|
عقائد البدو الاسرائيليين
عباس منصور
الحوار المتمدن-العدد: 2894 - 2010 / 1 / 20 - 23:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
جاء في القرآن " فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه وقال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين . ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا وقال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين اخوتي إن ربي لطيف لما يشاء إنه هو العليم الحكيم " . 99 ، 100 سورة يوسف .
فلولا أن دخلوا عليه مصر ولو لم يخرج هو بعناية ربه من البدو إلى مصر ، ولولا أن ذاق هذا النسل الإبراهيمي كرم الفيوضات في ملكوت النيل ، لولا مصر ما خرج بهم موسى نبيا ومشرعا يؤسس في دفء المعمور الغيبي ديانات ورسلا سوف تترى بعده من شعاب بيت أيل وجبل صهيون وبيت لحم في أرض فلسطين إلى شعاب مكة وسهول يثرب في جزيرة العرب .
تقول المعاجم : إن البادية هي الأرض السهلة الممتدة الصالحة للرعي والإقامة ، وإن من يسكنها متنقلا فيها يسمون البدو ، ويقابلهم أهل الحضر في أرض الحل والبيوت الدائمة وما يتبع ذلك من نظم تتمحور كلها حول الإقامة والقرار .
دخل إسرائيل – يعقوب - إذا وزوجاته الثلاث بعد أن ماتت الرابعة أم يوسف – راحيل - وهي تلد بنيامين شقيق يوسف ، دخل ومعه كل ذريته - سبعون نفرا - على ابنه الثاني عشر يوسف بعد أن تخلص منه الأسباط أخوته ، دخلوا عليه مصر وقد أصبح مكينا ذا قرار وعرش ، دخلوا مصر وصاروا هم أيضا أنبياء يوحى إليهم حسبما تشير الآية " إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا " 163 النساء
إذن فنحن أمام نبي هو إسرائيل ابن نبي هو إسحاق حفيد نبي هو إبراهيم وقد أنجب إسرائيل ذرية كلها أنبياء يوحى إليهم وهؤلاء هم يوسف والأسباط أخوته بنيامين ورأوبين ويهوذا وجاد وأشير ونفتالي وزبولون ويساكر ودان وشمعون ولاوي ، هذا النسل الذي ظل يتكاثر في أرض مصر حتى أنجب أنبياء آخرين أشهرهم موسى وهارون اللذان أخذا قومهما من بني إسرائيل وعادا بهم إلى كنعان أرض غربة آبائهم إبراهيم إسحاق ويعقوب والتي كتبها الله لهم في سجل الملكوت الرحماني الواسع ، كل هؤلاء الأنبياء عاشوا في مصر ما عدا إسحاق ومنهم من صاهر المصريين كإبراهيم وإسماعيل وغيرهما من نسل الأحفاد فيما بعد حتى آخرهم محمد بن عبد الله في جزيرة العرب .
والنص القرآني كما يبدو قد أقر الإسرائيليين على مقولاتهم ولم يختلف معهم إلا بعد أن صاروا يهودا خلال رحلة هروبهم من مصر يقودوهم موسى باتجاه كنعان أرض الميعاد حسب ما سطروا في مقدسهم الديني السماوي .
وهؤلاء الإسرائيليون لم يسأل أحد لماذا تركوا أرض غربة أجدادهم في فلسطين وانتقلوا إلى مصر ليخرجوا بعد حين في صحبة نبي آخر لهم هو موسى بعد أن تناسلوا وتكاثروا وأقاموا قرابة أربع مئة سنة في مصر ؟ لماذا أتوا ولماذا خرجوا ؟ وهل كانت لهم رسالة نحو المصريين ؟ ولماذا تصارعوا مع ملك مصر " الفرعون " الذي ورد ذكره في القرآن أربعا وسبعين مرة مقابل ثلاثا وسبعين مرة فقط لإسرائيل ؟ بمعنى لماذا احتفل النص القرآني بموضوع يبدو عرضيا وهو فرعون في سياق الكتاب المحكم وذلك إذا ما قورن بموضوع إسرائيل الذي هو عمود ودعامة راسخة في محكم الكتاب الذي لا تستقيم الديانات السماوية إلا به ؟
وأيما كانت الأسباب والدوافع وراء ما سبق فإن الحكمة الإلهية تقتضي منا أن نبحث ونفسر ونقلب الأمور على كل مظانها ؛ وخصوصا إذا كانت القضايا المثارة ذات شق تاريخي أصيل مزروع في تاريخ البشرية المقدس وأعني به الديانات كما أنه مغروس في أرض الحاضر وعلى نفس جغرافيا الصراع والنزاع بين إسرائيل من ناحية وبين سكان الأرض الفلسطينيين والصيدونيين وغيرهما من الأمم ، بل إن عيون الأحفاد من بني إسرائيل وقلوبهم ما زالت تهفو وتحن صوب ماضٍ تهادت فيه خطى الأجداد من الفرات إلى نيل مصر الكبير على صفحات العهد القديم ، وخصوصا لو عدنا إلى ما قبل إسرائيل بأبوين هما إسحاق وإبراهيم .
أقول إن النص القرآني لم يصطدم بالإسرائيليين مثلما اصطدم باليهود ، بل نجد كل المقولات الأساسية للإسرائيليين الذين جاءوا من البدو تتنفس و " تتمطع " بحرية كاملة في ثنايا النص . " وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين " (20 ؛ 21 المائدة) ، " ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين " (16 الجاثية) .
وذلك على الرغم من أن المسيرة الإسرائيلية لهؤلاء القوم والتي بدأت من يعقوب – الذي غير اسمه لاحقا إلى اسرائيل - وحتى موسى لم تكن لهم فيها أرض حتى يصيروا عليها ملوكا ، لأن أنبياء بني إسرائيل الذين أوردهم القرآن قبل موسى هم إسرائيل وبنوه الإثناعشر سبطا ثم موسى وهارون وهؤلاء جميعهم كانوا متغربين في مصر كأي أقلية وافدة مستضعفة ولم يكن لأي منهم أرض حتى يقيم عليها مُلكا إلا إذا كانت هذه بشرى مستقبلية جاءتهم على لسان نبيهم موسى وسوف تتحقق فيما بعد على زمان داوود – الذي يعد أول ملوكهم بعد خمس مئة عام تقريبا ثم نزلت وحيا بعد ذلك وقرآنا على محمد في جزيرة العرب بعد أكثر من ثمانية عشر قرنا على أحداث خروج موسى بقومه صوب الأرض التي كتب الله لهم . فمقولة الأرض الموعودة يسلم بها النص القرآني وكذلك مقولة الشعب المفضل والمصطفى والمختار من قبل الرب " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين " (47 البقرة( .
إن قضية إسرائيل خارج النص القرآني - أعني لو نظرنا إليها بمعزل عن السياق القرآني - تبدو سهلة شديدة الوضوح ، حيث المصادر الأخرى وأهمها أسفار العهد القديم وعلم التاريخ وخصوصا ما يتعلق منه بالحضارات القديمة في مصر والعراق وبلاد الشام قد حسمت هذه المسألة بجلاء لا غموض فيه من حيث طبيعة الإله المعبود أو طبيعة الشعب العابد وعلاقاته بالأمم الأخرى .
من المعلوم بالبديهة - حسب المفهموم القرآني - أن كل نبي أُرسل بلسان قومه وأن كلا منهم بعثه الله لأمة بعينها - إلا محمد - فهل بُعث موسى أو يوسف من قبله إلى أمة المصريين ؟ بمعنى هل كان لنبي من بني إسرائيل أية دعوة كُلف بها من قبل الرب لتبليغها للشعب المصري ؟ . قال تعالى : " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم " (4 إبراهيم( .
ومن النص القرآني نعلم أن بني إسرائيل كقوم قد أُرسل إليهم كل من إسرائيل (يعقوب وبنوه الإثنا عشر) وموسى وهارون وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى بل إن هناك من لم يذكر القرآن اسمه وإن يكن ورد تفصيله في أسفار العهد القديم كما جاء في سورة البقرة 246 ، " ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ... " كما أُرسل شعيب إلى قوم مدين وصالح إلى ثمود ولوط إلى قومه في سدوم وعمورة ؛ فكل الأنبياء منذ آدم وحتى عيسى بن مريم قد أرسلوا إلى أقوامهم ، وهذه سُنة الله في النبوة حسب منطق الديانات السماوية ، كما أن عذاب الله كان يحيق بالأمم التي أساءت إلى الأنبياء ولم تلتزم تعاليم الرسل إلا أمة إسرائيل فقد خالفت هذه السنة الإلهية في النبوة على الرغم من أنها أكثر الأمم رسلا وعصيانا بل إنها أغلظت مع المرسلين لدرجة قتلهم وتحريف رسالاتهم وعلى الرغم من كل ذلك سلمت هذه الأمة من العذاب والإبادة التي عوملت بها كل الأمم التي عصت رسلها وورد ذكرها في القرآن " ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد . الذين طغوا في البلاد . فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " 6-14 الفجر ، " كذبت ثمود وعاد بالقارعة فأهلكوا بالطاغية وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما فترى القوم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية " (4 - 7 الحاقة( .
وهكذا كان مصير كل الأمم والأقوام من نوح وعاد وثمود ولوط ومدين وأصحاب الأيكة والأخدود وفرعون وملئه إلا قبيلة إسرائيل التي صارت بعد ذلك شعبا إثر معايشة المصريين لأكثر من أربعة قرون ما بين أبيهم إسرائيل و حتى حفيده موسى , أكثر من عشرين نبيا أرسلوا إليهم و كذبوهم و مع ذلك اختلفت معهم السنة الإلهية وأبقت فيهم النبوة و التكاثر في أقوامهم وهذه انعطافة تقود إلى مدارج أخرى ذات وشائج بالموضوع لكنها ليست المنشود هنا والذي يستهدف البحث في أسباب ودوافع الصراع والنزاع بين موسى وملك مصر . وهل كان موسى مرسلا من الله تجاه المصريين وحال الفرعون دون هذه الرسالة فنشب الصراع بين نبي مدجج بسلطان السماء وتسع آيات بينات على شاكلة الجراد والقمل والضفادع والدم وبين ملك استعلى وتجبر وخرق ناموس الخالق في أرضه ؟! وما الذي كان يريده موسى من الفرعون ؟ ولماذا لم يستجب له الفرعون ؟ يقول القرآن : " وقال موسى يا فرعون إني رسول رب العالمين . حقيق على ألا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل " 103 ، 104 الأعراف ، وقال أيضا مخاطبا موسى وهارون : " فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك والسلام على من اتبع الهدى " 47 طه.
وفي موضع آخر خاطبهما قائلا : " فأتيا فرعون فقولا إنا رسولا رب العالمين أن أرسل معنا بني إسرائيل " 16 ، 17 الشعراء .
فإن كان مطلب موسى من الفرعون - حسب الآيات السابقة - أن يسمح له بالخروج مع بني إسرائيل من مصر صوب الأرض التي كتبها لهم ربهم كما يقرر القرآن : " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون .... قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون .... قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين" 21-26المائدة.
وإذا كان الفرعون قد أخطأ وعصى وطغى هو وملؤه من الجنود والمستشارين فكيف نتصور أن يكون العقاب جماعيا - على غير سنة الله في العقاب - لمصر وأهلها أجمعين وذلك بالآيات الموسوية المهلكة من جراد وضفادع فالمعلوم من سنة الله في الجزاء أنه " كل بما كسبت يداه رهين " ، " ولا تزر وازرة وزر أخرى " ، ثم إن موسى لم يكن مرسلا إلى شعب مصر ليبلغهم رسالة ربهم بل إنه باليقين نبي إسرائيلي مختص بقومه ، ولكن السؤال الرهيف واللطيف هنا هو هل كان مطلوبا من الفرعون - بما أن موسى وأخوه أُرسلا إليه - أن يؤمن بموسى وأخيه أم يؤمن لهما ؟! وقد تقول وما الفرق ؟ إنه كبير ، فإن كان المطلوب من الفرعون أن يؤمن بموسى أي يؤمن برسالته وبمجمل تصوره عن العالم كما هو عند بني إسرائيل وكأن ملك مصر واحد من بني إسرائيل ، وإن كان المقصود أن يؤمن لموسى أي يؤمن بأن هذا الرجل الذي تربى في بيت الملك وليدا والذي قتل رجلا من رعية الملك عندما بلغ شبابه ، مطلوب منه أن يصدق ويؤمن بأن هذا الرجل هو نبي لتلك الأمة التي ورثها هذا الفرعون - كأقلية وافدة - من آبائه وأجداده منذ عهد فرعون يوسف الذي استقبلت فيه مصر هذه السلالة اليعقوبية ، مطلوب منه أن يؤمن له بنبوته عليهم وبالتالي يترك أمر هذه الجماعة لهذا الرجل (اللقيط – القاتل) من وجهة نظره ليقرر مصيرها .ثم لماذا سكت النص القرآني عن الفرعون الأول الذي استقبل السلالة ومكّن لها أسباب العيش والتكاثر والتناسل في مصر ؟ وهل كان ذلك الفرعون كافرا وعاصيا وباغيا وطاغيا هو الآخر؟ هل كان ذلك الفرعون الآخر بحاجة إلى نبي ورسول ليذكره بما نسي من أمر الله وحسن إدارة المملكة والشعب ؟ لماذا سكت عنه على الرغم من أنه أيضا كان فرعونا لا يدين بدين يعقوب وسلالته الإسرائيلية؟!
إن هذه الوقفة اللطيفة بخصوص " آمن بـ " و " آمن لـ " وردت بموضعين في القرآن ، الأول بالأعراف الآية 143 : " فلما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسل معك بني إسرائيل " ، (نؤمن لك) وليس نؤمن بك ، هذا مع العلم بأن النص القرآني عندما يتحدث في مواضع الجدل والإقناع بين الرسل وأقوامهم في قضية الإيمان يستخدم حرف الجر " الباء " مع الفعل " آمن " وتصريفاته المتعددة فمثلا " وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أقررتم وأخذتم على ذلك إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" 81 آل عمران . كما وردت في الموضوع الآخر في سياق القصة بين موسى وملك مصر على النحو التالي : " ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون بآياتنا وسلطان مبين إلى فرعون وملئه فاستكبروا وكانوا قوما عالين . فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون "46-47 ، المؤمنون " نؤمن لبشرين " وليس " نؤمن ببشرين " ، إذن خلاصة الدوافع في ذلك الصراع المحصور بين موسى وأخوه من جهة وبين فرعون وملئه - وليس المصريين - من جهة أخرى كان بسبب رغبة موسى المكلف من قبل ربه بالخروج ببني إسرائيل من مصر ورفض الفرعون الاستجابة نظرا لأنه لا يصدق بأن هذا " الموسى " الذي منحه القصر الملكي اسمه وأسباب حياته والذي تورط فيما بعد في جريمة قتل خطأ لأحد المصريين هرب على إثرها ملتجئا إلى البدو " الشاسو " في أهل مدين ثم عودته إلى مصر بعد ظهور الإله له وتكليفه بالرسالة كأحد أنبياء بني إسرائيل الموكل إليه الخروج بهم من مصر نحو الأرض الموعودة لهم منذ زمان الجد الأكبر إبراهيم وقد آن الأوان لتحقيق هذا الوعد الإلهي لهؤلاء الذين اصطفاهم ربهم على كل العالمين .
يقول تعالى على لسان ملك مصر – الفرعون - : " قال ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " . 19،18 الشعراء ، فيرد عليه موسى " قال فعلتها إذا وأنا من الضالين ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين " 20 ، 21 الشعراء .
وهذا كله من السياق القرآني الذي وردت فيه مصر كعلم على بلد وشعب خمس مرات ، اثنتين في سياق نزوح بني إسرائيل إليها في زمن يوسف وثلاثا في خروجهم منها على يد موسى مع العلم بأن الغالبية الكاسحة من أنبياء بني إسرائيل الذين ورد ذكرهم في القرآن أقاموا في مصر أو ارتبطوا بعلاقات مصاهرة منها مع المصريين منذ جدهم الأكبر إبراهيم وحتى نبيهم العالم لغة الطير سليمان بن داود مرورا بإسماعيل وذريته التي تنتهي بالنبي الخاتم في جزيرة العرب - بالرغم من كل هذه الأهمية والدعم من المصريين لم يرد ذكر بلدهم سوى خمس مرات في القرآن مرتبطة بيوسف وموسى في الدخول والخروج مع بني إسرائيل .
المؤكد أن المصريين كشعب وأمة عرفوا التدين بمعناه الواسع والحقيقي منذ مدة سابقة على ظهور أبي الأنبياء إبراهيم في منطقة الشرق الأدنى على التخوم المصرية وحتى وصيته لأبنائه وأحفاده بالمجيء إلى مصر التي خبرها لاجئا من جوع كالذي أصاب يعقوب وبنيه من بعدُ : " وحدث جوع في الأرض . فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك لأن الجوع في الأرض كان شديدا "10 سفر التكوين الإصحاح 12 وبعد أن خبر مصر وعرفها جيدا أعلمه الرب قائلا : " اعلم أن نسلك سيكون غريبا في أرض ليسألهم ويُستعبدون لهم فيذلونهم أربع مئة سنة ثم الأمة التي يستعبدون لها أنا أدينها وبعد ذلك يخرجون بأملاك جزيلة ... وفي ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلي النهر الكبير نهر الفرات " 13- 18 تكوين 15 ، وهذا الرب الذي سلطهم على كثير من الأمم يوصيهم قائلا " لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه " 7 التثنية 23 ، ولا أريد الاستطراد في السياقات غير القرآنية في هذه القضية وخصوصا أن مصر ذكرت كثيرا في أسفار العهد القديم ، ناهيك عن كتب المؤرخين قديما وحديثا بينما لم ترد إسرائيل سوى مرة واحدة في كتابات المصريين القديمة و هذا أمر طبيعي باعتبارهم أقلية وافدة و ليسوا من المصريين .
ومن المؤكد أيضا أن المصريين شعب اهتدى إلى عقائده عبر مئات الأجيال قبل وأثناء النسل الإبراهيمي ، العقائد التي قال عنها المؤرخ وعالم الآثار الأمريكي جيمس برستيد : " لم يكن في الشرق القديم إلا عقيدة دينية واحدة تقول بأن الإله يزن القلب الإنساني وهي الديانة المصرية القديمة بما تشتمل عليه من المحاكمة الأوزيرية " . 382 فجر الضمير- الهيئة المصرية للكتاب .
وتلك كانت آخر لبنة في عمارة العقيدة الأخلاقية بعد التوحيد الذي توصل إليه المصريون أيضا في بداية الدولة الحديثة مع إخناتون منذ ما يقرب من أربعة عشر قرنا قبل الميلاد وقبل الخروج الإسرائيل على يد موسى من مصر وقبل دعوة محمد بما يزيد على عشرين قرنا .
إن عقائد الذين جاءوا من البدو والتي تصطبغ بالعنف والأحادية وضيق الأفق في النظر إلى مسائل الوجود ، تلك العقائد التي كرس لها الإسرائيليون في الشرق الأدنى قد تسللت إلى كثير من وعي الفقهاء ومفاهيمهم للدين فحاولوا إخضاع ذائقة الأمم الحضرية المتدنية بالضرورة للمزاج البدوي القاحل والمتقلب تحت دعاوى التوحيد وتنقية العقيدة من الشوائب لدى الأمم المستعربة وبادية الشام على الرغم مما يقرره القرآن من أن هناك الكثير من الأنبياء الذين لم يأت الوحي على ذكرهم : " ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي إلا بإذن من الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون " 78 غافر . وكذلك قوله تعالى : " ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما " 164النساء ، وأليس ذلك هو القرآن الكريم الذي يقرر بأنه : " وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا . اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا . من اهتدى لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " 13- 15الإسراء . وكذلك " ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله ومنهم من حقت عليه الضلالة فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين " 36 النحل ، وكذلك " إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا وإن من أمة إلا خلا فيها نذير " 24 فاطر، ألا يدل كل ذلك على ضرورة وجود أنبياء في أمة المصريين وغيرهم من الأمم لم يحفل بهم النص الإسرائيلي نظرا لخصوصية العلاقة التي صاغها بين إسرائيل والإله والأرض كما لم يأت الوحي على ذكرهم للنبي محمد الذي ابتدأت رسالته مع مرور العقد الأول من القرن السابع الميلادي ؟
وألا يدفعنا ذلك إلى النظر بعناية إلى جيمس بريستيد عندما يقول مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين : " لا شك أن موسى كان ملما بأقوال أولئك الأنبياء الاجتماعيين - من الذين لم نقصص عليك - والذين كانت أقدم كتاباتهم متداولة بين المصريين قبل 1500 سنة عندما ابتدأ موسى تعليم قومه ، ومن البديهي أن رجلا مثله نشأ محاطا بمثل ذلك النوع من الأدب كان لزاما عليه أن يشعر بالحاجة إلى دين يشتمل على تعاليم خلقية يزود بها قومه " ؟ 380 فجر الضمير - الهيئة المصرية للكتاب .
وبعد ألا يحق لي أن أتعجب من هذا التشابه بين القرآن و الشعر المنسوب إلى بعض شعراء العرب مثل زيد بن عمرو بن نفيل وإلى أمية بن أبي الصلت يقولان فيه من قبل مجيء محمد:
وأنت الذي منْ فضل من ٍٍ ورحمةٍ بعثت إلى موسى رسولا مناديا فقلت له فاذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا تماما كما جاء من القرآن من بعدهما و كأن رسالة موسى إلى قومه من بدو إسرائيل قد شملت المصريين أيضاًً ؟!
#عباس_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكفيل
-
سيرة الحمار المصري
-
العزازيل
-
نهج البداوة
المزيد.....
-
كاتدرائية نوتردام في باريس.. الأجراس ستقرع من جديد
-
“التحديث الاخير”.. تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah T
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف بالصواريخ تجمعا للاحتلال
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تعلن قصف صفد المحتلة بالصواريخ
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف مستوطنة راموت نفتالي بصلية
...
-
بيان المسيرات: ندعو الشعوب الاسلامية للتحرك للجهاد نصرة لغزة
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تقصف بالصواريخ مقر حبوشيت بالجول
...
-
40 ألفًا يؤدُّون صلاة الجمعة في المسجد الأقصى
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تواصل إشتباكاتها مع جنود الاحتلا
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعا للاحتلال في مستوطنة
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|