أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محسن صابط الجيلاوي - الشخصية العراقية بين الحضور... والغياب القسري















المزيد.....


الشخصية العراقية بين الحضور... والغياب القسري


محسن صابط الجيلاوي

الحوار المتمدن-العدد: 879 - 2004 / 6 / 29 - 07:11
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


ملاحظات وقضايا لنقاش أعمق...

تكثر التساؤلات والدراسات التي تتناول ( المجتمع العراقي...والشخصية العراقية)، فالأمر يكتسب أهمية استثنائية لبلد مثل العراق يمر بظروف صعبة ومتناقضة وجديدة في حياته السياسية والاجتماعية الاقتصادية، وبقدر ما لهكذا أمر من أهمية خاصة، تكمن هناك صعوبة حقيقية في دراسة واستيفاء الموضوع حقه بكل أبعاده ومستوياته، فنحن أمام مجتمع بلا مؤسسات تستطيع أن تستقي منها المعلومة الموثوقة، ولا إحصائيات (ستاتستيك ) تقف ورائها مؤسسات ذات مصداقية، ولا يوجد هناك تنظيم حقيقي لمؤسسات المجتمع المدني، فحتى إحصاء سكاني متواضع صعب الحصول عليه في العراق، بل ممكن القول لا توجد دولة بمؤسسات متكاملة لحد الآن تستطيع أن توفر للدارس مناخا للبحث والاستقصاء في هذا المجال..نحن بهذا أمام صعوبة بمكان في إعطاء الموضوع حقه من جميع الجوانب.. يبقى ما أريد قوله هنا هي محاولة أولية لإثارة ولتنشيط الجدل والنقاش لموضوع حيوي وهام يشغل كامل مستقبل بناء الوطن والمجتمع...
لقد تعرضت الشخصية العراقية لانتهاكات فظيعة تحت حكم الدكتاتورية، بل أستطيع القول ان أكثر ما شَغل الدكتاتورية أثناء حكمها هو الحرب والد وغما واختراق حصانات الإنسان الطبيعية في حب الخير والعدل والسلم والحياة...لهذا كان هم النظام ومؤسساته هو إخراج الإنسان العراقي من الفعل الطبيعي للبشر وإسكانه عالم الخرافة والخوف والولاء المطلق لشخص الدكتاتور...فتحت هذه الإرادة اجتمعت كل ماكنة الدكتاتورية لتكريس مفاهيم جديدة تحاول أن تكنس أو تلغي العمق التاريخي للعراق وإنسانه الباحث عن التقدم والمعرفة والمساهمة في الحضارة الإنسانية...لقد عاشت الدكتاتورية وللأسف الشديد عمرا طويلا حوالي ثلاث عقود وأنا أضيف لذلك عقدان آخران عندما بدأ العسكر يتدخل في السياسية...أكثر من نصف قرن والمجتمع العراقي يعيش تحت اختزال عجيب في طريقة حياته عبر انتهاك كامل مقومات الحرية والحياة الكريمة...لهذا فقد تركت الدكتاتوريات المتعاقبة خرابا هائلا طال كامل حياة المجتمع ولم تبقى هناك ولا صغيرة لم يُعمل عليها بالأخص من قبل العفالقة في تطويعها بشكل مختلف عن المعتاد، لتحقيق قبضة حديدية في إدارة المجتمع وفق رغباتهم وبالتالي تحقيق تلك السيطرة المخيفة على بلد يمتد عمقه المعرفي والحضاري لآلاف من السنيين...
الحرب هي أكثر أدوات تحقيق السياسة هولا وخطرا في المس بالإنسان بكل تلك التفاصيل والأبعاد.. فالحرب تدخل كل فراغات الرخاء مثل التنزه بهدوء، التمتع بسفرة مريحة، التطلع نحو سماء طليقة، الزهو بالأولاد القادمين للحياة، الانشغال اللذيذ بالأحفاد، بالذهاب المرح للمدرسة، بحيوية الشارع في مساء جميل، بالتمتع بالطبيعة، بعدم الخوف من القادم....الحرب تلغي هذه التفاصيل ويحل محلها الرعب، الخوف، فكل شيء إلى هناك، إلى الجبهة، الزوج، الابن، الحبيب، الخاكي، مشاريع الموت الذاهبة، الموتى القادمون، الجنازات، الفواتح، تدبير العيش...وغيرها من التفاصيل ومع هذا يختفي الفرح والانطلاق بالحياة والتلذذ بها، وتركض أمام كل ذلك هاربة تلك الأمور المحببة للعيش الجميل لأنها لم تعد مع القصف سوى أمور من البطر...يحل محل كل شيئ رغبة التشبث بالبقاء، ولتحل تلك المقارنات المحزنة كم عدد أولاد لي في الجبهة مقارنة بالجار حيث جميع أبناءه هناك، كم عدد القتلى في هذا البيت بالقياس أمام عائلة فقدت عدد كبير من أبنائها... باختصار يكمن القول أن الوطن يتشح بالسواد والحزن والمراثي...هنا يبدأ المجتمع بالتكيف لحياة غير طبيعية تزيح كل ما هو مألوف وطبيعي ليحل محلها كل تلك الاستثناءات العجيبة لكي تستمر دورة الحياة العسيرة، و لكي يتشبث الإنسان بالعيش والبقاء...
تحت الحرب العراقية الإيرانية والتي استمرت لسنين طويلة تمت تصفية أجيال كاملة، الآلاف من الأرامل، فرق الإعدام، التحايل على الذهاب إلى الجيش أو إلى الجبهات، الفرار من القدر المحتوم وتبعات ذلك...حالة من الخوف تلبست مجتمع لم يكن مستعدا للحرب، لم يؤخذ رأيه فيها، ولم يجد مبرر ما لاشتعالها بكل ذلك الهوس من الدعاية والحقد العنصري البغيض...الحروب تكاثرت، حرب الخليج الأولى ثم الثانية، الحرب على الشعب الكردي، الحرب على الشيعة، حرب الأهوار، يضاف لذلك حروب صغيرة للأحزاب المعارضة..مادة كل هذا الإنسان العراقي وبالأخص عقلة المستقبلي ( الشباب)، لقد تم تحريض موهبة القتل، فبدونها لا توجد حرب منتصرة...لقد وضع المجتمع كاملا بتنظير عجيب لكي يكون مستكينا لنقله إلى حتفه على جبهات الموت، فعليك إذا تحقيق النصر وأي تراجع يعني الموت، يلاصق كل هذا حرب تستهدف فكر الإنسان، روحة، فإشاعة الإرهاب، كثرة عدد الجلادين، وجُعلَّ خلف كل إنسان عراقي يسير جلاد مُنتشي مستعد لإطلاق رصاصة في رأس ضحيته، الجلادون عبارة عن دائرة تحكم وتجلد بعضها...مع هذا تغيرت مناهج الدراسة، وشكل الدرس، وآليات التعليم..، كذلك وجدَّ إعلام هائل يفجر ويغور في رأس كل عراقي، أغاني، أفلام، قصص، قصائد، شعارات، مظاهرات، خرافات، حملات إيمانية، قتل النساء، عنصرية، مجوس، عرب لصوص، القعقاح، صلاح الدين بزي جديد، الماجدات، مفردات لا تنتهي تسير مع البشر كخيال دائم...الهدف من ذلك هو تمجيد الدكتاتور والحرب، الهدف الأكبر كذلك عدم إعطاء ولو فرصة بسيطة للإنسان كي يتأمل الحياة ويجيب على الأسئلة المهمة فيها، هذا هو ما كان يخيف الدكتاتورية، فقد جرت ملاحقة البشر في كامل التفاصيل الصغيرة لحياتهم اليومية...
لقد راهنت الدكتاتورية على قتل كل فراغ فائض يتيح للفرد أن يكونَّ موقفا نقديا من الحياة، أن يعبر عن مسؤوليته في إنشاد الأفضل، لقد وزع النظام الحياة إلى حفلة لا تنتهي من الركض وراء لقمة العيش، التحايل من أجل البقاء، الركض للحاق بالوحدات المقاتلة، إيفاء التزامات المواطن المتناهية الكُثر أمام عدو وهمي من خلال جيش شعبي، جيش القدس، حرس جمهوري، أمن، مخابرات، استخبارات، شرطة، حراس حدود...دوامة لا تنتهي من واجب متواصل للمواطن من أجل رفعة الوطن وبقاء الهيبة العظيمة للقائد الفذ...
تلك مأساة تحتاج إلى دراسات في كل مفردة من هذه الشائك الذي امتهن الشخصية العراقية وسائر المجتمع العراقي، ولو توفرت مناخات ملائمة للمواطن لصحا على تلك الغربة الشديدة التي وضع بها بعيدا عن العالم...
اليوم بعد سقوط الدكتاتورية والوقوف بوضوح أمام هذا الخراب الهائل الذي تركته ورائها، تبرز بوضوح تلك المعاناة الغير طبيعية للفرد العراقي، فما تعرض له هو اكبر من تصورات كل واحد على انفراد، نحن كنا نعرف كيف يقاد الناس إلى السجون، وبشكل بسيط كيف يجري التعذيب، لكن بعد سقوط الدكتاتورية استطعنا أن نعرف كيف كان هؤلاء الهمج يتعاملون بلا رحمة مع ضحاياهم، وان فن التعذيب لديهم قد فاق كل مقدرة خارقة على التصور والخيال في أبشع تجلياته، لقد تم صنع فئة سادية مهنتها الأجرام والبحث عن الضحايا بكل ذلك الاجتهاد العجيب... في قصة المقابر الجماعية، هناك سؤال يحيرني كم عدد الذين ساهموا بتنفيذها؟ كيفية دفن طفل مع ألعابه، أي خيال أهوج للإجرام وللمنفذ؟ لذلك يجب القول وبوضوح أن هناك خللا قد تم على صعيد الشخصية العراقية..
لا أستطيع أن يفوتني القول أن صعود وتثبيت حكم الدكتاتورية تتحمل جزء منه الشخصية العراقية وكامل الثقافة التربوية والسياسية التي عاش عليها العراقي في العقود الأخيرة...فعند أواسط السبعينات لم نجد سوى ركض وراء الهبات التي توزعها الدكتاتورية، كما إن حب الشخصية العراقية للرجل الحاكم القوي قد أعطت هذا القائد الضرورة تلك المادة لكي يتواجد فيها بكل ذلك الحضور وليُغرس من خلالها وبكل بساطة، ضرورة وجود قائد يفكر عن أمة بكاملها...أحيانا يتخيل لي أن أفول قاعدة الدكتاتورية تناقص بفعل تناقص الهبات التي تمنحها...لهذا في أواخر السبعينات ( فترة رخاء ودفع سمين للنظام ) لم أجد شخص يتضامن معي كمعارض للنظام ماعدا رفاق التنظيم السياسي الذي أنتمي إليه، لم نجد جماهير تحمينا، بل جماهير تنبح للدكتاتور الشاب وبإرادتها تماما...لو كانت هناك روح وثقافة تنظر بعمق لهبات الدكتاتورية لحللت تلك الهبات على حساب الآخرين بأنها مسالة تريد أن تدوس الضمير والكرامة والمساواة وان ذلك اعتداء على الحرية والحق...ولم يبقى أمام المواطن سوى الإنحناء للبطش وتلقي أمر القائد القوي كأمر واقع وضروري أو الهرب بعيدا عن دائرة البطش، بعضهم رغم كل ذلك بقى نصف هنا ونصف هناك...
لقد تغيرت روحية العراقي ووظفت كل العوامل لجعله هامشيا، إنتهازيا، راكضا وراء الكسب الرخيص، والتسلق على أكتاف الآخرين، جعله محبا للنميمة، وأشيعت في حياة المجتمع روحية التجسس، والضعف، والخنوع، وعدم حب الخير، والغيرة من الآخر، والخوف من الرأي المخالف... لقد ساهمت السلطة وسائر الطبقة السياسية في هذا المسعى لتدجين الإنسان العراقي وجعله مطواع لقرارات ورغبات القائد الضرورة وهو ليس فقط رأس النظام بل مئات والآلاف من قادة الكارتون الذين غرفوا من نفس مستنقع الايدولوجيا رغم الفوارق في الشكل لكن المحتوى واحد هو تحطيم إرادة الإنسان بالتفكير الحر، المستقل، المشبع بروحية النقد والجدل لكي تستمر الحياة بدورتها المفترضة في التقدم والرقي...لقد استمد النظام كل معارفه وأدوات بقاءه وقهره للبشر من كل المعارف المقدمة من الأنظمة التلوتارية بكل تلاوينها ( الفاشي، الشيوعي، الديني ) وقدم خطابا يستفيد من كل هذا الإرث وبالتالي استطاع أن يهمش مجتمعا قادما ويخرجه من دائرة التطور والحداثة...
ففي الوقت الذي كانت الشعوب تدخل عصر التقنيات الحديثة وثورة الاتصالات والحداثة الواسعة الأفق والمحتوى، كان العراق يدخل زمن البداوة، وعودة تقاليد القبيلة، ويخرج من دائرة أي مساهمة في تطوير الحضارة الإنسانية، لقد بُنيت حصارات مركبة، داخلية وخارجية استهدفت شعب بكاملة في محاولة إذلاله وتهيمشه ولم ينج من ذلك سوى المافيا السياسية بحدود معينة، فبالتوازن مع سلطة القمع وجدت طبقة لا يستهان بها دربا فسيحا للتحايل من اجل تاطير مصالحها في مهنة مبتكرة اسمها السياسة والعمل السياسي والتي أتاح لها العيش بهامش جيد من الحياة العادية جوهرها الارتزاق...
لقد حطمت ثقافة الايدولوجيا بكافة تنوعاتها تلك الروح الطبيعية للبشر وحل محل ذلك الهتاف للقادة، وللأفكار العظيمة، ولخيالات الايدولوجيا، والثوريات القادمة على بحر من الدماء عبر شهداء قديسين تكاثرهم يعني نصرا قادما سيأتي بكل تأكيد وبهذا تم رفع قيمة التغني لهذه الفئة ولهذه المؤسسة السياسية أو تلك على حساب قضية شعب ووطن...مسعى الجميع هو السلطة لتحقيق ذات الأيدلوجي وليس لتحقيق خدمة ينتظرها الناس بلا هتاف متعب للحناجر وبلا بيع للضمير بشكل بخس...
المجتمع العراقي اليوم بعد هذا السفر المرعب من حياته تنهشه الأصولية السياسية بكل أطيافها، وعند زيارتي للعراق كنت اجري دوما مقارنات ليس بين العراق اليوم وبلدان أخرى بل كنت اجري مقارنات بين حاضر العراق اليوم، ومجتمعة السبعيني إن صح التعبير، ولكوني عشت كل هذا الانقطاع فقد كنت أتلمس كل هذا الوضوح في المحنة التي مر بها الإنسان العراقي، فالمجتمع يعيش بلا هوية فكرية مترابطة، أقصد بها مجموعة المثل والقيم التي كنا نحياها في السبعينات، فالأصولية الدينية المتزمتة وجدت نفسها خير بديل للفراغ السائد، كل الأفكار بشقيها الديني وحتى اليساري لم تنتج إلا فكرا يحتقر الحقيقة ويلغي الآخر، لهذا يمكن تفسير كثرة الأحزاب الدينية الأصولية، وزيادة العمائم بشكل عجيب، كما إن هناك يسار أصولي في تشكيل عدد من الأحزاب الشيوعي (رابطة الشيوعيين الثوريين، الحزب الشيوعي العمالي، عودة القيادة المركزية )، شيء ما يؤكد تلك الفرضية القائلة إن اليمين واليسار المتطرف يلتقي في نقطة واحدة، وكلاهما لا ينتج فكرا ولا يغني إنسانا متطلع للاندماج مع العالم والتطورات الجارية فيه، فهذه الراديكالية السياسية ليس هما سوى النظر للآخر بالشك والخوف ومحاولة فرض نفوذها وآليات تفكيرها على المجتمع بالقوة كلما سنحت لها الفرصة، وفي تجليات ضعفها تحاول أن تسرق شعارات التحديث مثل بناء مجتمع ديمقراطي وغيرها، ولكن ليس بالاقتناع التام، فعند أول منعطف ستدوس على أي مكتسبات وتلغي أي إنجاز ديمقراطي تحقق، ولنُذكر بفترة صعود البعث في العراق وسوريا، والمتدينون في إيران، والأنظمة الشيوعية سابقا.. كلها اشتركت في لعبة التغني بالجماهير وما أن أُتيح لها باب السلطة حتى كانت الجماهير تتحمل عبا كل ذلك الظلم والإلغاء والتغييب المبرمج وفق أيدلوجيات يكمن في جوهرها أخطاء كبيرة.
كل الأفكار الغاربة في العالم والتي رفضتها الشعوب تجدا مرتعا فسيحا في العراق اليوم...أننا نمر بتجارب البشرية في أكثر عصورها انحطاطا...
إن أمام العراق طريق واحد هو خيار الليبرالية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، خيار التعددية على كل المستويات، وسيادة وسعة نفوذ هذا الفكر مرهون بربط وإعادة ربط العراق بالعالم وجعل العراق حرا أمام استيراد التكنلوجيا الحديثة، أمام الخبرات الحديثة، ومعها بلا خوف الأفكار الحديثة، التي تساهم في البناء وفي تعزيز إعادة ثقة الإنسان العراقي بعقلة الخلاق والمبدع، مع التأكيد على احترام الخصوصيات التاريخية الجميلة لشعبنا العراقي...
كما يقع على مبدعي العراق ومثقفيه المساهمة الفاعلة في مناقشة هذه المسالة بكل تلك الجرأة، فليس الخطأ يكمن في الحاكم فقط، بل أثبتت التجارب إن للشعوب أيضا أخطائها، وبشكل خاص عندما تنحني أمام تلك القوى التي تريد أن تزيح هوية المجتمع والتي تكونت بتقادم مئات السنيين، فعندما يجري الاستهتار بقيم العدالة والخير، وزرع الحقد العنصري، وسيادة شعارات التعصب القومي، والمغالاة في التعالي على الشعوب الأخرى، وحب الذات، وحب التملك بلا شرعية، وتشجيع مظاهر السرقة، والرشوة والمحسوبية، والولاءات الحزبية والمناطقية، وتفتيت المساواة بين الناس، يعني هذا أن هناك تدمير لكل تفاعل خير مع الآخر، تفتيت لهوية المجتمع، لتحطيم ميكانزم مكونات الشخصية العراقية السوية، وسنكتشف لاحقا كما بينت التجربة التاريخية إن الضحية الأولى سيكون كامل الشعب الذي تلقى مسوغاتها الخطرة...
نحن بدون مجتمع تضامني، فيه فاعلية قوية لتنظيمات مدنية فاعلة، لدولة القانون والمؤسسات سيكون من الصعب حماية مستقبل الناس والوطن من مارق جديد يغتصب حياتنا....
نعم لقد جرت تغيرات عميقة وشرخ هائل في المجتمع العراقي، والإقرار بذلك هو المفتاح لمعالجة ذلك الخلل، وسيعتمد على نوعية المعرفة القادمة، والفكر الجديد، وإشاعة مفاهيم تقربنا من العالم دورا أساسيا في تحديد الهدف والوجهة التي يراد بها نقل مجتمع أريد له أن يكون مريضا ومليئا بالسلبيات لكي يسهل تحطيمه من الداخل وتحطيم مرتكزاته وثوابته وفق فكر سلطة كامل منهجها قائم على ذلك...
يجب معالجة آثار الحروب، الاهتمام بعوائل الشهداء والأسرى والآلاف المعوقين، يجب اعتماد مناهج تعليمية جديدة تستجيب لتخيلات الطفل في المرحلة الأولى، وعلى المعارف الحية المرتبطة بالحياة في المراحل المتقدمة، يجب الاهتمام بالمهمشين، توفير فرص عمل، إشاعة روح المساواة، والتضامنية في الحياة والسلوك، وإعادة الناس إلى المفاهيم الحميدة المتعارف عليها إنسانيا في رفض الرشوة والمحسوبية، والتسلق، والروح الانتهازية وإحلال محل ذلك إشاعة الحياة النقية واحترام القانون والتعددية في كل تفاصيل الحياة والمجتمع...أعرف ان ذلك يحتاج إلى طبقة سياسية جديدة، ولكن هذا لا يلغي النضال والتنويه دوما على إن الطريق الوحيد أمام العراق والعراقيين هو هذا المسعى النبيل الذي هو نتاج لكامل جهد الإنسانية على هذا الكوكب الجميل...
كما يحتاج المجتمع بنفس القدر من الأهمية إلى مثقف جديد، تقوم كل مبادئه على إشاعة كل ما هو جديد في الحياة، لسنا بحاجة للمثقف المتسلق الذي مدح الدكتاتورية دهرا، واليوم نراه بنفس ذلك الحضور في المديح لهذا الحزب أو ذاك لكي يهمش جدارة المثقف بالموقف النظيف، ولكي يضيع ذلك المثال الحيوي الذي يقود أمة كاملة للحيوية والشفافية والصدق...اليوم نرى عشرات من الكتاب والمثقفين يتهم بعضهم بعضا على أنهم خدموا الدكتاتورية، ومع الحرائق التي اشتعلت في الوطن ضاع أي دليل ممكن أن يخدم الحقيقة...هؤلاء نراهم اليوم ينتشرون في كل العالم ومعهم تنتشر ثقافة إقصاء الآخر، حتى ان بعض الأحزاب وجدت فيهم ذلك المثقف المستعد للمديح التافه، بعضهم أصبح يُكون شرطة ثقافية على بعض من المثقفين الذين هجروا أحزابهم والذين يحاولون بعد خبرات مكتنزة في النضال والحياة إشاعة مفاهيم جديدة سواء داخل أحزابهم أو خارجها..نرى هذا المثقف الذي وقف مع الفاشية يدافع بنفس الحرارة عن حزب جديد، ومن ثنايا مقلاتهم يقطر هذا السم في التدليس والهتاف المأجور والضحك على الحقيقة..اللعبة اليوم مشابه تماما لفعل المافيا الروسية في غسل الأموال في الغرب.. البعض يغسل قذاراته حالما تطأ قدمه المنفى بمديح فج لهذا الحزب أو ذلك عندها يحصل على التزكية المطلوبة، وعندها يجد ناس من زمن الخرافة ينظمون لهم الندوات والأماسي لكي يطلقوهم في حياتنا من جديد...لقد تكالبت عوامل كثيرة للأسف الشديد لتحطيم المجتمع ومعها وبتقادم هذا الزمن المر سادت تلك الغرائبية في حياة الناس العاديين وتَحطم إلى حد كبير ذلك الضمير المُفترض للنخب التي كانت مهمتها الأساسية ذلك المثال الملهم والذي يقود الناس إلى رحاب التقدم والحضارة...
السؤال المحير، إذا كان مجتمع طبقته السياسية – الثقافية تعكس مثالا شديد الكآبة ؟ فما الذي تبقى لهذا الوطن..؟ نعم، يجب النظر إلى الأجيال الجديدة في قدرتها على استخلاص الدروس والعبر من ماضي قاس..علينا جميعا أن نشجع كل المبادرات الجديدة والتي تقود إلى المخالف لما هو سائد..، علينا الاعتراف بالحقائق مهما كانت قاسية فبدون ذلك لن نعرف طعم انتصارات قادمة في حياتنا...
قد يكون صعبا ذلك، عندما يساق شعب كامل إلى حتفه حيث الاحتلال والتطرف وسيادة الأفكار التي تريد أن يستمر المجتمع العراقي بذلك الغياب القسري، لكن الشيء الأكيد ان مع العراقي بشرية تسير نحو الأمام، عصر جديد من التقدم العلمي الهائل، تقارب وتداخل كبير بين الشعوب، العالم يصبح كرة صغيرة شديدة التقارب، وسيكون من الصعب على العراقي في ألفية جديدة أن يكون في الزاوية المظلمة في هذا الفضاء الساطع الجميل..

رغم كل تلك الظلمة التي تؤطر ثنايا الوطن اليوم، ( فالأرض تدور ) كما يقول غاليلو العظيم، وسيكون المنتصر فيها حتما ذلك الإنسان العراقي القادم بقوة لكي يواصل مساهمته المؤثرة كما كان دوما في صنع التاريخ...



#محسن_صابط_الجيلاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الشيوعية واليسار، مع بعض التطبيقات... -2-
- على حافة الشعر
- عن الشيوعية واليسار، مع بعض التطبيقات...
- قصص قصيرة جداً
- إشكالية العلاقة بين السلطة والمثقف
- النار فوق قمة جبل
- موقع الشباب الغائب في قانون إدارة الدولة العراقية يعني غياب ...
- شاعر وقصيدة
- يعد الصمت ممكناً…!
- دورة استحالة القائد كيف تصبح قياديا في حزب عراقي بسبعة ….بدو ...
- قلق
- في يوم الشهيد الشيوعي …وجهة نظر أخرى للحفاظ على الحياة
- مدخل إلى عالم المترجم والقاص الدكتور علي عبد الأمير صالح
- خيون حسون الدراجي – أبو سلام
- شاعر وقصيدة - حميد حسن جعفر …. والكلام
- ملف عن الشهيد ، ملف عن الإبداع المقاوم…
- حول قرارمجلس الحكم 137 الرجعي
- إلى رجل الايروتيكا السياسية سعدي يوسف
- خيول
- نصوص عراقية / العدد الثاني


المزيد.....




- هل يعارض ماسك الدستور بسبب حملة ميزانية الحكومة التي يقودها ...
- -بينها قاعدة تبعد 150 كلم وأخرى تستهدف للمرة الأولى-..-حزب ...
- حافلة تسقط من ارتفاع 12 مترا في حادث مروع ومميت في فلاديفو ...
- بوتين يتوعد.. سنضرب داعمي أوكرانيا بالسلاح
- الكشف عن التاكسي الطائر الكهربائي في معرض أبوظبي للطيران
- مسيرات روسية اختبارية تدمر مركبات مدرعة أوكرانية في اتجاه كو ...
- مات غيتز يتخلى عن ترشحه لمنصب وزير العدل في إدارة ترامب المق ...
- أوكامبو: على العرب الضغط على واشنطن لعدم تعطيل عمل الجنائية ...
- حاكم تكساس يوجه وكالات الولاية لسحب الاستثمارات من الصين
- تونس.. عبير موسي تواجه تهما تصل عقوبتها للإعدام


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - محسن صابط الجيلاوي - الشخصية العراقية بين الحضور... والغياب القسري