|
هل كان التسامح وراء اغتيال غاندي؟
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 2895 - 2010 / 1 / 21 - 20:19
المحور:
المجتمع المدني
ارتبطت الدعوة للتسامح في تاريخ الهند المعاصر باسم المهاتما غاندي الزعيم الهندي الذي قضى حياته مدافعاً عن الحرية ومناضلاً من أجل الاستقلال، والذي تمكّن من قيادة حركة جماهيرية مدنية- سلمية واسعة تحت لواء اللاعنف، محققاً الانتصار التاريخي على بريطانيا العظمى في العام 1947 .
اعتقدَ غاندي وأقنع النخبة الطليعية من حزب المؤتمر الوطني الهندي بالدعوة إلى اللاعنف ومواجهة العدوان وعمليات القتل ومحاولات الاذلال والخنوع التي اتبعتها بريطانيا بحق الشعب الهندي، بسياسات الاحتجاج المدني السلمي والاضراب عن الطعام، لاعتقاده بأنها الأكثر واقعية وعقلانية في التصدي لسياسات العنف، وباللاعنف يمكن تحقيق النصر، أي بسياسة نقيضة للعنف وليس مواجهة العنف بالعنف، بل مواجهته بعكسه، وتلك مصدر قوته كما كان يرى .
ورغم ايمان غاندي أن نهج التسامح ليس هو النهج “الأصوب والأمثل”، الاّ أنه كما قال لم يجد أفضل منه، وبذلك فإن خياره هو اللاعنف والتسامح والمقاومة السلمية- المدنية، وهو ما شاع من توجّهات سياسية للتصدي للاحتلال البريطاني وإجباره في نهاية المطاف على التسليم باستقلال الهند .
لكن تلك الأجواء المتسامحة خلقت معها ردود فعل غير متسامحة من جانب بعض المتطرفين والمتعصبين وأعداء التسامح، الذين وجدوا الفرصة مؤاتية لهم، لكي يمرروا نهجهم وسياساتهم، تلك التي راح ضحيتها أول المتسامحين وأكبرهم قدراً وشأناً في تاريخ الهند وهو الزعيم غاندي نفسه . الأمر كشف عن الحاجة الماسّة إلى بيئة وتراكم تاريخي وتطور طويل الأمد لنشر وتكريس قيم التسامح، إذ إن المجتمعات الأوروبية والغربية عموماً التي وصلت إلى ضفة التسامح، كانت قد شهدت تصفيات وإبادات وحروباً ونزاعات طائفية ودينية وقومية لقرون من الزمان، وكان المخاض عسيراً والمعاناة والآلام قاسية، لكنها استطاعت بالعقلانية والمشترك الانساني والمدنية والحريات تجاوز العقبات الأساسية والكوابح الكبيرة التي تقف أمام تطبيق مبادئ التسامح، والانتقال بها من البعد الاخلاقي إلى الأبعاد القانونية والاجتماعية والدينية والقومية والسياسية، لاسيما على الصعيد الداخلي وبين بعضها البعض، الأمر الذي ما زال يشكل نقصاً فادحاً في إطار العلاقات الدولية، خصوصاً إزاء البلدان النامية والفقيرة .
ولعلّي هنا استذكر قيم التسامح في الإسلام التي كانت الأكثر إشراقاً خلال الدعوة المحمدية، لاسيما بتأكيد احترام الحقوق والاقرار بالتنوّع والتعددية وحق الاختلاف، سواءً على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي، ولعل مقولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة كانت دلالاتها كبيرة جداً في تهيئة أجواء التسامح عندما خاطب الأسرى قائلاً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” تمهيداً لاصدار عفو عام، كان إعلانه قد جاء على لسان الرسول بقوله: “من دخل بيت أبو سفيان فهو آمن” .
ليس هذا فحسب، بل عندما أبقى على حلف الفضول الذي تعاهد فيه فضلاء مكة بأن لا يدعوا مظلوماً من أهلها أو من دخلها (وباللغة المعاصرة فالمقصود هو أي مواطن أو أجنبي) الاّ ونصروه على ظالمه وأعادوا الحق إليه، فضلاً عن دستور المدينة وفي ما بعد صلح الحديبية وما انتهجه الخلفاء الراشدون خلال فترة حكمهم التي دامت نحو 40 عاماً .
لكن تلك الأجواء المفعمة بالتسامح هي الأخرى لم تمنع أعداء التسامح من العمل ضد فكرة التسامح مستغلين الأوضاع التي وفّرتها سياسة التسامح للاجهاز على الخلفاء الراشدين أنفسهم، حيث ذهب ثلاثة منهم وهم: عمر وعثمان وعلي ضحية الغدر والخديعة، ناهيكم عن اندلاع فتن وحروب ومعارك داخلية، أضعفت من عرى التسامح ولحمة المنتسبين إلى الإسلام المتسامح .
لم تكن إذاً أجواء التسامح التي دعا إليها وقادها زعماء تاريخيون لتحقيق قيم العدالة وتأمين الحقوق، كافية لردع اللامتسامحين، الذين كانت تستفزهم مثل تلك الأوضاع، فيستغلون الأجواء المتسامحة لتحقيق مآربهم لمعاكسة قيم التسامح وإعلاء شأن الاستئصال والإلغاء والتهميش، والتشبث بالتعصب والتطرف والغلو، بادعاء امتلاك الحقيقة والأفضليات على الغير .
لقد كانت أجواء التسامح التي حققت الانتصار الهندي على بريطانيا والتي ساهم في الدعوة إليها وتعزيزها غاندي، هي السبب وراء إقدام فاتورام غودسي على اقتراف جريمة اغتيال غاندي في 30 كانون الثاني/يناير العام 1948 (حيث تمرّ ذكراها ال62 بعد أيام) .
حاولت خلال زيارتي الأخيرة إلى الهند التوقف مجدداً عند ظاهرة اللاتسامح التي تثيرها أجواء التسامح كردود فعل، وهو السؤال الكبير الذي يتم مناقشته الآن وعلى نحو شديد خلال العقود الثلاثة الماضية، لاسيما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001: ما هو السبيل للتعاطي مع غير المتسامحين؟ هل بالتسامح أيضاً، أم لا بدّ من مواجهة اللاتسامح بالحزم إذا اضطر الأمر ولا بدّ من ردع اللامتسامحين، لكن كارل بوبر يعتبر أن عدم التسامح لا ينبغي أن يكون مبرراً للابتعاد عن قيم التسامح بحجة اللامتسامحين!، والاّ كنّا سنجد الكثير من الاعذار لنقض قيم التسامح .
تاريخ الهند المطبوع بالتسامح يشهد تعايشاً مثيراً لشعوب وأمم ولغات وأديان، حيث يتواصل الهندوس والمسلمون والسيخ والبوذيون والمسيحيون وغيرهم، ونحو 23 لغة رسمية وأكثر من ألف لهجة محلية، لسكان يبلغ عددهم ملياراً و20 مليون نسمة في إطار نظام فيدرالي تعددي ديمقراطي فيه نحو 25 اقليماً، وفي الوقت نفسه يشهد نقيض التسامح حيث التعصب والتطرف والعنف .
لم يكن غاندي الضحية الوحيدة فقد تبعته لاحقاً أنديرا غاندي وراجيف غاندي، وكانت مبررات القاتل هي بسبب سياسته اللاعنفية ولعل هذا ما أعلنه، كما يمكن إضافة مبررات أخرى مضمرة وليست معلنة منها: موقفه من وحدة الهند التي حاول البريطانيون العبث بها، حيث رفض التقسيم بشدة لأسباب مبدئية ووطنية لم تكن بعيدة عن إيمانه بمبادئ التسامح، كما أنه شجع وحثّ المسلمين على عدم الرحيل إلى القسم الباكستاني عندما أصبح التقسيم أمراً واقعاً، كما شجع الهندوس وحثهم على التعايش مع المسلمين وعدم اللجوء إلى العنف، وكانت تلك السياسة المتسامحة تلقى رفض بعض القادة المتطرفين من كلا الفريقين .
في بارك راجات “ضفة الملك” حيث يرقد غاندي ألقيت النظرة الأخيرة مأخوذاً بنهر بامونا الاسطوري الذي يمرّ عبر دلهي قادماً من جبال الهملايا، وفي الجهة المقابلة لراجات هناك متحف ضم مقتنيات وكتب وصور غاندي الذي ظلّت روحه ترفرف فوق الهند، حيث كان قد حلّق في سماوات بعيدة وسبح في بحور عميقة، حيث كان الإنسان في داخله هو المقياس لكل شيء حسب الفيلسوف الاغريقي بروتوغوراس .
باحث ومفكر عربي
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! - 12 - يوميات المغامر النبيل
-
هل تفلت ليفني من يد العدالة؟
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين!! - 11 - شعاع الثورة ومتطلبات الدو
...
-
بيئة التسامح
-
خالد عيسى طه الحالم المستديم!*
-
كوبا.. رؤية ما بعد الخمسين (10) التغريد خارج السرب: رومانسيا
...
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (9) جيفارا والمهدي بن بركة.. غياب
...
-
جدل هادئ للفيدرالية الساخنة في العراق
-
النجف... والفرصة الواعدة!! سعد صالح (3)
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (8)- جيفارا وعبدالناصر: قلق وهواجس
...
-
النجف... والفرصة الواعدة!! سعد صالح (2)
-
المجتمع المدني بين القانونين الوطني والدولي
-
جيفارا وعبدالناصر: أحلام الكبار!كوبا (7)
-
محاكمة اسرائيل بين القانون والسياسة
-
سعد صالح الضوء والظل -الوسطية- والفرصة الضائعة(ح1)
-
الحرب الثقافية في العراق
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (6).. جيفارا وأحمد بن بيلا: العنفو
...
-
الاتحاد الأوروبي: هل من وقفة جديدة إزاء -إسرائيل-؟
-
كوبا: رؤية ما بعد الخمسين (5).. جيفارا والمباراة المصرية- ال
...
-
الحزن الذهبي لرحيل المفكر محمد السيد سعيد!!
المزيد.....
-
ماذا يعني أمر اعتقال نتنياهو وجالانت ومن المخاطبون بالتنفيذ
...
-
أول تعليق من أمريكا على إصدار مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغال
...
-
الحكومة العراقية: إصدار المحكمة الجنائية الدولية مذكرات اعتق
...
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا رسميا بعد مذكرة المحكمة ال
...
-
البيت الابيض يعلن رسميا رفضه قرار الجنائية الدولية باعتقال ن
...
-
اعلام غربي: قرار اعتقال نتنياهو وغالانت زلزال عالمي!
-
البيت الأبيض للحرة: نرفض بشكل قاطع أوامر اعتقال نتانياهو وغا
...
-
جوزيب بوريل يعلق على قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق نتنيا
...
-
عاجل| الجيش الإسرائيلي يتحدث عن مخاوف جدية من أوامر اعتقال س
...
-
حماس عن مذكرتي اعتقال نتنياهو وغالانت: سابقة تاريخية مهمة
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|