سالم النجار
الحوار المتمدن-العدد: 2881 - 2010 / 1 / 7 - 12:50
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
الجزء الرابع
أرسل الفجر أولى خيوطه الذهبية لمعانقة جدي وديمو مرحبا بظهورهما الأول خارج تلك الأسوار العظيمة, بينما اكتفت بعض سحب السماء المتناثرة بالسلام ومرت دون أن تجود بقطراتها. وقفت ديمو ابنة العشرين ربيعاً وهي في أوج جاذبيتها وجمالها, كان وجهها جميلاً تضيئه عينان براقتان وشعرها كأمواج ليل تتدلى على كتفيها, غارقة في التفكير, كان صدرها يعلو ويهبط وقد ارتسمت على وجهها أمائر العزم القوي الذي لا يتراجع ولا يلين، كانت تكثر النظر باتجاه الباب كأنها ترقب خروج شخص ما. نظر إليها جدي وقد تجاوز الثلاثة والأربعون عاماً ومازال يتمتع بقسط وافر من حماس الشباب ودم المغامرة والتحدي يجري في عروقه وقد كلل رأسه شعر أسود متجعد تسللت له بعض خصائل الشيب المتناثرة. قال جدي: هيا بنا ننطلق إلى الأمام أبعد ما يمكن ولا تنظري إلى الباب. تركا ذلك المكان وما تحمله الذاكرة من ألم وقهر وإذلال بخطى ثابتة نحو حياة جديدة قد رسما ملامحها بأبها صوره.
قبل تحدي الطبيعة فسكن المغارات والكهف وأحسن تحصينها من غدار أثيم, وأكل ما وفرته له البيئة من حيوانات وثمار فأصطاد الأولى والتقط الثانية, استخدم جميع الوسائل التي تمكنه من البقاء حياً فاستغل حجر الصوان وعظام الحيوانات, اكتشف النار وطور صناعته فأصبح يستخدم الحديد والفولاذ وتوصل لصناعة الأسلحة الدفاعية ضد هجمات وحوش البراري والديناصورات اللئيمة ورفض مبدأ تطوير الأسلحة الهجومية لما لها من تأثيرات سلبية على البيئة, حسه المرهف قاده للرسم على جدران الكهوف والمغارات وصنع لنفسه قيثارة وملأ غناؤه السهول والجبال. لم يهدأ جدي ولم يَكن وما حط رحاله يوماً حتى أكتشف الزراعة وحفر الأرض بقدميه فأخرج الماء وشق قنوات الري وابتكر الحصاد الشتوي فزرع النخيل طعاما وتجارة ومسكرا ولم ينس حبة البركة دواء كل داء, وقام بتربية الحيوانات فأولا اهتماماً كبيراً بالبقرة لما لها منزلة في نفسه يستفيد من لحمها وحليبها وبالبعير مستفيدا من لحمه وبوله, واحترم النمل ووقره وتركه يعبث بالأرض والزرع, لم يشعر يوماً بالغبن وما ندم على شيء مضى وما منى نفسه للعودة هناك, تلك الأيام بحلوها ومرها كانت دائما ديمو تقف حيث يقف يدها بيده تدعمه تشير عليه، يختلفان أحيانا ويتفقان كثيراً (خارج النص... بلا غرور لو كان جدي وديمو من الفئة التي تنتظر حلول السماء لانقرض الجنس البشري قبل أن يبدأ.... عودة للموضوع).
في يوم مشهود وبشائر الخير بجودها تجود حين أعلمت ديمو جدي أن هناك شيء ما يتحرك داخل أحشائها يزعجها بضربات خفيفة وأحيانا مؤلمة. ذهل جدي للحظة وتسارعت نبضات قلبه ثم عاد وتماسك وطلب منها أن تشرب العسل لم يفلح دواء جدي في المرة الأولى ولا الثانية لكن كذب بطن ديمو وصدق جدي عندما أحس تلك الضربات وقال لها ابشري أنت حامل ستضعين طفلا وحدد لها موعد ولادة دهشت ديمو وقالت: كيف علمت كل هذه العلوم وليس لدينا مختبر لفحص حمل وجهاز ألترا ساوند, ابتسم جدي وقال الم تعلمي أني أعطيت من العلم ما لم يعطى احد قط, ردت ديمو: وهل يوجد غيرك على الأرض!!!. أطلق جدي العنان لغطاء زجاجة لتندفع مسرعة نحو السماء فتلاها السائل معلناً عن بدء الأفراح والليالي الملاح وملأ الأكواب نبيذاً احمراً معتقاً رفضت ديمو الشرب خوفاً من تأثير الكحول على الجنين لكن جدي أكد لها أن الدراسات الأخيرة أثبتت أن الكميات البسيطة ليس لها تأثير مباشر على الجنين. نصح جدي ديمو التزام البيت وعدم إجهاد نفسها وسيقوم بتلبية جميع متطلباتها احتياجاتها فوفر لها المقويات والفيتامينات وحاك لها فساتين حمل جديدة بعد أن أضيقت عليها جميع بناطيل الجينز الغير مناسبة للحمل, وجمع خشب الغابة وصنع منه سرير هزاز وعربة ودراجة هوائية للأطفال, وعادت الذاكرة به يوم مولد ديمو وكم كانت سعادته بقدومها وماذا صنع تلك الأيام، لكن سرعان ما هز رأسه محاولاً طرد تلك الفكرة الخبيثة حين أشار عليه مدير المركز بمباشرة ديمو عندما كانت طفلة صغيرة قابلها جدي برفض قاطع واعتبرها إساءة له وللطفلة ومع إصرار مدير المركز لزرع هذه الفكرة برأسه أصبح لا يطق النظر في وجهه. وقبيل موعد الولادة بأيام كافح جميع أنواع الحشرات وعقًم الكهف واحضر الكمامات خوفاً من أي مضاعفات خلال عملية الولادة, كان جدي فطناً متحسباً لكل شاردة وواردة.
ويوم جاء موعد الولادة -الشيء الذي لم يكن بالحسبان- أن تضع ديمو توأم فزاد فرح جدي وغمرته السعادة فغنى وطرب وصاح ورقص, ابتسمت ديمو وقالت: اثنان! وهذه لم تعمل حسابها. قال جدي: بلا... لقد صنعت من كل شيء ثلاثة قطع.
استشاط مدير المركز غضباً وهدد وتوعد عندما اخبره قائد قوات التجسس المكلفة بتجسس ومتابعة تحركات جدي وإرسال تقاريرها أول بأول بنبأ ولادة ديمو, فاستدعى قائد قوات الجند المجنحين وأمره بإحضار الطفلين له فوراً, أطاع قائد الجند الأوامر وخرج مع مجموعة من جنده إلى مدرج الطيران معلناً حالة الطوارئ وأوقف جميع عمليات الإقلاع والهبوط وسط احتجاج وسخط الجنود الطائرين فذاك بحاجة إلى هبوط اضطراري فقد تعطل احد جناحيه وذاك فاته موعد الصلاة وأخر يريد قضاء حاجته أما الأخير فاته موعد الإفطار مع عائلته. لم يكترث القائد إلى هذه الحجج وانطلق طائرا مع سريته اتجاه الكهف بسرعة البراق, وما أن وصلوا الكهف حتى حطوا على نوافذه يختلسون النظر على البيت وأهله, أحس جدي بوجودهم فهب مسرعاً وأغلق النوافذ بإحكام وخرج خارج الكهف يهش ويكش ويلوح بعصاه ويطارد الجنود حتى ابتعدوا عن المكان, لم تتوقف محاولات القوة الظلاميه عند هذا الحد بل تعدت ذلك وعادت تمطر ممتلكات جدي بوابل من الحجارة, الذي تصدى لها بكل بسالة وشجاعة, فحمل قوسه النشاب المطور الذي أصبح يطلق حزماُ من النبال دفعة واحده وصوبها على الجند يصيب بعضها فتتمايل وتفقد سيطرتها وتسقط أرضا, تسرع قوات الإنقاذ لإخراج المصابين خارج ارض المعركة, لم يعترض جدي أبداً طريق الإسعاف محترما جميع القوانين والمعاهدات الدولية, على عكس تلك الفئة الغاشمة المتعدية التي لا تعترف إلا بقوانينها التي تبيح لها التدمير والقتل والزنا والسبي, لتعود وتطل على سماء جدي من جديد محملة بحمم من نار تلقي حملها على الأرض ثم تعود بحمل جديد, فتغمر الأرض ببحر من لهيب النار تقفز من مكان لأخر وتارة تبقى مكانها تعمل عملها المهلك وتعلو وترتفع فتصبح كمارد جبار تسير محتدمة وهائجة تلتهم كل ما يعترض طريقها. وجاءت على الحظيرة فهاجت المواشي واندفعت مذعورة فحطمت الأبواب وهدمت الأسوار وانطلقت خارج الحظيرة دون هدى, وأسرع جدي خلفها في محاولة إعادتها وهرعت إلى جانبه ديمو. انتهز الجند انشغالهما بالمواشي فتوجهوا من فورهم إلى الكهف في محاولة لخطف الأطفال, تصدت لهم الكلاب الأمينة وتعالى نباحها واستشرست بدفاعها وحالت بينهم وبين الأطفال وأجبرتهم على الانسحاب وهم يجرون أذيال الخيبة خزياً للفاسقين.
في بداية المعركة بذل جدي كل مجهود جبار لمقاومة القوى الضالة فتصدى لها بخراطيم الماء محاولاً إطفاء نيرانها قبل إلقائها على الأرض وبعد ذلك حاول إطفاء الحرائق بجرادل الماء, لكن لم تكن الجرادل المعدة للإطفاء كافية وكمية المياه قليلة بالإضافة إلى اتساع رقعة الحريق وشدة لهيبها أجبرت جدي وديمو الابتعاد عن المنطقة.
وبعد انتهاء الحريق وبينما جدي وديمو يبحثان بين الركام عن معالم أي شيء حي تركته تلك النيران, شاهدا في السماء عرش مدير المركز محمولا على أجنحة الجند ومن حوله كوكبة من فرسان الحماية وقد أطلقت صفير أبواقها لفتح الطرق معلنة قدوم المدير. وقف جدي يتابع عملية الهبوط وتجمهرت حوله جميع الحيوانات كان أولها الحمار عافر الذي لم يدخر جهداً في نقل المياه على ظهره أثناء الحريق رغم انشغاله بالنساء. وقفت الطيور فوق الأشجار وسطح الكهف وأطلت الأفاعي والديدان برؤوسها من جحورها وخرجت العناكب من بيوتها وتسلق دود القز شجر التين ترقب هذا الحدث.
وما أن هبط المدير بعرشه حتى تقدم إلى جدي وقال: لقد غفرت لك ولديمو كل أخطائكم بإمكانكما العودة معي إلى المركز.
قال جدي: لقد زرعنا هذه الأرض وانزرعنا فيها, ولسنا بحاجة إلى مركزك ومغفرتك.
قال المدير: لقد زرعت باحة المركز بكل أنواع الخضراوات والفواكه وزينتها بالورود وترانيم الطيور وبها الماء العذب وكل ما تشتهي العين وباركتها وباركت ما حولها.
هز جدي رأسه وقال: ما وطئت قدمك أرضا قط إلا ودنستها......
#سالم_النجار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟