صائب خليل
الحوار المتمدن-العدد: 876 - 2004 / 6 / 26 - 08:15
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
يهدد عراقي اليوم ذئبان احدهما ذكي خبيث والاخر غبي مهووس, لكن لكليهما تأريخ مرعب في تمزيق البلدان: الارهاب والاستعمار. لايتنافس الذئبان فقط على حصتهما من ما بقي من لحم العراق, او قل عظمه, وانما هما ايضا بشكل اوبأخر متعاونان رغم مظاهر العداء الشديد بينهما, فكل منهما سيفقد معنى وجوده ان زال الاخر, وهما يدركان ذلك, على الاقل الاذكى منهما يدركه. يحاول كل من الذئبين اقناعنا ان الاخر هو الخطر الحقيقي, وانه هو فاعل خير جاء لمساعدتنا على التحرر, ثم سيذهب في سبيله. والواقع ان للعراقي اشد ال الاغراءات ليصدق هذه القصة الاخيرة. فذئب معك وذئب ضدك, اريح كثيرا من الفكرة المحطمة للاعصاب ان ذئبين يريدان نهشك. لكن التحليل والمنطق ينصب نفسه حائلا مشاغبا بيننا وبين احلامنا الوردية.
الكاتب القطري الدكتور عبد الحميد الانصاري يحاول, في مقالة له في صحيفة الراية القطرية امس,21 حزيران, اقناعنا بالتمتع باحلامنا الجميلة وترك ما يسبب القرحة من الحقائق التاريخية والتحليلات المنطقية. فبعد بضعة سطور عن حقيقة شراسة الذئب الاول, يلفت نظرنا مباشرة الى ان "انجازا عظيما يحدث هناك, هو بعث جديد لعراق حر يتمتع بالسيادة الكاملة". "الكاملة" هذه لايجرؤ اكثر الحالمون ايغالا في احلامهم بذكرها, الا في حالات اعلامية موجهة للبسطاء جدا. ثم يكمل الدكتور الحديث عن العراق الجديد الذي لايتمتع فقط بكرامته وعزته, وانما يكون "عونا لامته وسندا لجيرانه واشقائه ونموذجا في البناء والتقدم."
لكي يكون العراق "عونا لامته وسندا لجيرانه واشقائه", يجب عليه قبل كل شئ ان ينصف هؤلاء ويقف بوجه العدوان اسرائيلي العنصري الذي يستنزف حياتهم واملاكهم وكرامتهم, فهل تريد اقناعنا ان اميركا تخطط وتعمل وتضحي باموالها وابنائها من اجل ان يقف العراق في وجه اسرائيل التي تدعمها اميركا بلاشروط؟. ام تريده ان يساعد سوريا التي تعاقبها اميركا نفسها اقتصاديا ام ايران التي تتهمها اميركا بمحاولة امتلاك اسلحة دمار شامل؟ دول الجوار, حتى القريبة لاميركا منها, تراقب بقلق تحول العراق الى ثكنة عسكرية بوليسية في المنطقة خاصة بعد انشاء السفارة الامريكية العجيبة التي ستحتوي على حوالي 3000 شخص.
يقول عبد الحميد ايضا ان الصحف تبشره " ان العراقيين بدأوا بممارسة السلطة كاملة بعد اختيار الياور رئيساً للجمهورية و علاوي رئيساً للحكومة". نسي عبد الحميد هنا ان الاختيار كان ضمن ضغوط امريكية شديدة, وانه بافضل احواله يمثل توازنا بين ارادتين ليست العراقية كبراهما. ثم يستمر الدكتور بالحديث عن جو رائع ينقل فيه بريمر وبوش سياد العراق الكاملة الى اهله, ويقتصر فيه دور قوات التحالف على مساندة القوات العراقية ثم "...السيادة والحرية والاستقرار", وعاشوا عيشة سعيدة!
لكي لايكون الفلم العربي حديثا مستمرا مملا عن السعادة والخيال, يذكرنا عبد الحميد ببعض الحقائق المرة, لكنها "اصبحت تأريخا ذهب مع الطاغية حين كان الشعب العراقي يستصرخ اشقاءه العرب فلا من مجيب". ترى هل كنت يومها "مجيبا" فكتبت تساندنا؟ لا ادر..ارجو ذلك.
ثم ينتقل الفلم الى المسرحية درامية, او كوميدية, ان شئت, فيقول عبد الحميد:
"ولبَّت أمريكا النداء، وضحت بأبنائها، وصرفت المليارات، وخلصت الشعب العراقي من الكابوس الظالم."
واتخيله هاتفا صارخا ويذكرني بالبرلمان العراقي ايام صدام, حين ينبثق فجأة من بين الكراسي متملق ليهتف بحياة القائد العظيم مضفيا عليه كل سمات النبل والكرم.
نسيت ان تخبر قراءك يا دكتور من الذي اتى ب"الكابوس الظالم" الذي خيم على العراق منذ عام 63, ونسيت ان تذكر من الذي وعد الشعب العراقي بالمساندة ان هو ثار على الدكتاتور المريض, ثم حين ثار الشعب, تركه لجزاره وانكر وعده بصلافة تامة. نسيت ان تقول لنا من رفض "النداء" الذي اطلقه الشعب في اذار 1991 مفضلا حكما حديديا يؤمن "الاستقرار" في المنطقة, خوفا من الثورة الشعبية للعراقيين. نسيت ان تقول لنا من الذي رفض حتى تسليم اسلحة عراقية استولى عليها الى الثوار ليدافعوا عن انفسهم, ثم من الذي سمح بنص محدد في نص اتفاق استسلام صدام باستخدام طائرات غير ثابتة الاجنحة (السمتيات) لقصف الثائرين الذين كانوا قد استولوا على 14 من المحافظات ال 18 في العراق. لقد راقبوا الموت ينزل على الناس منها, وهم يحلقون فوق الجميع بطائراتهم الحربية. لم تكن اميركا بحاجة الى ان تضحي بابنائها ولا ان تصرف المليارات يومها, فما الذي منعها من التصرف بنبل اخلاقها الرفيع هذا, او حتى جزء بسيط منه؟
لعل الله قد هدى اميركا اليوم..لعل الله شاء ان يرشد الابن دون الاب...من يدري.
يستمر الدكتور بتعداد انجازات اميركا في تسليم السلطة واسقاط الديون التي لها عليه (دون ان يشير مثلا الى ان تلك الديون جاءت دعما لصدام في ابادة الشعب العراقي وجيرانه, حين كان يستلم من اميركا مساعدة هي الثانية بعد اسرائيل.)
اما بالنسبة لتخصيصها 4.18 مليار دولار للاعمار فازيد الدكتور علما ان اميركا صرفت اكثر من ذلك بكثير جدا اذ ان الاسبوع الواحد من بقاء قواتها في العراق يكلفها اكثر من مليار دولار. لقد تحملت اميركا هذه التكاليف الباهظة فعلا, لكن ذلك كان ضمن حسابات مخططها الذي لم نعرف تفاصيله بعد, والذي نستطيع ان نتصور خطوطه العريضة فقط من خلال تحليل واقع وتأريخ سياسة اميركا في العراق والمنطقة والعالم, ومن السذاجة تصور ان سبب ذلك صحوة ضمير لاسابقة لها في تأريخ هذه الامة في علاقاتها, على الاقل مع العرب.
يقول عبد الحميد بعد ذلك " وقام الرئيس الأمريكي بجهد خارق لإقناع الثمانية الكبار وبخاصة روسيا وفرنسا وألمانيا بالتنازل عن الديون ونجح في اسقاط أكثر من نصفها."
اولا يا سيدي ليس بوش معروفا بالقيام بالجهود الخارقة ولاهو بالدبلوماسي القادر على حل رجل دجاجة كما يقولون. ففي الفترة التي سبقت 11 سبتمبر, تبين انه كان يقضي 40% من وقته في الاجازات والترفيه, مسجلا رقما قياسيا بالنسبة للرؤساء الامريكان. اما جيمس بيكر, مبعوثه لاقناع الكبار بالتنازل عن الديون فقد ركب الطائرة الى مهمته بعد بضعة ايام من اعلان الرئيس بوش ان الدول التي لم تساعده في الحرب غير مشمولة بمشاريع الاعمار. اي انه بالاحرى "بذل جهدا خارقا" لافشال مهمة بيكر في اسقاط الديون. والحقيقة ان الدول الدائنة كانت يائسة من تسديد ديونها, وربما كانت مستعدة لتقديم تنازلات اكبر قبل تلك المهمة وذلك الاعلان. ان مهمة بيكر كانت تبدو اقرب الى تطمين تلك الدول على الحصول على نسبة جيدة من ديونها وليس الغائها, وذلك لاصلاح الخلل في العلاقة معها والذي سببه اعلان بوش اقصاءها من مشاريع اعمار العراق.
يقول عبد الحميد: " هناك الآن في العراق دستور ضامن للحريات وحقوق الانسان لا يضاهيه أي دستور عربي، فالعراق وهو في وضع الاحتلال، البلد العربي الوحيد الذي يتظاهر فيه الناس ضد حكومتهم. "
اولا..لا ادري ان كنت تعلم يا دكتور ان هذا "الدستور" هو " دستورمؤقت" ايضا, والدستور الموقت تسمية دبلوماسية لانعدام الدستور, وتستعمله الكثيرمن الدكتاتوريات في العالم ومنها صدام. ومع ذلك فلتعلم أن قانوننا المؤقت جاء نتيجة ضغوط ظروف مختلفة وان اميركا كانت تخطط في البداية لحكم مباشر لايلعب فيه العراقيون الا دورا استشاريا, واستطيع ارشادك ان شئت, الى ما كتب اكثر المتحمسين للامريكان, والذين بدأوا العمل معهم وقتها.
وثانيا.. ان المعركة لم تنته بعد لنحسب نتائجها. فالعراق يعيش مرحلة انتقالية يميزها فراغ في السلطة يعطي هامشا كبيرا من الحرية . نصلي بالطبع ان يتحقق الامل وتتثبت الحرية والديمقراطية في العراق, وذلك متعلق بشكل اساسي بجهود ابنائه ووعيهم. اما لماذا لايتظاهر الناس في بقية البلدان العربية ضد حكوماتهم الدكتاتورية, فانت تعلم (الحقيقة لست متأكد من انك تعلم) من الذي خلق معظم تلك الحكومات التي لاتسمح بالتظاهر ومن ساندها ومن استفاد من تلك الحكومات لنهب خيرات تلك البلدان في النهاية. ان هذه الحكومات موجودة لان امريكتك لم تقف مع شعوبها ان ارادت التحرر, بل تلجأ اميركا عادة بالعكس, الى خلق انقلاب عسكري فاشي مثلما فعلت بالعراق عام 1963, وشيلي 1972, وايران 1953, وماحاولته وماتزال تحاوله الان في فنزويلا رغم ان الشعب هناك "يتظاهر ضد حكومته".
يستمر عبد الحميد في امتداح اخلاقية الامريكان وترك "المكابرون والمعاندون والمنافقون, وكذلك "الاوربيين المذعورين" ليقولوا ما شاءوا, ثم يزيدنا علما بان "اميركا قد خلصت العالم من ستة أنظمة دكتاتورية هي نورييغا، ميلوسفيتش، نيكاراغوا، هايتي، الملا عمر، صدام."
من اجل التغيير واخذ نفس قبل ان نختنق, ادعوك يا دكتور الى حل الحزورة التالية, خاصة ان كنت تحضر لكي "تربح المليون": اي ثلاثة من هؤلاء الدكتاتوريين الستة جاءت بهم اميركا الى الحكم في بلادهم او ساندتهم عندما كانوا يرتكبون ابشع جرائمهم؟ السؤال الثاني اي بلدين (انتبه) من الباقي كانت به حكومة منتخبة وبتصديق من الامم المتحدة قبل ان "تخلصه" اميركا من "دكتاتوره"؟ ان لم تعرف الجواب, يمكنك الاستعانة بصديق, وخير صديق في الزمان كتاب.
يا عزيزي الدكتور عبد الحميد, لاشك انك قد لاحظت انني لست معجبا "بتحليلاتك", لكنك لاتعلم كم انا معجب بشجاعتك! فأنا لااعرف الكثيرين ممن يجرؤون على اعتبار "نيكاراغوا" مأثرة امريكية! نيكاراغوا التي حصلت اميركا (لوحدها من بين كل الامم) بسبب جرائمها فيها على ادانة المحكمة العالمية وطالبتها فيها بتعويض الخسائر, فلم تلق لها بالا, وصارت بذلك "خارجا دوليا عن القانون" بشكل رسمي, الا اذا كنت تعتبر الخروج على القانون مأثرة.
ثم يستمر عبد الحميد ذاكرا مساوئ الاوربيين الاستعماريين والتي لا تثبت محاسن الامريكان باي حال, ويقول لنا ان اميركا ليس لها تاريخ استعماري مثل الاوربيين. اولا ياعزيزي الدكتور, كما قد تعلم, ان اميركا تأسست على الاستعمار..ليس باستغلال الشعب المستعمر, ولكن بذبحه اوطرده تماما من ارضه. ربما سمعت عن الهنود الحمر. ثم ان اميركا اكتشفت قبل 500 سنة فقط, حين كان الاستعمار الاوربي قد بلغ ذروته وثبت اقدامه في العالم. ومن هذه ال 500 سنة, قضت اميركا حوالي 300 سنة مستعمرة بريطانية ليس لها ان تستعمر احد لحسابها الشخصي. وما ان استقلت حتى كان التوسع شاغلها الاوحد فنجحت احيانا حين استولت مثلا على مايسمى الان ولاية فلوريدا وولاية تكساس وولاية هاواي فيما بعد, وتعثرت اوفشلت احيانا في محاولاتها الاستيلاء على كوبا منذ 1820. اما سجلها الحافل بالاستعمار الجديد بعد الحرب العالمية الثانية فاشير اليك ان تقرأ كتاب ( Killing hope ) لمؤلفه ( William Blum ). وان كنت لا تفضل القراءة بالانكليزية فاشير عليك بكتاب ممتاز في هذا المجال, ومترجم الى العربية, للبروفسور جومسكي "501 سنة والغزو مستمر". الكاتبان امريكيان, فلا تخش تحيز العرب ضد اميركا ولا" المكر الفرنسي" ولا " الشغب الألماني" ولا "الاوربيين المذعورين". الاول كان يعمل في الادارة الامريكية الى عام 1967 حين غادرها احتجاجا على حرب فيتنام (التي نسيت ان "تحللها" لنا في مقالتك), اما الثاني فيهودي امريكي وعلم كبير في علم اللغات. ثم لا يمكننا ان نقول ان لالمانيا "تاريخ استعماري" وهي التي اشعلت الحربين العالميتين لان ليس لها مستعمرات مثل الباقين.
يقول عبد الحميد " وثبت تاريخياً ان امريكا ما دخلت عسكرياً في بلد لإزاحة نظامه المستبد إلا تركته أكثر حرية وأفضل اقتصادياً وعندنا مثالان بارزان ألمانيا واليابان."
اولا يا عزيزي, ان دعم اميركا لالمانيا واليابان كان جزءا من مشروع مارشال لمحاربة الشيوعية في العالم, والذي لم تعد اميركا مضطرة لمثله اليوم. (نسيت بالمناسبة ان تحدثنا قليلا عن هيروشيما وناكازاكي ضمن قائمة افضال اميركا على العالم). وثانيا المانيا واليابان كانتا دولتين متقدمتين جدا, قبل الحرب مع امريكا, وليس من المناسب ان نقارنهما بالعراق. ان مقارنة انسب للعراق هي دول العالم الثالث, مثل دول اميركا اللاتينية, والتي تركتها السياسة الامريكية بحال اسوأ كثيرا مما كانت قبلها. كوبا هي الدولة الوحيدة التي صدت التدخل الامريكي عن نفسها وكلفها ذلك حصار اقتصادي لااساس قانوني ولا اخلاقي له يمتد خمسة واربعين عاما, الا انه رغم هذا الحصار, ورغم الدكتاتورية الكريهة لحاكمها, تسجل كوبا اقل نسبة وفيات اطفال واعلى معدلات العمر واعلى نسبة تعليم واعلى بحوث علمية في كل اميركا اللاتينية! الست معي ان هذا لايدل الا على ان "نعمة" اميركا اشد ضررا واقسى اثرا على الشعب حتى من دكتاتورية كاسترو المرفوضة قطعا؟ ام انك ما تزال مصرا على ان العكس قد "ثبت تأريخيا"؟
بعد ان كال كل ذلك المديح للقمر الامريكي, ينتقل الدكتور الى الارهاب ليصفه بما يستحق, لكن وساخة الثاني ليست شهادة لنظافة الاول.
اننا يا دكتور نعلم ان من الصعب مواجهة ذئبين شرسين في وقت واحد. ذئبين يتحركان من جهتين مختلفتين فيشتتان التركيز ويثيران القلق والحيرة والخوف, لكن التحديق في عيون الذئاب المرعبة اقل قسوة علينا من تحمل نتائج اغماض عيوننا عن الخطر.
#صائب_خليل (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟