الخميس 04 يوليو 2002 03:37
تذكر أنك قرأت هذا الخبر هنا: مات أسامة بن لادن. هذا خبر نقلته قبل ستة اشهر مصادر أفغانية وباكستانية، اوضحت ان الرجل الهارب توفي يوم 5 ديسمبر (كانون الاول) 2001، ودفن في نفس اليوم بمنطقة الجبال الواقعة جنوب شرقي افغانستان. وردد هذه الانباء بعد يومين الرئيس الباكستاني برويز مشرف. وأكد النبأ هذا الشهر اعضاء "القاعدة"، المعتقلون لدى السلطات الاميركية. ولكن الباقين من عصابة بن لادن لاذوا بالصمت، إما لأنهم لا يملكون وسائل للاتصال، وإما لأنهم يرغبون في ابقاء ذكراه حية رغم موته.
أول نفي لموت بن لادن جاء من احد اخوته غير الاشقاء، الذي زعم ان المجاهد الفريد ما يزال حيا. ولكن هذا الاخ غير الشقيق نفسه، نفى، بدون ان يطلب منه احد ذلك، ان يكون هو أو أمهما على صلة بالهارب. اما النفي الآخر فقد جاء على لسان احد الكويتيين المرتبطين بابن لادن، في شريط فيديو غالبا ما يكون مزورا، زعم فيه ان "الشيخ" حي يرزق وفي صحة جيدة.
كيف إذن يمكن ان نؤكد ان بن لادن قد مات؟
ليس باستطاعتنا على كل حال ان نبرز الجثمان او ندل على القبر. ما نتحدث عنه هو موت بن لادن كناشط سياسي. ولأننا نعرف ان الأنا في حالة بن لادن في ضخامة جبل ايفرست، فاننا لا نعتقد انه كان يمكن ان يظل صامتا كل هذه المدة الطويلة. فالمعروف عنه انه حاول دائما ادعاء المسؤولية حتى عن تلك الاعمال التي لا يربطه بها رابط. فهل يستطيع ان يظل صامتا لمدة تسعة اشهر انهارت فيها احلامه الواحد تلو الآخر؟ واذا كان بامكان معاونيه تهريب شريط فيديو الى قناة الجزيرة بقطر، فلماذا لا يستطيع هو ذلك؟
ولكن حتى اذا كان بن لادن حيا جسديا، فانه مات سياسيا. ويمكنه بالطبع ان يعيش بعض السنين في منطقة القبائل بباكستان، مثلما عاش كثير من النازيين في المناطق النائية من الارجنتين وباراغواي. وليس بن لادن سوى الوجه المعروف لنوع معين من النظم السياسية التي انتحرت في نيويورك وواشنطن يوم 11 سبتمبر (ايلول) 2001 مع قتل آلاف الناس في العملية الانتحارية. فما هي العوامل الاساسية لتلك النظم؟
العامل الاول هو التفسير الخاطئ للاسلام الذي بدأه قبل عدة عقود رومانسيون مثاليون مثل الباكستاني ابو الاعلى المودودي والمصري سيد قطب. ومع أن المودودي وقطب لم يكونا مفكرين يؤبه لهما، الا انهما كانا قادرين على صياغة آيديولوجية مغلقة تستند الى قراءة ضيقة وسطحية للنصوص القرآنية. وقد اصبحت افكارهما بعد ان قدمت في خلاصات مبتسرة الى بن لادن، مجرد شعارات، الغرض منها تعبئة مجموعة من المتعصبين لممارسة جرائم القتل. واذا كان المودودي وقطب هما بالنسبة للاسلام، ما كانه ماركس وانجلز بالنسبة للماركسية، فان بن لادن كان هو ستالين الاسلام.
وكان من الممكن لأشخاص مثل المودودي وقطب ان يخطفوا الكرة ويسددوا الهدف، لأن اغلب المفكرين الاسلاميين اعرضوا عن متابعة وتطوير اعمال الفلاسفة المسلمين. وتجب الاشارة الى ان المفكرين المسلمين المعاصرين، الذين استجابوا لاغراءات الايديولوجيات الغربية الرائجة، تخلوا عن الجماهير المسلمة بالمدن المكتظة بالسكان في كل العالم الاسلامي وتركوهم فريسة سهلة للافكار غير الناضجة التي نشرها أمثال المودودي وسيد قطب. وبمرور الوقت صارت المودودية والقطبية هي الارضية الخصبة التي يمكن ان تزدهر فوقها الـ"بن لادنية" وتنتشر.
ولكن يمكن القول حاليا ان كثيرا من المفكرين المسلمين يعودون الى منابعهم. وهم يكتشفون في عودتهم هذه، الارث الفلسفي للاسلام ويشرعون في مواصلة العمل الذي بدأه قبل اكثر من ألف عام رواد الفكر السياسي الاسلامي. ومن المفارقات العجيبة ان المودودية والقطبية هما اللتان تنكشفان الآن كصيغتين مزيفتين للايديولوجيات الغربية الشمولية.
العامل الثاني الذي مهد لظهور بن لادن كان الاموال المنسابة، من افراد واسعي الثراء، ومن منطقة الخليج على وجه الخصوص. كان هؤلاء الاشخاص يعتقدون انهم اذا تصدقوا من اجل (القضية) فانهم لن يضمنوا مقاعدهم في الجنة فحسب بل سيحمون انفسهم من كثير من مصائب هذه الدنيا. وكان بعضهم يدفع الاموال الطائلة لانهم كانوا يعتقدون انهم يساعدون الفقراء والمضطهدين من المسلمين. وبذل آخرون اموالهم لانهم كانوا يرغبون في رحيل العناصر المصادمة لتصرف طاقاتها في مكان آخر. ولكن تلك المبالغ السهلة والميسورة لم تعد متاحة حاليا، او على الاقل لم تعد متاحة بنفس الكميات السابقة. وقد تبين الكثيرون انهم كانوا يمولون منظمة ارهابية منذ البداية. كما وضع آخرون امام الخيار الصعب بين الغرب الذي يودعون فيه اغلب اموالهم وبين المجاهدين من سكان الكهوف بهندوكوش.
والعامل الثالث الذي جعل إرهاب أسامة بن لادن ممكنا هو التشجيع أو على الأقل من خلال الرضا عن الذات الذي تملك العديد من الحكومات. فحكومة طالبان بدأت أولا باستضافة بن لادن ليصبح في الأخير مصدر حياتها وموتها في آن واحد. أما الباكستانيون فهم أيضا كانوا مساندين لأنهم أرادوا السيطرة على أفغانستان وجعل
الحياة أكثر صعوبة على الهنود عن طريق إرسال المقاتلين إلى كشمير. كذلك كان الحال مع السودانيين الذي تعاطفوا معه، إن لم يكن دعما حقيقيا له، عدا عن تقديم ملاذ له في السودان. أما بالنسبة لليمن فان كاتب هذه السطور قد التقى في نوفمبر (تشرين الثاني) 2000 باليمن عددا كبيرا من الناشطين في "القاعدة" كانوا قد جاءوا من باكستان لحضور اجتماع. ونحن عرفنا الآن فقط أن خلايا "القاعدة" تعمل بشكل مفتوح في أكثر من عشرة بلدان مسلمة ابتداء من اندونيسيا وماليزيا وانتهاء بالمغرب وتونس، بدون أن يلحقهم أي إزعاج.
ما يعنيه سقوط طالبان أن هذا التنظيم قد فقد الموقع الآمن الذي كان قادرا على الاختفاء فيه. وكل البلدان الأخرى أيضا قد أغلقت أبوابها، وفي بعض الأحيان يقف قسم منها موقفا معاديا له.
اما العامل الرابع فكان الموقف غير المبالي الذي أظهرته عدة بلدان أوروبية في توفير مكان آمن للإرهابيين تحت لافتة حرية التعبير والاختلاف. نحن نعرف الآن أن لندن كانت عاصمة "القاعدة" على المستوى العالمي في الوقت الذي كانت فيه نيويورك مركز عصبها المالي. فعلى سبيل المثال تم التخطيط لاغتيال أحمد شاه مسعود في العاصمة البريطانية. وظل الناشطون في "القاعدة" يعملون داخل ألمانيا وهولندا وبلجيكا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وإيطاليا، وبلدان ديمقراطية أخرى، بدون أي تعرض للمضايقة.
والعامل الخامس، الذي جعل من الـ"بن لادنية" ممكنة في الغرب وخصوصا في الولايات المتحدة، هو التصور بضعف هذه البلدان إن لم يكن جبنها. وانتشرت نكتة في السنة الماضية بين أوساط الأصوليين المتطرفين فحواها أن الأميركيين سيقومون بشيء واحد في حالة مهاجمتهم، هو مطاردة المعتدين لتحويلهم الى القضاء.
لكن هذا العامل ما عاد موجودا حاليا، فالاميركيون المدعومون بأكبر تحالف في التاريخ، أظهروا استعدادهم لممارسة العنف ضد الأعداء حتى لو كان ذلك يعني حربا طويلة المدى، بدون وجود انتصار سهل في الأفق.
والعامل السادس يتحدد في الوهم الذي ظل سائدا داخل البلدان الغربية من انها قادرة على الاستمرار في حياتها بدون أن تتأثر بالعمليات الإرهابية التي أطلقتها التنظيمات الأصولية الارهابية ضد الكثير من البلدان المسلمة ابتداء من اندونيسيا وانتهاء بالجزائر. لكن هذا الوهم تلاشى تماما بعد هجمات 11 سبتمبر. فالأميركيون يدركون الآن أنهم معرضون للإرهاب الذي أصاب الجزائر على سبيل المثال وألحق بسكانها الكثير من المآسي خلال العقد الماضي.
ولا يمكن لأسامة بن لادن أن يبقى حيا ويزدهر الا إذا أبقيت هذه العوامل الستة في العالم.
لكن هذا العالم ما عاد موجودا، لذلك فان أسامة بن لادن ما عاد موجودا. وقد يستمر شبحه بالحضور، لأن واشنطن وإسلام اباد تجدان إبقاء أخباره فوق عناوين الصحف ولفترة معينة، مفيدا لهما. فبوش أمامه حملة انتخابية عليه أن يفوز بها في شهر نوفمبر المقبل، ومشرف يريد أن يبقي بلده تحت الأضواء لأطول فترة ممكنة. لكن الحقيقة هي أن أسامة بن لادن قد مات. تذكروا أنكم قرأتم هذا الخبر لأول مرة هنا.
(عن "الشرق الأوسط" اللندنية)