|
ما قاله الريسوني في الخمر
أحمد عصيد
الحوار المتمدن-العدد: 2889 - 2010 / 1 / 15 - 08:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ليس ما قاله الريسوني في الخمر هو ما قاله مالك، فشيخنا المغربي كان أرحم بهذا المشروب السحري من شيخ الحجاز، لكنه بالمقابل لم يكن لطيفا مع غيره من المواطنين الذين لا ذنب لهم إلا أنهم مختلفون عن فقيه "التوحيد و الإصلاح"، الرجل الذي يمارس السياسة بـ"الدعوة"، بينما هؤلاء المواطنون في معظمهم بُرآء من السياسة و أهلها و لا يريدون إلا أن يعيشوا في سلام مع العالم، باقتناص لحظات جميلة من لحظات الحياة الفانية، لعلمهم بأنهم فيها عابرون.
و لأن جلّ العلماء و الفقهاء هم أهل أدب و ظرف، فلا شك في أن للسيد الريسوني نصيبه من الأدب الذي يمكنه من معرفة معنى المنادمة و آدابها، و ما فيها من متعة روحية و حسية نادرة، و ما تجلبه للنفس من ترويح و إحساس بالحياة، و يكفيه أن يلقي نظرة سريعة على ما خلفه شعراء العربية الكبار منذ عصر ما قبل الإسلام ـ المسمى خطأ بـ "الجاهلية"ـ إلى منتصف القرن الماضي، من طرفة بن العبد عبر أبي نواس و العباس إلى شوقي و الجواهري و أبو ماضي. و إن استنكف من ذلك اكتفى بأشعار الصوفية في "السكر" و "الحب" و "الفناء" ، (أقول هذا لأنني أعلم بأن مرجعية الإسلاميين في الثقافة و الأدب مشرقية شرقانية، و إلا لكنت حدثته عما في الشعر الأمازيغي و شعر الملحون من مُلح و لطائف في هذا الباب)، و غرضنا من ذلك أن يشعر بعض الشيء بما يعيشه أهل "الشراب" من متع و مباهج فيلين قلبه و يجد لهم بعض العذر فيما هم فيه، و يكون أقل عبوسا و قسوة عليهم.
لكن السيد الريسوني اختار أن يلعب دور الفقيه حارس القيم التقليدية، و هو للحقيقة دور متعِب غاية التعب، و مجلبة للغمّ و الحَزَن لما فيه من تصادم و عراك مع الواقع، الذي لم يعد يُروّض بالفتوى.
قال الداعية المغربي إنه يخوض في الأمر لأن من الناس من سأله و استفتاه عن الخمر و بيعها و مدى جواز التسوّق و التبضّع من محلاتها، و لست أدري لماذا يتصل الناس بالفقيه يسألونه في أمور معلومة مشهورة لا تحتاج إلى استفسار و لا إلى مزيد إيضاح، و إن كنت أتفهم حرص الفقيه على التفصيل فيها و تكرارها التكرار الممل ، لأنه يشعر في ذلك ببعض الأهمية التي تسمح له باستعادةٍ و لو شكلية لوصاية فقدها على المجتمع العصري، بعد أن خرجت الأمور من بين يد "أهل الحل و العقد" و صارت شأن أطر الدولة و أهل السياسة المدنية من العارفين بدواليب الإدارة العصرية الحديثة، و الذين ليس الفقه من اختصاصهم و لا هو من مرجعياتهم في العمل و التفكير.
و أودّ من باب تعميق النقاش، أن أذكّر بأمور يبدو أن فقهاءنا لم يستوعبوها بعد، مما جعلهم لا يتواصلون مع غيرهم من المثقفين و السياسيين و الفنانين ، و هي أمور ترتبها على الشكل التالي:
1) يتحدث فقهاء الإسلاميين بشكل قطعي كما لو أن آراءهم بمثابة التدابير التي ينبغي أن تتبناها الدولة و تعمل بها، و قد غاب عنهم أنّ مناقشة قضايا الأحكام الدينية في الأمور التي تقع في منطقة التماس مع الحياة العامّة و حقوق الأفراد في مجتمع اليوم، لا يمكن أن تنحصر في مجال المرجعية الدينية التي يعتمدونها، كما لا يمكن لها أن تظل من اختصاص الفقيه إلا عندما يتعلق الأمر ببحث أكاديمي علمي، أو عندما يصبح الدين محصورا في المجال الخاص، أي حياة الأفراد و اختياراتهم الشخصية، أما عندما نقحمه في الشأن العام، و نطرحه على أنه شأن الدولة، و نسعى إلى تعميم أحكامه على الجميع، فسيصبح من المستحيل بقاؤه من شأن "أهل الإختصاص"، لأن جميع الأطراف ملزمة بأن تدلو بدلوها فيه لأنها معنية.
و هكذا يصبح الدين شأن الفيلسوف و السوسيولوجي و الأنثروبولوجي و السياسي و الفنان و الفاعل الجمعوي و غيرهم، و عندما يخوض هؤلاء جميعهم في الدين، فلا ينبغي للفقيه أن ينتظر منهم تكريس مقاربته للدين و تبني منظوره الخاص له، أو بقاءهم في حدود مرجعيته الدينية التي تصبح هنا مرجعية من ضمن أخرى كثيرة. و هكذا ننتقل من المطلق إلى النسبي في الدين نفسه، لأن أصحابه أخرجوه من دائرة الإيمان و الإعتقاد الشخصي إلى مجال السياسة و الشأن العام، و معلوم أن كلّ ما يتداول في هذا المجال يدخل في باب النسبي لأنه يُختلف في شأنه و يصبح موضوع أخذ و ردّ .
2) إن مشكلة الخمر و غيرها من الأمور الدينية ليست مشكلة معرفة أو إرشاد، بل هي مشكلة نظام الدولة و قوانينها، كما أنها مشكلة قيم تقليدية تريد الإستمرار في وسط إعصار من التحولات المتتالية. و هذا ما يحاول أن يتجاهله الفقهاء و الإسلاميون و السلفيون عموما لأنه ليس في صالحهم، و لهذا تأتي فتاواهم مناقضة لاتجاه الواقع، و أن كانت استجابة لبعض السائلين من المواطنين الذين يعانون من اضطراب في علاقتهم بالواقع، بسبب وقوعهم فريسة للتعنيف الوعظي الشرس الذي يمارسه بعض الدعاة.
3) إن محاولة الفقيه و الإسلامي نزع الشرعية عن آراء الغير، و تبخيس الحقوق الفردية و ربطها بالإباحية أو بالفتنة و الفوضى يعبر عن محدودية الفكر الديني السلفي و عدم قدرته على تقبل الواقع، الذي لم يعد في جميع الأحوال هو نفس الواقع المتخيل الذي يعتمده الفقهاء و الإسلاميون في حديثهم عن الدين و أحكامه أو عن المجتمع، و مشكلة هؤلاء تتمثل في أنّ وصايتهم على المجتمع لا تتحقق إلا على حساب غيرهم، أي عبر تجاهل حقوق الأفراد و كل المرجعيات القانونية و الحقوقية الداعمة لها وطنيا و دوليا، و هو أمر له تبعات سلبية لا تستطيع الدولة تحملها بسبب استحالة العودة إلى الوراء. و بالمقابل فتهديد الإسلاميين بـ"الفتنة" في حالة إلغاء القوانين الماسّة بالحقوق الفردية و المتعارضة مع دستور البلاد كما صرّح بذلك لحسن الداودي، يشير إلى جوهر الفرق بين الإسلاميين و الديمقراطيين الحداثيين، فليس لدى هؤلاء ما يهدّدون به لأنهم أصحاب برهان و منطق، و ليس لدى الإسلاميين ما يحاججون به غير الوعيد و التخويف و الترهيب، و هكذا لم يساهموا في إخراج الدين من وضعيته القديمة، و ضعية الآلية المعتمدة في الإستبداد السلطوي و الحجر على المجتمع. إن ارتباط الإسلام على مدى قرون طويلة باستبداد الدولة و غطرسة الحكام قد جعل من الصعب نزع الطابع السلطوي عنه، و الحال أن ذلك هو الحلّ الوحيد لملاءمته مع العصر الذي نحن فيه، عبر عملية " أنسنة" لمحتوياته و نصوصه أصبحت ضرورية، و هو ما من شأنه إنقاذ التعليم العصري من السكيزوفرينيا، و تأهيل الأجيال الجديدة لفهم الرهانات الحقيقية للحداثة و التحديث. و إذا كان لا يبدو على السلطة نيتها في التغيير على هذا المستوى فليس ذلك بسبب خوفها من الفتنة، إذ يمكن للدولة تأطير المواطنين و تربيتهم على احترام القوانين الديمقراطية، و حماية الناس من اعتداء المرضى و المهووسين و تلك مهمتها، و إنما مشكلة السلطة هي حرصها على اللعب على الحبلين و ضمان استمرار استغلال الدين في السياسة، الذي يضمن وحده الحفاظ على الطابع التقليدي للحكم، و حماية مصالح دوائر النفوذ التي تعتبر أي تغيير تهديدا لها.
#أحمد_عصيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أسئلة الإسلام الصعبة
-
حول استنكار بيع الخمور بالمغرب
-
في أنّ دين الدولة مفروض و ليس اختيارا حرا (على هامش اعتقال م
...
-
ما لا يفهمه المسلمون (على هامش النقاش الدائر بسويسرا)
-
الصحافة و التحريض بصدد الكرة بين مصر و الجزائر
-
مزيدا من المساجد للفقراء و المهمشين
-
الحرية للصحف قبل المسؤولية
-
القذافي و الأمازيغ
-
هل الرابطة الدينية هي أساس الوحدة بين المغاربة ؟
-
هل المغاربة -كلهم مسلمون- ؟
-
رمضان عقيدة دينية أم قرار للدولة ؟ في مغزى رسالة زينب و من م
...
-
-أخلاق- رمضان
-
العنصرية بين العرب و إسرائيل
-
أزمة الثقة في المؤسسات
-
مهازل الخلط بين العلم و الدين
-
حول ما سمّي -الظهير البربري- في الكتاب المدرسي، على هامش الح
...
-
ملاحظات حول الكتاب الأخير لمرشد جماعة العدل و الإحسان
-
عودة إلى موضوع التنصير و الأسلمة
-
الإنفجار الديمغرافي الإسلامي في مواجهة تقدم الغرب: آخر ابتكا
...
-
التبشير المسيحي و التبشير الإسلامي
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|