|
الهجرة العائدة من الدول العربية الغنية بالنفط إلى الدول المرسلة للعمالة
مصطفى العبد الله الكفري
استاذ الاقتصاد السياسي بكلية الاقتصاد - جامعة دمشق
الحوار المتمدن-العدد: 877 - 2004 / 6 / 27 - 08:39
المحور:
الادارة و الاقتصاد
يتميز سوق العمل العربي بعدد من الخصائص تجعل من تنمية وتشغيل الموارد البشرية مشكلة ليس من السهل إيجاد حل لها على صعيد كل دولة من الدول العربية أو على صعيد الوطن العربي . ولكن هذه المشكلة تتفاوت في النوع والعمق والأهمية والآثار من بلد عربي لآخر . كما تطرح مشكلات هامة حول مستقبل سوق العمل العربي ، كالاستخدام وهياكله والبطالة والأجور وانتقال العمالة بين مختلف أرجاء الوطن العربي أو خارج الوطن العربي . الأمر الذي يجعل هذا المورد البشري الهام مصدر استخدام ناقص وعقبة في وجه عملية التنمية الشاملة. الهجرة للعمل في البلدان العربية الغنية بالنفط كانت احدى مكونات العوامل الرئيسية التي أدت الى حدوث تغير اقتصادي ـ اجتماعي ـ سياسي عميق في مختلف أرجاء الوطن العربي في السبعينات والثمانينات من هذا القرن.ولاتزال الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الدول العربية متأثرة بنتائج الحقبة النفطية التي مر ويمر بها الوطن العربي،ولكن بدرجات متفاوتة. يبدو أن امتلاك الوطن العربي لاحتياطي كبيرمن النفط (60% من الاحتياطي العالمي) وانتاج وتصدير كميات كبيرة منه (18 ـ 20 مليون برميل يوميا ) وموقعه الجغرافي المتميز جعل منه منطقة ذات أهمية اقتصادية واستراتيجية وجيوسياسية بالغة الأهمية على صعيد الصراع و/أو الحوار العالمي بمختلف أبعاده. من الصعب تقدير القوى العاملة المهاجرة بشكل دقيق، نظراً لتعدد مسالك الهجرة ونوعية البيانات المتوفرة حول هذا الموضوع. إلا أن اكثر التقديرات تحفظاً تشير إلى أن حجم القوى العاملة المتنقلة بين أقطار الوطن العربي خلال عام 1985 قد يصل إلى نحو 1.93 مليون عامل، وبعض التقديرات تؤكد إلى أنه قديصل إلى نحو 3.7 مليون عامل. وتميزت عملية انتقال القوى العاملة العربية بأنها عملية انتقائية من حيث تكوين العمالة من حيث الجنس، كانت غالبية العمال المهاجرين تتكون من الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 15 ـ 30 سنة ولم تتجاوز نسبة العاملات 17% من القوى العاملة العربية المهاجرة أما من حيث توزيع القوى العاملة بين قطاعات النشاط الاقتصادي فقد تبين أن العمالة الوافدة تتجه بصفة أساسية ، نحو القطاع الحديث في الاقتصاد الوطني وليس إلى القطاع التقليدي ، وعملت في الصناعة والخدمات والتجارة والمال والنقل والتشييد ، وهذا كله يمثل القطاع الحديث الذي اتجهت حكومات الأقطار العربية الغنية بالنفط إلى تنميته بقوة . من أهم دوافع هجرة القوى العاملة العربية إلى الدول العربية الغنية بالنفط عوامل الدفع والجذب التي كانت تتفاوت في تأثيرها من دولة إلى دولة أخرى ومن فرد لآخر . وتمثلت عوامل الدفع بالأوضاع الاقتصادية الصعبة في الدول المرسلة وعدم توفر فرص العمل المناسبة والدخل الكافي ، وظلت الاعتبارات الاقتصادية العامل الأهم على جانبي الدفع والجذب على حد سواء ، وكانت من القوة بمكان تغلبت في كل الحالات تقريباً على السلبيات الاجتماعية التي ترتبت في كثير من الأحيان على قرار الهجرة في البلدان المرسلة أو أثناء العمل في البلدان المستقبلة . يبدو التطور الأهم في ظاهرة هجرة القوى العاملة العربية إلى الدول العربية الغنية بالنفط في تزايد الاتجاه الانكماشي الذي حدث في أسواق العمل في البلدان المستقبلة لقوة العمل . فقد تحالفت تطورات سوق النفط العالمي ( أزمة النفط المعكوسة ) وبخاصة تراجع أسعار النفط ، وحرب الخليج الأولى ( الحرب العراقية ـ الإيرانية ) مما أدى إلى حدوث جو من الركود الاقتصادي اجتاح كافة بلدان مجلس التعاون الخليجي والعراق وتفاوت مداه، ورد الفعل إزاءه من بلد لآخر، وكان له انعكاسات مهمة في تقليص وتضييق سوق العمل وبخاصة على العمالة الوافدة. كما أن اجتياح الكويت وحرب الخليج الثانية ذات التكاليف الباهظة قد أدت إلى حدوث نكسة في سوق العمل في دول الاستقبال . وتحول هذه الدول من دول فائض مالي إلى دول عجز. مما أدى إلى تقليص العمالة العربية الوافدة.والاستعاضة عنها أحيانا بالعمالة الآسيوية وغيرها . ونتيجة لذلك تتابعت إجراءات التقشف في بلدان مجلس التعاون الخليجي، ابتداء من تأجيل أو إلغاء مشروعات جديدة، مروراً بالتضييق في التعاقدات الجديدة للعمالة العربية الوافدة وانتهاء بتسريحات واسعة النطاق في مختلف الدول العربية لأسباب سياسية أو غير ذلك. كما تراجعت الفائدةمن هجرة العامل الوافدبسبب الانكماش الاقتصادي وتراجع الدخول والقيود على التحويلات. كل هذه العوامل أدت إلى حدوث ظاهرة جديدة في الهجرة والتي تسمى » الهجرة العائدة « إلى بلد المنشأ مثل مصر واليمن والأردن . من أهم نتائج أزمة النفط المعكوسة فيما يتعلق بانتقال القوى العاملة العربية ظهور ما يسمى بالهجرة العائدة ، نتيجة لاستمرار الأزمة الاقتصادية العالمية والانحسار الاقتصادي بسبب تراجع أسعار النفط ، وإنجاز مرحلة التوسع في التشييد وإنشاء البنى الأساسية في الدول العربية الغنية بالنفط ، وتراجع نسبة العمالة العربية الوافدة إلى أقطار الخليج العربية في إجمالي العمالة الوافدة لهذه الدول .ومن المتوقع تعاظم عدد العائدين من العمال العرب الذين هاجروا إلى النفط بعد أن بدأت الدول المستقبلة لهم بإبداء رغبتها في الاستغناء عن خدماتهم . ومن المتوقع أن يتمركز العائدون إلى بلادهم في المدن الكبرى مما سيزيد من الضغوط على القطاع الحديث في استيعابهم. وسوف تؤدي الهجرة العائدة إلى تدني كمية التحويلات التي كانت بعض الدول العربية تعتمد عليها في تغطية العجز في ميزان المدفوعات خلال فترة السبعينات وأوائل الثمانينات.وهذا بدوره سيؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصاديةوالأوضاع المعيشية للمواطنين في الدول التي ستستقبل الهجرة العائدة .وبعد أن غدت تحويلات العاملين في الأقطار العربية الغنية بالنفط من المكونات الرئيسية للدخل القومي القابل للتصرف في الاقتصاد الوطني للأقطار المرسلة للقوى العاملة أخذت حصيلة النقد الأجنبي المتولدة من تحويلات العاملين في الدول الغنية بالنفط تتراجع تدريجياً منذ عام 1986 ، عندما بدأت الدول المستقبلة بتطبيق برامج للاستغناء عن بعض العاملين الوافدين إليها . وإن كانت الأرقام، حول عودة المهاجرين إلى وطنهم الأم ، غير دقيقة ومتضاربة أحياناً ، غير أنه بدون شك نشاهداليوم جيوشا من المهاجرين إلى النفط قد بدؤوا رحلة العودة إلى البلدان المرسلة . مما سيكون له تأثير كبير على الوضع الاقتصادي وعلى الاستقرار الداخلي في مجموعة الدول العربية المصدرة للقوى العاملة وبخاصة في مصر والسودان وتونس والأردن وسورية والمغرب واليمن . لايزال دور العنصر البشري في التنمية الشاملة دون المستوى الممكن تحقيقه في الوطن العربي، بل إنه يشكل في بعض الأحيان عبئاً على عملية التنمية، وبخاصة في حال تدني مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي، وارتفاع نسبة الإعالة، وارتفاع عدد الأميين، واتساع الفجوة بين مخرجات النظام التعليمي والاحتياجات البشرية للتنمية الاقتصادية إضافة إلى ضعف أجهزة تخطيط وتنفيذ التنمية البشرية في الوطن العربي. ولاشك أن ارتفاع معدل النمو السكاني في مثل هذه الظروف يمكن أن يؤدي إلى تفاقم الأوضاع الاجتماعية. كان ولا يزال المطلوب من النفط العربي أن يضطلع بمهمة قيادة تنمية حقيقية وشاملة على مستوى الوطن العربي ككل، تقوم على أرضية تشغيل القوى العاملة العربية وزيادة الإنتاج المادي والاعتماد الجماعي على الذات والاكتفاء الذاتي نسبياً، ومن ثم تحقيق الوحدة الاقتصادية العربية والتوصل إلى استقلال اقتصادي عربي ونفي التبعية وبلوغ هذا الهدف يستوجب (الانطلاق من قدرة بشرية وتكنولوجية وإنتاجية وقيم مسيطرة وسلوك اجتماعي فيما يختص بالسلطات السياسية من جهة ، وبالجماهير من جهة أخرى). وبذلك تستطيع بناء تنمية حقيقية شاملة وتصحيح الخلل المتفاقم في التوازن الإنمائي الذي يشاهد حالياً على الساحة العربية. ولكن هل يستطيع النفط ذلك ؟ إنه أمر مرهون بإرادة القيادات السياسية في مختلف أرجاء الوطن العربي .
الدكتور مصطفى العبد الله الكفري جامعة دمشق – كلية الاقتصاد
#مصطفى_العبد_الله_الكفري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إستراتيجية التنمية الصناعية في الجمهورية العربية السورية
-
الاقتصاد السياسي والعولمة
-
برنامج الإصلاح الاقتصادي وسياسات تشجيع الاستثمار في سورية
-
أسعار النفط كسلعة إستراتيجية قابلة للنضوب
-
السياسة السكانية والتنمية الشاملة
-
الصندوق الكويتي للتنمية الاقتصادية العربية
-
الصندوق العربي للأنماء الأقتصادي والأجتماعي
-
صندوق أبو ظبي للإنماء الاقتصادي العربي
-
مؤسسات العـون الإنمائي في الوطن العربي
-
قياس أثر السياسات السكانية ومدى فاعليتها
-
التنمية الزراعية في الوطن العربي الخصائص، المقومات، المتطلبا
...
-
التنمية الشاملة والتنمية البشرية
-
مناخ ومحفزات الاستثمارفي الجمهورية العربية السورية
-
تطور السياسات النقدية والمالية في الجمهورية العربية السورية
-
الترجمة والانتقال الفكري والمعرفي بين العرب وأوروبا
-
أضواء على صندوق النقد العربي
-
الانتقالات الفكرية بين العرب والأوروبيين
-
تاريخ العلاقات الاقتصادية السورية اللبنانية
-
العولمة أم الأمركة ؟
-
معوقات التنمية الزراعية في الوطن العربي
المزيد.....
-
أردوغان: نرغب في زيادة حجم التبادل التجاري مع روسيا
-
قطر للطاقة تستحوذ على حصتي استكشاف جديدتين قبالة سواحل ناميب
...
-
انتعاش صناعة الفخار في غزة لتعويض نقص الأواني جراء حرب إسرائ
...
-
مصر.. ارتفاع أرصدة الذهب بالبنك المركزي
-
مصر.. توجيهات من السيسي بشأن محطة الضبعة النووية
-
الموازنة المالية تخضع لتعديلات سياسية واقتصادية في جلسة البر
...
-
شبح ترامب يهدد الاقتصاد الألماني ويعرضه لمخاطر تجارية
-
فايننشال تايمز: الدولار القوي يضغط على ديون الأسواق الناشئة
...
-
وزير الاقتصاد الايراني يشارك في مؤتمر الاستثمار العالمي بالس
...
-
بلومبيرغ: ماليزيا تقدم نموذجا للصين لتحقيق نمو مستدام بنسبة
...
المزيد.....
-
الاقتصاد المصري في نصف قرن.. منذ ثورة يوليو حتى نهاية الألفي
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاقتصاد الإفريقي في سياق التنافس الدولي.. الواقع والآفاق
/ مجدى عبد الهادى
-
الإشكالات التكوينية في برامج صندوق النقد المصرية.. قراءة اقت
...
/ مجدى عبد الهادى
-
ثمن الاستبداد.. في الاقتصاد السياسي لانهيار الجنيه المصري
/ مجدى عبد الهادى
-
تنمية الوعى الاقتصادى لطلاب مدارس التعليم الثانوى الفنى بمصر
...
/ محمد امين حسن عثمان
-
إشكالات الضريبة العقارية في مصر.. بين حاجات التمويل والتنمية
...
/ مجدى عبد الهادى
-
التنمية العربية الممنوعة_علي القادري، ترجمة مجدي عبد الهادي
/ مجدى عبد الهادى
-
نظرية القيمة في عصر الرأسمالية الاحتكارية_سمير أمين، ترجمة م
...
/ مجدى عبد الهادى
-
دور ادارة الموارد البشرية في تعزيز اسس المواطنة التنظيمية في
...
/ سمية سعيد صديق جبارة
-
الطبقات الهيكلية للتضخم في اقتصاد ريعي تابع.. إيران أنموذجًا
/ مجدى عبد الهادى
المزيد.....
|