حقائق تكشفها وثائق وزارة الخارجية الامريكية
× مقدمة:
مع تجدد النقاش والجدل حول جدية الادارة الاميركية الحالية، بزعامة جورج دبليو بوش، في التحرك للتخلص من صدام حسين، وما يتكرر على لسان مسؤوليها بانها تتطلع الى نظام بديل يحترم الديمقراطية وحقوق الانسان، من المفيد مراجعة السياسة الخارجية للولايات المتحدة ازاء العراق خلال العقود الاخيرة، وتسليط الضوء
على مواقف ادارات سابقة من نظام صدام في مراحل ومنعطفات محددة، كي نضع العلاقة الحالية بين واشنطن وبغداد في سياقها التاريخي.
وهي مراجعة مطلوبة ايضاً من اجل فهم اعمق للعوامل الاساسية التي تحرّك السياسة الاميركية تجاه العراق، وبشكل خاص ما يرتبط بمصالحها الاستراتيجية على الصعيد العالمي وفي الشرق الاوسط تحديداً، ومصالح امنها القومي. فهذه العوامل تتميز بثبات نسبي على رغم ما طرأ من تحولات كبيرة معروفة على الصعيد العالمي منذ نهاية الثمانينات.
تركز هذه المقالة على موقف ادارة الرئيس رونالد ريغان خلال الثمانينات من استخدام النظام للسلاح الكيماوي ضد الشعب الكردي وحركة البشمركة والانصار المسلحة في كردستان، وكذلك في ميادين القتال ضد القوات الايرانية. وشهدت فترة الثمانينات عودة العلاقات الدبلوماسية بين العراق وامريكا، وتطور الصلات بوتائر سريعة خلال الحرب العراقية - الايرانية، حتى بلغت مستوى من التعاون لم يسبق له مثيل على الصعيد الاقتصادي والعسكري والاستخباراتي. وكان لهذه العلاقة المتطورة، التي ما يزال الكثير من فصولها غامضاً، دور حاسم في خروج النظام العراقي «منتصراَ» من حربه مع ايران عام 1988.
الجديد في تناول هذا الموضوع ان المعطيات تستند على ما كُشف عنه النقاب حتى الآن من وثائق وزارة الخارجية الامريكية. وهي بالتالي ليست مجرد تكهنات، او احكام مسبّقة من منطلقات معادية لامريكا. بل انها تهدف الى وضع حقائق موثقة امام القراء ليطلعوا على ما كان يحرّك فعلاً السياسة الامريكية تجاه القضية العراقية قبل عقدين، ويتيح في الوقت نفسه فهماً افضل لما يحرّك هذ السياسة في الوقت الحاضر.
الحرب الكيماوية
على امتداد الحرب العراقية - الايرانية، اختارت ادارة ريغان ان تعطي لادامة العلاقات الاميركية - العراقية اولوية على المخاوف بشأن استخدام النظام للحرب الكيماوية. وبالرغم من ان واشنطن اعتبرت هذه القضية عاملاً معيقاً لتوسيع العلاقة، يبدو واضحاً انها تعاملت معها باعتبارها، الى حد ما، مشكلة «علاقات عامة» بالنسبة للعراق.
راقبت الولايات المتحدة عن كثب استخدام النظام للاسلحة الكيماوية. فأشارت احدى وثائق وزارة الخارجية الاميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) 1983، على سبيل المثال، الى «الاستخدام اليومي تقريباَ للسلاح الكيماوي» من قبل العراق، واقترحت مفاتحة بغداد بهذا الشأن. [1]
واوصت وثيقة اخرى للخارجية الامريكية بان تجري هذه المفاتحة بأسرع ما يمكن لتجنب ما سيكون «مفاجأة غير سارة» للنظام بسبب «مواقف معلنة قد نُضطر الى اتخاذها بشأن هذه القضية». [2] ويشار الى ان الولايات المتحدة اعلنت، في آذار (مارس) 1984، ادانتها للعراق لاستخدامه اسلحة كيماوية.
كما تشير هذه الوثائق الى ان الولايات المتحدة كانت تعرف ان النظام العراقي، الذي كان يعتمد بشكل اساسي على التكنولوجيا الغربية، قد حصل على منشأة لانتاج الاسلحة الكيماوية.
وواصل النظام استخدام هذه الاسلحة ضد القوات الايرانية على امتداد الحرب. لكن القضية اصبحت مصدر إشكال اكبر بالنسبة الى ادارة ريغان في ربيع وصيف 1988، عندما شن النظام هجمات كيماوية ضد السكان الاكراد في حلبجة واماكن اخرى.
وفي 2 ايلول (سبتمبر) 1988، اكدت وثيقة للخارجية الاميركية وقوع هجوم على مقاتلين اكراد في 25 آب (اغسطس) 1988. فيما جاء في مذكرة رفعت الى وزير الخارجية الامريكي ان «فشل المجتمع الدولي في تعبئة رد فاعل ادى الى اضعاف العوامل الكابحة لاستخدام هذه الاسلحة في المنطقة واماكن اخرى». [3]
لكن ادارة ريغان وقفت ضد مساعي في الكونغرس الامريكي للرد على جريمة استخدام الاسلحة الكيماوية ضد المدنيين الاكراد بفرض عقوبات اقتصادية على النظام. وجادلت الادارة بان ذلك سيتعارض مع مصالح الولايات المتحدة، ومن بين النتائج السلبية المحتملة التي اشارت اليها بهذا الشأن ان هذه الخطوة ستعرّض الى الخطر الحصول على عقود لـ «اعادة إعمار ضخمة في مرحلة ما بعد الحرب» في العراق. [4]
ونجحت ادارة ريغان في قطع الطريق على محاولة تمرير مشروع قانون لفرض عقوبات اقتصادية على النظام.
قضية ثانوية
بقيت قضية استخدام السلاح الكيماوي من قبل حكام بغداد مثار خلاف، لكن من الواضح انها كانت ذات اهمية ثانوية في العلاقات الامريكية - العراقية، بالنسبة الى ادارة ريغان.
وفي اواخر كانون الاول (ديسمبر) 1988، أعدت الوزارة تقريراً لوزير الخارجية الامريكي جورج شولتز يتضمن مراجعة في ما يتعلق باحتمال توفير ضمانات تصدير متوسطة المدى من «إكسيمبانك» (Eximbank) للعراق. وكان هذا المصرف مستعداً لتزويد العراق بتمويل قصير الأمد فقط، لان وضعه الاقتصادي المتدهور ومديونيته العالية والمشاكل السابقة في اعادة تسديد القروض جعل تزويده بغطاء متوسط او طويل الأمد ينطوي على مجازفة كبيرة.
لكن ريتشارد مورفي، من «مكتب شؤون الشرق الادنى وجنوب آسيا»، وألن واليس، من «مكتب شؤون الاقتصاد والاعمال»، جادلا بان تقديم تمويل طويل الأمد ضروري لتمكين الشركات الامريكية من التنافس على العقود لعملية اعادة اعمار العراق بعد انتهاء الحرب. كما اعتبرا ان هذا التمويل سيؤدي الى توسيع الصلات التجارية، ما سيؤدي بدوره الى تحسين العلاقات السياسية مع قيادة النظام العراقي.
لكن ريتشارد شيفتر، من «مكتب حقوق الانسان والشؤون الانسانية»، عارض بشدة زيادة تسهيلات القروض للعراق بعد اربعة اشهر فقط على استخدام اسلحة كيماوية ضد الاكراد. ووصف نظام صدام حسين بـ «واحد من اكثر الانظمة وحشية وقمعاً في العالم»، مشيراً الى ان «افعاله في 1988 فاقت كل ادائه السابق. انها تشكل على الارجح الانتهاكات الاكثر خطورة في الثمانينات». وقال ان الاجراء الذي اُتخذ ضد الاكراد «صدرت اوامر به من قمة (النظام)، بطريقة محسوبة باردة ... ولو ان الرأي العام الاميركي اطلع على انتهاكات حقوق الانسان في العراق، مثلما هو مطلع على انتهاكات حقوق الانسان في بلدان تغطيها وسائل الاعلام على نحو اشمل، لكانت هناك بالفعل اصوات احتجاج كبيرة ضد تقديم مساعدات امريكية لهذا البلد. وعلى رغم ان الحقائق حول السجل المشين للعراق في مجال حقوق الانسان غير معروفة بشكل عام، فانها معروفة لنا وينبغي ان تؤخذ كلياً بالاعتبار».
لكن مورفي خالفه الرأي، ملمحاً الى ان هذا التوصيف لسلوك النظام العراقي يستند على مصادر متحيزة، ولفت الى ان الهجمات تمت ضد الاكراد الذين تحالفوا مع عدو العراق، ايران. وجادل بانه ينبغي للولايات المتحدة ان تكون «عملية» في تقديرها لما يمكن ان تحققه عبر الضغوط الاقتصادية. وبعدما لفت الى «موقع تنافسي يواجه تحدياً متزايداً حول العالم»، أوصى بتقديم ضمانات قروض تصدير متوسطة المدى للعراق. لكن شولتز ارجأ
اتخاذ قرار، قائلاً ان الموضوع ينبغي ان يُترك لادارة بوش القادمة.
----------------------
المصادر:
[1] مذكرة وزارة الخارجية الامريكية: «استخدام العراق للاسلحة الكيماوية»، 1/11/1983.
[2] مذكرة وزارة الخارجية الامريكية: «استخدام العراق للاسلحة الكيماوية»، 21/11/1983.
[3] مذكرتان لوزارة الخارجية الامريكية: «اغنية التّم لأكراد العراق؟»، 2/9/1988. و «سياسة الولايات المتحدة ازاء استخدام العراق للاسلحة الكيماوية»، 13/9/1988.
(ملاحظة: «اغنية التمّ» هي اغنية يُزعم ان التّم أو الأوز العراقي ينشدها عند موته، او ما يعني حشرجة الموت.)
[4] مذكرة وزارة الخارجية الامريكية: «تمويل الصادرات والواردات للعراق»، 29/121/1988.
صفحة «الطريق»