سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 2875 - 2010 / 1 / 1 - 16:12
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لا أعتقد أن الشرارات الأولى للتفكير والبحث تأتى من خلال الجلوس فى حلقات جدلية يظهر فيها التناقض وتحل ملامح الإنهيار , بل أن الأمور تبدأ عندما يحدث تناقض وصراع ما بين مجمل قيم ورؤى إنسانية كونها الإنسان من خلال تشبعه بقيم حضارة حديثة ومابين موروث يجده ينضح بكل ماهو متناقض.
لعل فكرة العبودية لله كانت من العوامل الفارقة والفاصلة ..فقد رفضت هذه الفكرة كونها لا تحمل معنى جميل فى العلاقة المفترضة ,علاوة أنها تلقى بظلال كثيفة على الله فى حاجته أن يكون السيد ونحن العبيد .
ترجع فكرة رفضى للعبودية عندما شاهدت فى المرحلة الطفولية المبكرة فيلما بدار السينما لا تزال مشاهده محفورة فى الدماغ ولا تريد أن تفارقه . !!
نعم عندما تنتهك مشاعرك بقسوة تكون الأحداث حاضرة بكل شخوصها وألوانها وظلالها , وهذا ما أراه أو هكذا يجب أن يكون .
الفيلم يصور فترة زمنية كان نظام السادة والعبيد هو السائد ..ويلقى أمام عينيك مشاهد بشعة لقسوة وغطرسة السادة ومدى الهوان والضعف للعبيد .
من المؤكد أن مثل تلك المشاهد جعلتنى أتعاطف بشكل كبير مع العبيد كما تولدت فى ذات الوقت مشاعر من الغضب والكراهية ضد السادة .
تمر الأيام لأجد أن مشاهد السادة والعبيد تتكرر فى عصرنا هذا مما يجعلنى أستدعى مشاهد الفيلم القديم وأقارنه بواقع معاش .
كان العبيد الأشداء يحملون عرش سيدهم على أكتافهم العارية , ثم يسجدون وينحنون أمام عرش السيد المهاب بحيث لا يستطيعون أن يطلوا بأعينهم إلا بعد أن يأذن لهم , كان هذا مشهد من مشاهد الفيلم .
أعرف حينها أن عرش الله يحمله مجموعة من الملائكة الأشداء كما توجد مجموعة أخرى لا يكون عملها سوى أن تسبح وتمجد الله بصوت عذب كما كان فى الفيلم , ولكن يتم إستبدال التسبيح برقص الجوارى مع وجود عدد من العبيد السود يحملون مراوح من ريش النعام لجلب الهواء الطرى على السيد .
المؤمنون والمصلون يسجدون وينحنون أثناء تقديم صلواتهم أمام الرب , وكذلك العبيد يسجدون وينحون أمام السيد بكل خشوع وتضرع .!!
حارنى هذا الأمر وتولد سؤال عابر ماهو الفرق ؟ ومن يتشبه بمن ؟ نحن لم نرى الملائكة تحمل عرش الله وتسجد له ولكن نرى العبيد هم من يحملون عرش السيد وينحنون أمامه ,هل نحن من إستعرنا صورة الإله السيد وأسقطها الإنسان على أسياده , أم أن صورة السيد الإنسانى تم إسقاطه على صورة الإله ..أعتقد أن الثانية هى الأكثر منطقية بحكم أننا لم نرى مشاهد الله والملائكة .
لم أملك حينها أن أصل إلى ماوصلت إليه حاليا من أن فكرة العبادة لله هى إسقاط لمفهوم عصر العبودية السائد .
المشهد الذى جعلنى أنتفض وأشمئز من فكرة العبودية هى ملامح القسوة الغير مبررة والتى لاتجد فى النهاية سوى مردود يثير الغثيان ..فإبن السيد فى الفيلم يقتل إبن لأحد العبيد ...والعبد الملكوم لا يملك سوى البكاء والنحيب على فقد إبنه , فيواسيه أحد أعوان السيد والذى هو عبد أيضا ولكن بدرجة متقدمة , وينصح هذا المساعد أن يقوم هذا العبد الملكوم على إبنه بالتوجه للسيد والسجود أمامه وتقديم له كل فروض الطاعة والولاء , ولابد أن يسبقها الشكر والحمد لصنيعة إبن السيد على إزهاق روح إبنه .!!
تمر عدة سنوات وأشهد حالة مشابهة تكاد تكون كربونية ..رجل من العائلة يفقد إبنه الشاب أثر حادث أليم , وبينما هو فى نواحه وبكاءه يطل عليه أحد الحاضرين ليواسيه ويطلب منه الصبر ويلح على أن يجعله يحمد الله على صنيعته تلك ..ويردد على مسامعه :" الله أعطى , الله أخذ فليتمجد إسم الرب" ..فما كان من الأب الملكوم سوى أن يردد تلك العبارة البلهاء "الرب أعطى الرب أخذ فليتمجد إسم الله" .
إنتابتنى حالة من الغثيان والخنق والرغبة فى التقيؤ , عزى الحاضرون حالتى تلك فى أننى ملكوم ومفجوع على فقد الشاب المتوفى .
قد أكون بالفعل مفجوع وحزين لوفاة هذا الشاب الجميل ولكن سبب حالة الإختناق التى إعترتنى هى مقولة " الله أعطى ..الله أخذ فليتمجد إسم الرب "..ويستدعى فى الذهن المشهد الدرامى لسجود العبد أمام إبن سيده شاكرا وممتنا صنيعه فى ذبح إبنه .
ليس هناك فرق .
المفهوم الدينى إستدعى كل المنظومة للمجتمع العبودى وأسقطها على فكرة الله ..بنفس المشاهد والتخيلات حتى إستعارة عرش يحمله مجموعة من الملائكة هنا ومجموعة من العبيد هناك .
مشكلة الفكر الدينى أنه جاء من رحم المجتمع العبودى بكل قيمه البشعة ولم يتجاوزه , فلم يوجد معتقد جاء كثورة ضد هكذا نظام تذبح فيه الإنسانية بكل قسوة وهمجية ..بل على العكس جاءت أديان تلك الحقبة حاملة معها ترسانة من التشريعات التى جاءت من رب البداوة تقنن وتشرع لحفظ هذا النظام القمئ .
أنا أرفض هذا المجتمع العبودى ليس كونى تجاوزته بقيمى وثقافتى الإنسانية , ولكن أرفضه لأن تراثه مازال حاضرا أمامى بقوة .
نعم ثقافة العبيد مازالت حاضرة وفاعلة يراد لها أن تظل وتستمر , فأصحاب الفكر الدينى لا يجرأون على الدعوة لهكذا تراث وعهد فى عصرنا الحالى ..لأن مصيرهم الطبيعى سيكون الإستقصاء والقذف بهم خارج التاريخ والحضارة .
ولكنهم مازلوا يلحون على عبودية السيد القابع هناك فى السماء ..يسجدون ويتذللون له ,يشكرونه ويحمدونه على المصائب والبلايا التى تحل بهم والتى يعزوها له .
إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعلن ثورته وغضبه ..فعلى الأقل عليه أن يتحفظ .
وإذا كان هناك من يدعى أن العطايا والنعم تتم من خلاله ,فهى تعطى للأشرار أيضا , فليس هناك من مبرر أن أشكرك على أذيتى وضررى فى مثل هكذا لحظات ..الغريب هو الإشارة إلى أن المنسحق بهكذا طريقة بأنه شديد الإيمان , فهل بصح هذا أم أنه شديد الإنسحاق .
الفكر العبودى لله والذى يروج له على قدم وساق هو حماية وصيانة أيضا للملاك الجدد , فهو تهيأة المناخ أمام السادة الجدد ..الذين يمتصون دمائنا ويسرقون قطعة الخبز الجاف من بطوننا ثم نتوجه لهم بالشكر والتبرير , فهم لا يسرقوننا بل هم يتمتعون بما أنعم الله عليهم ...نعم يتمتعون بما أنعم الله عليهم من اللصوصية والقدرة على مص الدماء ليصبحوا هم السادة ونحن العبيد .
هكذا يتم الترويج لمثل هكذا ثقافة , أن تكون حاضرة ليس لنزع أى قدرة على المقاومة فحسب , بل الإستسلام لها والتمرغ فى أوحالها بإمتنان .
ليست ثقافة العبيد بنت زمانها ولكن يراد لها أن تكون حاضرة لتخدم هؤلاء السادة الجدد , ليمتد المفهوم العبودى فى التراث الدينى ليسمح لكل البرجوازيين أن يتواجدوا ويثروا بحكم أنهم ينعموا من نعم مقدرة ومحسوبة من الله .
يسرى مفهوم العبودية فى الأوصال ويتغلغل فى المسام لنصل إلى حالة من الإنسحاق فنجد من يكون ممتنا بعد إنتهاش لحمه .!!
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟