لطيف الحبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2876 - 2010 / 1 / 2 - 19:26
المحور:
حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة
اعادة تربية وتاهيل الاطفال المعوقين
لطيف الحبيب / برلين 2010.1.2
1- مدخل الى الإعاقة العقلية
ليس المهم كثرة أحجار الموزائيك , بل الأهم ترتيب و تشكيل هذه الأحجار لرسم أجمل اللوحات .
ولادة طفل معوق حدث محزن و محنة كبيرة تصل إلى حد الفجيعة عند اغلب العوائل , ليس في مجتمعنا فحسب وإنما في كل مجتمعات العالم , تعزى فيها أسباب الإعاقة لضعف في الرجولة والخصب لدى البعض ويعتبرها البعض الاخرعقابا سماويا انزل به يجب الخضوع له . تشكل هذه الطروحات جزء من مخلفات اجتماعية موغلة في القدم , فالمساعدات المقدمة للإنسان المعوق كانت على مر العصور غير كافية , ولم تتناسب مع حالة الإعاقة , بل تراوحت بين الرحمة والشفقة , والقسوة والرفض من المجتمع وأعيانه , فالأعراف التي سادت في تلك العصور, أسست لها شخصيات دينية واجتماعية كما ذكرته وقائع التاريخ فالمصلح البروتستانتي مارتن لوثر اعتبر" إن المصاب بالإعاقة العقلية كتلة لحم لا تغنى ولا تضر , وليس هناك من يتحمل مسؤولية جسد انتزعت عنه الروح " وتحولت إلى معتقدات شعبية راسخة وشائعة اليوم عند البعض من مجتمعات العالم, تفضي إلى عزل العائلة وتحجيم أنشطتها الاجتماعية , مما يودي إلى إهمال الطفل المعاق وإقصائه عن الرعاية والعناية المبكرتين في فحص وبحث مسببات إعاقته وتشخيصها , ومن ثم وضع أسسها العلاجية صحيا وتربويا واجتماعيا . تغيرت في القرن التاسع عشر الرؤية الإنسانية إلى المعاق بعد أن توصلت العلوم التربوية التجريبية , إلى إن الإعاقة العقلية ظاهرة اجتماعية ومشكلة كبيرة لا يمكن التغافل عنها , منذ ذلك الوقت تبذل الجهود الحثيثة في البحث والدراسة من اجل إيجاد حلول وطرق تربوية وعلاجية للمعاقين عقليا وتحويلهم إلى إفراد منتجين في المجتمع , كما أكد التربوي (Pestalozi) "إن الطفل المعاق عقليا يمكن إعادته إلى صفوف المجتمع عبر سلسلة من التوجيهات الرحيمة العطوفة" لم تتوصل الأبحاث في القرن التاسع عشر إلى معرفة أسباب الإعاقة العقلية واعتبرتها مسؤولية اجتماعية تضامنية , إلى جانب ذلك بذلت الجهود الكبيرة للعناية الطبية بالمرأة الحامل , وإجراء الفحوصات قبل الزواج للحد من تفاقم أسباب الإعاقة , فبرغم قناعة الرأي العام بضرورة إجراء الفحوص الطبية للجنين قبل الولادة , ومعرفة الإعاقة ونوعها , إلا إن الخوف مازال قائما لدى الكثيرين , من أن تشخيص الإعاقة مبكرا يودي إلى إسقاط الجنين قبل الولادة , مما يوحي بأن إجراءات الفحوص الطبية للجنين ليس من اجل العلاج المبكر , بل لقتل الأطفال المعوقين , ما يضعنا أمام علامة استفهام كبيرة جدا لسؤال شائك يعيد للأذهان فكرة التخلص من المعاقين تحت { مبدأ القتل الرحيم } الذي طبق عمليا في عصر النازية .
تعريف الإعاقة العقلية على أنها خلل واضطراب في مركز الجهاز العصبي , مهد لنا الطريق , لتجاوز الكثير من الصعوبات والتعقيدات في تحديد نوعها واستكشاف أعراضها , فظهرت تعاريف مثل "الإعاقة العقلية الشديدة" " الإعاقة المضاعفة " و" الإعاقة المركبة" , وتتميز جميعها بخلل جذري في الوعي والإدراك , واضطراب معرفي , إضافة إلى سمات أخرى ناتجة عن عطب جذري في المخ , يودي إلى اضطرابات نفسية شديد وارتداد في العلاقات الاجتماعية , وتعطل الكثير من وظائف الدماغ , التي تساهم بشكل جوهري في عملية التعلم , ويؤدي أيضا إلى ضعف قدرة استيعاب المعلومات وبطء عملية التعلم , مما يعيق عملية التواصل اللغوي اللفظي وغير اللفظي بإشكال مختلفة , فيبدأ النطق عند بعض المعوقين بوقت متأخر , لصعوبة تعلم إعادة توظيف الكلمات بالسرعة المطلوبة , والبعض الأخر لا يستطيع التواصل إلا بمساعدة الرموز والصور وطرق أخرى , إضافة إلى كل ذلك , يودي عطب المخ إلى عطل في وظائف الأجهزة الحسية والحركية. تتفق اغلب البحوث على إن المعاق عقليا " هو الإنسان الذي لا يملك القدرة والكفاءة على التأهيل المدرسي في المدارس العامة والخاصة ومدارس إعادة التأهيل , وانخفاض مستوى ذكائه وأدائه إلى الحدود الدنيا " , فعالم المعاق عقليا ممزق لا يخضع لأنظمة معينة, بل تحكمه اضطرابات مختلفة لا ترابط بينها .
أعراض الإعاقة العقلية :-
• عدم القدرة على الربط بين الأشياء بشكل منظم في حدود عمره .
• ضعف في اكتساب الخبرات ونقلها , وعدم القدرة على التخطيط لفترات قصير أو طويلة.
• ضعف الاستدلال والتوجه و ارتباك في الترتيب الزمني للحدث .
• ضعف أداء الذاكرة عند معظم المعاقين عقليا , بسبب فقدان القدرة على ترتيب الأحداث والوصول إلى نتائج , إضافة إلى هذه الأعراض تبرز بعض الظواهر الجانية عند المعاقين عقليا منها :-
• التأرجح في العلاقات الاجتماعية بين الخوف والتردد والاعتكاف والانطواء على النفس , و التهور الصبياني وتجاوز حدود الأعراف والتقاليد الاجتماعية .
• سلوك الابتسام والضحك التكراري , إضافة إلى محدودية التواصل اللغوي اللفظي وغير اللفظي .
• ضعف في القدرات الحسية يودي إلى تراجع وبطء واضح في التناسق الحركي , وخاصة في تنسيق الحركات بين الإطراف والرأس والجذع .
عدم قدرته على إدارة وتسير حياته ذاتيا , فيعتمد على مساعدات الأخر كليا .
أسباب الإعاقة
يرى البعض إن المعوق اقل قيمة من الآخرين , فهو لا يستطيع إدراك ما يدركه غير المعاق , فتتحول هذه الرؤية بدورها إلى فكرة مفادها "من هو اقل معرفة فهو اقل قيمة" لذلك تحاول اغلب التعريفات والتوصيفات لمصطلح الإعاقة العقلية توضيح صعوبة المشكلة , عبر وجهات نظر ورؤى مختلفة منها , الاجتماعية والاقتصادية والصحية , التواصل اللغوي والتأثير المتبادل , والتعليمية التربوية ولكنها تجمع على الأسباب التالية :-
الأسباب الاجتماعية
لا يمكن النظر للإعاقة العقلية على أنها ظاهرة نمو فردية لشخص معزول عن محيطه , بل هي متفاعلة مع ما تفرزه البيئة الاجتماعية من عادات وتقاليد , فالإعاقة تنمو في محيطها الاجتماعي, فكل فعل غريب عما ألفناه , مستهجن ويعتبر مروق عن أعراف وتقاليد المجتمع و جنون , ومن يقوم به معتوه و مجنون , بالمعنى المعاصر للكلمة معاقا عقليا ليس غير, يؤسس هذا النمط من التفكير لسلوك اجتماعي يحيل العلاقات الاجتماعية إلى جداران تعزل المعاق عقليا عن بيته وبالتالي عن مجتمعه ؛ وتعرضه إلى اشد الإخطار الاجتماعية , كالانعزال والنكوص والانزواء داخل المجموعة الصغيرة , و تؤدي إلى تعميق تخلف واضطراب نمو المعاق عقليا , وتكمن الخطورة الأشد في هذا السلوك الاجتماعي , انه ليس فرديا , وإنما نتاج " عملية التأثير المتبادل بين الفرد وبيئته الاجتماعية " .
يعتبر الكثير من الباحثين إن المعاقين عقليا خارج اطر المجتمع الطبيعي , وليس لهم القدرة والكفاءة على الالتزام بضوابطه , فيعوضون عن هذه الضوابط (بالأنا) , فهم على حافة المجتمع , ويجب إعادتهم إليه عبر تغيير وتطوير سلوكهم وتنشيط فعلهم الاجتماعي , تميز المعاق كنوع وصنف أخر من الناس , يمعن في إضعاف نمو وتطور شخصيته ويلغي هويته , والإيغال فيه يفضي إلى خطر فقدان القدرة الذاتية للمعاق , واعتماده على نفسه لتطوير كفاءته وتنفيذ بعض الواجبات الحياتية . فالإعاقة العقلية ليست ظاهرة مرضية فقط , يتم تشخيصها وإحصائها, ثم حصر أنواعها وتحديد الأدوية والعلاج الطبي اللازم للشفاء منها , بل هي ظاهرة اجتماعية أيضا , خاضعة لمنظومة العلاقات الاجتماعية , ومستوى الوعي والثقافة الاجتماعيين , وإدراكهما لدور المعوقين وقدرتهم على العطاء كجزء من التركيبة الاجتماعية , يتمتعون بحقوق المواطنة الغير منقوصة , في توفر الرعاية الاجتماعية والصحية , وفرص العمل.
تضمن الدول في دساتيرها مواد تشرع لقوانين الضمان الاجتماعي ورعاية المعوقين , وتأسس لثقافة اجتماعية إنسانية تكفل قيمة وكرامة الإنسان المعاق , وتعتمد الأسس التربوية التعليمية , والتأهيل الاجتماعي والمعالجة العلمية له , وبذلك تتضاعف مساحة المنافسة السلمية بين المعاق وغير المعاق يوما بعد يوم , وتأخذ أبعادا إنسانية داخل المجتمعات , وتؤدي إلى قيام علاقات متوازنة بين أفراد المجتمع , أساسها كفاءة وقدرة الإنسان المعاق وغير المعاق , وليس العطف الشفقة والرحمة . إن إنشاء مؤسسات خيرية لهم , لتنشيط فعل العطاء الاجتماعي المجاني , باعتبارهم اضعف الحلقات الاجتماعية , تظهر مشاعر إنسانية أصيلة نبيلة , لكنها للأسف الشديد لا ترقى إلى الفعل الجاد , بل تضعف من عمل مؤسسات الدولة في تنفيذ التزاماتها بأسس التعليم الإلزامي , والقيام بواجباتها بإنشاء مدارس ومعاهد لإعادة تأهيل المعوقين , كما إنها تؤدي إلى عزل هذه الشريحة عن النشاط الاجتماعي الإنتاجي , فلا بد للمؤسسات الخيرية أن تعمل على تنشيط ودعم منظمات المجتمع المدني المختصة , كالمؤسسات العلمية والتربوية والاجتماعية الخدمية , وتكثيف جهودها في منظومة بحوث علمية علاجية وتربوية, وأخرى اجتماعية ونفسية للمشاركة بوضع برامج تعليمية وتاهيلية كفيلة بتطويرقدرات هذه الشريحة الاجتماعية
الأسباب الاقتصادية
تدعو المادة 26من وثيقة حقوق الإنسان الصادرة من منظمة الأمم المتحدة في العاشر من شهر كانون الأول ديسمبر عام 1948 بفقرتها الأولى " التعليم المجاني الإلزامي في المدارس الابتدائية والأساسية حق شرعي لكل إنسان ." و فقرتها الثالثة " للوالدين في الدرجة الأولى الحق في اختيار التعليم المناسب لأطفالهم " الدولة ومؤسساتها التشريعية والقضائية والتنفيذية في بلدان العالم إلى بناء مؤسسات تعليمية وتاهيلية ابتداء من رياض الأطفال وانتهاء بالجامعات , تقوم على أنظمة تربوية وتعليمة لا تفرق بين الطفل المعوق وغير المعوق , منفتحة على ما أنجزته وما تنتجه البشرية جمعاء من أسس ومعارف وبرامج تربوية , وبرامج تاهلية خاصة في مجالات الإعاقة منطلقة من عادات وتقاليد ذلك المجتمع, مانحتهم فرص التعلم المتساوية , بالإضافة إلى تقديم التسهيلات الخدمية في الشوارع والعمل والمقاهي وأماكن التسوق كإنشاء مصاعد للمعوقين وسلالم و مناطق وقوف لهم أو لسياراتهم , توفير العلاج المجاني لهم , والمصحات والمتنزهات الترفهيه , ولا يخفى إن مثل هذه الخدمات الإنسانية الجليلة تكلف الكثير ولا تقدم ربحا منظورا وإنما ربحا مستقبليا لا يضاهيه ربح , ببناء وتطوير ثروة إنسانيه مؤهلة وقادرة على المساهمة في الإنتاج وبناء مجتمعاتها .
الأسباب الصحية
قسمت منظمة الصحة العالمية الإعاقة العقلية على نحو ما تظهر عليه " من أداء عقلي " إعاقة عقلية بسيطة" ," إعاقة عقلية متوسطة ", " إعاقة عقلية شديد ", وعرفتها على أنها " توقف في النمو العقلي أو عدم اكتماله , وعطب جذري في المهارات والقدرات والذكاء , كاكتساب المعرفة واللغة والحركة والكفاءات الاجتماعية ". اعتمد تحديد الإعاقة العقلية على تصنيف معاير الذكاء , فكلما كانت درجة قياس الذكاء واطئة يصنف الإنسان إلى معاق وشديد الإعاقة , وتجرى هذه الفحوصات من قبل أخصائيين , إضافة إلى معاييراخرى مثل معيار "السلوك ألتكيفي" لتحديد مظاهر القوة والضعف في سلوك الإنسان" الأداء السلوكي " , أما الأسس الأخرى التي يعتمد عليها التصنيف الطبي للإعاقة العقلية ترتكز على تعريفه لها باعتبارها " إصابة عضوية في الدماغ تؤدي إلى اضطراب في الجهاز العصبي وضعف في السيطرة على فعل حركة الجسم " .
تخلف الوعي الصحي في الوطن العربي بسبب ضعف أداء مؤسسات الثقافة الصحية , سواء مؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني المسئولة عن نشر هذه الثقافة , وغياب الأسس العلمية للتربية الصحية في العائلة والمدارس وخاصة الجنسية منها , وانعدام إجراءات الفحوص الدورية للأطفال المعوقين وغير المعوقين في المدارس العامة والخاصة , وانتشار الأمية بشكل واسع من العوامل التي أدت إلى فشل الجهود المبذولة في سياسة التوعية الثقافية بدور المعوق ورعايته الصحية , وحد من قدرتها على توضيح وتفسير بعض الظواهر الاجتماعية السلبية والتي لا تتناسب مع ارث وتاريخ مجتمعنا , و من أهمها الزيجات المبكرة من الأقرباء والعائلة الواحدة , الذي أدى ويودي إلى منع إجراء الفحوصات الطبية قبل الزواج وأيضا إلى توارث كل الإمراض جينيا مما يشكل مصدرا خطرا لتزايد أنواع الإعاقات .
ان توفير أسس الرعاية والعناية بالمعوق وتطوير طرق تربوية وعلاجية , تمكننا من تصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة في مجتمعنا لمفهوم الإعاقة والمعاقين .
بدأ البحث في حل هذا الإشكال في العالم منذ زمن طويل لإطلاق قدرات المعاقين بطرق بسيطة سهلة , تساعد على تحفيز الفعل الكامن في داخلهم , فالكثير من المصابين بإعاقة التوحد ودالة الداون (Down Syndrome ) يمتلكون كفاءات معرفية لا يستطيعون توظيفها دون مساعدة , فتوفير مساعدة آلية بسيطة , وطرق تربوية وعلاجية حديثة , بتظافر جهود علماء التربية والنفس والاجتماع والطب , وبناء منظومة من البرنامج التربوية العلاجية لكل حالة من حالات الإعاقة.
تعتمد أنواع العلاجات التالية :-
• العلاج النفسي والاجتماعي لدراسة الحالة النفسية والسلوك الاجتماعي للمعاق لوضع البرامج العلاجية المناسبة لتلك الإعاقة .
• العلاج التربوي الذي تنفذه مدارس ومعاهد إعادة تأهيل المعوقين.
• العلاج الطبيعي يتكون من علاجات متنوعة كالسباحة والموسيقى واللعب مع الحيوانات ,ينفذه كادر مختص في العلاج الطبيعي والمساجات .
• العلاج اللغوي يساعد المعاق في تحسين أدائه اللغوي اللفظي المتوفر وتطوير اللغة غير اللفظية كالإيماء والمحاكاة والإشارة من قبل كادر مختص.
العلاج بتوفير العمل للمعاق , فمشاركة المعاقين بشكل واسع في النشاطات الاجتماعية والثقافية والإنتاجية , يوثر بشكل فعال على تحسين قدراتهم التعليمية وبالتالي تمكنه من الاشتراك في مجالات وحقول العمل المختلفة .
تاهيل المعوق „هو من أولى القضايا ذات البعد الإنساني وهي تستوجب اهتماما وعناية خاصة وصبراً وأسلوباً حديثا مغايراً للمفاهيم السابقة التي كانت سائدة في مجتمعاتنا، وذلك بتحويل التعاطي مع الإعاقة من كونه عملاً خيرياً وحسنة مرتكزاً على البر والإحسان والعطف، إلى مبدأ الحق والواجب المرتكز على العمل المنظم والتخطيط العلمي. وهذا يستتبع لانتقال بالأشخاص المعوقين من حالة التهميش إلى حالة الاندماج الكامل في المجتمع، من حالة الإعاقة إلى حالة الطاقة، من حالة الاتكالية إلى حالة الفعالية".
#لطيف_الحبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟