سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2877 - 2010 / 1 / 3 - 00:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
السلوك البشرى ليس نتاج أفعال ذهنية بسيطة بمعادلة محددة أطرافها يمكن قراءتها بسهولة ويسر ..بل وراء السلوك رغبة فى التواجد والوجود ..رغبة وأمل فى خلق حلم وحالة نتماهى فيها, ومن خلالها نحس بوجودنا وكينونتنا ..نحس أننا فاعلين ولسنا كائنات مهمشة .
يحيرنى سلوك الإنتحاريين الذين يفجرون أنفسهم .. كنت أعزيه إلى تصاعد الفكرة الدينية فى ذهنية المنتحر وأماله المعلقة فى الجنة الموعودة المكتظة بالنساء والخمور وكل مالذ من طعام وشراب ليدفعه ويزين له الإقدام على عمل أحمق مثل هكذا , متمنياً أن يحصل على عالم بديل ينال فيه إحتياجاته ورغباته المهدورة .
هذه الفكرة قد تكون صحيحة إلى حد ما ولكن لا يمكن أن تعمم أوتقدم تفسيرا شمولياً لفكر الإنسان الإنتحارى والدليل أن من أبدعوا فكرة العمل الإنتحارى فداء قضيتهم هم اليابانيون , ولا نستطيع القول أن عقول اليابانيون محشوة ومهووسة بقضية الجنس فى العالم الأخر .
هناك أمور كثيرة فى السلوك البشرى لو تأملناها سنندهش من تبديد الإنسان لوقته وجهده وحياته فى سبيل نصرة فكرته وقضيته .
فهناك المدافعون عن قضايا وأفكار وأحزاب قد يكون تشبثهم بها ليس لها أى مردود إيجابى عليهم , بل على العكس قد تجلب لهم الكثير من المتاعب الجسدية والنفسية ,وقد تكون قضيتهم ذاتها ليست فى حاجة وجودية ملحة بالنسبة لهم لكى تثار .
فنجد على سبيل المثال المدافعين عن الديمقراطية وحقوق الإنسان بالرغم أن المدافع هنا قد يكون حاصلاعلى حقه كاملاً من الحرية والديمقراطية والحقوق كما هو حال المشاركين فى المنظمات الحقوقية العالمية .
كذلك المؤمنون بكل أطيافهم المتباينة تجدهم حريصون على نشر معتقداتهم بين الجميع وخصوصاً من يخالفهم فى الإعتقاد ..بينما لو إكتفوا هم بإيمانهم فلن يضاروا شيئاً .
ولا ننسى المدافعون والمتحمسون لمشاريع وطنية وقومية وسياسية بكل أطيافهم من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والذين لن يتوانوا فى تقديم كل ماهو غالى ونفيس لخدمة قضاياهم ونصرتها .
قد نجد بعض المؤمنين بمعتقد أو مذهب دينى محدد على إستعداد بذل أموالهم وأرواحهم فداء نصرة هذا المعتقد , وقد نعزى ذلك إلى رجاء وأمل من المؤمن فى الجائزة الكبرى فى عالم ما ورائى , ولكن ماذا يكون تفسيرنا عن تشبث ودفاع الملحدون واللادينيون والوجوديون عن أفكارهم وإستعدادهم لتقديم التضحيات وعدم التنازل عنها ,بالرغم أنهم متيقنون أنهم لن ينالوا جوائز ومنح تعوضهم المعاناة والشقاء فى عوالم أخرى.
فطالما الملحد مثلاً حسم قضية رفضه لفكرة الإله فلماذا لا يكتفى بقناعاته وينزوى فى ذاتيته مبتعدا عن إثارة أفكاره التى لن يجنى منها أى نفع مادى أو أدبى بل قد يناله المزيد من المتاعب .
لماذا يدافع الإنسان عن قضايا ويتفاعل من أجلها بينما عزوفه عن هذا الأمر لن يقلل أو يزيد من واقعه ومعتقداته وأفكاره ... قد نقول الإنسان كائن إجتماعى ينصهر فى الجماعة والمجموع وهو كذلك ..ولكن لماذا يندفع إناس نحو التضحية فى الجماعة ويعزف أخرون .؟!!
ولماذا أبدد جهدى وحياتى فى مثل هكذا قضايا التى بلا شك ستصرفنى عن إستمتاعى بالحياة خاصة أننى على يقين أنها حياة واحدة .؟
نستطيع أن نصل لمشارف فهم هذه المعادلة الصعبة لندرك أن كل المدافعين عن قضاياهم وأفكارهم يحاولون إثبات وجودهم ..هم يرفضون أن يكونوا مهمشين ..هم يريدوا أن يكونوا فاعلين ومؤثرين فلا يتوانوا عن صناعة قضية أو حلم بديل يتامهوا فيه لإثبات قدرتهم على الوجود .
احلام الإنسان هى أمانيه المرتقبة ..وأماله فى السعادة ..أحلامنا هى تطلعاتنا التى لا تعترف بالزمن والطبيعة ..أحلامنا هى محاولة تجاوز واقع أليم وخلق عالم جديد بديل ...على صخرة الواقع تنكسر فينا أحلامنا الصغيرة .
نحن البشر نصطدم فى أحلامنا الذاتية المهدورة والمسفوكة فإما أن نتخلص من أحلامنا , ونمارس حياتنا بشكل روتينى بيولوجى حتى نندثر , وإما أن نمتلك العناد فى أن لاننكسر محاولين خلق أحلام بديلة تكون عوضا عن أحلامنا المهدورة .
نحن لا نعرف أن نعيش من غير حلم ..ولى قول أعتقد به فى أن الإنسان هو حيوان ذو حلم فما يفرقه عن الحيوان أنه يحلم , أى يأمل فى تحقيق أمانيه وإحتياجاته وكلما تحقق حلم سارع لخلق حلم أخر وهذا ما يجعله يستمتع بالحياة , فأحلامه دائمة التوالد والتجدد ولا يحدها أسقف .
لذلك عندما نحلم بقصة حب ما, أو مستقبل ما , أو رغبات ما نتمناها ولا ننالها تنكسر فينا اشياء وتتحطم أشياء ولكننا قادرين دائما على إنتاج الأحلام والأمل الذى يجعلنا نعيش الحياة .
مع توالى إنكسار الأحلام على صخرة الواقع نبحث عن حلم كبير نفرغ فيه كل أمالنا السابقة ونتجاوز به كل فشلنا وإحباطنا ...هذا الحلم الكبير قد يكون حب لأبناء أو قضية دينية أو قومية أو أديولوجية نعتبرها أكبر من أن تنكسر , لنعيش على أمل ومتعة تصاعدها ونماءها .
هذا الحلم سنضعه فى قضية نبذل من أجلها كل جهد حتى نثبت لأنفسنا أننا قادرين على التواجد والوجود ومازال لدينا القدرة على إنتاج الأمل الذى هو الحلم .
لا يهم ماذا سنجنى من متاعب من وراء الحلم , ولا يهم فى أن قضية الحلم ليست بذات جدوى وجودية , ولا يهم أن دفاعنا عن الحلم سيقودنا فى النهاية إلى تفجير أنفسنا , لأننا ببساطة نجد وجودنا فى الذوبان داخل الفكرة التى تمنحنا شعور بالمتعة واللذة أننا موجودون فاعلون ولسنا مجرد حفنة من الرمل تذرها الرياح .
فى جانب أخر من رحم التماهى والذوبان بالفكرة أننا نجد متعة خاصة ..متعة تستمد وجودها فى الترفع عن المتع الحسية المعتادة كونها تحقق ذاتية عالية بأننا موجودن ولسنا مهمشون , لنا القدرة على الفعل والتأثير ولسنا كائنات مفعول بها , نحن نتلمس حريتنا فى قدرتنا على الذوبان فى الفكرة والدفاع عنها , لإثبات أننا قادرين على التحدى والتمسك بالحلم .
حاملى الأفكار هم يحاولون خلق معنى للحياة بعد أن أدركوا فى بواطنهم وبشكل قد يكون غير واعى أن الحياة عبثية لا معنى ولاقيمة لها ..فكأنما يقدموا الحلم والقضية كخلق لحالة تعطى للحياة العبثية معنى وقيمة يمكن قبولها وبلعها .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟