وسط أجواء أمنية مشددة، عقدت في إشبيليا عاصمة الجنوب الإسباني، يومي (21 ـ 22/6) قمة الاتحاد الأوروبي، وقد تصدر جدول أعمالها مواجهة ما يسمى بالهجرة غير الشرعية، وفيما تظاهر آلاف الأسبان ضد السياسة الاجتماعية لحكومة خوسيه ماريا أزنار، في وقت تسلم بلاده الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي لدولة أخرى.
شارك في القمة رؤساء حكومات ووزراء خارجية الدول الخمسة عشرة. وهي التي تعتبـر قلب العالم الرأسمالي المتطور والمتمتع بحريات وامتيازات اجتماعية، هي نتاج قرون مديدة من نضالات الحركة العمالية الأوروبية ومقاومتها للفاشية. وتأتي قمة الاتحاد في مرحلة يتصاعد فيها مدّ الأحزاب اليمينية والفاشية في أوروبا الغربية، فضلاً عما أفرزته المرحلة التاريخية على المستوى الشعبي الأوروبي من تصفية آثار الحرب الباردة، وهيمنة قطبية وحيدة للولايات المتحدة الأميركية، سبق وأن خططت هذه البلدان سبل مقاومتها اقتصادياً، بعد أن اعتبـرت «اليورو» نفسه، وسيلة لمقاومة العولمة الليبـرالية ولمواجهة هيمنة «الدولار» الانغلوسكسوني وسيطرته على العالم.
بعد بند الأعمال الأساسي؛ الهجرة غير المشروعة، أعلنت قمة الاتحاد أيضاً، أنها ستراجع المعايير العملية لقمة كوبنهاغن (21 ـ22 حزيران /يونيو 1993)، بشأن المعايير التي حددت هوية الاتحاد، وفي رسم حدوده الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية، والمقصود هنا التوسع الأوروبي شرقاً، نحو ضم دول من وسط أوروبا وشرقها، ومراجعة التغييرات المطلوبة للانضمام، والتي تمثلت بـ: ـ
* توفر ديمقراطية سياسية تحترم الأقليات، خصوصاً تركيا التي حصلت على صفة الدولة المرشحة، والمرجح أن تبقى عقدتها قائمة.
* توفر اقتصاد سوق «قادر على مواجهة الضغط التنافسي وقوى السوق».
* التبني الكامل لمكتسبات جماعة الاتحاد كلها في لحظة الانتساب، ووفق التقارير المرفوعة سابقاً من المفوضية الأوروبية العامة للتخطيط، فقد سجلت في هذا الخصوص: «إن الحق في تقديم طلب الانتساب، لا يعني بالضرورة الحق في الانتساب».
فالاتحاد الأوروبي، حسب تعريف رئيسه السابق جاك دولوز هو «جسم مؤسساتي غير معروف»، نتج على أرض الواقع من قرارات مؤتمرات سياسية متعاقبة تجسدت في معاهدات. أما الموضوع الاقتصادي فهو خاضع لمنطق متجانس متطابق مع فرضيات السوق. وهي الآليات نفسها التي تسود داخل منظمة التجارة العالمية؛ أي أولوية الحق في المنافسة، مضافاً لها مجموع «المثل العليا» التي تدافع عنها لجان الاتحاد، على غرار أجهزة تسوية الخلافات، والتي اعتبـرت محفزاً لانضمام الدول المرشحة من أوروبا الشرقية والوسطى. وخاصة تلك الدول ذات التوجه اليساري الداخلي، فالمقصود بذلك تمرير تعديلات بنيوية، ومواجهة هذه «العراقيل والصعوبات» داخلياً.
وبالنظر إلى آلية المعيار السياسي الداخلي لهذه البلدان، فإنها تعتمد العلمانية التي طرحها الاتحاد، ولكن يبـرز هنا تباين في موضوع المواطنة الذي يجب تطبيقه داخل دول الاتحاد الأساسية نفسها، وهناك مفهوم فرنسي، وبلجيكي وألماني ويوناني داخل الديمقراطية السياسية التي تحترم الأقليات، فعلى سبيل المثال ترفض فرنسا تشريع لغة الأقليات.
أما المعيار الثاني بالانتقال إلى الخصخصة وآليات منطق السوق الرأسمالي التجاري، فإن هذا الأمر أدى إلى تفكك اجتماعي اقتصادي في كثير من بلدان أوروبا الشرقية، لم يفد معه القضاء على البيروقراطية فقط، ونزل السواد الأعظم من المواطنين تحت خط الفقر، الأمر الذي شجع الهجرة إلى الاتحاد من شرق أوروبا ذاتها.
أما «المكتسب الجماعي للاتحاد»، فإن محوره تمثل في السياسة الزراعية المشتركة، وفي مساعدة البلدان الأكثر فقراً، وقد اصطدم هذا لاحقاً بالتقشف المالي الذي فرض نفسه على الأعضاء، بموجب قوانين ماستريخت والاستقرار في الموازنات. وعلى سبيل المثال، وفي مقارنة للعام الذي استنت به تفاصيل القوانين الاتحادية، عام 2000 ومقارنتها بمقاومة العولمة الأميركية كهدف اتحادي أوروبي، فقد تمتعت الولايات المتحدة الأميركية بموازنة فيدرالية تمثل 20% من الناتج الداخلي الخام، فيما اعتمد مصرفها الفيدرالي سياسة نقدية، أكثر ليونة من البنك المركزي الأوروبي. ففي ختام مفاوضات دول الاتحاد الأوروبي حول رزنامة العام 2000 في آذار (مارس) 1999، قررت «إن النفقات يجب أن تبقى أدنى من الناتج الداخلي الخام المتراكم للاتحاد». بيد أن لهذا أسبابه الهامة أيضاً، فقد تحملت الحكومات الأطلسية في أوروبا كلفة العمليات العسكرية ضد يوغسلافيا، وكلفة عدم الاستقرار في جنوب شرق أوروبا. فواشنطن لعبت دور مشعل الحرائق، وطالبت أوروبا الأطلسية بلعب دور الإطفائي والممول لإخماد النيران، وبالصورة التي تراها واشنطن مناسبة، (بما فيها كلفة قوات حفظ السلام في البوسنة والهرسك، كوسوفو، وأخيراً مقدونيا). بعد هذا فإن الاتحاد الأوروبي يرفض الآن تقديم المساعدات الاقتصادية كما فعل ببداية تأسيسه لدول أوروبا الشرقية، والتي دخل بعضها في فوضى اجتماعية بسبب آليات اقتصاد السوق وقوانينه. بل يبدي الاتحاد استعداداً ووعوداً لتقديم المساعدة فقط مما يأخذه من الجنوب في هذا العالم، وخاصة المسؤولية الأوروبية الراهنة عن الأوضاع المتردية التي وصلت إليها إفريقيا بالذات، بعد نهب متواصل امتد قروناً (بما فيها مشكلة العبودية). وتشهد راهناً انحسار الدور الأوروبي هذا لصالح دور للولايات المتحدة الأميركية. فالازدهار الذي تتمتع به أوروبا الآن، قام على خيرات الجنوب بالذات! فهل سيتمكن «السور الواقي» الأوروبي وأسلاكه الشائكة من إنجاز المهمة المطلوبة؟!
في عالم شرس لا إنساني رأسمالي متوحش، لن يتمكن حلف الأطلسي، ولا وزارات الداخلية وقواتها الموحدة، كما في الاتفاقيات ومنها الأخيرة في إشبيليا، وقد سبقتها اتفاقية شنغن؛ من احتواء الانفجارات الاجتماعية والقومية، وموجات الهجرات «الانتحارية» من الجنوب، والتي يغذيها اليأس والفروق في الامتيازات وتطور النمو.
لقد عقدت القمة الأخيرة، وسط مخاوف من انتفاضات مناهضي العولمة الأوروبية، ووسط إجراءات أمنية مكلفة وباهظة، ووسط زهو أوروبي شعبي منشغلٍ بمونديال كوريا واليابان والعودة الأوروبية للنهائيات، ورغم ذلك عمت المدن الإسبانية مظاهرات ضد السياسة الاجتماعية. كما إن الاتحاد لم يترجم حتى الآن قرارات هلسنكي (كانون الأول/ ديسمبـر 1999)، وقد رأى مجلسه إن مفاوضات الانتساب يجب أن تتم على دفعتين، وهي مفتوحة لجميع المرشحين الذين يتوفر بهم المقياس السياسي الأول من معايير كوبنهاغن، لكنه لم يقدم أي رزنامة لإنجاز هذا الانتساب، وقد سبق وأن أدرجت دول من أوروبا الوسطى ضمن الدفعة الأولى وهي سلوفينيا، تشيكيا، المجر، بولونيا واستونيا. وأضيفت لاحقاً كل من قبـرص ومالطا. وأبقي على لائحة الانتظار رومانيا، بلغاريا، سلوفاكيا، ليتوانيا، ولاتفيا، وحصلت تركيا على صفة الدولة المرشحة فقط. وفي حال إعلان انضمام ليتوانيا وبولونيا إلى الاتحاد فإن تطبيق قواعد «شنغن» بشأن نظام السمات، سيعيق تنقل سكان مقاطعة كاليننغراد الروسية على شاطئ البلطيق إلى روسيا، ما يقسم أراضيها الاتحادية، الأمر الذي لا يمكنها أن توافق عليه، كموضوع يمس الحقوق الدستورية والمدنية بفرض السمات على الحركة. وبادرت بالمطالبة بتطبيق نظام بـرلين الغربية مع باقي أراضي ألمانيا قبل انهيار سور بـرلين.
إن ما يغذي السور الواقي الاتحادي الجديد، إيديولوجياً، هو الحملة الأميركية على «الإرهاب». وخير مثال على هذا الصراع العالمي، هو قمة دول الاتحاد الأوروبي في شهر أيار (مايو) الماضي ودول أميركا اللاتينية ومنطقة الكاريبي، وفي مدريد ذاتها. فقد أعلن رئيس وزراء إسبانيا خوسيه ماريا أزنار في خطاب الافتتاح «إن الإرهاب يمثل أكبـر تهديد لنظام قيمنا المشتركة»، لكن زعماء أميركا اللاتينية أعلنوا واحداً تلو الآخر، إن أولوياتهم ليست كذلك، بل إنها تتمركز حول عدم الارتياح لنظام القطبية الوحيدة، وطالبوا بانفتاح أوروبا أمام صادرات أميركا اللاتينية، وشددوا على مطالبتها بأن تكون قطباً موازياً للسيطرة والهيمنة الأميركية على بلادهم. وأجمع زعماء أميركا اللاتينية على كلمة رئيس البـرازيل كاردوزو وانتقاده هاجس أوروبا أحادي الهّم بشأن الأمن، ولفت نظر المؤتمر إلى ازدواجية المقاييس للاقتصاد الدولي، إذْ قال «يرفضون الحماية الجمركية عندما تكون وسيلة لحماية تنمية الفقراء، ولكنهم لا يدينون الحماية عندما تصبح سلاحاً فعالاً للدفاع عن امتيازات الأثرياء».
لقد انتقدت المفوضة العامة لحقوق الإنسان ماري روبنسون، نتائج القمة وعلقت بأن القانون العام لحقوق الإنسان يحمي المهاجرين، وأن القوانين الإنسانية وفق قمة دبلن أواخر العام الماضي تطلب حمايتهم. بل نضيف، إن المطلوب أوروبياً هو إعادة النظر في سياسات «الإصلاح البنيوي» والتي تجعل الانتساب إلى الاتحاد هدفاً بعيد المنال. الأمر الذي لن يحقق تصور أوروبا موحدة جغرافياً، ومفتوحة نحو الجنوب، وهي تحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية عما آل إليه، وأن تشكل في موقعها الجيوسياسي نموذج وحلقة وصل في المعركة العالمية الدائرة من أجل الحقوق الإنسانية والاجتماعية العالمية، لا أن تلعب دوراً مسرعاً للعولمة الليبـرالية.
وأخيراً، هل يحميها «السور الواقي» الممتد جنوباً على شواطئ المتوسط، عبـر جبل طارق وبما يرمز تاريخياً لحقبة تداخل حضاري مع الجنوب، والجنوب العربي بالذات، وبما يرمز راهناً كموقع منازعة، بين إسبانيا وبـريطانيا العضوين في الاتحاد الأوروبي ذاته؟! .
June 30, 2002