أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد الحنفي - الاقتصاد الإسلامي بين الواقع والادعاء















المزيد.....



الاقتصاد الإسلامي بين الواقع والادعاء


محمد الحنفي

الحوار المتمدن-العدد: 879 - 2004 / 6 / 29 - 07:05
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


توطئة :
كثيرا ما يتم التدوال في العديد من الكتب ،ومن الكتابات التي تنشر في العديد من الجرائد المسماة "إسلامية " لمقولة "الاقتصاد الإسلامي " والذي أعرفه أن الاقتصاد لا يرتبط بالعقيدة .سواء كانت إسلامية أو مسيحية أو يهودية أو بودية ، بقدرما يرتبط بطبيعة النظام الاجتماعي المشاعي ، أوالعبودي ،أو الإقطاعي ،أو الرأسمالي أو الاشتراكي .فالنظام الاجتماعي السائد هو الذي يحدد،ويتحدد بناء على طبيعة علاقات الإنتاج الاقتصادية في المجتمع .فإذا كانت علاقات الإنتاج رأسمالية يكون رأسماليا ، أما إذا كانت اشتراكية فانه يكون اشتراكيا وهكذا….
ومادام الأمر كذلك ،فعلاقات الإنتاج هي هي سواء كان أفراد المجتمع الذين يدخلون في تلك العلاقات ، يعتنقون الذين الإسلامي أو أي دين آخر .
ولذلك فممارسة الاقتصاد باسم "الإسلامي " هي ممارسة أيدلوجية تسعى إلى تضليل المسلمين الذين يدخلون في دوامة الحلم بتحقق العدالة بين المسلمين في القارات الخمس في الوقت الذي يتغلغل فيما بينهم النظام الرأسمالي التبعي الذي يدمج فيه كل الأنظمة الاستغلالية ما قبل الرأسمالية حتى يقطع الطريق أمام تطور تلك النظم في الاتجاه الاشتراكي ،خاصة، وأن ما يسعى إليه الإسلام من تحقق لكرامة الإنسان يلتقي مع النظام الاشتراكي فيه.
وان من يوصف بالعقيدة هم الناس المعتنقون لها أنى كانت تلك العقيدة –وليس ما ينسجونه –بالضرورة- من علاقات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية ، أو مدنية ، أو سياسية ، ويمكن أن ننسب إليهم ما يقومون به من أعمال ، وما ينسجونه من علاقات بعيدا عن العقيدة التي يعتنقونها .فنحن عندما نستهلك بضاعة معينة لانقول هذه بضاعة إسلامية وهذه بضاعة غير إسلامية . وإلا فاننا سننسب إلى الإسلام بضائع تضر المسلمين أنفسهم ،مثل الحشيش الذي يسوق ، وبطرق غير مشروعة إلى العديد من البلدان انطلاقا من بلدان يعتنق سكانها الإسلام ويحكمها المسلمون ، فنقول الحشيش الاسلامي، والحشيش غير الإسلامي .
فهل يراجع المتنبئون الجدد الذين يدبجون تلك الكتابات عن"الاقتصاد الإسلامي" منظومتهم الاصطلاحية لإتاحة الفرصة للمسلمين لامتلاك الوعي بطبيعة الاقتصاد الرأسمالي التبعي الذي تحول في عصر العولمة إلى اقتصاد رأسمالي همجي ، يهجم على دخل المسلمين والمسيحيين وغيرهم من المعتنقين للديانات الأخرى ، كما يهجم على من لا دين لهم ، ويفتك بكل القيم الاقتصادية النبيلة أنى كان مصدرها خدمة لصالح التراكم الرأسمالي الذي أصبح لا يعرف الحدود والذي بموجبه تلتهم الشركات العابرة للقارات كل شيء مهما كان صغيرا ؟
و هل يلجأ القراء إلى الكشف عن الطبيعة الأيديولوجية لمفهوم "الاقتصاد الإسلامي" ؟
ألا يعتبر هذا المفهوم ناتجا عن وجود اقتصاد اشتراكي؟
هل كان سيظهر لو لم تظهر الاشتراكية في العديد من البلدان ؟
ألم يكن ترويج ذلك المصطلح خدمة للنظام الرأسمالي التبعي ؟
و هل أدت تلك الكتابات دورها. أم أن هذا الدور لازال واردا ؟
و ما هي حقيقة الاقتصاد ؟ و ما هي حقيقة الإسلام ؟ وهل يمكن أن تكون هناك علاقة بين الاقتصاد و الإسلام ؟
حقيقة الاقتصاد و حقيقة الإسلام :
و إن الحديث عن حقيقة الاقتصاد و حقيقة الإسلام يقتضي منا أن نميز بين مستويين :
1) مستوى العلاقة الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية التي ينتجها البشر بقطع النظر عن العقيدة التي يعتنقوها.
2) مستوى القناعة الروحية التي يعتنقها أفراد المجتمع بصفة فردية أو جماعية ، و دون إلزام من أحد ، و ممارسة ما يترتب عن تلك القناعة.
و انطلاقا من التمييز بين هذين المستويين سنعتبر أن حقيقة الاقتصاد تكمن في الطريقة التي يتم بها إنتاج البضائع التي يحتاج إليها الإنسان في حياته اليومية ، تلك الطريقة التي تتم في إطار نمط معين من أنماط الإنتاج المختلفة التي تتحدد فيها طبيعة ملكية وسائل الإنتاج التي تحدد بدورها طبيعة علاقات الإنتاج ، و لصالح من يذهب فائض القيمة.
و طريقة الإنتاج – أنى كان نمط الإنتاج الذي تتم في إطاره لا يمكن أن تخص معتنقي عقيدة معينة دون بقية العقائد ،بل نجدها هي هي في جميع الأمم و الشعوب، و في كل مكان ، و كل زمان، و كل ما في الأمر: أن الاختلاف يحصل في مدى تقدم أو تخلف علاقات الإنتاج. هل هي من نوع العلاقات القائمة في المركز؟ أم من الأنواع المتعددة التي لازالت تتعايش في الأطراف.
كما سنعتبر أن حقيقة الإسلام لها علاقة بالعقيدة الموجهة للتشبع بالقيم النبيلة المحققة لكرامة الإنسان على جميع المستويات، و في جميع المجالات الاقتصادية و الاجتماعية، و الثقافية ، و السياسية بقطع النظر عن نمط الإنتاج السائد.
فالإسلام كعقيدة له علاقة بوجدان الإنسان، و بروحه التي تتطهر بواسطته من الشوائب و الميولات التي تقود إلى إهدار كرامة الإنسان في علاقته مع الله و مع البشر، و الإسلام كشريعة يهدف إلى إعداد المجال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي و السياسي الذي تتم فيه التربية الروحية للإنسان ، التي يكون من الواجب عليه، وبواسطة تلك التربية أن يحرص على حفظ كرامته في علاقته مع الله ، و مع البشر كما ورد في الآية الكريمة : " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة و خلق منها زوجها، و بث منهما رجالا كثيرا و نساء، و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام". و كما ورد في آية أخرى : " و المومنون و المومنات بعضهم أولياء بعض".
و بذلك يتبين أن حقيقة الاقتصاد لها علاقة بطريقة الإنتاج التي لا ملة لها، والتي يمكن أن يمارسها المسلمون و غير المسلمين، و التي قد تتحقق معها كرامة الإنسان ، و قد لا تتحقق. و أن حقيقة الإسلام لها علاقة بالمسلمين أنفسهم الذين يعتنقون عقيدته و يومنون بها، وفق قواعد معينة، و ينظمون العلاقات فيما بينهم على أساس الشريعة التي تتطور بتطور الإنسان نفسه، و بتغير زمانه و مكانه.
و بناء على ما سبق : هل يمكن قيام علاقة بين الاقتصاد و الإسلام ؟ و ما طبيعة هذه العلاقة ؟
هل يمكن الحديث عن عبودية إسلامية ؟ أو إقطاع إسلامي ؟ أو رأسمالية إسلامية ؟ أو عن اشتراكية إسلامية؟
أو هل يمكن الحديث عن إسلام عبودي ؟ أو إسلام إقطاعي ؟ أو إسلام رأسمالي ؟ أو إسلام إمبريالي ؟ أو إسلام اشتراكي ؟
إننا بتناولنا لحقيقة الاقتصاد و حقيقة الإسلام تطرح علينا هوية الاقتصاد الإسلامي، و هوية الإسلام الاقتصادي.
العلاقة بين الاقتصاد و الإسلام :
إن المغالطة الكبرى التي يروج لها في كتابة المتنبئين الجدد أن كل ما في الكون يمكن أن ينقسم إلى إسلامي و غير إسلامي. و بذلك يكون الاقتصاد المومن بالإسلام ، والاقتصاد الكافر به، و الأدب المومن بالإسلام و الأدب الكافر به.
و هذه المغالطة تقف وراء هذه الأيديولوجية التي تحرف الإسلام لخدمة طبقة معينة، أما الواقع فإن العلاقة القائمة بين الاقتصاد و الإسلام تحصل من خلال المسلمين الذين يعتنقون الإسلام، و يمارسون نشاطهم الاقتصادي في إطار نمط معين من الإنتاج الاقتصادي الذي يفرض في إطاره على المسلمين الذين يحصل عندهم تراكم اقتصادي جزء من ذلك الدخل لصالح بيت مال المسلمين لتوزع على الفقراء و المساكين و غيرهم من المستفدين من صندوق ضمان المسلمين الذي لم يعد قائما كما نصت على ذلك الآية الكريمة : " "إنما الصدقات للفقراء و المساكين، و العاملين عليها و المؤلفة قلوبهم، و في الرقاب، و الغارمين، وفي سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله".
و حسب هذا النص فإن الاقتصاد لا ملة له، وأن الدخل الاقتصادي يقع تحت طائلة مالكيه الذين تنسحب عليهم شريعة معينة.
و قد كان المفروض أن يستعمل المتنبئون الجدد المصطلح الأقرب إلى الحقيقة : " اقتصاد المسلمين" باعتبارهم بشرا يمارسون نشاطا اقتصاديا مصنفا في إطار أحد أنماط الإنتاج المعروفة، لأن اقتصاد المسلمين قد يكون عبوديا أو إقطاعيا ، أو رأسماليا ليبراليا أو همجيا ، أو اشتراكيا ، وفي جميع الحالات قد يكون محترما لقيم الإسلام أو غير محترم لها. وقد يلتزم بما أوجبته الشريعة على المسلمين لصالح مستحقيه أو غير ملتزم بها.
و بذلك نصل إلى أنه لا يوجد شيء اسمه "اقتصاد إسلامي" الذي يفترض فيه -إن كان قائما بالفعل- أن يختلف عن سائر الأنماط الأخرى المعروفة، و التي عايش الإسلام معظمها عبر العصور المتعاقبة. و بما أنه لا وجود له، فهو يرتبط بالمسلمين، و بما يمارسونه على المستوى الاجتماعي و الثقافي و السياسي، و بذلك يبقى مصطلح "الاقتصاد الإسلامي" مجرد مقولة أيديولوجية من إبداع المتنبئين الجدد، لتضليل المسلمين وصرفهم عن التفكير في شكل الاقتصاد الذي تتحقق في إطاره العدالة الاقتصادية التي هي مطية العدالة الاجتماعية و الثقافية و السياسية، و بواسطة ذلك التضليل الأيديولوجي يصبح في إمكان المتنبئين الجدد أن يستمروا في الاستفادة من الوضع القائم الذي يسود فيه نمط معين من الإنتاج.
الاقتصاد من منظور سياسي :
و ما يجب أن نقف عليه هو أن الاقتصاد ذو طبيعة سياسية نظرا لارتباطه بطبيعة الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية القائمة على تصور سياسي معين لحزب أو مجموعة من الأحزاب السياسية التي تعمل على تكريس اختيارات سياسية معينة في المجال الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي خدمة لمصالح طبقة معينة أو مجموعة من الطبقات التي تتداخل مصالحها إلى درجة التواجد كما يحصل في البلدان الرأسمالية التابعة لنصل إلى :
1) أن الاقتصاد له علاقة بالناس الذين ينتمون إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية معينة باعتبارهم ذوي علاقات معينة بوسائل الانتاج، إما مالكين لها مستفيدين من فائض القيمة، أو مشغلين لتلك الوسائل مقابل جزء من القيمة التي تعرض بها البضاعة المنتجة في السوق و هذه العلاقة، و من هذا النوع لا تستحضر أبدا عقائد الناس ولا إيمانهم. فهم في عملية الإنتاج سواء لا فرق بين من يعتنق الإسلام و من يعتنق ديانة أخرى،و بين من لا دين له، سواء كان هذا الإنسان في بلاد المسلمين أو في غيرها من البلدان الأخرى في الشرق أو في الغرب، في الشمال أو في الجنوب.
و هذا ما يجعلنا نصر على أن الاقتصاد لا ملة له، و أن تسميته بالاقتصاد الإسلامي هي مجرد ممارسة أيديولوجية صرفة.
2) أن ارتباط الاقتصاد بالناس يؤدي بالضرورة إلى إقامة التصور الاقتصادي على الموقف السياسي الذي تتحدد في إطاره الاختيارات الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و هل هي اختيارات ذات طابع إقطاعي، أو رأسمالي أو اشتراكي،أو ذات طابع متعدد التشكيلات أو تبعي؟ و هو بذلك لا يكون إلا سياسيا. و لذلك فالتسمية الأحسن و الأفضل و الأكثر علمية هي "الاقتصاد السياسي" نظرا لارتباط الاقتصاد بالسياسة، و لكون السياسة تلتقي بالاقتصاد في الممارسة الاجتماعية، و هذا الارتباط ليس جديدا في حياة الناس بقدر ما هو قديم قدم الاجتماع البشري الذي مر بمجموعة من المراحل التاريخية كما أكدت ذلك الدراسات التاريخية و الاجتماعية التي حددت المراحل التاريخية للتشكيلات الاقتصادية الاجتماعية التي عرفت :
1) مرحلة المشاعة : التي عاش فيها المجتمع البشري كسائر الكائنات الحية ,يلجأ إلى الطبيعة كما هي ليأخذ حاجته منها ، ثم يعود إلى مأواه في الكهوف ، ونظرا لما يتعرض له من أخطار ، ولتميزه عن باقي الحيوانات بالقدرة على استخدام عقله فقد استطاع أن ينتج بعض الوسائل البدائية التي تمكنه من الدفاع عن نفسه، فترتب عن ذلك قدرته على السيطرة على بعض الحيوانات التي أخذ يسخرها لتلبية حاجياته الضرورية، وما يزيد عنها يبقى فائضا تحت تصرفه يستغل به الذين لا قدرة لهم على تحقيق تراكم معين،وهو ما أدى إلى المرحلة الموالية ,
2) مرحلة العبودية : التي تميزت بانقسام المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين :طبقة الأسياد ، وطبقة العبيد ،وهي المرحلة التي أسست ، وشرعنت استغلال الإنسان للإنسان عن طريق الملكية المباشرة له ،وتوظيفه في إنتاج حاجيات الأسياد من البضائع والخدمات بدون أجر يذكر ، وفي هذه المرحلة عرف العبيد ممارسات قاسية من الأسياد الذين يتصرفون في عبيدهم ، و يستثمرونهم كما يتصرفون في الممتلكات الأخرى ، وقد أدركت كل الديانات السابقة على الإسلام هذه المرحلة ، ولم تحرم ملكية العبيد كما أدركها الإسلام , ولم يحرم تلك الملكية. وكل ما في الأمر أنه عمل على التخفيف من حدتها بالدعوة إلى تحرير العبيد والتشجيع عليه مما يعتبر مكرمة يقوم بها السيد الذي يحافظ على مكانته بين المسلمين وهو ما كان يلجأ إليه كبار الصحابة الذين اشتهروا بشراء العبيد وتحريرهم ، وقد تم استغلال العبيد في الكثير من الواجهات التي تدر المزيد من الثروات على الأسياد.ومن الواجهات التي استخدم فيها العبيد الزراعة والرعي التي تطورت لإنتاج مرحلة انتقل فيها العبيد من التبعية للأسياد إلى التبعية للأرض ، وهي مرحلة أقل حدة من المرحلة العبودية، و تسمى:
3) مرحلة الإقطاع : التي انقسم فيها المجتمع إلى طبقتين رئيسيتين :
طبقة الإقطاع الذين يملكون الأراضي الواسعة بما عليها ومن عليها ، وطبقة الأقنان الذين يبقون تابعين للأرض يباعون ببيعها . ويشترون بشرائها من قبل أحد الإقطاعيين ، ويسمون بعبيد الأرض التي يعملون فيها من أجل الإنتاج الزراعي والحيواني الذي يؤول لصالح الأسياد ، ولا يأخذ منه عبيد الأرض إلا ما يقيمون به أودهم من أجل الاستمرار في العمل في الأرض .وقد عرفت جميع الديانات مرحلة الإقطاع، و لم تتخذ منها موقفا معينا و كل ما فعله الإسلام هو فرض تقديم جزء من الإنتاج الزراعي و الحيواني لبيت مال المسلمين، و هو ما يثبت أن الاقتصاد أو النظام الاقتصادي لا علاقة له بالعقائد إلا من باب الإقرار بها من قبل النظم التي تصبح سائدة بين الناس بفعل الصراع الطبقي القائم بينهم و الذي تتحدد مستوياته، و تتغير طبيعته، و يختلف إفرازه من مرحلة إلى أخرى، ذلك الصراع الذي يجري على الأرض و من أجل ما في الأرض، و ما عليها. و قد أفرز الصراع بين الإقطاع و عبيد الأرض في مستوياته المختلفة مرحلة جديدة أكثر تطورا تسمى ب :
4) المرحلة الرأسمالية : و هي مرحلة نتجت عن الصراع الطبقي في إطار التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية في المرحلة الإقطاعية و هي متطورة عن سابقتها، و مختلفة عنها على مستوى نوعية الطبقات، إذ تتكون من طبقتين رئيسيتين هما : الطبقة البورجوازية التي تملك وسائل الإنتاج، و الطبقة العاملة المشغلة لتلك الوسائل عن طريق بيع قوة عملها مقابل جزء يسير من قيمة العمل التي يذهب بفائضها إلى الطبقة البورجوازية التي تحقق أرباحا طائلة تساعدها على تنمية رأسمالها الذي يستعبد بواسطته جماهير العمال .
و النظام الرأسمالي مثله مثل النظام العبودي، و النظام الإقطاعي، هو نظام استغلالي، لا تهمه كرامة الإنسان الذي انجذب إليه بسبب رفع شعار حقوق الإنسان، و الدعوة إلى سيادة قيم الحرية و الإخاء، و المساواة.
و يوظف هذا النظام كافة الأشكال الأيديولوجية التي تخدم مصالح الطبقية الاستغلالية بصفة عامة، و مصالح الطبقة البورجوازية و حلفاءها بصفة خاصة حتى تبقى الجماهير الشعبية المستغلة مضللة، و مغيبة عن واقعها حتى يزيد استغلالها.
و قد برعت البورجوازية في العالم الإسلامي بالخصوص في توظيف الدين الإسلامي لتكريس تضليل المسلمين و جعلهم يقبلون كل أشكال الاستغلال المادي و المعنوي.
و هؤلاء البورجوازيون المتأصلون من الإقطاعيين و من الأسياد و من الحكام و أذنابهم، هم الذين أبدعوا عن طريق المتنبئين الجدد مصطلح "الاقتصاد الإسلامي" الذي لا يتجاوز أن يكون مقولة أيديولوجية، و هم الذين يكرسون عمق الاستغلال المادي و المعنوي للمسلمين باسم الدين الاسلامي، هذا الاستغلال الذي يقودنا إلى المرحلة الموالية.
5) المرحلة الاشتراكية : وهي مرحلة تتحول فيها ملكية وسائل الإنتاج من الملكية الفردية إلى الملكية الجماعية، و تنتقل فيها السيادة من البورجوازية إلى الطبقة العاملة و يؤول فيها النظام الرأسمالي إلى نظام اشتراكي يعمل على التوزيع العادل لقيمة الإنتاج بين جميع أفراد المجتمع على أساس مقولة "على كل حسب قدرته، و لكل حسب حاجته" و هي مقولة لا علاقة لها بالأيديولوجية، وهو ما يؤكد أن النظام الاشتراكي يحرص على تنمية الأنسان بدل تنمية الثروة.
و المرحلة الاشتراكية عرفت هجمات منظمة فكرية و أيديولوجية سياسية، توظف فيها جميع الإمكانيات المادية و المعنوية بما فيها توظيف الديانات و في مقدمتها توظيف الدين الإسلامي الذي تحول على يد موظفيه إلى أيديولوجية لدحض إمكانية تفكير المسلمين في تحقيق النظام الاشتراكي الذي تم تصويره في فكر المتنبئين الجدد على أنه قوة معادية للإسلام، كما تم تصوير الاقتصاد الاشتراكي على أنه اقتصد نقيض الاقتصاد الإسلامي، الذي لا وجود له أصلا مع أن ما دعا إليه الدين الإسلامي هو تحقيق العدالة بين الناس عن طريق الحرص على أن يكون مصدر الدخل مشروعا، و أن تكون أوجه الصرف مشروعة، و المشروعية هنا هي كل ما لا يتناقض مع حفظ كرامة الإنسان كما أرادها الله تعالى و هذا الحفظ هو نفسه غاية المرحلة الاشتراكية، و كرامة الإنسان في الحالتين معا لا تتحقق إلا بالعمل الذي هو مطية الدخل الفردي و الجماعي، و طريق تحقيق العدالة الاقتصادية بين الناس الذين يسعون إلى التمتع بالحقوق الاجتماعية و الثقافية و المدنية و السياسية في إطار دولة الحق و القانون التي لا تتجسد إلا في المرحلة الاشتراكية.
و كان يمكن أن ندرج ضمن المراحل أعلاه المرحلة الشيوعية غير أننا أحجمنا عن ذلك لاعتبار واحد و هو أن المرحلة الشيوعية لم تعرف بعد باعتبارها مرحلة انتفاء الدولة كمنظم الاقتصاد في إطار مرحلة من المراحل التي عرف فيها المجتمع الانقسام الطبقي حتى يبقى ذلك الاقتصاد في خدمة الطبقة المسيطرة.
و السؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو : هل يمكن القول بالاقتصاد الإسلامي بعد استعراضنا للمراحل الاقتصادية التي عرفتها البشرية، و التي عايش الإسلام معظمها، و لم يحدد موقفه منها ؟ و ما ورد من عدائه للمرحلة الاشتراكية ما هو إلا ممارسة أيديولوجية من إبداع المتنبئين الجدد خدمة للرأسمالية، و الأنظمة الاستغلالية الأخرى التي تتسم بالأمراض الاقتصادية التي تموقف الإسلام منها كالربا و القمار و السرقة، و الرشوة…و هي أمراض اجتماعية لها علاقة بالتربية المستدامة للبشر الذين يسعون إلى الحصول على الثروة بكل الوسائل المشروعة و غير المشروعة.
إن مقولة "الاقتصاد الإسلامي" هي مقولة أيديولوجية كما أشرنا إلى ذلك في الفقرات السابقة، وحتى نكون علميين و واقعيين نجد أن المقولة التي تعوضها هي : "اقتصاد المسلمين" الذي يمكن أن يكون عبوديا، أو إقطاعيا، أو رأسماليا، أو اشتراكيا. وما على المسلمين في جميع الأنماط الاقتصادية التي يمارسونها إلا أن يستأنسوا بتوجيهات الدين الإسلامي التي توصي بالقيام بواجبات معينة، و تحرم القيام بممارسات لها علاقة بالأمراض الاجتماعية التي تحط من كرامة الإنسان. فالمسلمون هم هم سواء عاشوا في المرحلة العبودية، أو الإقطاعية، أو الرأسمالية، أو الاشتراكية و لا يكسبون قيمتهم إلا عن طريق التشبع بالقيم الإسلامية النبيلة، كنتيجة للتربية الروحية التي يتلقاها المسلمون. فما موقف المسلمين مما يجري الآن على المستوى الاقتصادي؟
شمولية اقتصاد السوق و همجية الرأسمالية :
و إذا كان في بلاد المسلمين "اقتصاد إسلامي حقيقي" فلماذا انخرطت معظم دول المسلمين في اتفاقية التجارة العالمية التي تعتبر مدخلا لعولمة اقتصاد السوق ؟ لماذا لا تعمل دول المسلمين على مقاومة اقتصاد السوق لصالح سيادة الاقتصاد الإسلامي ؟
لماذا تهافت دول المسلمين على أعتاب أمريكا التي تعتبر عدوة للشعوب ؟
لماذا التودد للشركات العابرة للقارات، و المؤسسات المالية الدولية ؟
لماذا توضع ثروات بلدان المسلمين في خدمة تلك الشركات و المؤسسات ؟
لماذا لا يستبدل المتنبئون الجدد مقولة "الخطر الشيوعي" التي تملأ ثنايا كتبهم الموبوءة بمقولة "خطر اقتصاد السوق" ؟
ألم يصبح هذا الاقتصاد هو المعبود الأكبر حتى من قبل المتنبئين الجدد الذين أصبحوا يخططون للاستفادة منه أكثر، و يلبسون صفة "الاقتصاد الإسلامي" لممارستهم ؟
ألم يتحول هؤلاء المتنبئون الجدد بسبب ذلك إلى مشركين بالله تعالى الذي يدعون أنهم وسطاؤه إلى البشر؟
إن ما يجري الآن يقتضي إعادة النظر في الممارسة النظرية و العملية لجميع البشر بمن فيهم المسلمون من أجل :
1) معرفة ما يجري في العالم، و هذه المرحلة بالخصوص التي تداس فيها جميع القيم، ذات الأبعاد العقائدية و الإنسانية مما يحول العالم إلى مجرد ذاكرة تلعب بها أمريكا بواسطة أدواتها المتمثلة في الشركات العابرة للقارات، و في المؤسسات المالية الدولية وفي مقدمتها : صندوق النقد الدولي و البنك الدولي، و تحت أعين مخابراتها المبثوثين في كل أنحاء العالم، و حراسة جيوشها التي تملك إمكانية الوصول إلى أي نقطة من الكرة الأرضية بواسطة الأقمار الصناعية التجسسية.
2) معرفة طبيعة اقتصاد السوق، و ما يشكله من خطورة على المنافسة مما يؤدي إلى إفلاسها، و عدم قدرتها على الاستمرار، و ما يعنيه ذلك من تشريد للشغيلة، و إقفال الأبواب أمام فرص الشغل الجديدة التي لم تعد تفتح أمام جيوش العاطلين الحاملين للمؤهلات المختلفة و العالية في معظم الأحيان.
3) دراسة سبل المحافظة على استمرار الاقتصاد الوطني و المحلي في لعب دوره التنموي على المديين القريب و البعيد لضمان استمرار نمو اقتصادي وطني حتى تضمن استمرار المسلمين على أرضهم، لحفظ كرامتهم التي تهدر في البلاد التي يهاجرون إليها و التي يسميها المتنبئون الجدد "ببلاد الكفر"
4) تنظيم عملية المقاومة لا على أساس ديني أو عقائدي لأن هذا النوع من المقاومة إن نجح مع الاشتراكية و مع " الخطر الشيوعي" نظرا لتدني وعي المسلمين، و انتشار الأمية الأبجدية فيما بينهم، فإنه لن ينجح مع اقتصاد السوق الذي سيأتي على الأخضر و اليابس –كما يقولون لأن المتنبئين الجدد و أسيادهم سوف لن يتمكنوا من ذلك لاعتبارات نذكر منها :
أ – كون المتنبئين الجدد و أسيادهم من المستفيدين من عولمة اقتصاد السوق.
ب- كون هؤلاء لازال ينتظر منهم أن يستكملوا مهمة محاربة "الخطر الشيوعي" التي لازالت بعض قلاعه قائمة في الشرق و الغرب على السواء,
ح- كون اقتصاد السوق لازال يغري المستلبين عبر العالم.
ع- كون الأنظمة التابعة تربط مصالحها بمصالح الشركات العابرة للقارات، و مؤسسات النقد الدولي، و البنك الدولي.
ه – كون الدول المتحكمة في الاقتصاد العالمي بزعامة أمريكا تفرض اقتصاد السوق بكل الوسائل، سواء كانت ممكنة، أو غير ممكنة.
بل على أسس أخرى أهمها :
أ - المقاومة الاقتصادية عن طريق التعبئة الشاملة لمجموع الشعب، و بواسطة المنظمات و الأحزاب المناضلة من أجل مقاطعة بضائع البلدان الرأسمالية، و الشركات العابرة للقارات.
ب- المقاومة الاجتماعية الساعية إلى الحصول على جميع الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و السياسية لصالح جميع أفراد المجتمع مهما كانت ملتهم، و حتى إن لم تكن لهم ملة تذكر، و من أجل إضعاف قوة المستفيدين من عولمة اقتصاد السوق.
ح- المقاومة الثقافية الهادفة إلى إشاعة الوعي بخطورة اقتصاد السوق على مستقبل الاقتصاد الوطني و القومي، و تعيق ذلك الوعي، و السعي إلى جعل أفراد المجتمع يلجأون إلى مقاومة ما ينجم عن إشاعة اقتصاد السوق في البلدان ذات الأنظمة التابعة.
د – المقاومة السياسية عن طريق النضال من أجل أن تقوم الدول بإعلان مواقف سياسية مناهضة لكل أشكال الاستغلال التي ينفذها منظورو اقتصاد السوق.
و بهذه الأشكال من المقاومة يمكن أن ننقل الشعوب الإسلامية إلى مستوى الوعي الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي يؤهلها لخوض النضال المرير ضد اقتصاد السوق و ضد النتائج التي لا يمكن قبولها من قبل الشعوب الإسلامية المقهورة. و بهذا يظهر أن الاقتصاد من صنع الإنسان، و أن مقولة "الاقتصاد الإسلامي" تبقى مجرد مقولة أيديولوجية.
براءة الاقتصاد من العقيدة :
و الاقتصاد الذي هو إنتاج اجتماعي لا عقيدة له. إنه نظام يرتبط بطبيعة الاختيارات القائمة في المجتمع. فإما أن تكون هذه الاختيارات ذات طبيعة عبودية أو إقطاعية أو رأسمالية، أو رأسمالية تبعية أو "اشتراكية" أي لا ديمقراطية ولا شعبية ، و بالتالي، فإن الأجهزة القائمة تعمل على تنفيذ تلك الاختيارات خدمة للطبقة المالكة لوسائل الإنتاج، و تسن القوانين التي تخضع الشغيلة وترغمها ، و تستعبدها بمختلف الوسائل القمعية، سواء كانت أيديولوجية، أو سلطوية للحريات العامة و الخاصة في معظم الأحيان، و تسعى إلى جعل كل الإمكانيات المتوفرة لممارسة ذلك القمع حتى يستمر الإنتاج بالوثيرة التي تقررها الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج.
و من الوسائل القمعية التي تستغل بكثافة في المجتمع الإسلامي : الدين الذي يتحول إلى أيديولوجية قمعية على يد المتنبئين الجدد لجعل المسلمين يقبلون بكل أشكال الاستغلال و يعتبرونها قدرا من عند الله، ليتحول الدين الإسلامي بذلك إلى دين غير عادل، وهو ما يتنافى مع حقيقة الإسلام الذي يحرص على تحقيق كرامة الإنسان. و إلا فلماذا فريضة الزكاة على مالكي وسائل الإنتاج من المسلمين مهما كان نمط الإنتاج الذي تحصل تلك الملكية في إطاره ؟ لماذا الفيء ؟ لماذا الحث على الصدقات ؟ لماذا الدعوة إلى تحرير الإنسان ؟.
و لذلك فطبيعة الاقتصاد لا علاقة لها بالعقيدة أي عقيدة، و أن ممارسي نمط من الإنتاج الاقتصادي من حقهم أن يعتنقوا أي عقيدة يختارونها. و إلا فإنه سيصبح اقتصادا إسلاميا، و اقتصادا مسيحيا، و آخر يهوديا، و آخر ملحدا. و بالتالي فإن الصراع الطبقي سيتحول إلى صراع بين الديانات، أو بين الإيمان وبين الإلحاد، مما لا علاقة له بحقيقة الصراع الطبقي الذي يجري بمستوياته الاقتصادية و الاجتماعية و الأيديولوجية و السياسية بين المستغلين مالكي وسائل الإنتاج و بين المستغلين مستعملي تلك الوسائل في عملية الإنتاج.
و هكذا يتبين أن الاقتصاد بريء من العقيدة التي تخص الناس الذين يختارون نمط الإنتاج الاقتصادي، أو يجدون أنفسهم مضطرين للانخراط فيها بصفة قسرية عندما تفرض عليهم بقوة القانون الذي يعتبر مطية قوة السلاح.
ضرورة التدقيق في المصطلحات :
و من خلال ما سبق يتبين لنا أن مصطلح "الاقتصاد الإسلامي"هو مصطلح غير دقيق من وجهة نظر الاقتصاد السياسي، لعدم تعبيره عن الواقع. إنه مجرد مقولة تهدف إلى تضليل العمال لجعلهم يتوهمون بأن هناك شيئا اسمه الاقتصاد الإسلامي الذي يقودهم إلى الحلم بحقيقة الذي لا يحصل أبدا حتى لا يفكروا في النضال من أجل تحقيق الاشتراكية.
و أهمية التدقيق آتية من ضرورة التمييز :
1) بين ما للعقيدة الذي يستلزم الثبات على الإيمان لإعداد النفس البشرية للتشبع بالفضيلة و القيم النبيلة التي تربط الوجدان البشري بالله تعالى التماسا لعمق الإيمان. و ما للشريعة هو الذي يرتبط بالعلاقات بين الناس، سواء كانت تلك العلاقات اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو سياسية. و هذه العلاقات تكون عرضة لمختلف المؤثرات الجغرافية، و التاريخية مما يجعلها متحولة باستمرار بسبب تحول البشر أنفسهم.
2) بين ما للإسلام باعتباره عقيدة و شريعة يقتضي الإيمان و الالتزام بمجموعة من القواعد و القيم التي تعبر عن ذلك الإيمان. و بين ما للمسلمين من أنظمة اقتصادية، و اجتماعية، وثقافية، و سياسية، و ما يضعونه من قوانين تنظم شؤونهم المختلفة، وما يخططونه لتحقيق مستقبلهم.
وإذا استحضرنا هذا التمييز سنتجنب استعمال مصطلحات مضللة كمصطلح الاقتصاد الإسلامي، و الفكر الإسلامي، و غيرهما. وكان المفروض أن نقول اقتصاد المسلمين، و فكر المسلمين حتى لا نمارس تضليل المتلقي الذي قد يعتقد أن هناك شيئا اسمه الاقتصاد الإسلامي. فيسعى إلى تحقيقه، فلا يتحقق إلا في وهم المضللين من المتنبئين الجدد و من يتم تضليلهم من عامة الناس.
إسلامية العقيدة، و لا إسلامية الاقتصاد :
و إذا كانت العقيدة هي أساس وجود الإسلام، و قيامه بتربيته الخلقية، و الإنسانية للبشر، و قواعده، و شريعته، فإن الاقتصاد هو ممارسة يومية للبشر من أجل إنتاج الحاجيات الضرورية، و الكمالية التي يحتاجون إليها مهما صغرت أو كبرت قيمتهم بقطع النظر عن كونهم مسلمين أو غير مسلمين مسيحيين أو يهود أو بوذيين، أو من الذين لا ملة لهم، و في أي زمن عاشوا، وفي أي مكان يعيشون.
و بناء على ذلك فنحن عندما نتحدث عن الدين الإسلامي فإننا نعني به الاعتقاد الذي يحمله البشر في صدورهم من الذين آمنوا به و اعتقدوه، و التزموا بطريقته في العبادة ، و سعوا إلى جعل شريعته منفتحة على العصر الذي يعيشون فيه حتى يتمكنوا من جعله صالحا لكل زمان و مكان.
أما عندما نتحدث عن الاقتصاد فإننا نتحدث عن نشاط يقوم به جميع الناس بقطع النظر عن عقيدتهم، و هذا النشاط يمكن أن يشترك فيه أناس لهم عقائد مختلفة، وقد يكون في إطار نمط إنتاج معين قد يكون عبوديا، أو إقطاعيا أو رأسماليا أو اشتراكيا، و قد يكون متعدد الأنماط، و قد يكون تابعا أو متحررا. و لذلك فلا يمكن وصفه بالإسلامي، لأن الوصف له علاقة بالعقيدة و الاقتصاد له علاقة بحاملي العقيدة.
و على هذا الأساس فالاقتصاد بريء مما يلصق به إذا استثنينا ما له علاقة بالعقيدة أو الشريعة كالزكاة، و الجزية و النفقة … و هي أمور لا علاقة لها بنمط الإنتاج بقدر ما لها علاقة بالاجتماع البشري في إطار العقيدة الإسلامية التي يعتقدها المسلمون. و الزكاة و الجزية و النفقة و ما سواها، إنما تهدف إلى توفير شروط كرامة الإنسان، و حفظ تلك الكرامة، و حمايتها من الانزلاق في اتجاه الضياع. و هي لا تجب في إطار نمط معين من الإنتاج فقط، بل يمكن أن تحصل من جميع الأنماط التي يحصل فيها تراكم بسبب سوء التوزيع بين البشر حتى لا يشعر المحرومون بالحرمان مما يرونه لغيرهم فيتجنبون الحقد عليهم على أساس الدين الإسلامي، لعلمهم أن حقهم سوف يصلهم. فكان صندوق بيت مال المسلمين كما تمت تسميته في الفقه الإسلامي القديم، بمثابة صندوق الضمان الاجتماعي، أو حساب التأمين الذي ينخرط فيه جميع المسلمين، و الذين يدفعون منهم هم الميسورون الذين يمكن تسميتهم اليوم بأرباب العمل. أما الذين يتسلمون أقساطا فهم الذين وردوا في الآية الكريمة : " إنما الصدقات للفقراء و المساكين و العاملين عليها و الغارمين و في سبيل الله و ابن السبيل فريضة من الله " لأن الحقد على أساس عقائدي سيؤدي إلى أحد الأمرين :
الأمر الأول : النفور من العقيدة التي قد تظهر متحيزة إلى طبقة ميسورة، و هو عكس ما جاءت من أجله الشريعة الإسلامية فيستبدلون العقيدة الإسلامية بعقيدة أخرى.
الأمر الثاني : اللجوء إلى توظيف الدين الإسلامي في الأمور السياسية مما يؤدي بالضرورة إلى الفرز الطائفي اعتمادا على تعدد التأويلات التي لها علاقة بالمصلحة الطبقية. فتتكون الطوائف على أساس مذهبي، و ينفجر الصراع التناحري على هذا الأساس كما حدث قديما، و كما يحدث في العديد من البلدان الإسلامية في تاريخنا المعاصر.
الاقتصاد الإسلامي كتعبير أيديولوجي :
و بذلك يتحول الدين الإسلامي إلى تعبير أيديولوجي يقتضي إيجاد مصطلحات تعبيرية لهذه الغاية حتى يتميز حاملو تلك الأيديولوجية عن غيرهم و حتى تتم عملية الاستقطاب إلى حزب سياسي على أساس عقائدي كما أصبح يحصل في العديد من دول المسلمين، ومن المصطلحات الأيديولوجية الموظفة لهذه الغاية " الاقتصاد الإسلامي" بهدف إشاعة الوهم بوجود شيء اسمه "الاقتصاد الإسلامي" و رفع مستوى تأثير ذلك الوهم بين المسلمين الذين يحلمون بتحقيق ذلك الاقتصاد الذي يحقق " العدالة الإسلامية" في "المجتمع الإسلامي" القائم على التمييز عن "مجتمع الكفار" الممارس "للجهاد" ضدهم، حتى تكون الكلمة الأولى و الأخيرة للمتنبئين الجدد الذين تصبح الولاية لهم بقرار منهم، لا من "الشعوب الإسلامية" التي تفقد قدرتها على تقرير مصيرها. و تصبح خاضعة لمن يحكمها "بتفويض من الله" و لا تستطيع رفع صوتها حتى لا توصف ب "الكفر" و تخرج من "الجنة" و تقبل ما هي عليه من فاقة، و ما عليه الميسورون من بذخ، باعتبار كل ذلك قدرا من الله تعالى الذي قضى بين عباده فأغنى من أغنى، و أفقر من أفقر.
و المتنبئون الجدد عندما يستعملون مصطلحات من هذا النوع، و يسعون إلى جعل المسلمين منخدعين بها، يحققون أهدافهم المرحلية التي تتمثل في السيطرة على المسلمين لخدمة أوليائهم الذين وظفوهم. و قدموا لهم المزيد من العطاءات التي تمكنهم من بسط أيديولوجيتهم بين المسلمين في كل بقاع الأرض. و ينخدعوا ب "الفاتحين" الجدد الذين يرهبون "عدو الله " و بسم الله، و بالمسلمين، و بالاقتصاد الإسلامي الذي لا يتجسد في أي نمط من أنماط الإنتاج حسب مذهبهم. و يتميز عن كل الأنماط، و لا نعلم له مصدرا، و هو الذي يمكن أن يكون مملوكا لشركات "الأموال الإسلامية" أو حتى لشخص كأسامة بن لادن الذي يملك "أموالا إسلامية" تغني المسلمين الذين لا يحول بينهم و بينها إلا الأنظمة الفاسدة التي تخدم مصالح "الكفار" و تستعمل أموالا غير "إسلامية" باقتصاد غير "إسلامي" و هو أمر –حسب المتنبئين الجدد- يتنافى مع الدين الإسلامي، و مع شعار "الإسلام هو الحل" الذي لا يتجاوز مجرد كونه شعارا أيديولوجيا.
و أيديولوجية مصطلح " الاقتصاد الإسلامي" واضحة و بينة كما أوضحنا في الفقرات السابقة. و أهدافها واضحة، و نتائجها أيضا واضحة، و تكرار استعمالها في الأدبيات التي ينتجها المتنبئون الجدد أصبح يضايق القراء. مع أن ثروات المتنبئين الجدد أصبحت كلها مشبوهة، وخاصة تلك التي يملكها أولياء نعمتهم كأسامة بن لادن الذي يمول الدول التي تسمى ب "الدول الإسلامية" بما لا عين رأت ولا أذن سمعت. تلك الدول التي تعطي لنفسها حق اقتفاء الاتجار في أمور تعتبر محرمة دوليا، بدعوى أن المستهدفين بتلك التجارة هم "الكفار في "بلاد الكفر"، و أن ما تدره تلك التجارة يعين "المسلمين" على بناء "الدولة الإسلامية"، التي تصبح مالكة "للاقتصاد الإسلامي" الذي تتقوى به و تحارب "الأعداء" و "الخطر الشيوعي" الذي لم يسبق له أن وجد و "رجس الاشتراكية" التي "دنست" الآفاق طيلة عقود و جعلت الكثير من المسلمين – و العياذ بالله – يحلمون بتحقيقها في "البلاد الإسلامية" لمواجهة الخطر الإمبريالي. و لتحقيق العدالة الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية و الإسلامية، و هو ما يتنافى مع "حقيقة الإسلام" في نظر المتنبئين الجدد، مما يجعل محاربته "واجبة" على "المسلمين" الذين يجب عليهم أن "يجاهدوا" في "سبيل الله" للقضاء على هذا "الرجس" الذي يجب أن "يقبر" و إلى الأبد حتى لا تقوم له قائمة لا في الأرض و لا في السماء.
و المستفيد الأول من كل ذلك هو "الخطر الأمريكي" هو "الشيطان الأكبر" كما أصبح يسميه المتنبئون الجدد في أدبياتهم الجديدة بعد "القضاء" على "الخطر الشيوعي" و "رجس الاشتراكية" في كل مكان من العالم لإيهام المسلمين بأنهم سيقضون على أمريكا و على الأنظمة العميلة لها، و سيصبح الحكم خالصا للمتنبئين الجدد الذين سيتحملون مسؤولية حماية بلاد "الإسلام" مما يسيء إلى "الإسلام" وسيصبح "الاقتصاد الإسلامي" قائم الذات و سينتشر "العدل الإسلامي" بين "المسلمين".
فأمريكا هي الهدف الأخير للمتنبئين الجدد و بالقضاء عليها بواسطة العمليات الانتحارية – و ما أسهلها – التي تستهدف مصالحها، و تزعزع استقرارها ستصبح "الدولة الإسلامية" قائمة على وجه الأرض تتحكم في الشرق و الغرب، في الشمال و في الجنوب، في الأرض وفي السماء. و سيتفرغ المتنبئون الجدد لما هو أهم : للتفتيش في دواخل النفوس حتى لا يبقى شخص على وجه الأرض، يحمل ذرة فكرة عن اقتصاد غير "إسلامي" و العمل على "تطبيق الشريعة الإسلامية " التي تمكن "الدولة الإسلامية" من تحقيق عدالة الله في الأرض و عودة النساء " كحوريات" إلى جحورهن حتى لا يبتلى بهن الرجال المخلصون ل "الإسلام" و ل "الدولة الإسلامية" و تزول عطالة الرجال التي تقف وراءها "حرية النساء" الفاسدات المتطاولات على حقوق الرجال بسبب "رجس الاشتراكية" و جبروت "الشيطان الأكبر".
خـاتـمـة :
و ما يمكن استخلاصه مما سبق : أن حقيقة الاقتصاد ترتبط بنمط من أنماط الإنتاج المرتبطة بالتشكيلة الاقتصادية / الاجتماعية التي تكون سائدة في بلد ما، و في مرحلة تاريخية محددة تعكسها طبيعة التطور التي بلغتها تلك التشكيلة. و أن حقيقة الإسلام ترتبط بصحة العقيدة التي يحملها الناس في كل التشكيلات الاقتصادية/الاجتماعية التي تعاقبت عبر تاريخ البشر، و التي لازال بعضها قائما حتى الآن، و أن الاقتصاد لا يمكن أن تتحدد طبيعته على أساس العقيدة، و أن ما يسود فيه يكون من منظور سياسي معين . فيكون عبوديا، أو إقطاعيا، أو رأسماليا، أو اشتراكيا، أو متعدد التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية أو تابعا. و أن الاقتصاد الذي يسود الآن، و من منظور سياسي هو اقتصاد السوق الذي يأتي في ظل الرأسمالية الاحتكارية الهمجية. و أن مهاجمة هذا النوع من الاقتصاد الذي اتخذ صفة العولمة التي لا يمكن مواجهتها إلا بعولمة قائمة على استنهاض جميع الإمكانيات المتوفرة عند الشعوب بما فيها العقائد المختلفة التي تصبح من عوامل التوحد، لا من عوامل السيطرة الأيديولوجية، ليتبين أن الاقتصاد بريء من العقائد المختلفة، و مرتبط بحاملي تلك العقائد الذين ينخرطون بحكم الضرورة الاجتماعية في أحد أنماط الإنتاج، و هو ما يستوجب التدقيق في المصطلحات لتجنيب الناس بصفة عامة و المسلمين بصفة خاصة الوقوع في متاهات التضليل الأيديولوجي التي تفوت عليهم فرصة الرؤيا الواضحة التي تجعلهم يميزون بين إسلامية العقيدة، و لا إسلامية الاقتصاد و يدركون بكامل الوضوح أن مصطلح "الاقتصاد الإسلامي" هو مجرد تعبير أيديولوجي لا علاقة له بواقع الاقتصاد لا من بعيد و لا من قريب، و أن الغية من استعماله تكمن في تعميق التضليل الأيديولوجي الذي يجب فضحه و التصدي له على جميع المستويات على يد المتنورين الذين لازال دورهم واردا لإزالة الغشاوة على أعين المسلمين الذين افتقدوا القدرة على إدراك ما يجب عمله للتخلص من أوضاع التخلف التي تلاحقهم و تدخلهم في جحور مظلمة لا يستطيعون مغادرتها بالتضليل الأيديولوجي.
فهل يقوم المتنورون بدورهم في الكشف عن "حقيقة الاقتصاد الإسلامي" و هل يدخلون في مناقشة أطروحات المتنبئين الجدد في هذا المجال، و جرهم إلى الدفاع عن أنفسهم بدل ركوب مركب الهجوم على الواقع من منظور أيديولوجي متخلف ؟
و إذا كان المتنورون قد تراجعوا إلى الوراء أمام هجوم المتنبئين الجدد، فإن ذلك يعتبر مرحليا، و ستأتي الرياح بما لا تشتهي سفن هؤلاء المتنبئين الجدد و ما ذلك على التاريخ بعزيز.

ابن جرير في 2001/7/17



#محمد_الحنفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- منطق الشهادة و الاستشهاد أو منطق التميز عن الإرهاب و الاستره ...
- الأوراش الكونفيدرالية و ضرورة تقديم النقد الذاتي إلى الشغيلة ...
- بين إسلام أمريكا و إسلام الطالبان…
- هـل انتهى حق الشعوب في تقرير مصيرها بمجرد خروج الاستعمار ؟
- النضال النقابي بين رهانات الظرفية السياسية وطموحات الشعب الك ...
- دولة المسلمين لا إسلامية الدولة
- الإسلام/ الإرهاب…..أية علاقة؟


المزيد.....




- الإمارات تكشف هوية مرتكبي جريمة قتل الحاخام اليهودي
- المقاومة الإسلامية تستهدف المقر الإداري لقيادة لواء غولاني
- أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال ...
- كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة ...
- قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ ...
- قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان ...
- قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر ...
- قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب ...
- قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود ...
- قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد الحنفي - الاقتصاد الإسلامي بين الواقع والادعاء