب رخصة السياقة لأن فيها إنقاذ لإرواح إلوف الناس وهو منهم.
تنفيذ الأحكام وتقديم المساعدات القضائية
ونحن نريد أجهزة نزيهة وفعالة تضمن تنفيذ قرارات المحاكم بدون عراقيل أو تراخي, فأن حضارة الأمم تقاس بمستوى إحترامها لتنفيذ أحكام قضاتها. أن وجود القاضي لا يكفي وحده لحل المنازعات بين الناس, كما يشير عالم الإجتماع د. علي الوردي, ولا بد أن يكون مع القاضي أجهزة حكومية قادرة على تنفيذ أحكامه. وهذا ما يلمسه جيداً فقهاء القانون.
كما نأمل وضع نصوص وآليات لسد حاجة المحتاجين منا " للمساعدة القضائية " لكي يكون كل فرد ضعيف الحال قادراً على توكيل محام ودفع رسوم التقاضي على قدم المساواة مع الآخرين, فأن "المساواة أمام القضاء" من أهم المباديء في مواثيق حقوق الإنسان. ومعلوم أن فكرة المساعدة القضائية للمحتاجين مطبقة في أغلب الدول الأوربية كفرنسا, التي لديها نظاماً متطوراً في هذا المجال, وبريطانيا وفي عديد من الدول الأخرى مثل الصين, وتهدف الى إعفاء المدعي ضعيف الحال من دفع رسوم المحاكم, ومساعدته على سداد اتعاب المحامي جزئياً أو كلياً إذا ثبت عدم قدرته على دفعها وكانت دعواه محتملة الكسب.
كرامة المرأة ورعاية الأطفال أولاً
ونريد قوانين ومحاكم تحفظ كرامة المرأة وتضمن رعاية حقيقية وفعالة للأسرة, وبأن يكون الزواج والطلاق ورعاية الأطفال شأناً عاماً يخص كل المجتمع وليس شأناً شخصياً, لأن الأسرة نواة المجتمع وبصلاحها يتطور ويتقدم المجتمع. ولهذا لا غرابة أن ندعوالى تغييرمسمى قانون الأحوال الشخصية الى ما يفيد بأنه قانون أسرة يهم كل المجتمع وليس شأناً شخصياً.
ونحن نريد أن يكون عقد الزواج عقد مشاركة وتبادل في الحقوق والواجبات وليس عقد خادمة أو جارية, بحيث تكون المرأة شريكة حياة الرجل. ونريد في المقابل أن تثبت الزوجة بأنها فعلاً بمستوى هذا التقدير وأهلاً لإنصاف العدالة.
ونأمل وضع قوانين ومحاكم ترفع من شأن المرأة وتشدد العقوبات على جرائم الإغتصاب والقذف, وكافة أنواع جرائم العنف ضد المرأة, بما في ذلك العنف النفسي الذي هو من أخطر أنواع الإيذاء للمرأة وله آثار مدمرة على نفسيتها, وتكمن خطورته في أن القانون لا يعترف به، ويصعب إثباته, ونؤكد على ضرورة أن يحاط هذا الموضوع بقدر كبير من إهتمام المشرعين والجهات العاملة في المجال الاجتماعي والصحي وحقوق المرأة والطفل.
ونريد قوانين ومحاكم تمنع تذرع أي سلطة أو إنسان تحت أي ظرف بدواعي العرف أو الدين لتبرير العنف ضد المرأة, ونريد إزالة النصوص التي أدخلت تعسفاً في السابق في قانون العقوبات والتي تبرر العنف ضد المرأة بدون ضوابط أو رقابة قضائية تضمن عدم تعسف الزوج المستبد أو الجاهل.
ونحن نريد دوائر حكومية وهيئات من المجتمع المدني ودور حماية رسمية قادرة على سرعة تقديم العون اللازم للضعفاء من النساء والأطفال ضحايا الظلم الناتج من العنف, وأن تكون ملاذا لهم الى حين دفع الضرر الحاصل عليهم والإطمئنان على سلامتهم.
الشفافية في الإدارات والحماية من التعسف
ونحن نأمل وضع قوانين وإنشاء محاكم تشدد الرقابة على الإدارات الحكومية وكل المرافق العامة, وتضع حداً لأي من تسول له نفسه بالتعسف أو إساءة إستعمال سلطته, وتضمن حقوقنا في مواجهة الإدارة ذات السلطة والنفوذ. ونريد "الشفافية" في تصرفات الإدارة, بحيث تكون قراراتها "مسببة" أي تذكر لنا أسباب رفضها لطلباتنا, وأن تخضع هذه الأسباب للتظلم ولرقابة قضائية تحمينا من القرارات التعسفية ومن أهواء المدراء الذين يتذرعون غالباً بأسم "المصلحة العامة" لتبرير ظلمهم لنا. كما نريد إمكانية الإستعانة بالقضاء في حالة سكوت الإدارة وعدم ردها على طلباتنا ( أي ما يسمى بالرفض الضمني ), أو إمتناعها عن تنفيذ الأحكام الصادرة لمصلحتنا.
كما نريد أن تكون الشفافية أيضاً في المدارس والمستشفيات ومرافق الكهرباء والماء والزراعة والسجون وبقية مؤسسات الدولة ذات الصلة بالخدمات, بحيث نعرف ماذا يدور خلف الأسوار من برامج عامة, كالتعليم والصحة وغيرها, للمشاركة في الرأي ومحاسبة المقصرين بواسطة أجهزة رقابة إدارية وقضائية.
ونحن نأمل وضع ضمانات حقيقية وكافية لـ " حماية المستهلك ", خاصة في مجال الأغذية والأدوية والمراكز الصحية ومعارض بيع الأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية والسيارات وخدمات البنوك والتأمين ومكاتب العقارات والنقل. نريد أجهزة حكومية ومؤسسات المجتمع المدني تحمينا من المستغلين وتكشف لنا زيف الدعايات المضللة وأساليب التحايل والغبن أو التغرير في معاملات البيع والشراء وكافة أنواع الخدمات. ونريد عقود نموذجية تعدها الدولة في كل مجالات التعامل تحمي حَسني النية منا, ونريد عقوبات مشددة على جرائم الغش التجاري والنصب والإحتيال.
#علي_شفيق_الصالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟